هل كان يمكن يا سيدي لهذا الغرب أن ينتج ما أنتجه من فنون وآداب لو كان خلوا من الشعور الإنساني؟ كم عالما وكم عاملا وكم معملا في ربوع الغرب تقوم النهار والليل؛ لتخرج لنا ما نخفف به البلاء عن مرضانا؟ أنصف الغرب يا سيدي، فهو نفسه الغرب قد تركز في قنينة الدواء التي نبعث إلى الصيدلي في لهفة أن يسعفنا بها دفعا للألم.
فقيرة هي تلك النفوس التي لا يستطيع أصحابها أن ينظروا من وراء الأشخاص إلى حيث ظروفهم، ولو قد فعلوا لاشتد بهم التسامح وشاع فيهم العفو والمغفرة، إنك - كما يقول الشاعر الإنجليزي - لو عرفت كل شيء عفوت عن كل شيء، وهو يعني بذلك أنك لو ألممت بكل الظروف التي تحيط بمن تعده آثما، أدركت موقفه على حقيقته بما فيه من مثيرات ودوافع، وعندئذ ستراك أميل إلى المغفرة والتسامح، والإثم - كما يقول شاعر إنجليزي أيضا - من طبيعة البشر، أما الغفران فمن صفات الله ... لكن أنى لنا العين التي تنظر إلى الظروف خلال الشخص الماثل أمامنا بجسده؟ أنى لنا العين التي تنظر إلى «ع» - مثلا - فترى وراءه دارا ملئت أركانها وجحورها بالأنفس البشرية المقعدة العاجزة، كلها تريد منه الطعام والدواء؟ إن «ع» موظف صغير، قد يعبس حينا وقد يبتسم حينا، فإذا ابتسم ابتسمنا معه، وإذا عبس زجرناه على عبوسه؛ لأننا خلو من النفوس العاطفة التي في مقدورها أن تنظر إلى العابس القانط، فتقول: لعل وراء ذلك ما يغفر.
فقيرة هي تلك النفوس التي تبطش بالأشياء والأحياء بطش الصبيان، فقيرة - يا أبا العلاء - هي تلك النفوس التي لا تخفف الوطء؛ لأنها لا تدري أن أديم الأرض هو من هذه الأجساد.
مصباح علاء الدين
ما أشقاني بهذه الذاكرة الضعيفة العاجزة التي توشك أن تبدد لي كل ما قد وعيت وخبرت في أعوامي السوالف، فلا تبقي لي من ذلك شيئا، وإني لأعلم عن ذاكرتي هذا الضعف الشديد وهذا الإسراف في تبديد الودائع، حتى لتراني أتحوط لها بكل ما يشير به علماء النفس من وسائل، فأشدد الروابط بين أجزاء الشيء المحفوظ، وأضع تحته الخطوط، وأوضحه في هوامش الكتب برموز وعلامات وملخصات، لكن هيهات للغربال أن يحفظ في جوفه ماء، تراني أقرأ الكتاب، فلا تمضي أيام قليلة بعد الفراغ منه، حتى يذهب عني وتذهب كل آثاره، فلا عنوانه هناك ولا اسم كاتبه ولا شيء من مكنونه، فالرأس بعده خلاء خواء كما كان قبله، فلا زيادة به إن لم يكن نقصان.
فكيف نرجو من مثل هذه الذاكرة المنكودة أن تستعيد ما أردتها أمس على استعادته مما قد قرأته منذ ثلاثين عاما؟ أردتها أمس على أن تعيد لي قصة علاء الدين ومصباحه، وكنت قد قرأتها منذ ثلاثين عاما، حين أخذنا - وكنا ثلاثة أشخاص - أخذنا ذات صيف نقرأ ألف ليلة وليلة، فكنا نجتمع كل يوم في الصباح والعصر، في غرفة ريفية لم يكن يؤثثها غير الحصير على أرض تراب كانت في منزل صديق لنا أيام الطفولة، لم يكن من حظه أن يختلف إلى معاهد التعليم، لكنه يحب أن يسمع أنباء الصحف وأخبار الكتب يقرؤها له أصدقاؤه «التلاميذ»، وكنت أنا القارئ لهما في أغلب الأحيان، ولم أكن بعد قد تبينت كل ما بعيني من قصر وضعف، فكنت أضع الكتاب على الأرض وأنحني على صفحاته أقرأ لهما، حاسبا أن ذلك الوضع هو أكثر الأوضاع راحة لجسدي، والحقيقة أن عجز العينين عن النظر الطويل هو الذي أوحى به واستلزمه، كنت أقرفص جسدي في ذلك الوضع المتعب، وأقرأ بصوت عال كأنما أردت أن أسمع سكان القرية جميعا، وقد لازمتني عادة القراءة العالية دهرا طويلا، حتى لقد شكا كثيرون من الجيران إلى أبي هذه الضجة التي أحدثها في أركان البناء هزيعا طويلا من الليل، وفي كل ليلة، ولعل الزمان لم يكن بعد قد هاضني حتى دفعني دفعا إلى الانزواء والانطواء وخفوت الصوت وخفض البصر.
أردت أمس أن أستعيد ذاكرتي ما استودعتها إياه من قصة علاء الدين ومصباحه، فلم أذكر أبدا من ذلك شيئا، سوى أن علاء الدين كان يمسح مصباحه، لست أدري كيف، فإذا الجن خدم له يأتمرون به، فينجزون له المستحيل، يبنون له القصور في لمح البصر ويمحونها في لمح البصر، ويأتون له بابنة السلطان حبيبة طائعة إذا أرادها، ويطيرون به في السماء أو يهبطون به في فجاج الأرض، وينشئون له المدن ويملئون له الكنوز ذهبا ولؤلؤا، ينجزون له كل ذلك إذا ما أشار لهم إشارة خفيفة بيده أو لسانه.
والحق أني قد أردت ذاكرتي على أن تعيد لي قصة علاء الدين ومصباحه السحري، للتسلية لا للجد؛ لأني لمحت فيه وفي قصته رمزا لطيفا لمن يظن أن الدنيا يتغير له وجهها بالرغبات تطوف بين جدران رأسه، فحسبي أن أجلس هكذا على مقعدي وفي عقر داري، ثم أعبر بالكلام عن رغبتي هذه أو رغبتي تلك، فإذا سحرة الأرض وعفاريت جوفها وجن سمائها كلهم خدم ينجزون لي ما اشتهيت وما تمنيت. ماذا يضطرني إلى الجهاد الشاق وإلى العمل العنيف إذا كانت لمسة خفيفة للمصباح السحري تكفيني لتحقيق ما أشتهي وأتمنى؟ والمصباح السحري قادر على الهدم كما هو قادر على البناء؛ لأن رغبات الإنسان سالبة وموجبة معا، فالإنسان قد يرغب في أن يمحى شيء يضايقه، كما قد يرغب في أن يخلق له شيء يشتهيه، قد يرغب الإنسان في زوال نظام كما قد يرغب في قيام آخر ... ولمثل هذا كله ينفع مصباح علاء الدين.
وأي عجب بعد ذلك في أن تستهوينا قصته ونحن على عتبة الشباب: حيث الأحلام والآمال والشعر؟ لئن كانت الرجولة الناضجة عملا منتجا، فالشباب الفج عاطفة جياشة، الأمل لا يتحقق إلا بالعمل عند الرجل الناضج، لكن تكفيه قصيدة من الشعر عند الشباب الغرير، كم كانت لنا ونحن على عتبة الشباب أمان وأحلام حققناها بمصباحك يا علاء الدين، أو تذرعنا لتحقيقها بطاقية الإخفاء التي تيسر كثيرا جدا من الصعاب والعقبات، فسحقا لهذا النضج العقلي الذي لم يعد يكفيه من ذلك شيء، وبات محتوما علينا بمقتضى أحكامه أن نجاهد جهادا شاقا ونعمل عملا عنيفا إذا ما أردنا للأماني أن تتحقق ... فهكذا ينتقل الإنسان في مراحل حياته من شعر إلى نثر ومن أحلام حلوة إلى واقع مرير . •••
لكنني إذ التمست من قصة علاء الدين ومصباحه تسلية، فقد وجدت فيها الجد؛ لأنني ما كدت ألهو بجانب المزاح منها حتى تبين لي جانب آخر، فلئن أشبع المصباح السحري خيال الشاب الحالم، فهو كذلك كفيل أن يهدي الرجل الناضج العامل، إن هذا المصباح العجيب رمز إلى إمكان التغيير لمن أراده، ليس في الدنيا بأسرها ما يستحيل على الإرادة الإنسانية إذا صممت ومضى عزمها، وكأنما قصد علاء الدين إلى إعلان ذلك بقصة مصباحه السحري، إن الفساد ضارب في طول البلاد وعرضها، لكنه يزول لصاحب الإرادة الذي لا يرى محالا أن تتغير الحال.
Bog aan la aqoon