وانتهى الأمر وأصبح أبي من أحب الناس إلى عبد الخالق حسونة باشا، كما أصبح عبد الخالق باشا من أحب الناس إلى أبي، وسحب الاستقالة وظل هو وأبي صديقين حميمين طوال الفترة التي قضاها أبي في وزارة الشئون، وامتدت الصداقة بينهما بعد ذلك لم تنقطع.
وعودا إلى بدء حين ذهب عزيز باشا إلى حسونة باشا يرجوه أن أعين بالجامعة وقال له: إن لم يكن من أجلي أنا فمن أجل والده الذي أعرف أنه كان صديقا أثيرا لك.
وكنت في ذلك الحين قد أصبت نصيبا من الشهرة، فقال حسونة باشا في أدبه الجم: يا مونشير ثروت أباظة لا يحتاج أن يستند إليك ولا إلى والده، فهو نفسه مكسب للجامعة وجدير بكل احترام.
ومع ذلك لم يستطع حسونة باشا أن يجد لي مكانا في الجامعة، وعلمت بعد ذلك ممن لا أستطيع أن أذكر اسمه إنجازا لوعد قطعته على نفسي أن الدولة منعت حسونة باشا أن يعينني، فعجز الرجل مع كل النيات الطيبة نحوي أن يعينني بالجامعة.
وهكذا كنت أقبل أي عمل يعرض علي حتى لا تتسع أمامي هوة الفراغ، ومن بين الأعمال التي قبلتها على كره شديد وظيفة رئيس تحرير مجلة الإعلان، وقبل أن أمارس عملي حدث لي أمر جدير بالرواية كنت في منزلي ونزلت إلى سيارتي وجلست في مقعد القيادة، وإذا برجل لا أعرفه يفتح الباب الخلفي في سرعة ويدخل إلى السيارة ويبدأ بحديث عجيب. أنت فلان بن فلان وفي لحظات روى لي كل صغيرة وكبيرة في حياتي ثم قال: شكرا، أنا مكلف من المخابرات بعمل تحريات عنك؛ لأنك ستصبح رئيس تحرير مجلة الإعلان، وأنا أعلم أنه ليس في تاريخك ما يستحق البحث وراءه، فقلت أسألك بدلا من اللف والدوران، أرجوك لا تخبر أحدا بهذا الذي صنعته معك، وإلا اعتقلت وشردت وخرب بيتي، سلام عليكم.
ونزل من السيارة.
وقد نلت جائزة الدولة التشجيعية وأنا رئيس لتحرير مجلة الإعلان (بالنون وليس بالميم) وصدر مرسوم وسام العلوم والفنون باسمي يحمل هذه الصفة في صلبه دليلا على حقارة العهد الذي كنا نعيش فيه وطغيانه وتخبطه وصغاره.
بعد هذا طلب مني عمي فكري باشا أن أعمل بدار الهلال وطلب إلي أن أنقل اسمي من جدول نقابة المحامين وأقيد نفسي في نقابة الصحفيين، ووافقت فقد كنت ضقت ذرعا بالمحاماة ووضح لي تماما أنني لن أصلح مفاوضا مع الموكلين، وإن كنت أصيب كثيرا من التوفيق في ساحة القضاء، حتى كان بعض المستشارين إذا وقفت أمامهم في مرافعة يتهامسون أنهم سيسمعون كلاما رائعا، وقد أتيح لي أن أسمع هذا الهمس؛ لأن حاسة السمع عندي قوية إلى حد بعيد وراثة عن أبي - رحمه الله - ولكن حدث لي مع الموكلين حادثتين جعلتاني أعزف عن المحاماة كل العزوف، وأرحب بنقل اسمي إلى جدول غير المشتغلين في نقابة المحامين وإثبات اسمي بجدول المشتغلين بنقابة الصحفيين، وكان ذلك في عام 1958م.
وأعتقد أن الحادثتين جديرتان بالقص، فإحداهما أن قصد إلي أحد الموكلين يطلب مني أن أتولى قضية له في مصلحة الضرائب، وكان مدير عام مصلحة الضرائب في ذلك الحين ابن عمتي المرحوم محمد كامل أباظة الذي كنت أعتبره أخا أكبر لي، فحين جاءني هذا الموكل أدركت ما بعث به إلي. قلت له: لماذا جئتني؟ - لأنك محام شهير وعظيم، وأنا مستعد أن أدفع لك أربعمائة جنيه أتعابا في هذه القضية.
ولعل أبناءنا من جيل هذه الأيام لا يدرك ضخامة هذا المبلغ وفخامته، ولكن الذي لا شك فيه أن أبناء جيلي والذين يصغرونني ببضع سنوات يدركون معنى هذا الرقم وقوته.
Bog aan la aqoon