سلسلة كيف تصبح عالمًا [١]
العلم أعظم دعامة لقيام الأمم، فحين اهتم المسلمون الأوائل بالعلم سادوا الأمم، وحين تخلى المسلمون عن العلم قادهم وسادهم غيرهم من الأمم الكافرة، فهذه دعوة إلى الاهتمام بالعلم والقيام بإحيائه في الأمة بنوعيه: العلم الشرعي، والعلم الحياتي؛ حتى تستعيد الأمة الإسلامية مجدها وسيادتها على الأمم.
1 / 1
مقدمة في أهمية الصبر في طلب العلم وغيره
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فأهلًا ومرحبًا بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله ﷿ أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.
موضوع الحديث اليوم أعتبره من أهم الموضوعات التي يجب أن تنشغل بها الأمة، ولكن قبل البداية أحب أن أقدم مقدمة لا بد منها.
يجب على الإنسان أن يقف ويتفكر ويتدبر في كل الأحداث التي مرت قبل ذلك بأمتنا ليخرج منها بالعبرة، واسألوا أنفسكم: لماذا نزلت الرسالة النبوية في بلد كمكة؟ ولماذا هاجر ﷺ إلى بلد كالمدينة، والجو -كما تعلمون- حار والصحراء قاحلة والمياه نادرة والهواء ساخن؟ نحن لا نستطيع أن نتحمل إلا بضعة أيام نقضيها في العمرة أو في الحج مع وجود المكيفات والمراوح ووسائل الرفاهية الكثيرة، فهذا يدل على أن الدعوة والأمة لا تنشأ إلا في جو صعب يربي الناس تربية قوية راسخة على تحمل المشاق في سبيل الله ﷿، ونحن الآن وقوف في صلاة مع رب العالمين ﷾، نسمع كلامه ونتوجه إليه بدعائنا، ومع ذلك ننشغل أحيانًا بالحر وقطرات العرق الخفيفة جدًا بالقياس إلى ما عاناه الذين بنوا هذه الأمة قبل ذلك، فالتقلبات الجوية من حر وبرد ما كانت تقف أبدًا بأي حال من الأحوال أمام عظماء الأمة الذين أقاموا هذا البنيان الضخم، ما كانت تقف أمامهم في جهاد، ولا في صلاة، ولا في طلب علم، ولا في رحلة في سبيل الله لأي غرض يرضي الله ﷿، وكلنا يعلم أحداث غزوة تبوك، حيث كانت في الحر، وكان الابتلاء فيها شديدًا، والمسافة من المدينة المنورة إلى تبوك (٧٠٠) كيلو متر، ونحن نضجر ونتعب من المكوث ساعة أو ساعتين في مسجد به مراوح وبه بعض المكيفات وفي الليل؛ لأننا لا نتحمل هذا الحر؛ لو عُرض علينا أن نتجه إلى تبوك من المدينة سيرًا على الأقدام، أي حال سيكون حالنا؟ هذه وقفة مع النفس، نحن ندرب أنفسنا، نحن لا نحرم المكيفات ولا المراوح وما إلى ذلك من وسائل الترف أو الرفاهية، لا نحرمها إن كانت من حلال وتستخدم في حلال: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾ [الأعراف:٣٢]، ولكن إذا حُرمنا منها لا نضجر، بل نستكمل مسيرتنا في جهادنا، وفي طلبنا للعلم، وفي عبادتنا، ونحن نرجو ثواب ذلك عند الله ﷿.
هذه الوقفة في هذا الحر لعلها تكون المنجية يوم القيامة، فيوم القيامة يكون الحر شديدًا، والعرق غزيرًا، فمن الناس من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا ويغرق في عرقه.
وقفة في سبيل الله في هذا الحر قد تنجيك من حر يوم القيامة: ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا﴾ [التوبة:٨١] لما قال المنافقون: ﴿لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ﴾ [التوبة:٨١] كان الرد: ﴿قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا﴾ [التوبة:٨١].
فالصحابة ﵃ وأرضاهم قطعوا هذه المسافات من المدينة إلى تبوك في الحر الشديد، وكذلك فعلوا في البرد الشديد، وكلنا يذكر قول خالد ﵁ عندما قال: ما ليلة تزف إليّ فيها عروس أو أُبشّر فيها بغلام بأحب عندي من ليلة شديدة البرد في سرية من المهاجرين أُصبّح بهم أعداء الله هذه أعظم لياليه، ليلة شديدة البرد شديدة الجليد، لماذا هذه الليلة أحب لياليه؟ لأنها في سبيل الله، يصبّح بها أعداء الله.
فهذا المجلس الذي تجلسونه الآن تحفه الملائكة، وتغشاه الرحمة، وتتنزل عليه السكينة، ويذكرنا ربنا ﷾ بأسمائنا وأعياننا في ملأ خير من هذا الملأ، أي نعمة هذه؟ إنها نعمة كبيرة فلا تشغلنا قطرات عرق ولا يشغلنا مكيف لا يعمل، ولا تشغلنا مروحة بعيدة في السطح، ولا شدة زحام، ولا كل هذه الأشياء التي أعد الانشغال بها من الترف، والترف مهلك حقيقة، وراجعوا تاريخ الأمم السابقة الهالكة تجدون أنها غالبًا ما تكون أممًا مترفة: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا﴾ [الإسراء:١٦].
فالإنسان الذي لا يتحمل الحر ولا الجوع ولا البرد ولا الفقر ولا طول المسافات هذا إنسان قد يبيع كل شيء في سبيل ترفه وفي سبيل شهوته ودنياه، وقد يبيع دينه في سبيل ترفه هذا، فعلينا أن ندرب أنفسنا، فنحن في مجلس عظّم الله ﷿ أجره وثوابه، وهذا المجلس بالذات مجلس العلم هو محور حديثنا في هذه الأيام المقبلة؛ لذلك وجب التنبيه على أهمية الصبر والتصبر في مثل هذه المجالس التي تحفها الملائكة.
1 / 2
العلم ودوره في بناء الأمة
كلنا يشاهد ما يحدث لأمة الإسلام هنا وهناك، وجلسنا في هذا المجلس في هذا المسجد منذ شهور نتحدث عن مصابنا في حبيبنا ﷺ، عندما رسمه الرسامون الدنماركيون بما رسموه، وجلسنا أيضًا في هذا المسجد قبل ذلك نتحدث عن الحصار الذي قام به أعداء الأمة لحماس عندما صعدت إلى الحكم في فلسطين، وجلسنا قبل ذلك بشهور وسنوات نتحدث عن أزمات مشابهة مرت في فلسطين وفي لبنان وفي العراق وفي أفغانستان وفي السودان وفي الشيشان، وهكذا، والآن سمعنا ما تحدث به البابا، ﴿قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ [آل عمران:١١٨] تتوالى الضربات للأمة الإسلامية فلا بد من وقفة، لا بد أن نعرف ماذا يحدث؟ كنا قد حللنا أسباب ضعف الأمة الإسلامية التي تجرأ عليها عدوها بهذه الصورة في محاضرات سابقة.
وسآخذ مرضًا واحدًا من هذه الأمراض وأظن أننا لو عالجناه لكانت البداية صحيحة إن شاء الله رب العالمين، أنا منشغل هذه الأيام وقبلها بدراسة كيف تُبنى الأمم؛ سواء كانت هذه الأمم إسلامية أو غير إسلامية، هناك بعض الفروقات بين أمة الإسلام وغيرها من الأمم وهي فروق هامة، لكن هناك قواعد عامة تطبق على كل الأمم، كيف تُبنى الأمم؟ كيف تتحول أمة ضعيفة إلى أمة قوية؟ كيف تتحول أمة تابعة إلى أمة متبوعة؟ كيف ترفع أمة عن كاهلها الظلم والاستبداد والقهر؟ كيف بُنيت أمة الإسلام؟ وكيف بُنيت الأمم المعاصرة لنا من غير أمة الإسلام؟ سأراجع في هذه الدراسة الدول المعاصرة لنا إسلامية كانت أو غير إسلامية، التي تحولت في خلال خمسين سنة أو ستين سنة من دولة ضعيفة فقيرة مهيضة الجناح إلى دولة قوية لها كلمة مسموعة في العالم، ندرس في هذه التجارب مثلًا: تجربة كوريا الجنوبية، تجربة اليابان، تجربة ألمانيا، تجربة أمريكا، تجربة ماليزيا، تجربة إيران، بل ندرس تجربة إسرائيل التي زُرعت في باطن البلد الحبيب فلسطين، نسأل الله ﷿ أن يحررها كاملة.
هناك عوامل مختلفة كثيرة تؤدي إلى بناء أمة، منها على سبيل المثال لا الحصر: القوة، فالبلاد التي مُكّنت في الأرض ورفعت رأسها بلاد قوية في الأغلب، لكن هناك بلاد ضعيفة أيضًا عسكريًا ومع ذلك لها كلمة مسموعة، هناك الوحدة في الصف سواء في الدولة الواحدة أو بين أكثر من دولة، هناك الشورى أو عندهم الديمقراطية، هناك الأخلاق الحسنة، هناك الانتماء إلى البلد الذي يعيشون فيه، هناك عوامل مختلفة، لكن كل هذه العوامل لا يستقيم لها أن تبني أمة إلا بأساس هام جدًا واحد، للأسف الشديد هذا العامل تفتقده الأمة الإسلامية الآن، وإن اكتسبته الأمة الإسلامية كما أمر به الشرع الحنيف، فإنها بإذن الله تبدأ أول الطريق، هذا العامل هو العلم.
لا توجد دولة من الدول القوية التي رفعت رأسها في العالم وحسّنت من اقتصادها وقويت شوكتها واستُمع إلى كلمتها متخلفة في مجال العلوم.
فالعلم أصل يجمع كل هذه الدول، وليس في هذا أي تعارض مع ديننا، بل تدبروا وتفكروا في ديننا، وأنا أهتم جدًا بالإحصائيات والأرقام، وأهتم جدًا بأوائل الأشياء، فما بالكم لو كانت هذه الأرقام وهذه الأوائل من الأشياء في كتاب ربنا وفي سنة حبيبنا ﷺ، وفي سيرته العطرة عليه وعلى الأنبياء أفضل الصلاة والتسليم؟!
1 / 3
منزلة العلم في الإسلام
لابد أن نقف وقفة ونتفكّر: لماذا كان أول شيء نزل في هذه الرسالة ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق:١ - ٥]؟ تدبروا وتفكروا، فالقرآن الكريم أكثر من ستة آلاف آية، من كل هذه الآيات اختار ربنا ﷾ أن يكون مفتاح هذا الدين والبداية والأساس الذي تُبنى عليه الأمة هذه الآيات الخمس، تكررت في هذه الآيات الخمس كلمة العلم بمشتقاتها ثلاث مرات، وتكررت كلمة القراءة مرتان، وجاءت كلمة القلم مرة، كل هذا في خمس آيات قصيرة، ألا يُعطي لنا هذا التركيز انطباعًا؟ أليس من المحرج جدًا لهذه الأمة أن تكون في ذيل المتعلمين والعلماء في العالم الآن، وهي التي افتُتح دستورها بهذه الآيات الخمس؟! هذا أمر يحتاج إلى وقفة حقيقية، وغريب أن تنزل هذه الآيات الخمس أول ما تنزل على رسولنا ﷺ وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يقرأ ولم يكتب طيلة حياته، والله ﷿ يعلم ذلك تمامًا، ومع ذلك نزلت الآيات لتلفت الأنظار إلى أهم ما في هذا الدين وهو العلم، في الحقيقة هذا أهم ما في هذا الدين، وبعض الناس قد يعقد مقارنات مع الأخلاق وهي هامة، ومع العقيدة وهي أيضًا هامة، ومع الجهاد في سبيل الله وهو هام، وسنذكر الآن أن العلم يسبق هذه الأمور، العلم ضروري لكي تعمل كل هذه الأمور بشكل صحيح، فلو أنك أسست بيتًا وجئت فيه بثلاجة وبوتاجاز ومروحة وغير ذلك من أدوات المنزل الكهربائية، ثم لم تأت بالكهرباء ولم تأت بالغاز، كل هذه الأشياء الجميلة لا قيمة لها بالمرة ولا معنى لها، وبغير العلم لا قيمة للأخلاق، وبغير العلم لا قيمة للجهاد في سبيل الله، بل إن العقيدة تحتاج إلى علم، فقد قال ربنا ﷾: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد:١٩] فالعقيدة تحتاج إلى علم؛ لأن الذين عبدوا الله ﷿ بظن ولم يعبدوه بعلم ضلوا وأضلوا، فوصل بهم جهلهم إلى عبادة أحجار من دون الله، ووصل بهم جهلهم إلى عبادة أبقار من دون الله، ووصل بهم جهلهم إلى عبادة بشر من دون الله، هذا هو الجهل وهذا هو العلم، وهذه قيمة العلم.
إذًا: نزول هذه الآيات على رسولنا ﷺ وهو أمي لا يكتب ولا يقرأ تلفت النظر إلى قيمة العلم، ونزلت هذه الآيات أيضًا في بيئة كبيئة العرب التي اشتُهرت بالأمية، ففي ذلك الوقت كانت أمة لا تكتب ولا تقرأ إلا أقل القليل، وكانوا متخلفين في معظم العلوم، اللهم إلا الشعر والبلاغة واللغة، ومن هنا جاء القرآن الكريم ليتحداهم في هذا المجال، لكن في معظم العلوم الأخرى كانوا في حالة جهل كبير جدًا، لدرجة أن الله ﷿ سمى الفترة التي تسبق الإسلام بالجاهلية فقال: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ [المائدة:٥٠]، فالفترة التي سبقت الإسلام كانت فترة جهل، والتي بعد الإسلام فترة علم.
فالإسلام ثورة علمية حقيقية، وتغيير كامل لمنهج الأمة التي كانت تعيش في هذه البقاع، ونقلة هائلة من أمة جاهلة لا تكتب ولا تقرأ ولا تخترع ولا تسبق غيرها، ولا تفكّر إلا في التبعية لفارس أو الروم أو غيرهما، من أمة جاهلة إلى دولة رائدة قوية تنشر الحق والعدل والإسلام والتوحيد في مشارق الأرض ومغاربها.
أول خمس آيات تتحدث عن العلم، ولم يكن هذا فقط في الآيات الأولى من القرآن الكريم، بل كان مستمرًا في كل الآيات، فقد قمت بإحصائية لكلمة العلم بمشتقاتها في القرآن الكريم ففوجئت مفاجئة كبيرة جدًا، حيث إن كلمة العلم هي أكثر كلمة جاءت في كتاب الله ﷿ بعد لفظ الجلالة، وهذه إحصائية لها مغزى ولها معنى، فالتركيز على كلمة العلم بهذه الصورة ليس أمرًا عشوائيًا أبدًا، حاشا لله: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:٤٩] كل كلمة محسوبة، وكل كلمة في مكانها العلم بمشتقاته أتى في القرآن (٧٧٩) مرة بالضبط، والقرآن الكريم عدد سوره (١١٤) سورة، فيكون العلم قد ذكر أكثر من (٧) مرات في السورة الواحدة، قد تأتي في سور أكثر وفي سور أخرى أقل، لكن المتوسط سبع مرات في السورة، فأي تكريم للعلم؟! فالعلم بهذا المعنى هو أساس حقيقي لبناء الأمة، وأساس حقيقي لدخول الجنة: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة) فكل منكم أتى من مكان معين بعيدًا كان أو قريبًا، فمشوارك إلى هنا هذا طريق للجنة، وصبرك في هذا المكان هو صبر لدخول الجنة؛ لما جاء تصريحًا في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: (من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة).
إذًا: أول ما نزل من القرآن يختص بالعلم، وأكثر كلمة بعد لفظ الجلالة هي العلم بمشتقاته، فأول ما خلق آدم عل
1 / 4
أنواع العلم
العلم نوعان كما ذكرنا منذ قليل: علم شرعي، وعلم حياتي.
وهذه العلوم الشرعية والحياتية تنقسم بدورها إلى نوعين: علم فرض عين، وعلم فرض كفاية.
فرض عين، أي: يتعين على المسلم أن يعرفه، وفي بعض العلوم الشرعية يتعين علينا جميعًا أن نعرفها، يتعين علينا جميعًا أن نعتقد في الله اعتقادًا صحيحًا، وأن نعلم أنه قادر وحكيم وخبير، وأن نعلم أن رسولنا ﷺ قد بُعث بالحق، وقد بلغ عن ربه وما كتم شيئًا، وأن نعلم كيف نصلي وكيف نصوم وكيف نزكي، وما الذي ينقض صلاتنا، وما الذي ينقض صيامنا، وما الذي يجعل زكاتنا غير متقبلة أو غير صحيحة، وما الذي يجب أن نعرفه في أمور العمرة والحج لمن يعتمر أو يحج، وأمور الحلال والحرام، وبعض الدقائق لبعض المتخصصين.
فمثلًا: لو أنك تاجر لا بد أن تعرف فقه التجارة؛ حتى لا تقع في حرام وأنت لا تعرف، ولو أنك طبيب لا بد أن تعرف فقه الطب الذي تعالج به؛ لئلا تضع المريض في حرج شرعي وأنت لا تعلم وهكذا، هنا فرض عين على بعض المسلمين الذي إذا تخصص في مجال لا بد أن يُبدع فيه.
أما فرض الكفاية فهو إن قام به بعض أفراد الأمة كفى عن الآخرين، وعلى سبيل المثال: الهندسة فرض كفاية، لا بد للأمة أن تُخرج من أبنائها عددًا من المهندسين يكفون حاجتها، إن أخرجت الأمة هذا العدد رُفع الإثم عن الأمة ونجت في هذه النقطة، وإن نقص عدد المهندسين في البلد المسلم أثم الجميع، حتى يُخرج العدد الكافي للبلد وبهذا المفهوم ما أكثر الآثام التي توضع على أكتافنا؛ لأننا أحيانًا نفكر في العلوم كعلوم شرعية فقط، مع أن العلوم الحياتية لا بد أن توضع في الصورة مع العلوم الشرعية، وسنفرد لها بإذن الله محاضرة خاصة.
الشاهد من الأمر أنه يتعين عليك نوعان من العلوم: علم عام لا بد أن يعرفه الجميع، وعلم خاص في مجال تخصصك، من هذا المنطلق لا يستقيم لطالب أن يكون فاشلًا في مجاله وهو يطلب العلو والسمو لأمة الإسلام، ويدعو الله مبتهلًا أن تُرفع الغمة، وأن يُرفع الاحتلال وأن تسود الأمة ويُحكم بالقرآن، ثم هو متخلف في مجال صنعته ومهنته، أو في علمه الذي وكّل به.
فهذا العلم فرض عين عليه في هذا الوقت، فالمهندس لا بد أن يكون عالمًا بهندسته، والكيميائي كذلك، والمدرس كذلك، والطبيب كذلك، وكل مهنة إن كنت ضعيفًا فيها فأنت من أسباب ضعف الأمة بصفة عامة، وأنت آثم تحمل إثمًا كبيرًا بحجم التقصير الذي قصّرت فيه.
وإن فشلت الأمة كما ذكرنا في إخراج العلماء الذين يكفون حاجتها أثمت الأمة بكاملها، وتخلفت عن ركب الحضارة، وقادها غيرها ووقعت في الأزمات والمشاكل، وسقطت من عيون الآخرين، فانتهكوا حرماتها واحتلوا أراضيها، وسلبوا ثرواتها، وضاعت الأمم بين أقدام الغزاة.
هذه الدروس ليست دروس موعظة، ولكنها دروس بناء للأمة، تحتاج أن تأخذ المعلومة وتنطلق للعمل بسرعة، فالموت يأتي بغتة، ولو ضاع من العمر قبل ذلك عشر أو عشرون أو ثلاثون سنة في غير علم فابدأ الآن في مجال تخصصك، وليس هناك شيء اسمه انتهى من البكالوريوس ووقف عند ذلك، هناك شيء اسمه دراسات عليا، هناك ماجستير ودكتوراه وتفوق وإبداع، وهناك سبق واختراع، وهناك قيادة للآخرين، تذكروا قصة الدنمارك والمقاطعة مع الدنمارك وجميعنا قاطع الدنمارك والحمد لله، لكن الدنمارك تصنع جبنًا وزبدة، وليس من المشكلة أن نقاطعها فعندنا بدائل كثيرة، كنت قد سألتكم سؤالًا: ماذا لو كانت الصور التي رُسم فيها حبيبنا ﷺ ظهرت في مجلات وجرائد الصين؟ من كان يجرؤ على رفع شعار: فلنقاطع الصين؟ صعب جدًا، فحياتنا معتمدة على الصين الآن، وكل شيء من الصين في هذا الوقت، حتى فوانيس رمضان -وكل سنة وأنتم طيبون- تأتي من الصين، وبأغانيها الإسلامية، السجاد من الصين وعليها كتابات إسلامية، ساعة الأذان من الصين، يقول أحدهم وهو يتكلم بجدية: الحمد لله أن الله سخّرهم لنا، فهم يصنعون لنا كل شيء! وهو سعيد بهذا أيضًا، أقول: هذا ضعف شديد في الفهم، فهو أيضًا عندما يصنع لك هذا، فإنه يصنع سلاحًا وأنت لا تصنع، ويصنع كمبيوترًا وأنت لا تصنع، ويصنع طائرة وأنت لا تصنع، ما الذي ستفعله لو قاطعك هو؟! إذًا: فالذي نعطيه للبشرية كلها هو العلم، ونعلو فوق البشرية ونقودها بهذا العلم، وعلمنا خير للدنيا جميعًا، وسنتعرض لتاريخنا العلمي إن شاء الله في غضون هذه المحاضرات، وستعرفون كيف سادت أمة الإسلام العالم أجمع بالعلم أولًا، وهناك عوامل كثيرة، لكن لا بد من العلم.
وخلاصة القول في هذه المحاضرة: أن الأساس الأول الذي بُنيت عليه أمة الإسلام، والذي بُنيت عليه الأمم الأخرى في زماننا وفي الأزمان السابقة هو أساس العلم، وبغيره لا تقوم أمة، ونتميز نحن المسلمين بأن عندنا العلم الحياتي نعظّمه ونجلّه، وكذلك العلم الشرعي الذي أوحى به ربنا ﷾ إلى نبيه ﷺ، ونزل في كتاب الله ﷿ وفي سنة حبيبنا ﷺ، فهذا تفتقده الأمم الأخرى، فتجد معايير الأخلاق والعقيدة والآداب عندهم مختلة بينما عن
1 / 5
سلسلة كيف تصبح عالمًا [٢]
بالمقارنة بين الدول العربية والإسلامية وبين الدول الأخرى في العلوم الحياتية نجد فجوة كبيرة؛ وما ذلك إلا لأن الدول العربية والإسلامية أهملت العلوم الحياتية إلا ما ندر، أما الدول الأخرى فقد اهتمت بهذه العلوم فقادت العالم، فعلى المسلمين أن يجعلوا العلوم الحياتية نصب أعينهم، وأن يعطوها حقها، حتى يتحرروا من التبعية لغيرهم من الأمم الكافرة.
2 / 1
مشاهدات وظواهر تتعلق بالعلوم الحياتية في واقع الأمة الإسلامية
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فأهلًا ومرحبًا بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله ﷿ أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.
استكمالًا لما كنا نتحدث عنه في محاضرة العلم وبناء الأمم ذكرنا أن هناك نوعين من العلوم: علوم شرعية كالفقه والحديث والعقيدة وغيرها من علوم الشرع، وعلوم حياتية كالطب والهندسة والفلك والكيمياء والفيزياء والجغرافيا وغيرها من أنواع العلوم الحياتية.
لا شك أن الذي يرصد حال الأمة الإسلامية في السنوات الأخيرة يجد أنه بفضل الله ﷿ أن هناك صحوة إسلامية ملموسة؛ فنحن نشاهد المساجد ممتلئة وخارج المساجد أيضًا ممتلئ، والصبر على الصلوات الطويلة وختم القرآن، وصلاة التهجد والعبادات العظيمة التي كانت قد فترت عقودًا طويلة من الزمان قبل الصحوة الإسلامية الأخيرة.
نرى بفضل الله الشباب المتحمس يقرأ ويتعلم ويدرس في كتاب الله ﷿، وفي سنة حبيبنا ﷺ، ويتفقه في الدين، بل منهم من يتخصص إلى جوار مهنته في هذه الأمور الشرعية، لا شك أن هذه صحوة تسعدنا، لكن لابد من الوقوف وقفة هامة جدًا، هذه الوقفة الهامة هي مع العلوم الحياتية، ما حال أمتنا في العلوم الحياتية؟ ما حال أمتنا في علوم الطب والهندسة؟ لا شك أن أمتنا تعاني حالة من التردي في العلوم الحياتية، وليس هذا كلامًا عاطفيًا، إنما هناك ظواهر ومشاهدات واستقراءات نريد أن نتحدث عنها اليوم، فأي مشكلة لها حل، وأول وسائل الحل أن تعرف الواقع، ليست هذه دعوة للإحباط ولا دعوة للتشاؤم؛ فعندما يأتي إلينا مريض يعالج من مرض كذا أو كذا لابد أن تعرف واقع المريض: هل عنده أمراض أخرى؟ عمره كم سنة؟ ما هي ظروفه؟ هل عمل عمليات قبل ذلك أم لا؟ أخذ أدوية أو لم يأخذ؟ إذًا نعرف واقع المريض حتى نصف له العلاج السليم.
فحديثنا اليوم سيكون بالأرقام والإحصائيات والتقارير الرسمية في بلادنا، وفي بلاد العالم العربي والإسلامي، وفي العالم، هذه الإحصائيات والأرقام قد تكون مؤلمة، لكنه ألم لابد منه، إذا أردت القيام فلابد من معرفة الواقع.
ذكرنا بالمحاضرة السابقة أن العلم أساس بناء الأمة، وأن أهم شيء في بناء الأمة العلم، فإن اختفى هذا العلم سقط البناء لا محالة، فلا أمل لأمتنا في قيام إلا بالعلم، لكن هناك فهم عند بعض المسلمين أو عند كثير من المسلمين الملتزمين أن هذا العلم هو العلم الشرعي فقط، فتهمل العلوم الحياتية ويهتم بالعلوم الشرعية.
2 / 2
عدم اهتمام الملتزمين بتخصصاتهم في العلوم الحياتية
العلوم الحياتية يجب أن يهتم بها المسلمون، لكن الواقع الذي فيه المسلمون هل هم مهتمون حقيقة بها أم هم غافلون عنها؟ هذه مشاهدات وظواهر: الظاهرة الأولى: قمت بنوع من الرصد للمتفوقين دراسيًا في أكثر من جامعة، فوجدت أن القليل جدًا من المائة الأوائل في الكليات المختلفة في الأماكن المختلفة في البلاد المختلفة من بلاد المسلمين، القليل جدًا يكون من الملتزمين إسلاميًا، من أصحاب التوجه الإسلامي الواضح، نعم، هناك من يصلي هناك من يصوم، لكن لا يتخذ الإسلام منهجًا له في حياته، الذي يتخذ الإسلام منهجًا له في حياته ويتفوق ويسبق قليل، هذا أمر مشاهد وهذه حقيقة واقعة، بهذه الظاهرة نجد أن أصحاب التوجه الإسلامي أولوياتهم أثناء الدراسة مرتبة بصورة يبدو فيها خلل كبير، قد يهتم جدًا بلقاء ديني أو مقرأة للقرآن وهذا طيب، لكنه لا يهتم أبدًا بحضور محاضرة علمية في تخصصه، قد يهتم بالخروج في مسيرة أو مظاهرة وهذا أيضًا بضوابطه الشرعية طيب، لكن قد لا يهتم بالذهاب إلى مؤتمر علمي أو ندوة علمية أو محفل علمي يتعلم فيه أمورًا لا يعرفها في تخصصه، قد يهتم بالقراءة في فروع الحديث والفقه والقرآن وغيرها من فروع العلوم الشرعية وهذا أيضًا طيب، لكنه لا يهتم في ذات الوقت بالقراءة في مجال تخصصه، نعم هناك رموز طيبة والحمد لله، لكن نحن نتكلم على عموم حال الأمة، النتيجة في آخر العام أن عددًا كبيرًا من الطلاب الملتزمين ينجحون، لكن يأتي بمقبول أو جيد أو يسقط في مادة أو مادتين وقد يعيد السنة، والحجة أنه مشغول بدين الله ﷿، أنه مشغول بالعمل في الدعوة إلى الله ﷿، أقول: لا يستقيم أبدًا أن يدعي مدع أنه داعية إلى الله ﷿ ثم هو فاشل في علومه التي أوكلت إليه، وفاشل في الثغرة التي يقف عليها.
فهذه ظاهرة ليست استثنائية نجدها في بلادنا وفي بلاد أخرى من بلاد المسلمين هذه واحدة.
2 / 3
خوف غير الملتزمين من الالتزام لاعتقادهم أن الالتزام يسبب الفشل في الدراسة
الظاهرة الثانية: أن كثيرًا من الطلاب غير الملتزمين بالتوجه الإسلامي يخشون الالتزام مخافة أن يكونوا مثل هؤلاء الملتزمين ودار بيني وبينهم حديث طويل عن أهمية العلم في الإسلام، فقالوا: كلام جميل على الورق وكلام نظري ليس له واقع في تطبيق حياة الملتزمين، ينظر غير الملتزم إلى ذاك الملتزم فيجد أنه في حالة متردية في الناحية العلمية، فيقول: ما وصل إلى هذه الحال إلا بسبب الالتزام، وهذا لم يلتزم وليس أصلًا مسلمًا أو علمانيًا أو غير ذلك من التوجهات الأخرى ثم هو يتفوق ويسبق ويتقدم، وهذه دول علمانية وتسبق الدول الإسلامية، وهذه دولة كافرة وتسبق الدول الإسلامية، وهذه دولة تعبد البقر وتسبق الدول الإسلامية، وهذه دولة تنكر وجود الإله أصلًا وتسبق الدول الإسلامية، هذه فتنة كبيرة جدًا، لكنه واقع مشاهد.
2 / 4
ظاهرة تسخير غير المسلمين للمسلمين في العلوم الحياتية
الظاهرة الثالثة: كنت مع أحد الإخوة من بلد عربي، وكنت قد أعطيت محاضرة عن أهمية العلم في الإسلام، وكان ذلك في أمريكا، وعلق بعد المحاضرة عن أنه لا ضرورة، ويتبنى هذا الرأي بقوة، ومعه مشجعون وجميعهم ملتزمون بالهدي الظاهر بالإسلام، ويقرءون كثيرًا جدًا في العلوم الشرعية، لكن الرأي عندهم أن الله ﷿ قد سخر هؤلاء النصارى والمجوس والبوذيين والهندوس والشيوعيين وغيرهم سخرهم لتصنيع احتياجات المسلمين، وأعطى الله ﷿ من فضله وكرمه المال للمسلمين، فالمسلمون عندهم مال والآخرون مسخرون لتصنيع الأشياء للمسلمين، انظروا هذا فكر معوج عجيب، اكتشفت أنه ظاهرة ليس من واحد، بل أصبح له مشجعون يرتاح إلى كثرة المال وإلى الشراء من هنا وهناك بماله، دون أن يفكر في تصنيع أو اختراع أو إبداع أو سبق أو ريادة لغيره في هذه العلوم الحياتية.
2 / 5
عدم اهتمام أهل الأموال الخيرين بالإنفاق على العلم وأهله كغيره من أوجه الخير
الظاهرة الرابعة، ظاهرة أيضًا ملموسة بشدة وهي: طرق إنفاق المسلمين في أوجه الخير، قد يتحمس المسلمون جدًا للإنفاق على بناء مسجد، لكن القليل الذي ينفق على بناء مؤسسة علمية، أو ينفق على طلبة العلم المغتربين، أنا أريد واحدًا منكم يزور مدينة البعوث، ويرى الطلاب المغتربين القادمين من أفريقيا ليتعلموا في الأزهر أو في غيره العلوم الإسلامية وغيرها، ينظر إلى حالهم سيجد (١٠) و(١٥) و(٢٠) شخصًا يسكنون في حجرة أو حجرتين وهم في حالة متردية من الفقر والضياع، والواحد منهم سيتعلم ويعود إلى بلد لعله الوحيد الذي يعرف فيها الدين، ومع ذلك الإنفاق على طلبة العلم ليس واردًا عند كثير من أهل الخير من المسلمين، نعم هم أهل خير ويدفعون في سبيل الله أموالًا كثيرة، لكن لم يدخل العلم في بؤرة اهتمامهم فهم ينفقون على الفقراء والمساكين وعلى أمور أخرى عظيمة؛ لكن لا يفكرون في إنشاء مؤسسة علمية أو رعاية مثل هؤلاء الطلاب، أو إنشاء موقع إسلامي يرد الشبهات عن المسلمين، أو بناء مدرسة تربي المسلمين تربية صحيحة، سليمة على كتاب الله وعلى سنة رسوله ﷺ، حتى في البلاد الغربية في أمريكا في المدينة الواحدة قد تجد (١٠) و(١٥) و(٢٠) مسجدًا ولا تجد مدرسة واحدة، فيتعلم أطفال المسلمين في مدارس الأمريكان مع ما فيها من موبقات وأفكار منحرفة وبعد عن الدين كلية، ويضيع الأطفال والمسلمون مشغولون جدًا ببناء مسجد عاشر أو عشرين أو ثلاثين ولا يجتمعون لبناء مدرسة، العلم ليس في بؤرة الاهتمام.
حديثنا اليوم في هذه المحاضرة لو خرجنا فقط بوضع العلم في بؤرة اهتمامنا حتى دون معرفة الوسائل لتحقيقه فهذا أمر جيد، ونقلة هائلة أن نصبح من المهتمين جدًا بقضايا العلم والتعليم في الأمة الإسلامية، والوسائل بعد ذلك بإذن الله كثيرة، والموفق من وفقه الله ﷿: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت:٦٩] إذًا: ينبغي لنا أن نعرف أن هذه قضية مهمة تحتاج إلى بذل وقت وجهد وفكر وعرق ومال وحياة، تبذل حياتك لأجل هذه القضية العظيمة الهامة.
2 / 6
هجرة العقول الإسلامية إلى بلاد الغرب
الظاهرة الخامسة: هجرة العقول الإسلامية من بلاد المسلمين إلى بلاد الغرب، وتسمى ظاهرة استنزاف العقول، فأي واحد فيه أمل أن يكون عالمًا من العلماء، أو عنده رغبة وحماسة في التعلم يلتقط إلى بلاد الغرب ويبدع ويبتكر هناك، فيضيف قوته إلى قوتهم وعلمه إلى علمهم، وتتردى الحالة في بلاد المسلمين أكثر وأكثر، وهذا ليس مجرد واحد أو اثنين أو عشرة بل هذه ظاهرة.
انظروا إلى البلاد الغربية ماذا تعمل لاستقطاب العلماء؟ عندما نضرب أمثلة من بلاد الغرب أو أمريكا لا نقصد أبدًا الإحباط للمسلمين، لا، نحن نرفع واقعًا كما قلنا، الواقع قد يكون مرًا، لكن لابد من معرفته لتغييره، لابد أن أعرف أسباب القوة عندهم وأسباب الضعف عندنا؛ لنعدل بعد ذلك من المسار، فنصبح نحن أقوياء ونسود العالم كما أراد لنا ربنا ﷾.
فأمريكا في التسعينات أعطت (١٢) مليون تأشيرة هجرة إليها، وفي عام (١٩٩٥م) قاموا بتعديل في قانون الهجرة؛ لكي يستقطبوا العقول المفكرة والمبدعة في العالم، فخصصوا (٢٠٠) ألف تأشيرة سنويًا للعقول المبدعة، انظروا إليها تحاول أن تبني نفسها أكثر وأكثر، مع أن أمريكا رقم واحد في العالم في العلوم الآن؛ ومع ذلك أي عقل يظهر فيه نوع من الذكاء أو الإبداع تعمل له إغراءات حتى يأتي إليها، لا يأتي بعقد عمل ويعيش كالأجير عندهم، ولكن يعطى الجنسية ويعطى كل الصلاحيات، أحيانًا المسلم يعيش في بلاد مسلمة سنوات وسنوات ولا يستطيع أن يحصل على هذه الجنسية، بينما إذا ذهب إلى أمريكا بتأشيرة الهجرة ثلاث سنوات ويحصل على الجنسية الأمريكية، ويصبح كأي مواطن أمريكي.
نحن نريد أن نستفيد من كل الخبرات ما دامت لا تتعارض مع الشرع، ونحن المسلمون جنسيتنا مسلمة، قابلت واحدًا في الكويت ليس معه أي جنسية أبدًا، فهو يعيش من غير جنسية سموه بدون، يعني: بدون جنسية، يعيش في منطقة ما بين الكويت والسعودية والعراق؛ فقد قاموا بإحصائيات للسكان فسقط هذا وأمثاله من الإحصاء فلا هم عراقيون ولا هم كويتيون ولا هم سعوديون فأصبحوا بدون جنسية، عاش (٢٠) سنة في الكويت يحاول أن يأخذ الجنسية فلا يستطيع، ثم ذهب إلى كندا وظل سنة واحدة وأخذ الجنسية الكندية، وهو يعمل في الكمبيوتر، فكل إبداعاته في مجال الكمبيوتر لصالح كندا، هذه كارثة.
وأمريكا كما ذكرت تعطي (٢٠٠) ألف تأشيرة سنويًا للعقول المبدعة، ولو حصل في سنة من السنوات أنها أعطت (١٥٠) ألفًا فقط فالسنة التي بعدها تأخذ (٢٥٠) ألفًا حتى تعوض النقص في العقول المبدعة، و(٢٠٠) ألف تأشيرة هذه يأتي منهم تقريبًا (١٠٠) ألف من الهند؛ لأن الهند تفوقت جدًا في مجال الكمبيوتر، بل سبقت حتى بعض الشركات الأمريكية، فأمريكا تأخذ (١٠٠) ألف مبرمج كمبيوتر من الهند سنويًا، فانظر مدى الإضافة إلى علوم الكمبيوتر في أمريكا ومدى الحرمان الذي ستعاني منه الهند بفقد هؤلاء، فأمريكا تفكر أن تستقطب العقول المفكرة لا أن تطردها بعيدًا، تأتي بهم حتى وإن كانوا من دين مخالف ومن عقيدة مخالفة، وحتى وإن كان بينهم وبينهم عوائق كثيرة جدًا، سواء كانت جغرافية أو مالية أو اجتماعية أو دينية أو عقائدية وغير ذلك من العوائق، كل ذلك يلتغي مع الإتيان بالعقل المتعلم الذي يرفع بلادنا عاليًا أكثر وأكثر.
(٥٠%) من الأطباء العرب يهاجرون إلى أمريكا وأوروبا، هذه الإحصائية مزعجة جدًا بالنسبة لنا، وقد لا نصدقها، وليس في مصر فقط، بل في تونس والجزائر وسوريا والمغرب ولبنان وغيرها من البلاد العربية معظم الأطباء فيها يهاجرون إلى الغرب، وأصبحت هناك موضة في مصر من حوالي عشر سنين تقريبًا، بدأت هذه الموضة وهي أن كل الطلاب عندنا في كلية الطب يجتهدون قدر الاستطاعة عمل المعادلة الأمريكية أو المعادلة الفرنسية أو معادلة جنوب إفريقيا، حتى جنوب إفريقيا، كذلك نيوزيلندا وأستراليا، ويحاول الطالب أنه يجد فرصة للخروج بلا عودة، الذي سينجح بقانون الانتخاب الطبيعي، أفضلهم سيهاجر، ويقعد هنا الذي لا يأتي بمجموع يؤهله للهجرة، (٥٤%) من الطلاب العرب الذين يدرسون في أمريكا وأوروبا لا يرجعون مرة أخرى، يذهب ليدرس دراسات عليا فلا يرجع مرة أخرى.
(٣٤%) من أطباء بريطانيا من أصول عربية، ثلث الطب في بريطانيا قائم على العرب.
(٢٣%) من أصول عربية أيضًا في بريطانيا من المهندسين.
علماء الفيزياء والكيمياء في بريطانيا (١٥%) منهم من أصول عربية، كل هؤلاء عرب فقط، فكيف لو فتحنا المجال وتكلمنا على الدول الإسلامية؟! هذه أرقام مفزعة، باكستان يهاجر منها أعداد هائلة، الهند يهاجر منها أعداد هائلة، الهند وإن كانت دولة تدين بالهندوسية والمسلمون فيها أقلية، لكن هذه الأقلية المسلمة (١٠٠) مليون، وكثير منهم يهاجرون إلى إنجلترا وإلى فرنسا وإلى كندا وإلى أمريكا وإلى غيرها من بلاد أوروبا، دولة إسلامية كبرى هجرت إلى الآن (٢١) ألف طبيب نيجيري إلى أمريكا فقط.
انظروا إلى استنزاف العقول، عقول كثيرة تهاجر إلى غير بلادنا.
إفريقيا وأغلبها بلاد إسلامية تصدر سنويًا (٢٠) ألف مهاجر سنويًا
2 / 7
اهتمام بعض الدول غير الإسلامية بتنمية اقتصادها بالعلم
الظاهرة السادسة: مشاهدات في دول غير إسلامية: كوريا، اليابان، ألمانيا، كوريا الشمالية وغيرها من البلاد، هذه البلاد وغيرها بدأت الإصلاح والتعليم والنهضة من حوالي خمسين أو ستين سنة، هذه البلاد كانت مدمرة تمامًا ممسوحة بالأرض، ألمانيا خرجت من الحرب العالمية الثانية ممسوحة بالأرض، كذلك اليابان، كذلك كوريا الشمالية، وكوريا الجنوبية، وإن شاء الله في أثناء هذه المحاضرات سندرس تجربة إحدى هذه الدول من البداية إلى النهاية؛ لنرى كيف كان الطريق بداية ونهاية بالعلم، كان العلم هو السلاح الأول وأحيانًا الأوحد عند هذه البلاد للقيام ولرفع الرأس في وسط العالم الآن، وحتى لا نقول: نحن فقراء فهذه الهند بلد فقير شديد الفقر، وعندها تكدس سكاني رهيب، فتعداد سكانها الآن حوالي (١٣٠٠) مليون إنسان أكثر من مليار، فهي تقترب من الصين الآن في عدد السكان، والهند سنة (١٩٩٠م) كانت تصدر برامج كمبيوتر بـ (١٥٠) مليون دولار، وفي سنة (١٩٩٩م) صدرت بـ (٤) مليار دولار، انظروا إلى النمو وفي سنة (٢٠٠٨م) بعد سنتين من الآن ستصدر بـ (٥٠) مليار دولار، فالكثير والكثير من الشركات الإلكترونية في أمريكا وفي بريطانيا وفي فرنسا تدار من الهند، والأجور أقل والخبرة أعلى.
رأيت بنفسي في أوروبا وفي أمريكا عندما يريد الطبيب أن يكتب تقريره عن الحالة لا يكتبه بيده؛ لأنه لا يوجد لديه وقت، فالوقت له ثمن، وإنما يسجله في كاست وبعد ذلك يكتبه غيره؛ حتى لا يضيع وقته بالكتابة؛ لأن عنده وقتًا يصرفه في العلم، فالتقرير ينتقل من فمه عبر جهاز إلى الهند فيكتب في الهند ويرجع، انظروا من أمريكا إلى العند، ومن إنجلترا إلى الهند، لأن الهندي أقل أجرة من الذي سيكتب في إنجلترا أو في أمريكا، فانظر قدر ماذا النمو الحضاري الذي عند بلد مكدس بالسكان ويعبدون البقر! إذًا: هذه مشكلة تحتاج إلى وقفة منا؛ لأن هذا الوضع لا يسر أبدًا.
2 / 8
ضآلة إنفاق الدول العربية على الأبحاث العلمية
الظاهرة السابعة: الإنفاق على الأبحاث العلمية، بعض الأرقام المفزعة في تقرير لمنظمة اليونسكو لعام (٢٠٠٤م) يقول: إن العالم العربي مجتمعًا ينفق (٠.
٢%) من الدخل القومي على الأبحاث العلمية، المعدل العالمي للدول القوية (٣%) من الإنتاج القومي، العالم العربي يصرف (٢.
%) يعني: اثنين في الألف، المعدل المفروض (٣%)، كل الدول العربية تصرف اثنين في الألف على الأبحاث العلمية وهذا يوازي حوالي (١.
٧) مليار دولار، وإسرائيل وحدها تنفق (٤.
٧%) من ناتج إسرائيل القومي على الأبحاث العلمية، هذا تقرير اليونسكو لعام (٢٠٠٤م) فأعلى نسبة في العالم في الإنفاق على العلم في إسرائيل، أمريكا تصرف (٢.
٧%) وإسرائيل تصرف (٤.
٧%)؛ لأن الدخل القومي عندها كبير عن بلاد العالم الإسلامي، أما نحن فالأموال عندنا مكدسة، لكن ليست داخلة في حساب الناتج القومي، و(٤.
٧%) تساوي (٦.
١) مليار دولار، يعني: العالم العربي كله يصرف (١.
٧) مليار دولار وإسرائيل لوحدها تنفق (٦) مليار دولار على العلم سنويًا، أظن هذا شيئًا يحتاج إلى وقفة.
أمريكا تصرف (٢.
٧%) أو (٢.
٩%) من ناتجها القومي على العلم، لكن الناتج القومي لأمريكا رهيب، فالمبلغ هذا يساوي (٢٩٥) مليار دولار سنويًا، فأمريكا تنفق (٢٩٥) مليار دولار على العلم سنويًا، يمثل هذا المبلغ (٣٥%) من الإنفاق على العلم في العالم كله.
إذًا: لابد أن يكون هناك مردود، فأمريكا لما تصرف هذه الكمية على العلم تصبح الدولة الأولى، والنتيجة أن تجوب أمريكا بأساطيلها مشارق الأرض ومغاربها، وأن تحتل أفغانستان والعراق وتساعد إسرائيل في احتلال فلسطين ولا يتكلم أحد، هذا مردود العلم.
الذي نراه في الواقع ليس مستغربًا عند النظر إلى الأرقام، ومرة أخرى أنا لا أقول هذا الكلام دعوة للإحباط، نحن نريد أن نقوم على أرجلنا، فلابد أن نعرف حقيقة المشكلة، لكن يبدو أننا ننظر في حل المشكلة من مجال آخر، وتركنا المجال الذي أمرنا برعايته وأوتينا من قبيله، وكما ذكرنا في محاضرة سابقة أن أول كلمة نزلت في القرآن الكريم الأمر بالقراءة والعلم، فنحن مأمورون بالعلم من أول أيام الرسالة.
يحزنني أن أقول: إسرائيل، لكن للأسف هو واقع مفروض علينا لابد أن نغيره، فإحصائيات اليونسكو وبلاد العالم بصفة عامة بما فيها بلاد المسلمين تعترف بوجود إسرائيل، فإسرائيل عندهم (٢١٧) جهاز كمبيوتر لكل (١٠٠٠) مواطن، وهؤلاء فيهم أطفال وفيهم نساء وفيهم رجال، يعني: لا يخلو بيت ولا مصلحة من جهاز كمبيوتر، أما مصر ففيها (٩) أجهزة لكل (١٠٠٠) مواطن، والأردن فيها (٥٢)، ولبنان (٣٩)، والباحثون العلميون في العالم العربي كله (١٣٦) باحثًا لكل مليون مواطن عربي، وإسرائيل لكل مليون يهودي يعيش في إسرائيل فيهم (١٣٩٥) باحثًا، نحن نتكلم على الدول العربية مجتمعة ليس على مصر، الدول العربية مجتمعة لديها (١٣٦) باحثًا لكل مليون مواطن، وإسرائيل التي هي عبارة عن (٥) مليون فقط لديها (١٣٩٥) باحثًا لكل مليون مواطن، وأمريكا لديها (٤٣٧٤) باحثًا لكل مليون مواطن، واليابان (٥٠٠٠) باحث، هناك فجوة، فـ (٥٠٠٠) في اليابان، و(١٣٩٥) في إسرائيل أو (٤٣٧٤) في أمريكا يعملون في العلم لابد أن ينتجوا شيئًا، و(١٣٦) فقط لكل الدول العربية مجتمعة بكل إمكانياتها المالية والبشرية ولا حول ولا قوة إلا بالله، لو أخذنا الميزانية المخصصة للعلم في البلاد على عدد السكان، نجد أنه يصرف على المواطن الإسرائيلي في العلم (٩٢٢) دولارًا سنويًا، والمواطن الأمريكي (١٠٠٥) دولارات سنويًا، والمواطن المصري (٦) دولارات سنويًا لأجل العلم، قد يقول شخص: نحن فقراء، نقول: لكن العلم هو أحد بؤر الاهتمام، ومع ذلك تصرف في وجوه أخرى فممكن يدفع لمدرب كرة قدم (٣٠) ألف دولار و(٢٥) ألف دولار، ولا ندفعها لعالم ولا لمؤسسة علمية، وهذا خلل في الفهم والفقه في العالم العربي كله، ينشر في السنة الواحدة في العلوم البيولوجية على سبيل المثال: علوم الأحياء (٤٤٧) بحثًا، وإسرائيل لوحدها تنشر (٥٩٣) بحثًا سنويًا، وأمريكا تنشر (١٤٠٥٠) بحثًا سنويًا، وهذا فرع من فروع العلم، كذلك في الطب والهندسة وعلوم الفلك والفضاء والنووية وغير ذلك من الأمور.
هذه معلومات موثقة وإحصائيات رسمية لم نأت بها من جرائد المعارضة، لا، هذه إحصائيات رسمية حكومية سواء في مصر أو في العالم العربي أو في العالم الإسلامي أو في العالم ككل، إحصائيات اليونسكو والأمم المتحدة، وقلت لكم: ليست المشكلة مشكلة نقود، فهنا مؤسسة علمية كبرى في مصر -بدون ذكر أسماء- أنا رأيتها بنفسي تصرف (١٥) مليون جنيه لتجميل الصورة الخاصة بالمؤسسة، ومستحيل أن تدفع (١٠٠٠) أو (٢٠٠٠) جنيه لبحث علمي، وقد تقوم بإنشاء مكتب بمليون جنيه ويكون تأثيث المكتب من الرخام بأنواعه المختلفة المستوردة من إيطاليا وأسبانيا وتركيا وغيرها من بلاد العالم، وممكن ينفق عليه أكثر مما ينفق على أبحاث علمية لسنة كاملة.
2 / 9
فئات العالم حسب الإنجاز التقني ومكان العالم الإسلامي في ذلك
الظاهرة الثامنة: ينقسم العالم إلى خمس فئات حسب الإنجاز التقني في الدولة: الأولى: مجموعة القادة، هؤلاء منهم (١٨) دولة في العالم بحسب الإنجاز التقني، منهم للأسف إسرائيل أرقام وإحصائيات، وهناك دول يحتمل أن تكون من القادة بفضل الله ومنهم ماليزيا وهي دولة واحدة إسلامية.
وفي الدرجة الثالثة: هناك (٦) دول إسلامية وهي: مصر بفضل الله، وإندونيسيا، وتونس، وسوريا، والجزائر، وإيران، وإن كنت أعتقد أن إيران وضعت هنا لظروف سياسية، أتوقع أنها أعلى من ذلك.
ثم الدرجة الرابعة: المهمشون، وهم معظم بلاد العالم الإسلامي.
والدرجة الخامسة: ناس ليس لهم دخل في أي شيء، ما هو العلم أساسًا؟ هل العلم مجرد القراءة والكتابة؟! ماذا يعني جامعة؟! وماذا يعني مدرسة؟! فهؤلاء لا داعي أن ندخلهم في التقسيم، فأنت ترى ربط الأمم المتحدة لقضية القيادة: دول قائدة ودول يحتمل أن تكون قائدة بالإنجاز التقني، لم يربطوها بقوة السلاح ولا بكثرة المال، ولا بعدد السكان، ولا بالوضع الجغرافي، لا، بل ربطوها بالعلم، وهذا لا يتعارض مع ديننا، نحن قلنا في محاضرة سابقة: إن أساس بناء الأمم العلم، والأمم التي تتصف بالعلم تقود وتسود.
2 / 10
ترتيب جامعات العالم وموقع الجامعات العربية والإسلامية من هذا الترتيب
الظاهرة التاسعة: أقول هذا الكلام وأنا أعلم أنني أخاطب أناسًا إذا وضعوا أيديهم على المرض عالجوه بفضل الله ﷿، فإمكانياتنا وقدراتنا هائلة، وإذا كانت كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية والهند وغيرها تستطيع أن تقود فلا شك أن المسلمين يستطيعون القيام، بل والسبق، ولا يمكن أبدًا لأي عقل أن يقبل للمسلمين حالة التخلف وهم يمسكون بكتاب الله ﷿ وسنة الحبيب ﷺ في أيديهم، فالذي يقبل عقلًا القيادة في حق الآخرين فمن المؤكد أن يقبل عقلًا في حقنا، بل وأكثر، لكن المهم أن نضع القضية في اهتمامنا، نتكلم عن ترتيب الجامعات في العالم، لعلكم قرأتم تقرير جامعة جياوتونج في شنغهاي في الصين على ترتيب الخمسمائة جامعة الأوائل على العالم كان عام (٢٠٠٤م)، أطلعت على تقرير عام (٢٠٠٥م) أيضًا الذي لم ينشر بعد في الجرائد ولم يشتهر وقارنت بين التقريرين فوجدت النتائج متقاربة جدًا جدًا، مما يعطي نوعًا من الانطباع أن هناك دقة في المعايير لهذه التقارير؛ لأن بعض الناس تشكك في هذه التقارير، أقول: حتى لو كان فيها بعض الانحياز فعندما تقرأ التقرير لا تجد مخالفة كثيرة عن الواقع، فهم لم يضطهدونا، فنحن نقرأ الأرقام ونرى الواقع مطابقًا لهذه الأرقام.
فهذا الترتيب فيه عدل إلى حد كبير، قد يكون هناك ظلم في نقطة أو نقطتين، لكن من حيث العموم تجد التقارير صحيحة؛ لأن مشاهدات المسلمين لهذه الأمور مشاهدات صحيحة، فهؤلاء قاموا بعمل ترتيب للجامعات في العالم من جامعة (١ - ٥٠٠) بحسب درجة التفوق في التدريس في هذه الجامعات، وعدد الجوائز العالمية التي أخذتها هذه الجامعة، وعدد الباحثين والأساتذة الذين نشروا بحوثًا عالمية في مجالات محترمة علميًا، وعدد التخصصات النادرة في داخل الجامعة، وعدد الطلاب المتفوقين، وعدد الطلاب المرموقين في الشركات الكبرى في العالم، وعدد المحركين للأمم الذين درسوا في هذه الجامعات، هذه معايير قوية جدًا.
فخرجوا بترتيب (٥٠٠) جامعة أوائل في تقرير عام (٢٠٠٤م) وليس هناك جامعة إسلامية واحدة من الـ (٥٠٠) جامعة الأوائل، وفي تقرير عام (٢٠٠٥م) الحمد لله دخلت دولة إسلامية واحدة وهي تركيا، ودخلت بجامعتين: جامعة رقم (٤٠٩)، وجامعة رقم (٤٦٨) على العالم.
فإذا كنت في وضع مترد وبعد الـ (٥٠٠) فلا تتوقع أن تكون الأول فجأة، لا، لكن ينبغي لنا أن نحاول ونتقدم، وتركيا فيها نهضة قوية جدًا، وتجربة تركيا أيضًا تحتاج إلى دراسة.
أما أمريكا فهي الدولة الأولى في العالم في الجامعات، وهذا شيء ليس مستغربًا؛ لأن في الـ (٥٠٠) الجامعة الأولى التي على مستوى العالم فيها (١٦٨) جامعة أمريكية، والتي قامت بعمل هذا التقرير الصين، يعني: لو كان هناك نوع من الاضطهاد سيضطهدون أمريكا؛ لأن علاقة الصين بأمريكا ليست جيدة.
إذًا: هذه وقائع رأيناها بأعيننا، فهذه جامعات علمية بشكل حقيقي (١٦٨) جامعة في الـ (٥٠٠) الأوائل، المائة الأوائل منها (٥٣) جامعة أمريكية، والـ (٢٠) الأوائل منها (١٧) جامعة أمريكية، وجامعتان من بريطانيا رقم (٣) و(١٠)، وجامعة واحدة من اليابان وهي رقم (٢٠)، في تقرير عام (٢٠٠٥م) وفي تقرير (٢٠٠٤م) كانت رقم (١٤)، لكن (١٧) جامعة من الـ (٢٠) الأوائل على العالم جامعات أمريكية: الجامعة الأولى: (هارفارد)، وتسبق التي وراءها التي هي (كمبردج) في إنجلترا تسبقها بمسافات كبيرة.
الدولة الثانية: جامعات إنجلترا، وعدد جامعات إنجلترا في التقرير (٤٠) جامعة، انظروا حجم الفجوة، لذلك أمريكا قائد وإنجلترا تابع، مع وجود التاريخ العريق لإنجلترا فهي الإمبراطورية التي كانت لا تغرب عنها الشمس، ولها تاريخ طويل، وهي الآن تابعة لأمريكا؛ لأن العلم مع أمريكا، فهناك فجوة كبيرة بينها وبين إنجلترا.
الدولة الثالثة: اليابان (٣٤) جامعة.
إسرائيل رقم (١٢) على العالم فيها (٧) جامعات في هذا التقرير، أول جامعة رقم (٧٨) في تقرير (٢٠٠٤م) كانت برقم (٩٠) يعني: أنها تتقدم.
في إفريقيا كلها لا توجد سوى دولة واحدة التي هي جنوب أفريقيا فيها (٤) جامعات فقط، لا يقول أحد: السبب هو الفقر، أقول: هناك نقود كثيرة في البلد.
هناك دول فقيرة كثيرة موجودة في القائمة منها: المجر، الهند، البرازيل، البرازيل لها (٤) جامعات، الأرجنتين نسمع عنها في الكرة، لكن هي بلد فقير جدًا، ألم تسمعوا الأزمة الاقتصادية الرهيبة التي كانت هناك؟ ومع ذلك عندهم جامعات موجودة في التقرير، شيلي، المكسيك، الدول الصناعية الثمان الكبرى سبع منها في العشر الأوائل على العالم ليست صدفة، باستثناء روسيا فقط هي التي خرجت وصار ترتيبها الـ (١٧) لقد كانت في أيام الاتحاد السوفييتي قوية، لكن كما تعلمون أن الفرقة ضعف، ولما تفككت جامعاتها تدنى مستواها جدًا.
إذًا: هذه ظواهر موجودة التقرير الذي عمل عام (٢٠٠٤م) وعمل عام (٢٠٠٥م) وسيعمل عام (٢٠٠٦م) ومعاييره معايير علمية، وهذه المعايير تقول: إن الجامعات الإسلامية تحتاج إلى وقفة، والطلاب والأساتذة المسلمون محتاجون إلى وقفة.
2 / 11
مرتبات أساتذة الجامعات في العالم ومقارنتها مع مرتبات أساتذة الجامعات العربية والإسلامية
الظاهرة العاشرة والأخيرة: مرتبات الهيئات التعليمية، أساتذة الجامعة، الأستاذ الجامعي في مصر يأخذ (١/ ٥٠) على الأقل من مرتبات الأستاذ الجامعي في أمريكا، هذه كارثة؛ أنا لا أقول ذلك لأني أستاذ جامعي وأريد أن يرتفع مرتبي، لا؛ أنا أقول ذلك لأن معظم الأساتذة الجامعيين يشتغلون بعد الظهر والصبح؛ لأنه يريد يعيش، ولأنه لم يعط مبلغًا يستطيع أن يعيش به، بينما هناك في الغرب الأستاذ الجامعي يأخذ خمسين ضعفًا على الأقل، وبعض الجامعات تعطي مائة ضعف، والأسعار هناك أرخص من عندنا، فهذا الفارق يجعل الواحد هناك من الساعة الثامنة إلى الساعة الخامسة في منتهى الدقة؛ لأن معه ما يرضيه، وهذا الاتفاق ليس هكذا بلا وزن ولا حساب، بل هذا الإنفاق يأتي بمال؛ لأنه لو كان عندك علماء وتصرف عليهم فسيأتون لك بنقود، فبدل ما يكون أقصى أحلامك أنك تستورد جهاز مكينة من الدرجة الثانية أو الثالثة ستصنع عندك جهازًا من الدرجة الأولى، وبالتالي سيجرى العالم كله إليك؛ لكي يشتري منك، وسيكون عندك الذي ليس عندهم، ويكون القرار في يدك، وتكون رافعًا رأسك بالعلم، فهم عندما ينفقون هذا الإنفاق على هؤلاء العلماء يصبحون دولًا قوية صاحبة سيادة وقرار في العالم، ولا نقول أيضًا: الفقر مرة أخرى؛ لأن الوزير عندنا يأخذ أكثر من الوزير عندهم، نعم والله، المرتب القانوني عندنا أكثر من المرتب القانوني عندهم، فعندهم مرتبات مجحفة خاصة بالوزراء وخاصة برئيس الجمهورية وعندهم تضييقات شديدة جدًا، وغير مسموح له أن يقبل هدية في أثناء فترة وزارته أو حكمه، حتى إسرائيل نفسها تحاكم زعيم الدولة، إذا أعطى بعض التسهيلات لشركة من الشركات، أو يشك أنه أعطى هذه التسهيلات، لكن الوزراء عندنا يأخذون مبالغ خيالية، فالوزير ونائب الوزير ورئيس المصلحة يأخذون مبالغ خيالية، ورئيس هيئة كذا، تصل المبالغ إلى (٢٠٠) ألف و(٢٥٠) ألفًا وأكثر شهريًا وليس سنويًا، وهذا المبلغ لا يحصل عليه وزير هناك سنويًا، فهذا خلل في التوزيع وخلل في الاهتمام وخلل في القضايا الماسة للأمة الإسلامية.
نحن نتكلم على أساتذة الجامعة، فلنأت إلى مدرسين وهم موجودون معنا بأعداد لا بأس بها، لكنهم بؤساء فهم يعملون في التدريس، ودور الواحد منهم أن يعلم ويربي ويبدع ويخرج جيلًا قادرًا على قيادة العالم، وفي آخر الشهر يعطى (١٥٠) جنيهًا أو (٢٠٠) جنيه أو (٣٠٠) جنيه، مما جعلهم يعلنون في صفحات الجرائد عن الدروس الخصوصية، ماذا يعمل إذًا؟ يسرق؟ أنا لست مع الدروس الخصوصية، لكن في نفس الوقت لست مع إعطاء المدرس (١٠٠) جنيه أو (٢٠٠) جنيه ثم نقول له: لا تعط دروسًا خصوصية.
إذًا: القضية في الأساس فهم قضية العلم واهتمامي بها مع أولادي ومع مدرستي، أو مع المصلحة التي أنا فيها، أو الوزارة التي أنا فيها، أو الهيئة التي أنا فيها، أو الجامعة التي أنا فيها، أو المدرسة التي أنا فيها، فقضية العلم قضية ينبغي أن تشغل أذهاننا، أما مجرد النجاح، الحمد لله الولد نجح من سنة إلى سنة فهناك طلاب في الإعدادية ما يستطيعون أن يقرءوا ويكتبوا، بل هناك بعض الباحثين في الجامعة أنا كنت أعطي محاضرة في كلية دار علوم والتي كان أحد فروعها الرئيسية اللغة العربية، فأرسلت إلي طالبة بسؤال بعد المحاضرة، أجاركم الله من اللغة التي كتب بها الخطاب! والله لولا أنني داخل الكلية ومتأكد وفي حالة وعي كامل، لظننت أنني بين أطفال تمهيدي أو أول ابتدائي أو ثاني ابتدائي بالكثير، خط ركيك جدًا وكلمات عجيبة كل قاف طبعًا مكتوبة كاف، والهمزات كلها مضروبة، طبعًا ناهيك عن الإعراب والنحو والصرف والإملاء، فقواعد الإعراب والنحو والصرف اصرف ذهنك عن أي شيء متعلق باللغة في قراءة هذا الخطاب.
هذه كارثة، هل يا ترى هذه القضايا في رءوسنا أم الذي يهمنا أن آخذ الشهادة وأعلقها في البيت، وأكون أخذت بكالوريوس أو ليسانس كذا أو كذا وانتهت القضية والحمد لله؟ ما تريدون أكثر من ذلك؟ لا، القضية تحتاج إلى وقفة جادة، هذه الحالة التي وصفناها الآن في الأمة يتهم بها الإسلام، هذا واقع، فأعداء الإسلام يقولون: الإسلام دين تخلف ودين رجعية، ويقولون: إن وضع المسلمين كذا وكذا وكذا، وما هذا إلا لأنهم مسلمون، فلماذا الدول الأخرى التي تعبد أي شيء: من شجر أو بقر أو بشر أو لا يعبدون شيئًا تتقدم؟ لماذا؟ إذًا: الإسلام يدعو إلى التخلف، هذا كلام يقال في الغرب ويكتب في كتب وفي تحليلات، هل سنرد أيضًا بالكلام أم سنرد بأبحاث علمية وسنرد بتحرك نحو العلم منذ الطفولة وإلى الكبر؟ هؤلاء القاعدون لابد أن يرتقوا في علومهم اليوم عن الأمس وغدًا عن اليوم، الكلام ليس مزحًا، الذي يريد لأمته أن تقوم لابد أن يعلم أنه بغير ذلك لن تقوم الأمة؛ لأن من سنن الشمس أن تطلع من المشرق وتغرب من المغرب، والأرض تدور حول الشمس، هذه سنن ليس فيها تغيير إلا في آخر الزمان عندما ينهار الكون وتقوم القيامة، أما في حياتنا فنحن مطالبون بتطبيق السنن، وكل شيء واضح في كتاب ربنا وفي سنة نبينا ﷺ: (
2 / 12
سلسلة كيف تصبح عالمًا [٣]
مما يبرز أهمية العلوم الحياتية إشادة القرآن الكريم والسنة النبوية بها، وهي علوم متجددة بتجدد الزمان والمكان، فالذي ينبغي لأمة الإسلام أن تكون الرائدة في كافة العلوم: الشرعية والحياتية، وينبغي لنا أن نعلم أنه ليس هناك تعارض بين العلوم الشرعية والحياتية، فالعلوم الحياتية بالإخلاص لله تتحول إلى علوم شرعية، ويثاب من يقوم بها؛ لحاجة الأمة الماسة إليها.
3 / 1
ضرورة الحديث عن العلوم الحياتية وإبراز مكانتها وأهميتها بالنسبة لعزة الأمة وقوتها
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد.
فأهلًا ومرحبًا بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله ﷿ أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.
اللهم اجعل هذه الدقائق شاهدة لنا لا علينا، اللهم اغفر لنا بها، اللهم ارحمنا رحمة تامة عامة واسعة، لا تغادر لنا ذنبًا صغيرًا ولا كبيرًا إلا غفرته، ولا إثمًا صغيرًا ولا كبيرًا إلا محوته، اللهم اغفر لنا أجمعين، وتقبل منا أجمعين، وأعز الإسلام والمسلمين، وارفع رايات الموحدين، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم آمين.
نستكمل ما كنا قد بدأناه حول قضية العلم، أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة.
بداية نذكر بعض التعليقات وبعض الأسئلة على المحاضرتين السابقتين: محاضرة العلم وبناء الأمم، ومحاضرة قراءة في واقعنا العلمي.
أولًا: بعض الناس كانت تتمنى أن يكون الحديث في رمضان عن الرقائق والتوبة والعودة إلى الله ﷿ وفقه الصيام وأحكامه، وما إلى ذلك من أمور عظيمة هامة.
أنا أقول: الحمد لله الكثير من إخواننا الذين يتحدثون في الدعوة وفي الإسلام وفي الخطابة وفي غيرها يتحدثون في هذه الأمور، لكن لا يُقبل أبدًا أن تنعزل الأمة عن مشاكلها في رمضان، وأن تتخلى الأمة عن أزماتها في رمضان، ليس شهر رمضان شهر عبادة بالمفهوم القاصر فقط على الصلاة والصيام، إنما هو شهر عبادة، والسنة كلها عبادة، والعمر كله عبادة بالمفهوم الواسع للعبادة، وهي أن أنفذ كل ما أمرني به ربي ﷾: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام:١٦٢ - ١٦٣].
ويوم الفرقان كان في رمضان لم يؤخر إلى ما بعد رمضان، ولم يوظف رمضان في العام الثاني من الهجرة للصلاة والقيام والتراويح والقرآن والدعاء والذكر فقط، بل فُعلت فيه هذه الأمور وإلى جوارها الجهاد في سبيل الله يوم الفرقان.
وكذلك حفر الخندق كان في رمضان، وفتح مكة كان في رمضان، وكسر الأصنام في الجزيرة العربية كان في رمضان، والثأر من فارس بعد وقعة الجسر والانتصار على الفرس في موقعة البويب كان في رمضان، وفتح الأندلس كان في رمضان، وكسر شوكة التتار أعتى قوى الأرض وأكثر جبابرة الأرض طغيانًا كان في رمضان، ما تعطّل المسلمون أبدًا في رمضان، وما وقفت حركتهم ونصرتهم لدين الله ﷿ في رمضان.
بالحوار والحديث الذي تكلمنا به في المحاضرة السابقة ألا تشعرون أن الأمة في أزمة؟ هل على المسلمين أن يؤجلوا الحديث عن أزماتهم هذه وهي أزمات ماسة وخطيرة إلى ما بعد رمضان؟ ويأتي موسم الحج ونؤجل إلى ما بعد الحج؟ ويأتي موسم المذاكرة أو موسم الزواج أو موسم العمل المضغوط لسداد الديون أو موسم كذا وكذا؟ ومشاغل الحياة كثيرة جدًا فهل نؤجل مشاكل الأمة إلى أن ننتهي من مشاكلنا الخاصة وأحوالنا الخاصة؟ هذا لا يستقيم، المسلم الصادق يقدم هموم أمته على هموم نفسه، يعيش لأمته لا لنفسه، ويضحي بنفسه من أجل رفعة هذا الدين وسيادة هذه الأمة.
قد يكون الموضوع ليس بالإمتاع الذي فيه الحديث عن التاريخ أو القصص أو التفسير أو الإعجاز، أو ما إلى ذلك من أمور هي عظيمة جدًا، لكن ليس بالضرورة أن يكون حديثنا في كل مرة حديث المتعة أو اللذة، ولكن هو حديث الإفادة، حتى وإن كان حديثًا مؤلمًا فلا بد منه، فنحن نأخذ الدواء وهو مر، ونفعل الجراحة وهي مؤلمة؛ لأنها تحقق فائدة.
بعض الإخوة وللأسف الشديد -مع أني كررت أكثر من مرة أني لست متشائمًا ولا أدعو إلى التشاؤم، ولا نذكر هذه الأمور دعوة للإحباط، إلا أنهم أُحبطوا- أُحبطوا نتيجة ذكر الأرقام والإحصائيات المفجعة التي تحدثنا عنها في المحاضرة السابقة، وأنا أسأل إخواني الذين لم يسمعوا المحاضرة السابقة أن يعودوا إلى الأشرطة المسجلة عن هذه المحاضرة لأهميتها القصوى، وأنا أعتقد أن هذه من أهم المحاضرات التي يجب أن نتناولها في هذه الآونة، وفي هذه السنوات، وليس فقط في هذه الأيام، هذه الفجوة الهائلة بيننا وبين الغرب، وبيننا وبين أمريكا أو إنجلترا أو فرنسا أو إسرائيل أو الصين أو غيرها من دول العالم الآن، هذه الفجوة الهائلة أصابت بعض الإخوة كما ذكرت بالإحباط.
وأقول: لا يمكن أبدًا لمسلم فاهم وواع أن يُحبط، فالإحباط ليس من شيم المؤمنين أبدًا: ﴿إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ﴾ [يوسف:٨٧].
﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر:٥٦] فالإحباط ليس من شيم المؤمنين، ونصر الله ﷿ قادم لا محالة، والذي يشك ف
3 / 2
مسئولية الحكومات والأفراد تجاه العلوم الحياتية
أيضًا هناك أناس علّقت وتقول: إن هذه الأرقام التي ذكرتها مسئولية الحكومات، فهي التي أنفقت هذا الإنفاق الضئيل على العلم، وهي التي حرمت الناس من التعليم الجيد أو المناهج التعليمية الجيدة، وهي التي وجهت الأموال إلى غير مصارفها التي ينبغي أن تُصرف فيها، وهي وهي، ولا شك أن الحكومة تتحمل مسئولية ضخمة في هذا الأمر، وأنه لا بد للحكومة الصالحة أن ترفع من شأن أمتها، وأن ترفع من شأن شعبها في كل المجالات، وهم غير معذورين في ذلك، ولكن ليس هناك مبرر للبقاء في ذيل الأمم سنوات وسنوات، نعم لا نعفيهم من المسئولية، لكن أيضًا لا نعفي أنفسنا من المسئولية، فنحن عندنا مساحات ضخمة جدًا، ومن الممكن أن نشتغل فيها وننتج ونبرع، فالطالب الذي عنده مناهج تعليمية ليست على المستوى الأمثل، لم يمنعك أحد أن تتقن هذه المناهج قدر المستطاع، ثم تخرج إلى خارج هذه المناهج وتطالع العلوم الموجودة في كتب ومراجع مختلفة موجودة في الإنترنت، وموجودة في مكتبات هنا وهناك؛ لترفع من حصيلتك العلمية، فلو أن عندك حمية صحيحة لأمتك لعملت هكذا، أما إذا كان الإنسان يدخل الكلية من أجل أن ينجح ويأخذ الشهادة فلن يعمل ولن يتحرك أبدًا، فعندما يكون هناك جو عام من حب العلم في البلد، فمن الطبيعي أن يتوجه البلد بعد هذا إلى العلم شاء أم أبى متخذو القرار في البلد، فالسياسيون سيجدون أنه من الأفضل أن يسيروا مع هذه الموجة العلمية كما يسيرون مثلًا مع الموجة الدينية، مع أن الكثير منهم يكرهون الدين، لكن تجدهم يسيرون معه ويحضرون الاحتفالات الدينية، ويعطون الجوائز على القرآن الكريم وحفظ القرآن الكريم، ويرسلون كذا وكذا فهذا طبيعي في جو عام من الاهتمام بالدين، فلا بد أن يهتموا معهم بالدين ولو ظاهرًا، كذلك لو كانت هناك ثورة علمية، وجميع الناس يحبون العلم ويتحركون من أجل العلم، في الوقت نفسه ستجد السياسي من أجل نجاحه في الانتخابات يضع في برنامجه مؤسسات علمية، وليس فقط أن يوفر السكر والأكل والعيش! لا، فهموم الأمة ليس في الطعام والشراب، ولكن هموم الأمة في العلم، فيضع في برنامجه الانتخابي أنه سينشئ مؤسسة علمية، وسيخصص ويضخم ويكبّر من ميزانية الدولة المتجهة إلى العلوم، فأعلى دولة تعطي جانبًا كبيرًا من ميزانيتها الحكومية للعلم على مستوى العالم هي إسرائيل، فالميزانية للحكومة بأكملها منها (٣٠%) مصروف للعلم، فلا بد أن يكون هناك فجوة، ولا بد أن نفهم الدولة التي تُزرع داخل فلسطين منذ ستين سنة فقط، ومع ذلك تصل إلى هذا المستوى ليس بالسحر ولا بالشعوذة، فهناك سنن كونية ربانية: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ﴾ [هود:١٥] فالذي يعمل يصل إلى النتائج، نعم ليس له في الآخرة نصيب؛ لأنه لا يعمل ذلك لله ﷿، لكن نحن المسلمين أمرنا أن نعمل في الدنيا ونسود ونقود في الدنيا العالم أجمع إلى الخير وإلى العدل وإلى الإسلام، ونحن في الآخرة من المفلحين، فكلا الأمرين مطلوب من المسلمين، غير المسلمين هم الذين يعملون للدنيا فقط، لكن كما ذكرت الذي يعمل يصل إلى النتائج وهذه من السنن.
فهناك أحد الإخوة كان يسأل عن هجرة العقول، وظاهرة استنزاف العقول، وأن العلماء المسلمين والطلاب المسلمين يهاجرون إلى بلاد الغرب ليتعلموا هناك ويمكثون هناك، ألا نسافر إلى هناك للتعلم؟ فأحد الإخوة يقول: أنا عندي بعثة وأريد أن أسافر لأتعلم ألا أسافر للتعلم؟ هذا الأخ فهم أني أمنع السفر للتعلم، لكن أقول: أبدًا ما ذكرت هذا الكلام، بل إن من وسائل التعلم الرأسية كما سيأتي إن شاء الله في المحاضرات: أن تبدأ من حيث انتهى الآخرون، فالنقل عن الغير في الأمور غير الشرعية أمر محمود، والحضارة الإسلامية في بداياتها قامت على النقل من الحضارات الأخرى المختلفة، ثم نبغ المسلمون وعلماء المسلمين وطوروا وأحدثوا الأمور الكثيرة واخترعوا وزادوا، وقادوا العالم بعد ذلك سنوات وقرونًا في حركة العلم، لكن كانت البداية أنهم نقلوا عن الآخرين، وما أُعيب على أحد أبدًا أن يسافر ليأخذ العلم من هناك، لكن أعيب عليه أن يبقى هناك، وأن يسافر بدون خطة، فهل يسافر أربع سنوات أم ست سنوات أم عشرًا، أو أنك لا تعرف؟ هل ستظل هناك؛ لأن الجو هناك مريح والظروف مريحة، أم أنك سترجع إلى أمتك التي هي في حاجتك؟ وهل العلم الذي تعلمته ستضيفه إلى قوة أمريكا أو قوة إنجلترا أو قوة فرنسا أم تضيفه إلى قوة المسلمين؟ قابلت في أمريكا أحد الإخوة الملتزمين، ولكن في رأيي كان بدون فقه وبدون علم صحيح، فهو لديه بكالوريوس في الطب، وبكالوريوس في العلوم، وأيضًا بكالوريوس في الهندسة، وسافر أمريكا لتزويد علمه، ولم يكن لديه المال فاشتغل سواق تاكسي؛ ليرفع من دخله ويستطيع أن يصرف على نفسه في العلم، أعطاه التاكسي أموالًا لم يكن يحلم بها، فأُعجب بالدولار، والدولار له بريق، فهو أراد أن يشتغل شهرًا وشهرين ليصرف على نفسه ويأخذ بكالوريو
3 / 3