وهل تصدق أن الأمر قد احتاج إلى فيلسوف من أضخم الفلاسفة ليقول للناس: «أنا موجود»؟! هل تصدق أن وجود الفرد - على بداهته - قد تلكأ إعلانه حتى جاءه فيلسوف؟ لا، بل إننا حتى هذه الساعة بحاجة إلى فيلسوف وفيلسوف وفلاسفة كثيرين؛ ليصيحوا في الناس بأن الفرد موجود وجودا حقيقيا، وليس هو بالشبح أو الظل، ولا هو مجرد اسم يكتب بالمداد على شهادة الميلاد، أو مجرد رقم يسجل في دفاتر هذا أو دفاتر ذاك، نحن إلى هذه الساعة بحاجة إلى فلاسفة كثيرين ليقولوا إن الفرد موجود وجودا ماديا، وإنه من لحم ودم، وإن له بطنا يجوع وجلدا يشعر بالبرد ويرتعش ...
لكن الفكرة قد تكون واضحة ناصعة جلية، ومع ذلك فلا يستطيع إعلانها إلا فيلسوف جريء أو طفل بريء!
إنه ليروي عن مدام دي ستايل أنها طلبت من فيلسوف ألماني أن يلخص لها فلسفته في عشر دقائق، فلما أجابها الفيلسوف بأن ذلك مستحيل لصعوبة الفكرة وكثرة تعقيدها قالت في اعتداد: «إن ما لا أستطيع فهمه في عشر دقائق لا يكون عندي جديرا بأن يفهم»، وتلك بالطبع مبالغة منها، لكنها مبالغة تفيدنا في لفت أنظارنا إلى مجرد إدراك الحقيقة النظرية ليس دائما هو موضع الصعوبة، بل الصعوبة في الانتقال من رؤية الحقيقة إلى إعلانها، أو بعبارة أخرى، الانتقال من الفكرة إلى العمل، وفي مضاء العزم يكون الفرق بين إنسان وإنسان، وبين أمة وأمة.
ما كان أجدر ديكارت أن يقول: «إني أريد فأنا إذا موجود» بدل قوله: «إني أفكر فأنا إذا موجود»؛ لأن جوهر وجود الإنسان عمل يريده وينجزه لا فكر يديره في رأسه، فالإنسان في حياته أشبه ما يكون بالتائه في جوف غابة كثيفة، لا يدري كيف يكون الطريق إلى الخلاء المكشوف، وخير له ألف مرة أن يعقد إرادته على خطة ينفذها، مهما طالت، كأن يسير مثلا ناحية الشمال أو ناحية الجنوب بغير ذبذبة ولا تحول، من أن يظل واقفا في مكانه، أو أن يدور في دائرة مغلقة، أو أن يبدأ طريقا لا يخطو فيه إلا خطوات قليلة، ثم يحاول طريقا ثانيا فثالثا ...
لقد رأيت منذ أيام قليلة مجموعة من أطفال صغار أربعة أو خمسة، ولا أدري ماذا أرادوا أن يصنعوا، لكني لاحظت أنهم لم يعرفوا كيف ينجزون ما أرادوا، فسرعان ما اعتركوا وأخذ بعضهم يشد بعضا من شعر رأسه أو أطراف ثوبه، في انفعال شديد، فلم يسعني إلا أن أرى في هؤلاء الأطفال صورة مصغرة لنا، لكنها على كثير من دقة التصوير لحالنا، فلست أعلم كم قضينا من القرون لا نعمل لأنفسنا شيئا، فلما نهضنا حديثا وأردنا أن نعمل، أرتج علينا، فأخذنا انفعال الأطفال، وما لبثنا أن اعتركنا بعضنا مع بعض شدا للشعر وجذبا لأطراف الثياب؛ ذلك لأننا نعرف ماذا يعمل، لكننا لا نملك الإرادة التي تنفذ، فلا عجب ألا تجد اختلافا بين أحزابنا على الأهداف؛ لأن الأهداف «فكرة» لا يصعب على الطفل إدراكها، وهل يعجز الطفل عن إدراك الفكرة البسيطة القائلة بأننا نريد أن نستقل عن المستعمر لنكون دولة ذات سيادة كاملة؟ الفكرة بسيطة واضحة، بل والطريق إليها قد يكون «معروفا» كذلك؛ معروفا كفكرة، ولكننا حين بدأنا نخطو نحو التنفيذ، حل بأبداننا شلل تراكم على مر العصور وطول القعود والركود، فانتقلت الفاعلية من الأقدام التي تسير، إلى الحلوق تصيح والأذرعة تلوح في الهواء وتضرب.
تنقصنا الإرادة، والإرادة لا تكون إلا في شخص يريد، ليس هناك «إرادة» سابحة في الهواء مع السحاب، أو «إرادة» تسكن الكهوف مع الأشباح والأرواح، إنما الإرادة تراها في فرد يريد، فقم الآن واعمل. إنه لتعجبني هذه الأسطر الآتية في رواية «ميديا» ل «كورني»، ولتلاحظ أن «كورني» في مسرحياته قد جعل عظماءه هم أصحاب الإرادة التي تنفذ وتمضي في غير ضعف أو لين، فهذه «ميديا» قد زال عنها كل ما تركن إليه حياتها، لكنها تستحفز في نفسها العزيمة والثقة بالنفس:
الوطن ينبذك والزوج خائن.
فماذا بقي لك في هذه المحنة السوداء؟
بقيت لي نفسي.
نفسي وحدها وفيها الكفاية.
Bog aan la aqoon