وقد سمى شيشرون البلاغة حركة الأنفس الدائمة، وأقام منها سنيك إلها مجهولا في صدر الإنسان، وجعلها كانتيليان الواسطة للحصول على الحقيقة، ووضعها كنار في القلب والتصور، وعرفها مارمونتل بأنها فطرة قبل أن تكون فنا، ومثلها الأقدمون بهيئة إله يخرج من فيه عند الكلام سلاسل ذهبية ترتمي على السامعين فتربطهم بها.
ولابن المقفع وصف طويل للبلاغة قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة؛ فمنها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الإسماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون سجعا وخطبا، ومنها ما يكون رسائل. فعامة هذه الأبواب الوحي فيها والإشارة إلى المعنى والإيجاز هو البلاغة. فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين فالإكثار في غير خطل، والإطالة في غير إملال، وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته.
كل هذه التعريفات تنطبق على البلاغة إلا أنها لا تؤدي منفردة كل ما في البلاغة من معان، ولو أردنا أن نجمع بين هذه الأقوال ونؤلف منها حدا يفي بتفسير البلاغة ويعرفها حسبما يراد منها في هذا العصر ، وكما يجب أن يتصف بها خطيب اليوم لاضطررنا إلى التمييز بين البلاغة الكتابية والخطابية؛ لأنه متى كان الفكر صادقا والتعبير موافقا فقد بلغ الكاتب ما يريد، وأما الخطيب فيحتاج إلى شروط أخر؛ لأن من يتكلم ليس كمن يكتب، وقد قلنا في صدر هذا المقال إن المراد من الخطابة التأثير في الجمهور من طريق السمع والبصر، فكان من الواجب إرضاء هاتين الحاستين، والدخول عليهما بما يقتضيه العطف والإيناس، وهذا ما يحملنا على إضافة معنى آخر عند تعريف البلاغة ليس هو الإقناع كما يقول تن، بل كما يريد لاكوردير من إدخال عاطفة القائل في نفس السامع، وإذن يمكننا تعريف البلاغة هكذا: صدق التفكير وحسن التعبير وقوة التأثير.
وسيرى القارئ فيما يلي من فصول هذا الكتاب قرب هذا التعريف من الحقيقة.
2
يقول المثل: لا تعدم الحسناء ذاما. وكذا البلاغة فقد وجد من عاب بيانها وأنكر إحسانها، فقال بعضهم: إن ضرر البلاغة أكثر من نفعها؛ لأنها تسدل على الحقيقة ستارا من الألفاظ البراقة، والمعاني الخلابة فتظهر الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق.
وقال آخر: البلاغة تفعل بالتأثير لا الإقناع؛ لأنها تخدر حاسة النقد وتقيم أمرها بالإكراه بما تسوق إليه من تهييج الأعصاب، وكلما زاد عدد السامعين زاد تهييجها، فكان سلطانها أعظم تأثيرا وأبعد مدى.
وقالوا: هي الأصل في كل عداء، والسبب لكل بغضاء، ومن قديم الزمان إلى الآن لا تزال حرب اللسان سابقة لحرب السنان.
وقالوا أيضا: هي أداة نفاق لرجال السياسة يحملونها في كل ناد، ويهيمون منها في كل واد.
وهذا بعض ما قيل في ذم البلاغة، ولكنه على حد ما يقال في ذم الماء لأنه يغرق، والنار لأنها تحرق، أو ذم الدواء لأنه من جوهر سام ولو كان من ورائه الشفاء.
Bog aan la aqoon