فليس «الشعب المصري» إلا علامة سوداء أمامك على الورق، فإذا وقفت عند هذا الحد من الرؤية، فأنت لم تفهم شيئا على سبيل اليقين، لكنك تأخذ في الفهم حين تقف أمام هذه العلامة السوداء لتتخذها منظارا لا أكثر ولا أقل، هي منظار ترى خلاله عشرين مليونا من الأنفس رجالا ونساء وأطفالا، حاول أن توقف هؤلاء العشرين مليونا أمام مخيلتك صفا طويلا يمتد - مثلا - من منبع النيل إلى مصبه، ثم حاول أن تنقل بصرك في هذا الصف الطويل من هذا الرجل (زيد) إلى هذه المرأة (هند ) إلى ذلك الغلام (خالد) ... هؤلاء جميعا يا سيدي ناس، لكل منهم مشاعر وخواطر من قبيل مشاعرك وخواطرك، وإذا عض الجوع واحدا منهم فهنالك فرد يتألم، وإذا خاب رجاء واحد منهم، فهنالك فرد يتحسر ويحزن، ليس «الشعب المصري» بذي دلالة إلا إذا أدركت إدراكا واضحا أن الكلمة في ذاتها ليس لها معنى، وإنما المعنى المراد هو الحزمة الضخمة من الأفراد الأحياء الذي أسمينا كل فرد منهم باسمه الخاص، ويا ليتنا نستطيع - كلما أردنا أن نتحدث عن الشعب المصري - أن نكتب قائمة طويلة بالأسماء كلها، فذلك أقرب إلى الفهم الصحيح لما نريد.
فإذا قلت بعد ذلك عن هذا الصف الطويل من أفراد البشر، إنه «جاهل» فقد تحسب مرة أخرى أنك قد فهمت المراد، لكنك هنا أيضا في أغلب الظن قد اكتفيت بالنظر إلى علامة سوداء خطت أمامك على الورق، ولكي تفهم المعنى المراد على حقيقته، انظر خلال هذا المنظار إلى أمثلة الجهل القائمة فعلا، عد إلى الصف الطويل من أبناء آدم الذي بلغ عشرين مليونا، عد إلى ذلك الصف الطويل وانظر إلى الأفراد واحدا بعد واحد، فستجد لكل فرد مواقف وأقوالا، وستعلم أن كثيرا جدا من تلك المواقف، وهذه الأقوال، لا يصور دنيا الواقع في شيء، وعندئذ فقط سيتبين لك كم نسبة الجهل في الفرد الواحد، وكم نسبته في المجموعة كلها، وما أنواعه البشعة الفظيعة. سيتبين لك يا سيدي أن معظم «المتعلمين» جهلاء؛ لأنهم في سلوكهم وفي أقوالهم وفي عقائدهم يسيرون في واد والدنيا بأسرها تسير في واد آخر، سيتبين لك يا سيدي كم من أفراد هذا الصف البشري يعيش في أوهامه، وعندئذ فقط ستعلم في شيء من الوضوح قولك عن «الشعب المصري» إنه «جاهل».
وهكذا قل في طريقه فهمك لكلمة «فقير» وفي كلمة «مريض»، نشدتك الله ألا تكتفي بالنظر إلى هاتين اللفظتين الصغيرتين في حيزهما الضئيل على الورق، ثم توهم نفسك أنك قد فهمت المراد. لا يا سيدي، اخرج إلى الطريق وسافر إلى الريف وانظر إلى «الفقراء» فقيرا فقيرا، فكلمة «فقير » لا معنى لها بعيدا عن هؤلاء «الأفراد الفقراء» الذين يطلق على كل منهم اسم خاص به، فهذا «زيد» وذلك «إبراهيم» وتلك «فاطمة»، ثم اخرج إلى الطريق وسافر إلى الريف. أستغفر الله، إنما أردت أن أقول تسلل إلى الجحور البشرية التي تملأ الأرض عن يمينك وشمالك؛ لكي ترى «المرضى» مريضا مريضا، فليس لكلمة «المرض» معنى إذا لم يكن معناها هؤلاء الأفراد المرضى الذين يطلق على كل منهم اسم خاص به في شهادة ميلاده!
أرأيت إذا كم تستغرق من الزمن وكم تنفق من المجهود لتفهم عبارة واحدة قصيرة، مثل «الشعب المصري جاهل فقير مريض»؟
لكنها جناية الألفاظ علينا، هي التي تخيل إلينا أننا بالنظر إلى الكلمة مكتوبة أو مسموعة قد فهمناها! وأصل الجريمة هو كما أسلفت لك، الظن بأن الكلمة هي نفسها الشيء المسمى، لكن احفظ جيدا هذا المبدأ الواضح البين، وهو: ليس الاسم هو المسمى، ليست اللفظة هي الشيء ... الأسماء والألفاظ مناظير ينبغي أن ننظر خلالها إلى الأفراد الذين نتحسس بأيدينا فنلمسهم، وننظر بأبصارنا فنراهم ... •••
وذلك فصل واحد من فصول المأساة، وأما فصلها الثاني فهو تلك الكلمات المجرمة التي تثير مشاعرنا فنأتي الكبائر، مع أنها في ذاتها، ليست بذات معنى! انظر إلى هذه الأمثلة من الكلمات المجرمات:
إنسانية، دولة، ديمقراطية، حرية، أمة، دستور، مدنية ... إلى آخر أفراد «العصابة» إن كان لهذه العصبة الآثمة من آخر.
فما كان أهون على رجل واحد أن يقوم فينادي بألوف الألوف من فتي الشباب ليقذف بهم في جهنم الحرب إرضاء لشهواته هو؛ لأنه يريد أن يقود ويسيطر، ما كان أهون على ذلك الرجل أن يقذف بألوف الألوف من الشباب الفتي القوي باسم «الدولة» - مثلا - أو باسم «الديمقراطية» أو بما شئت من هذه الطلاسم السحرية!
وها هنا نريد لك أيها القارئ أن تحفظ مبدأ آخر حفظا جيدا، وهو أن مدلول الكلمة هو الأشياء الجزئية المحسوسة التي تشير إليها، فإذا قيل لنا «الدولة» وأردنا أن نفهم فيجب أن نسأل بدورنا: أين هي؟ لا بد أن أضع يدي عليها لألمسها، وأن أفتح عيني وأميل بأذني لأراها وأسمعها، وعندئذ سترى أن الدولة مجموعة من أفراد، وليس في ذلك بأس، لكن البأس كل البأس في أن تتوهم أنها كائن إلهي غيبي لا حق لنا في نقده ومناقشته الحساب.
وقد يقول القائلون: لكن هنالك من الألفاظ ما لا سبيل إلى الرجوع به إلى أشياء تلمس بالأيدي وترى بالأعين وتسمع بالآذان، وإلا فماذا تريد أن تلمس في معرفتك لمعنى كلمة «الديمقراطية» مثلا؟ والجواب على ذلك هو أننا بين أمرين لا ثالث لهما: فإما أنه من الممكن أن نعثر في عالم الأشياء الواقعة المحسوسة المرئية على ما نسميه بهذا الاسم وأمثاله، ولو بعد جهد وحصر انتباه ودراسة؛ فيكون لهذا الاسم وأمثاله معنى، وإما أن يكون ذلك مستحيلا فلا تكون الكلمة عندئذ ذات معنى على الإطلاق، وتكون جريمة كبرى أن نستخدمها في إثارة المشاعر، وما تستتبعه من تقتيل وتخريب وفتك ودمار.
Bog aan la aqoon