حال النبي ﷺ مع الدنيا
لم يكن الرسول ﷺ يحذر الناس من الدنيا ثم يتنعم هو بها، أبدًا، فانظروا إلى الصحابة كيف كانت تصف حياة الرسول ﷺ؟ روى مسلم والترمذي وأحمد وابن ماجه واللفظ لـ ابن ماجه عن النعمان بن بشير ﵁ قال: سمعت عمر بن الخطاب ﵁ يقول: (رأيت رسول الله ﷺ يلتوي من الجوع ما يجد من الدقل -والدقل: رديء التمر- ما يملأ به بطنه)، فكيف من الممكن بعد هذا أن تَكْبُر الدنيا في عيني عمر بن الخطاب وفي عيون الصحابة، لكن تعال وقل ألف كلمة وألف خطاب وألف مقال عن الزهد من غير تطبيق، ليس من الممكن أن يكون لها أي قيمة، فالذي جعل لكلام الرسول ﷺ قيمة كبيرة جدًا أن حياته كانت مثالًا عمليًا لكل كلمة يقولها ﷺ.
وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: (نام رسول الله ﷺ على حصير، فقام وقد أثّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء، فقال: ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها)، أرأيتم ما الذي حصل بعد هذا؟ لقد تغيرت الدنيا على الرسول ﷺ، ذاك الذي كان مُطاردًا ومُشرّدًا ولم يجد أحدًا ينصره، لقد أصبح رئيس دولة، وأصبح مُمَكَّنٌ في الأرض، وأصبح عنده بيت مال، وتأتي له الغنائم والجزية من أماكن كثيرة جدًا، فكل الدنيا قد تغيرت من حوله، لكن ﵊ لم يتغير إلى أن مات، وتأمل عند موته ما الذي حصل؟ فقد روت السيدة عائشة ذلك فتقول: (توفي رسول الله ﷺ وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد)، يعني: أي خلق من إنسان أو حيوان، فهو يشمل جميع الخلق، (وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي)، أي: كل الذي كان عندي هو شطر شعير في رف لي، وأين ذلك؟ في بيت زعيم الأمة وقائد الدولة، ولا تستغربوا من ذلك فالرسول ﷺ يعرف قيمة الدنيا، والذي يستغرب منه حقًا هو الذي يؤمن بالآخرة وحجمها ولم يعمل لها، وهو الذي يعمل أربعًا وعشرين ساعة في اليوم والليلة في الدنيا وهو يعلم أنها زائلة، وما أنفق في سبيل الله ساعة وهو يعلم أن الآخرة باقية!! هذا الذي بالفعل يستغرب منه، ولا يستغرب من واحد يعرف أن الدنيا كلها قطرات، ولهذا لم يأخذ منها شيئًا وتركها، فهو سائر عمره يركز على أمر الآخرة.
ومع كل هذا الوصف لحياة رسول الله ﷺ، إلا أنه ﵊ كان يعيش حياة متوازنة، فكان يعمل ويتكسب المال، وكان إذا أفاء الله عليهم بفيء كان له خمسه، والفيء: هي الغنيمة التي تأتي من غير قتال، وكان يتزوج النساء، وكان يُنجب الأطفال، وكان إذا حضر الطعام وفيه شاة أكل من كتفها، وكان إذا أُهديت له بردة من الصوف لبسها ﷺ، ولم يكن يعتزل الناس أو يعتزل الحياة أو يعتزل الدنيا مع كل هذا الكلام عن الدنيا، وكان يجعل أصحابه على الولايات، وكان يعطيهم من الأموال، وكان يأمرهم بالعمل، وينهى ﷺ عن الكسل والخمول والدعة فقد كان يعمل في الدنيا أي عمل مهما كان بسيطًا، روى البخاري عن أبي هريرة ﵁ وأرضاه قال: قال النبي ﷺ: (لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يغدو إلى الجبل فيحتطب فيبيع فيأكل ويتصدق خير له من أن يسأل الناس)، وفي راوية: (خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) فانظر إلى هذا التوجيه النبوي، فلو عملت حمّالًا أو بيّاعًا للحطب فليس عيبًا ولا حرامًا، فهذا خير من أن تمد يديك إلى الناس، وتأمل إلى الجمال في التعليم النبوي: (فيحتطب فيبيع فيأكل ويتصدق)، فليس فقط يأكل، لكنه يأكل ويتصدق، فيُصبح له فضل على غيره، فبدلًا من أن تمد يديك إلى الناس اعمل وتصدق على الناس، ولا تقعد في البيت عاطلًا؛ فالرسول ﷺ كان يشجع الناس على العمل، ومع كل هذا التخويف من أمر الدنيا إلا أنه يأمرك ألا تقعد في البيت من غير شغل.
فهذا هو التوازن الذي كان يقصده الرسول ﷺ في حياته، وبهذه النظرة المتوازنة انطلق الصحابة في أرض الله ﷿ يعملون ويتكسبون، وينفقون على أنفسهم وأهليهم، ويتاجرون، ويزرعون، ويجاهدون في سبيل الله، ويُصيبون الغنائم، ويتولون المناصب والقيادات، ويخالطون الناس وغير ذلك، ومع ذلك لم تمثل لهم الدنيا شيئًا في أعينهم، فما أسهل بذلهم لها في سبيل الله، وما أيسر تنازلهم عنها لإخوانهم، حتى لمن لا يعرفون.
7 / 6