Khulasa Yawmiyya Wa Shudhur
خلاصة اليومية والشذور
Noocyada
ولو صاحب من هذه الطغمة - ولا عار في الصحبة - عثرت به في إحدى تلك البؤر فنصحته تلك النصيحة فكنت كأنما أخزه بها وخزا، وإذا هو يزور عني ويلوي كشحه ويقول: أأنا أعبأ بالحميات والأمراض؟ ومثلي يا فلان يرضى أن يذاع عنه أنه أجفل من الموت؟ وهل يدركنا الموت في مكان وينسانا في مكان؟ وما كان ظنك بعقلي وأنت تنصح لي بالجلاء عن داري التي ولدت فيها والانهزام أمام عدو لا أراه؟ وأين ما عودتك في من الجلد وعودتني فيك من تشجيع الأصدقاء؟! وقلت: حسبك ولكني آسف يا سيدي على هذه الشجاعة الفائقة ألا تتصدى بها لكل قوة من قوى هذه الطبيعة المغرورة بنفسها، وما بالك تستهزئ بالموت بالجراثيم كأنك تستصغرها ولا تستهزئ بالموت غرقا أو حرقا أو صبرا، وهذه القواطر والسيارات والترام كثيرة في البلد، والناس يتنحون لها عن الطريق ويفرون منها كل مفر، فما بالك لا تثبت أمامها وتريها أنك لست من هؤلاء الناس؟ بل ما بالك لا تبالغ في احتقار الجراثيم والزراية بها فتشرب قدحا من حمض الفينيك الذي يقتلها لتبرهن لها على أنك لا تعبأ بما يميتها فكيف بها؟!
ولما رأيت أنني سألته بقدر ما سألني وأجبته بمثل ما أجابني، فصلت من عنده وأنا أفكر في اقتراح أعرضه على أولي الأمر، وهو أن تجمع الحكومة أفراد هذه الطغمة وتلصق بوجوههم علامة يعرفهم بها من يراهم، حتى إذا وقف أحدهم في طريق سيارة أو ترام أو تعرض أمام صائد يطلق على هدفه، لم يكفف الصائد يده، ولم يتعب السائق في إيقاف سيارته أو ترامه، فيضيع من وقت الركاب دقيقة أو أكثر لإنقاذ حياة هانت على صاحبها إلى هذه الدرجة، وليست هي على الناس بأقل هوانا.
مواضع الملاحة
مهما تعمقوا في تعريف الملاحة ووصف محاسن الوجه وقالوا فيها ما يشبه قولهم في السحر أو الروح واليوم الآخر، فلا إخالها ترد في بادئ أمرها إلا إلى أنها شارة في أظهر عضو من الجسم - أعني الوجه - كانت، ولا تزال في بعض الأحيان تدل على فضيلة جنسية في جسم الرجل أو المرأة.
إن أظهر ما تظهر الملاحة من معارف الوجه في العين والشفة؛ لأنهما الجارحتان اللتان ترتسم فيهما حالة النفس وإحساسها بغاية الوضوح والجلاء، وبهما تختلف أمة عن أمة وجنس عن جنس، فالعربي والمصري والصيني والإنكليزي والألماني وغيرهم من الملل والأمم يتماثلون بالعيون والشفاه، وكذلك الرجل والمرأة، أصدق وأوجز ما يقال في هاتين الجارحتين أنهما نافذة النفس، فمنها تطل على العالم ومنها يطل العالم عليها، ولعل ما تكشفه منا وللناس أكثر مما تكشفه من الناس لنا.
لا بد من صلة محكمة دقيقة بين العين والرأس؛ لأن نظرة العاقل غير نظرة المجنون، وقل مثل ذلك في الغادر والأمين، والفظ والوديع، والسقيم والسليم، والشهوان والعفيف، فإن لكل منهم نظرة غير نظرة الآخر، أما صلة الرأس بالجسم وما يندمج فيها من الطبائع فمعلومة ملحوظة؛ فالعين بهذه المثابة هي عنوان صفة النفس ومزاج الجسد.
ولا بد من صلة بين الشفة والإحساس؛ لأن الشفة هي ملتقى أعصاب الوجه وهي أدق أعصاب الجسم، فلا تهيج في الجسم هائجة ولا تسكن به ساكنة إلا بدا لها أثر على الشفة، فتفتر أو تتهدل أو تنقبض أو تتقلص أو ترتجف، وترى الإحساس في الشفة يتوق إلى مقابلة مثله؛ لأن الإحساس يبلغ فيها أشده، وهذا هو الميل إلى اللثم والتقبيل، نعم إن الأعضاء كلها تميل إلى المماسة، ولكن الميل لا يكون إلا على قدر إحساس كل عضو، فلا تميل اليد إلى اليد كميل الشفة إلى الشفة؛ لأن الفرق بينهما في الإحساس كالفرق بين المصافحة والتقبيل، وقد وضعت هذه الحساسية في الفم؛ لأنه هو باب الجوف، والجوف بحاجة إلى حاسة ظاهرة تجيد له جس الأشياء قبل وصولها إليه، وقد نرى الأعمى لا يعتمد في جس الأشياء إلا على شفتيه؛ لأنه حين فقد البصر وأصبح معتمده على الحس وحده لا يشعر في جسمه بما هو ألطف على المس من شفتيه.
فالشفة هي ترجمان الإحساس ومجس العواطف، وإذا كان في الإنسان خاصة تتصل بالإحساس كان أحرى الجوارح أن تظهر عليها تلك الخاصة الشفة، فقليلا ما يلتبس عليك الصابر الكظوم بالقلق اللجوج أو الأريب الكيس بالحميقة الأبله، من التأمل في شفاههم وهيئة أفواههم، وإذا التبسوا عليك ساعة الهدوء والصفو لا يلبسون ساعة الغضب والاهتياج.
ولرب وجه صبوح جميل يروقنا استواء خلقه واعتدال تقسيمه ويحيرنا نقد معارفه وقسماته، ولكنا يؤلمنا ألا نتملى من ذلك الوجه بحظ الاستحسان الذي شوقنا إليه منظره، ووجه أقل منه جمالا وصباحة وأخفى روعة ورواء وهو يسبينا ويثير بلابلنا ويستولي على إعجابنا، وقد ننسب ذلك أحيانا إلى اختلاف الأذواق أو خفة الدم، ولو أنعمنا النظر في ذينك الوجهين لم يطل بحثنا عن السبب، وعلمنا أن ما نسميه تارة باختلاف الأذواق وتارة بخفة الدم هو معان تتضمنها العيون والشفاه ليست من جمال الصورة، على أنها هي شطر الجمال الأكبر، وهي التي تفيض على ذلك التناسب الهندسي الممول روحا حيا جذابا.
إن لكل عضو جماله الخاص به، وجمال العيون والشفاه عام لا يجمل الجمال إلا به، ولو نظرنا إلى مزية في العيون والشفاه تجعل لها هذا الشأن في تقدير الجمال غير اتصالها بالإحساس ذلك الاتصال الذي ألمعنا إليه، لما أبصرنا لها أي مزية سواها، فلماذا لا نقول: إن الأصل في حب الجمال هو امتحان قابليات الجسم بأظهر أجزائه للناظر؟!
Bog aan la aqoon