تعبت في مرادها الأجسام
قالوا: والواجب ألا يبحث الإنسان عن أكبر لذة بل عن أشرف لذة، وعن خير أنواعها، ولا يتيسر ذلك له إلا بأن يوسع فكره، وأن يكون عنده من حب الخير للناس ما عنده لنفسه.
هذه هي خلاصة هذا المذهب، وقد وجهت إليه اعتراضات كثيرة أهمها: (1)
أنا لو اتبعنا هذا المذهب وجب ألا نحكم على عمل بأنه خير أو شر إلا بعد أن نحسب كل ما ينشأ عن العمل من لذة وألم لكل إنسان، ولكل كائن حساس، وبعبارة أخرى نحسب حساب ما يناله الأقارب والأباعد من اللذائذ والآلام، وما يناله الأحياء وأعقابهم وهكذا، وإذا كان كذلك فمن الصعب الوقوف على نتائج العمل وحسابها، فقد نرى عملا ينفع أمتنا ويضر الأجانب، وقد ينفع معاصرينا ويضر الأجيال المستقبلة، والأجيال المستقبلة كثيرة العدد، من أجل هذا ونحوه يصعب الحساب ويدق البحث حتى لا نستطيع أن نحكم على بعض الأعمال بأنها خير أو شر، فمثلا هل تنتفع الأمة الآن بما عندها من مناجم إذا كان ذلك يضر أبناءها؟ وهل تستدين الحكومة إذا خيف أن يكون الدين حملا ثقيلا على الخلف؟ كل ذلك من الصعب تصفية حسابه على هذا المذهب. (2)
إن هذا المذهب يدور حول اللذة والألم ويتخذ لذائذ الناس وآلامهم مقياسا، ولكنا نرى أن اللذة والألم تختلف باختلاف الأشخاص، فقد يرى أحد في عمل لذة كبيرة ويرى فيه آخر لذة أكبر أو أقل، فيترتب على ذلك اختلاف الناس في الحكم بالخير أو الشر، كما يترتب عليه ارتباك في حساب مقدار اللذة والألم، فمثلا قد يسمع جمع من الناس أصواتا موسيقية فيطرب منها بعضهم طربا كبيرا بينا نجد بجانبهم من لم يأبه لها ولم ينفعل بها أي انفعال، فكيف بعد ذلك نستطيع تقدير اللذائذ والآلام ونتخذها مقياسا تقاس به الأعمال. (3)
إن هذا المذهب يجعل الناس باردين لا ينظرون في الأعمال إلى جمالها وشرفها، والباعث الشريف الذي بعث عليها، بل لا ينظرون إلا إلى لذاتها وآلامها، فضلا عن أن القول بأن الحياة لا غاية لها إلا اللذة والآلم يحط من شرف الإنسان، ولا يليق إلا بالعجماوات.
وقد أجاب أنصار هذا المذهب عن هذه الإعتراضات، وطال بين الباحثين فيها الجدال، مما لا يتسع له هذا المقام.
ومع هذا فإنا نستطيع أن نذكر هنا أن هذا المذهب من أكثر المذاهب انتشارا في العصور الحديثة، وهو أرقى من مذهب السعادة الشخصية، وكان له فضل كبير في إيقاظ العقول، ومطالبتها أن تكون غير متحيزة في أحكامها، فقد طلب من الشخص أن ينظر إلى لذائذ الناس كما ينظر إلى لذاته هو، وطالب المتشرعين ألا ينظروا عند تشريعهم إلى طبقة خاصة وأفراد معينة، بل ينظروا إلى خير الناس كافة، فما يعد جرائم يعاقب عليها القانون وما لا يعد إنما يلاحظ فيه لذائذ المجموع وآلامه، والعقوبات التي توضع بإزاء الجريمة يجب أن يلاحظ فيها أنها تأتي بلذائذ للناس أكبر مما تسبب من الآلام وهكذا. (2) مذهب اللقانة
8 (البصيرة)
رأى قوم أن مذاهب السعادة أو مذاهب اللذة غير صحيحة، وأن اللذة وإن كانت أحيانا دليل الخير فإنها في كثير من الأحيان باعث على الشر، فلا يصح - بعد - أن تكون غاية نطلبها ونقيس الأعمال بها، وإنه لمن الضعة أن تسير الإنسان في الحياة اللذة فقط وألا يسير في أعماله إلا طلبا للذة أو تجنبا لألم، وألا يبعثه على فعل الخير الا توقعه ما فيه من لذة، وألا يجنبه الشر إلا حسبانه ما فيه من ألم.
Bog aan la aqoon