موقفهم في الإنفاق على ذوي القربى مع إساءتهم
تعالوا لنرى رد فعل الصحابة مع بعض آيات القرآن الكريم التي تخاطب قلوبهم، هذا القلب الذي أحواله غريبة وعجيبة جدًا، ففي بعض الأحيان قد يكون الإنسان متوجعًا من آخر ولا يقدر أن ينسى ذلك، لكن الصحابة قد ملكوا قلوبهم وأصبحت في أيديهم، فيقدرون على تنظيفه متى شاءوا، ويقدرون على الأخذ منه والوضع فيه متى شاءوا.
ولنسمع إلى هذه القصة اللطيفة، وهي قصة مشهورة والجميع يعلمها، لكن فيها دروسًا عميقة جدًا: لقد كان أبو بكر الصديق ﵁ ينفق على ابن خالته مسطح بن أثاثة ﵁ وأرضاه، فإذا بـ مسطح يتكلم في عرض أم المؤمنين السيدة عائشة ﵂، لم يتكلم في مسألة يسيرة، ولم يقل عن عائشة: إنها بخيلة أو مخطئة، أو لم يكن الحق معها في رأي أو غيره، لا، بل يطعن في عرض وشرف السيدة عائشة ﵁، وكان ذلك كرد فعل طبيعي للأب المجروح الذي طعن في شرفه وشرف ابنته الطاهرة الصديقة أم المؤمنين عائشة ﵁ وأرضاها، فقال: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد اليوم، وفي رواية: والله لا أنفعه بنافعة أبدًا، فالمهم أنه قرر أن يقطع النفقة عليه.
وتأمل هنا فـ أبو بكر لم يمنع حقًا من حقوق مسطح، وإنما كان يتفضل عليه فقط، فيتصدق عليه، والصدقة كما نعلم ليست كالزكاة، وإنما هي اختيارية، يعني: تفعلها أو لا تفعلها لا شيء عليك، لكن مع كل هذا الأمر ينزل قول الله ﷿: ﴿وَلا يَأْتَلِ﴾ [النور:٢٢]، يعني: ولا يحلف؛ لأن أبا بكر حلف أنه لن ينفق على مسطح بعد ذلك شيئًا، ثم قال تعالى: ﴿أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ﴾ [النور:٢٢]، وهذه المنقبة كانت من أعظم مناقب الصديق، فالله ﷾ يصفه بأنه من أولي الفضل والسعة، ثم قال: ﴿أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا﴾ [النور:٢٢]، وهذا الأمر من ربنا ﷾ على سبيل الاختيار: ﴿أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور:٢٢]، ففي هذه الآيات ربنا ﷾ لا يذكر أن مسطحًا له حقًا عند أبي بكر، وإنما يطلب من أبي بكر بمنتهى الرفق أن يعفو وأن يصفح، ثم يتودد إليه ﷾ فيقول: ﴿أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [النور:٢٢]؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فإذا أنت غفرت للناس فالله ﷾ سيغفر لك: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور:٢٢].
قال أبو بكر في رد فعل عجيب واستجابة سريعة جدًا دون تردد: بلى والله! إني لأحب أن يغفر الله تعالى لي.
سمع قول الله تعالى فانطلق لتنفيذه فورًا، وذلك دون أي تفكير في القضاء على ما في قلبه من حزن أو حقد أو ضيق على مسطح بن أثاثة أو غير ذلك، ولم يقل: أعطني وقتًا لأنسى ما حصل، لا، بل قال في لحظة واحدة: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي.
فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه من ماله، بل وأقسم ألا يقطعها بعد ذلك؛ لأنه عرف ماذا يريد منه المولى تعالى، وليس من الممكن أن الله ﵎ يطلب منه شيئًا ثم يرفض، فإنه الصديق ﵁.
إذًا: فـ الصديق لم يكن ملزمًا بالإنفاق على مسطح، وموقفه في المنع مفهوم، ولا يلومه عليه أحد، لكن النداء واضح، إن كنت تحب مغفرة الله ﷿ فاغفر للعباد، فوصلت الرسالة إلى قلب الصديق ولم يتأخر عن الالتزام بها.
وهنا نتساءل فنقول: كم من شخص غاضب من جاره أو من صاحبه؟ حتى ربما من أبيه وأمه! فيقاطعهم بسبب ذلك اليوم والاثنين والثلاثة، والشهر والشهرين، ولا يريد أن ينسى سبب ذلك، ونسي قول الله تعالى: ﴿أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور:٢٢]، وهذا خلاف المنافقين تمامًا، فلو خاصم الإنسان على كل شيء دون صفح أو مسامحة لدخل تحت وصف المنافقين؛ فالمنافقون لا ينقادون لأحكام الدين إلا عند تحقق فوائد دنيوية ملموسة، وإن لم تكن هناك فائدة مباشرة فلا طاعة لكلام الله ﷿.
واسمع إلى قول الله ﷿ فيهم: ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا﴾ [النور:٤٧]، فهذا كلام باللسان، ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور:٤٧]، فهم قالوا كلمة الإيمان وقالوا: أطعنا، لكن بلا عمل.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى الل
6 / 8