جاء في العمدة لابن رشيق: العمل هو على جودة الألفاظ وحسن السبك وصحة التأليف، ألا ترى لو أن رجلا أراد في المدح تشبيه رجل لما أخطأ أن يشبهه في الجود بالغيث والبحر، وفي الإقدام بالأسد، وفي المضاء بالسيف، وفي العزم بالسيل، وفي الحسن بالشمس، فإن لم يحسن تركيب هذه المعاني في أحسن حلاها من اللفظ الجيد الجامع للرقة والجزالة والعذوبة والطلاوة والسهولة والحلاوة، لم يكن للمعنى فائدة؛ يعني أنك إذا اكتفيت بالقول هذا الرجل كالأسد أو كالبحر أو ما شاكل فكأنك لم تقل شيئا.
ومثل هذا ما ينظمه الشعراء من قصائد المدح والرثاء، فإن فيها من الأوصاف ما ينطبق على كل إنسان، وبالأحرى لا ينطبق على أحد، وقلما تجد بينها ما عليه طابع خاص فلا يستطاع نقله من موضعه، بل هي تقريبا كالنقود المستعملة بين أيدي الناس ربيبة العادة والتقليد.
هذا داء يجب معالجته وإلا أفضى إلى فقر اللغة ونزول اللسان عن ملكة الفصاحة، وحسب الكاتب أو الخطيب أن يتنبه إليه ليمرن نفسه تمرينا خاصا يجعله في مأمن من الوقوع فيه، ويفتح أمامه أبوابا جديدة يدخل منها إلى ميدان واسع يجول فيه القلم واللسان جولات لا تمر بحلم.
3
وبعد انتهاء الخطيب من ترتيب خطابه واستيفاء معانيه واختيار ألفاظه وتقسيمه حسب القواعد والأصول - كما ذكرنا في الإنشاء الخطابي - يبقى عليه الرجوع إلى المطلع ليتقنه بوجه خاص، ويتفنن في مقدمته تفننا مستحبا يأخذ بألباب السامعين، ويعدها إعدادا حسنا للإصغاء إليه والتقاط ما ينثره على مسامعهم مما وقف على تحضيره وقته وعقله وقلبه.
ثم إلى الختام فيمر عليه نظر المنتقد الصارم، ولا يدع فيه أثرا للضعف أو اللبس بل يوفيه حقه من القوة والجلاء والبلاغة، حتى يترك في الآذان صدى جميلا مستطيلا.
والأفضل له بعد ذلك أن يستظهر خطبته ليكون فعلها أوقع في النفوس، ولا بد هنا من إلفات القارئ إلى أمر من الأهمية بمكان، فإن استظهار الخطبة لا يقصد به إلقاؤها غيبا كما يلقي الطالب أمثولته المدرسية، فإن هذه الطريقة فضلا عن أنها لا تجلب الإقناع، ولا تجيد التأثير تقف حاجزا دون تقدم الخطيب في فنه؛ لأنها لا تعوده على الاستفادة من موقفه ومن حالة السامعين وتأثرهم ليزيد أو ينقص من كلامه ويسهب أو يختصر في شرحه، بل تجعله كالتلميذ أو الممثل لا كالخطيب، وكم من فرصة تعرض للمتكلم في القوم فتوحي إليه معاني جديدة هي بنت الساعة من تصفيق الناس أو هتافهم أو تململهم أو ضحكهم أو مقاطعتهم أو غير ذلك، فإذا كان يلقي خطابه عن ظهر قلبه أي مقيدا نفسه بجمله المرصوفة لا يغير كلاما ولا يبدل نظاما فقد فاته الاستفادة من تلك الفرص التي قد تقال فيها جملة واحدة مرتجلة فتفعل فعل الخطاب بأسره.
الارتجال
1
الارتجال في اللغة هو الكلام من غير تهيئة، أو الابتداء به من غير فكر، وقد كان أمرا طبيعيا ميسورا للعرب، قال الجاحظ: وكل شيء للعرب فهو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام، أو حين أن يمنح على رأس بئر أو يحدو ببعير أو عند المقارعة أو المناقلة، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي إليه يقصد فتأتيه المعاني إرسالا وتنثال عليه الألفاظ انثيالا، ثم لا يقيده على نفسه ولا يدرسه أحدا من ولده.
Bog aan la aqoon