وبماذا يمكن أن تتعلق آمال مستقبله؟! خفير مزلقان أقصى ما يحلم به علاوات ثم تتوالى الأيام عقيمة مكرورة حاسرة الوجه لا تستطيع أن تحجب في ثنايا خفاياها أي جديد. تجعل من الانتظار متعة، ومن الغد توقعا، ومن السنوات أمنيات. إذا لم يتزوج من توحة فما الحياة! توحة هي الابتسامة المشرقة التي تستطيع أن تجعل في حياته الرتيبة الضجرة شيئا يتوارى خلفه من ملل الأيام. قد تسخر منه القرية أنه تزوج راقصة، ولكن ما القرية وماذا يلقى منها أو من أهلها! ستصبح توحة هي حياته جميعا.
ظل يتردد على الترك كل يوم، وكانت توحة تمر بالجالسين بعد كل رقصة تجمع النقطة. ومن هذه النقطة وجد فهيم وسيلة إليها. كان يشهد كل العروض، وكان الجميع يلقون في منديل توحة قرشا أو نصف قرش، وكان هو يلقي خمسة قروش، وكان حريصا أن يريها القروش الخمسة قبل أن يلقي بها في المنديل، وكان طبيعيا أن تفرج توحة فمها عن ابتسامة من فئة الخمسة قروش. وحين تكرر الذهاب من فهيم أصبحت الابتسامة تزداد؛ حتى كان يوم أحس فهيم من غمزة عين مدربة أنها تدعوه؛ فدعي. وفي كواليس توحة عرض عليها الزواج وقبلت توحة؛ فقد كان مثل هذا الزواج هو المصير الذي تعرف أنه ينتظرها، فسارت إليه مدركة أنه قدرها الطبيعي لا عجب فيه ولا غرابة، ولا يحتاج حتى أي تفكير. عادت توحة إلى اسمها تحية الملواني.
ولم تهتم القرية بالتعليق على هذا الزواج؛ فلم يكن فهيم ذا شأن يحتاج إلى تعليق، وسواء عند القرية أن يتزوج من غزية أو يتزوج من غيرها. كل ما يستطيعون أن يفعلوه هو أن يمنعوا نساءهم عن بيت فهيم، وقد فعلوه وكان فهيم يتوقعه.
وتفرح الأيام وتتألق في عيني فهيم، ثم يخبو الفرح وينطمس التألق شيئا فشيئا، وتعود إلى الحياة ملالاتها، وتروح الأيام تدفع بعضها بعضا في فتور وتكاسل. عادت الأيام تتثاءب وهي تمضي مثقلة بالضيق، ولولا أن اليوم الحالي يدفعه اليوم القادم ما مضى يوم ليحل آخر.
قد يومض يوم أو بعض يوم ثم تسترخي الأيام بعد ذلك؛ فقد أومض مثلا اليوم الذي أتم فيه تعلم الضرب على آلة البرقيات وأصبح عامل تلغراف، وأومض اليوم الذي عرف فيه أن توحة حامل ... ولكن ما هي إلا لمعة برهة ثم تذكر ما سيكلفه الولد من عنت وجهد، فراحت الفرحة تتراجع بين ظهور واستخفاء، فما جاء الليل حتى استقر رأي الفرحة على التواري والاختفاء لتترك وراءها قلقا وخوفا لم يستطيعا حتى أن يبددا الملالة وتحجر اللحظات، وكان هذا الملل أشد وطأة على تحية بعد أن انسلخت من ملابس توحة.
وكانت وهي تعمل في المولد تنظر إلى المستقبل في ذعر يرادفه الأمل، وكان العمل الذي يفرض عليها الفرح يفرض معه نسيان الخوف. وكانت الأيام عندها متجددة؛ سواء عندها إن كان هذا التجديد بخير أو بشر، فهو على كل حال خير من هذه الوقفة الغبية التي تراها من أيام زواجها بخفير المزلقان أو حتى عامل التلغراف. كان التصفيق يوقظ لياليها، وكانت الوجوه المتغيرة ترد عنها الملالة. وكان الصراع بينها وبين أفراد الترك يجعلها مشغولة، وكانت بهذا الشغل تستطيع أن تنسى الذعر من الغد والقلق من المستقبل. وهكذا كانت تستطيع أن تنسى ما شهدته من نهاية الراقصات اللواتي سبقنها في هذه الحلبة، وكيف زحف جليد الشيخوخة على نضارة الشباب فيهن؟ فانطمرت حياتهن وهن ما زلن على قيد الحياة.
وللنفس أمام الحياة سراديب وطرق خفية تمكنها من قبول هذه الحياة واحتمال لحظاتها البطيئة الثقيلة العاتية والسريعة الرعناء والعابثة في آن. تمر السنوات سريعة وامضة وتمضي الأيام بطيئة وكأنها لا تمضي. وينشغل الإنسان باليوم عن السنة وبالحاضر عن الآتي وتلهيه اللحظة عن الدقيقة، والدقيقة عن الساعة، والساعة عن اليوم، واليوم عن العام. ويمضي العمر وأيامه جامدة كأنها لا تتحرك، وسنواته كأنها خفقة طائر أو طرفة عين أو سراب ما ظهر حتى امحى.
والإنسان في لوثة الحياة ينظر إلى الآخرين وكأنه ليس منهم وكأنهم ليسوا منه فهو دائما يرى نفسه فصيلة غير الفصيلة، وجنسا غير الجنس. فتجارب الآخرين عنده متعة وليست عبرة، وما يحدث للإنسان الذي ليس أنا، لا أتصور أنه سيحدث لي. وهكذا استطاعت الحياة التي يواجهها الإنسان بالسراديب والطرق الخفية أن تحاربه هي أيضا بسراديبها وطرقها الخفية. وإنها لأشد مكرا وأعظم حيلة، فتجاربها معلنة مشهرة يعرفها الناس جميعا، ولكن الحياة تقنعهم بسحر لها عجيب أن هذا الذي يحدث للآخرين لا يمكن أن يحدث إلا لهؤلاء الآخرين. ولهذا لم يكن غريبا أن تضيق تحية بحياتها الجديدة، ولم تعد تفكر في الأخريات من زميلاتها راقصات المولد حين عبرتهن الحياة دون زواج؛ فانتهى بهن الأمر، وقد اجتمع عليهن ذل الحاجة وذل الرفض من المجتمع.
ولم يستغرق انقلابها من قبول الزواج إلى الضيق به غير بضعة أشهر، ولولا أن فاجأها هذا الجنين لربما كان لها تفكير آخر.
ولكن الجنين جثم على إرادتها، ورضخت له وخضعت لسنن الزواج.
Bog aan la aqoon