وابتسم منصور ساخرا وكأنه كان يتوقع هذا أو شبيها له: طبعا معه بندقية. - طولها ثلاثة أمتار. - دعه ينتظر حتى يدخل آخر موكل عندك. - هذا ما توقعته منك.
وانتظر مفتاح، إلا أنه أحب أن يخفف الحدة التي لقيه بها راضي: حتى ولا فنجان قهوة يا راضي أفندي. - القهوة جاية من غير طلب يا مفتاح، أنت تعرف من صاحب المكتب ومن أبوه ومن جده. بابهم دائما مفتوح للضيف. - حاسب علي بعض الشيء. - لو كنت عندما قدمت طلبت الإذن بالدخول شأن الأكابر، لرأيت مني كل ما يرضيك. - غلطة وننساها. - ننساها إن شاء الله. - هل سيطول انتظاري؟ - هل رأيت أحدا جاء بعدك ودخل قبلك؟ - الحكاية بالدور إذن. - أليست هذه هي الأصول؟ بالدور، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. - منك نستفيد. - طبعا. - وهل قلنا شيئا؟ - الحق لا يقال فيه شيء يا مفتاح، إنه الحق.
وحين دخل مفتاح إلى منصور هب فيه في عنف وكأنه فوجئ بالسلاح الذي يحمله: ماذا؟ ما هذا ...؟
وفوجئ مفتاح: ماذا يا أستاذ؟ - ما هذا الذي تحمله؟ - ولا مؤاخذة يا أستاذ، متعود على حملها. - اخرج من هنا واتركها حيث لا أراها؛ وحينئذ أقابلك.
وفعل مفتاح ما طلبه منه الأستاذ منصور، وخرج مسرعا ووضع البندقية عند راضي وهو يقول له: لماذا لم تطلب مني أن أتركها؟ - حتى لا تحسب أننا نخاف منها أو منك. - أبقها عندك الله يخليك. - ضعها هنا على الكرسي الذي كنت جالسا عليه.
وحين دخل مفتاح هذه المرة وقف منصور وهو يقول: الآن نستطيع أن نقول أهلا وسهلا، تفضل يا سيد مفتاح. - أكثر الله فضلك يا سعادة البيه. - هل شربت القهوة؟ - أحسن بن ومن خلقك. أحسن بن. - أتشرب فنجانا آخر؟ - أنت مشغول، وهما كلمتان. - قلهما. - رفعت بك الربيعي يريدك أن ... - ومن رفعت بك الربيعي يا سيد مفتاح؟ - يا نهار أسود من الحبر الكوبيا. - على مهلك، أنا فقط ليس لي أصدقاء بهذا الاسم. - آه، ربما لا تعرفه شخصيا، ولكن ألم تسمع عنه؟ - آه، تذكرت، لعلك تقصد الرجل الذي يجمع حوله اللصوص والقتلة. - الله الله الله، ما هذا يا منصور بيه؟! - إذن فهو من تقصده، ماذا يريد رفعت؟ - أظن المسألة لم تعد تسمح بأن أقول ما جئت بشأنه. - قله وأنا أخبرك إن كانت تسمح أو لا تسمح. - كان يريدك أن تشرفه في البيت. - شيء عجيب! - ما العجيب يا سيدي الأستاذ؟ - شخص لا أعرفه ولا يعرفني يرسل لي رجلا طويلا عريضا يحمل بندقية لأذهب إليه، ماذا يظن نفسه هذا الرجل؟ - أنا مجرد خادم عنده. - وخادم أيضا، وكيف تصور أنني سألبي الطلب؟
اسمع، أخبر رفعت هذا أن لي مكتبا يستقبل كل من يأتي إليه، ولي أيضا تليفون يطلب أن أحدد له موعدا، وسأرى عندئذ ماذا أفعل، شرفت يا سيد مفتاح، مع السلامة. •••
جن جنون رفعت الربيعي؛ فقد تصور أي شيء إلا أن يقابل مندوبه بهذا الاحتقار ويقابل اسمه بهذا الامتهان. وزاد جنونه أن هذا الاحتقار كان على ملأ من الموكلين. وتوقع أن يشيع ما حدث في المركز كله.
وقد حدث فعلا ما توقعه رفعت، وزلزل المركز زلزالا؛ فقد كان الناس يخشون رفعت ويمالئونه، ويتظاهرون له بالطاعة والخضوع؛ فحين يرون شابا صغيرا في مطلع حياته يصنع به هذا الصنيع، فمن الطبيعي أن تزلزل المقاييس عندهم زلزالا.
وفي بيت عبد العال هنيدي المحامي كان نفر من أصدقائه بينهم محامون وموظفون كبار يجتمعون في شبه ناد خاص، يلعبون النرد أو الورق، وإذا بهم يلحظون أن صدقي البحراوي ليس كما تعود أن يروه تهريجا وضحكا وممازحة، بل هو في حالة صمت غاضب. ويسأله عبد العال: مالك يا صدقي؟ زوجتك ضربتك علقة؟ - يا ليتها. - أنا أحتقر نفسي. - أصبحت مع الأغلبية التي تكن لك هذا الشعور.
Bog aan la aqoon