فأحس القائد البائس بندى الأمل، وانتعش فؤاده بالفرح، ووجم كاموس ولم ينبس بكلمة، فقال بيبي وكان يكذب أول مرة في حياته: أما أنا يا مولاي فسألحق بكم بعد حين .. فأمامي واجبان مقدسان: أن أعنى بجثة مولاي، وأن أشرف على تحصين أسوار طيبة، لعلها بالمقاومة الناجحة تساوم على التسليم بأحسن الشروط.
ولم تتمالك الملكات فأجهشن بالبكاء، وغلب التأثر بيبي فقال: ينبغي أن نواجه محنتنا بشجاعة، وليكن لنا في سيكننرع أسوة حسنة، ولنتذكر دائما يا مولاي أن العجلات الحربية هي سبب هزيمتنا، فإن كررت يوما على العدو، فلتكن العجلات عتادك، والآن سأذهب لأدعو العبيد إلى حمل الثمين الغالي من ذهب القصر وسلاحه، مما لا غنى عنه!
نطق القائد بيبي بهذه الكلمات، ثم ذهب.
12
وانبعثت في القصر حركة نشاط شاملة، وأضيئت حجراته جميعا، ومضى العبيد يحملون الثياب والسلاح وصناديق الذهب والفضة، ويذهبون بها إلى السفينة الفرعونية في سكون محزن، تحت رقابة رئيس الحجاب، وكانت الأسرة الفرعونية في أثناء ذلك تنتظر في حجرة الملك كاموس، تشملها الكآبة والصمت، ينكس أفرادها النبلاء رءوسهم، مظلمة أعينهم من اليأس والحزن، ولبثوا على حالهم ما لبثوا، حتى دخل عليهم الحاجب حور، وقال بصوت خافت: انتهى كل شيء يا مولاي.
ووقعت كلمة الحاجب من آذانهم موقع السهم من العنق، فخفقت قلوبهم، ورفعوا وجوههم ذاهلين، وتبادلوا نظرات القنوط والكمد، أحقا انتهى كل شيء .. وهل أزفت ساعة الوداع؟ .. أهذا آخر العهد بالقصر الفرعوني، وطيبة المجيدة، ومصر الخالدة؟ .. وهل يحرم عليهم غدا أن يروا مسلة أمنمحعت، ومعبد آمون، والسور ذا الأبواب المائة؟ .. أتضيق بهم طيبة اليوم، وتفتح أبوابها غدا لأبوفيس يعتلي عرشها ويتحكم في الرقاب؟! كيف يغدو الهداة ضالين، والسادة فارين، وأصحاب الدار مهاجرين؟
ورآهم كاموس لا يتحركون، فقام في تثاقل وتمتم قائلا بصوت خافت: «هلموا نودع حجرة أبي»، فقاموا قومته، وسارت الأسرة في خطى ثقيلة متخاذلة إلى حجرة الملك الراحل، ووقفوا أمام بابها المغلق متهيبين لا يدرون كيف يقتحمونه دون إذن، ولا كيف يلقونها مهجورة. وتقدم حور خطوة وفتح الباب، فدخلوا تسبقهم أنفاسهم المترددة وزفراتهم الحارة، وعلقت أبصارهم في رفق وحنان بالديوان العظيم، والمقاعد الوثيرة، والمناضد الأنيقة، وهامت أرواحهم حول مصلى الملك، والمحراب الجميل وقد نحتت عليه صورته جاثيا أمام الرب «آمون»، فخالوه جميعا جالسا على ديوانه، متكئا على وسادته، يبتسم إليهم ابتسامته الحلوة، ويدعوهم إلى الجلوس، وأحسوا جميعا روحه تغمرهم وتطوف بهم، فحلقت أرواحهم الحزينة في سماء الذكريات، ذكريات الأمومة والزوجية والبنوة، اختلطت آثارها بتنهدهم العميق ودمعهم المسيل!
ثم تنبه كاموس إلى القلوب المنصهرة من حوله، فدنا من صورة أبيه وانحنى لها بإجلال، ولثم جبينها، وتنحى جانبا، فتقدمت توتيشيري ومالت على الصورة الحبيبة، وقبلتها قبلة أودعتها آلام قلبها الثاكل المحزون، وودعت الأسرة جميعا صورة ربها المفقود، ثم مضوا إلى الخارج في صمت حزين كما دخلوا.
ورأى كاموس الحاجب حور في انتظارهم، فسأله قائلا: وأنت يا حور؟ - إن واجبي يا مولاي أن أتبعكم كالكلب الأمين!
فوضع الملك يده على كتفه شاكرا، وتقدموا جميعا في الردهات ذات الأعمدة، يسير بين أيديهم القائد بيبي، ويمشي كاموس في طليعة أسرته، يتبعه الأميران الصغيران أحمس ونيفرتاري، فتوتيشيري، فالملكة أحوتبي، ثم الملكة ستكيموس، ويتبع الجميع الحاجب حور، وهبطوا الأدراج إلى ممر الأعمدة، وانتهوا إلى الحديقة، فسايرهم على الجانبين عبيد يحملون المشاعل ويضيئون لهم السبيل، فبلغوا السفينة، وانتقلوا إليها واحدا إثر واحد حتى شملتهم جميعا، وحم الفراق، فألقوا نظرة الوداع، تاهت أعينهم في الظلام المخيم على طيبة كأنه يلفها في ثوب حداد، فتقطعت قلوبهم، وتصدعت صدورهم وعصر ألم الحنين قلوبهم الكسيرة وشمله الصمت فكأنهم ذابوا في الظلام ووقف بيبي بين أيديهم لا ينبس بكلمة، ولا يجرؤ على خرق هذا الصمت الحزين، حتى تنبه الملك لوجوده، فتنهد وقال له: أزفت ساعة الوداع.
Bog aan la aqoon