Khadka iyo Isbedelka Bulshada
الخطاب والتغير الاجتماعي
Noocyada
والواقع أن لدينا، كما ذكرت آنفا، أبعادا معرفية اجتماعية خاصة لإنتاج النصوص وتفسيرها، وهي تركز على التفاعل بين «موارد الأعضاء» (أي جماع الخبرات) التي استوعبها المشاركون في الخطاب ويستعينون بها في تفسير النص، وبين النص نفسه، باعتباره مجموعة من «الآثار» التي خلفتها عملية الإنتاج، أو مجموعة من «المفاتيح» اللازمة لعملية التفسير. وتجري هذه العمليات عموما بأسلوب لا واع وتلقائي، وهو ما يعتبر عاملا مهما من عوامل تحديد فاعليتها الأيديولوجية (انظر ما يلي) على الرغم من أن بعض جوانبها أسهل في الوعي بها من غيرها.
وعمليات الإنتاج والتفسير تخضع لقيدين اجتماعيين؛ القيد الأول: «موارد الأعضاء» وهي ما استوعبه المرء فعليا من أبنية ومعايير وأعراف اجتماعية، ومن بينها نظم الخطاب، وأعراف إنتاج وتوزيع واستهلاك النصوص من النوع الذي أشرت إليه عاليه، وهي التي تكونت من خلال الممارسة الاجتماعية والصراع الاجتماعي في الماضي. والقيد الثاني: الطبيعة الخاصة للممارسة الاجتماعية التي يشكلون جانبا منها، فهي التي تحدد العناصر التي يستندون إليها من موارد الأعضاء لديهم، وكيف يكون هذا الاستناد (أي إذا ما كان معياريا أو خلاقا، أو قابلا أو معارضا لها). ومن المعالم الرئيسية للإطار الثلاثي الأبعاد لتحليل الخطاب أنه يحاول استكشاف أحوال هذين القيدين، وخصوصا ثانيهما، أي أن يقيم الروابط الشارحة بين طبيعة عمليات الخطاب في حالات معينة، وطبيعة الممارسات الاجتماعية التي تشكل إطار هذه العمليات. ولما كان هذا الكتاب يركز على التغيير الخطابي والاجتماعي، فإن هذا الجانب يهمنا أكثر من سواه، ونعني به تحديد الجوانب المستند إليها من «موارد الأعضاء» وأسلوب ذلك الاستناد، وسوف أعود إلى ذلك أدناه عند مناقشة التناص.
لكنني أريد أن أتحدث قليلا بصفة عامة عن الجوانب المعرفية الاجتماعية للإنتاج والتفسير، وأن أقدم بعدين آخرين من أبعاد التحليل السبعة، وهما «القوة» و«ترابط المعنى». وعادة ما يشار إلى إنتاج النص أو تفسيره (سأقتصر على التفسير في جانب من جوانب المناقشة التالية) باعتباره عملية متعددة المستويات، وعملية تنتقل من القاعدة إلى القمة ومن القمة إلى القاعدة. فأما المستويات السفلى فتختص بتحليل تتابع الأصوات أو تتابع العلامات التي تكون الجمل، وأما المستويات العليا فتختص بالمعنى، ونسبة المعاني إلى الجمل، وبالنصوص الكاملة، وإلى أجزاء أو «قطع متصلة» من النص، وهي التي تتكون من جمل يمكن تفسيرها باعتبارها ذوات معان مترابطة. ومعاني الوحدات «العليا» تبنى في جانب منها على معاني الوحدات «السفلى». وهذا التفسير يسمى من «القاعدة إلى القمة». ومع ذلك فإن التفسير يتميز أيضا بتوقعات حول معاني الوحدات العليا في وقت مبكر في عملية تفسيرها، استنادا إلى دلائل محدودة، وهذه المعاني المتوقعة تشكل أسلوب تفسير وحدات المستوى الأسفل. وهذا يعني الاتجاه من القمة إلى القاعدة. والواقع أن الإنتاج والتفسير يعتمدان على الاتجاه من القمة إلى القاعدة، والاتجاه من القاعدة إلى القمة في الوقت نفسه. أضف إلى هذا أن التفسير يحدث فيما يسمى الزمن الحقيقي، وهو ما يعني أن التفسير الذي يصل إليه المرء للكلمة «س» أو الجملة «س» أو «القطعة المتصلة» «س» سوف يستبعد تفسيرات أخرى معينة كان يمكن قبولها للكلمة س + 1 أو الجملة س + 1، أو «القطعة المتصلة» س + 1 (انظر فيركلف، 1989م، أ).
والجوانب المذكورة من التعامل مع النص تساعد على إيضاح كيفية اختزال المفسرين لما يمكن أن يدل عليه النص من معان متضادة أو ملتبسة وحسب، وتبين جانبا من دور السياق في تقليل هذا الجانب، وذلك بالمعنى الضيق للسياق الذي يحصره فيما يسبق (أو يتبع) جزءا معينا من النص، ومع ذلك «فالسياق» يتضمن أيضا ما يسمى أحيانا سياق الحال، إذ يصل المفسرون إلى تفسيرات للممارسة الاجتماعية كلها التي يشكل الخطاب جانبا منها، وهذه التفسيرات تؤدي إلى تنبؤات حول معاني النصوص، وهي التي تقلل أيضا من إمكان التباس المعنى باستبعاد المعاني التي كان يمكن أن ترى داخل النص. ويعتبر هذا من زاوية معينة تطويرا لخصائص التفسير من القمة إلى القاعدة.
ومن أوجه القصور الرئيسية في نوع الشرح المعرفي الاجتماعي الذي سقناه آنفا لهذه العمليات أنه يعتبر عاما شاملا، أي إنه يوحي مثلا بأن تأثير السياق في المعنى وتقليل التباسه لا يختلفان أبدا، ولكن هذا غير صحيح، إذ إن أسلوب تأثير السياق في تفسير النص يختلف من نمط خطابي إلى نمط آخر، على نحو ما يبين فوكوه (انظر الفصل السابق). والفوارق بين أنماط الخطاب في هذا الصدد لها أهمية اجتماعية؛ لأنها تشير إلى افتراضات مضمرة وقواعد أساسية كثيرا ما تكون ذات طابع أيديولوجي، وسوف ألقي الضوء على هذه القضايا من خلال مناقشة «القوة» (انظر ليتش، 1983م؛ لفينسون، 1983م؛ ليتش وتوماس، 1989م).
وقوة جزء من أجزاء النص (وكثيرا ما يكون جملة واحدة، وإن لم يكن ذلك في جميع الحالات) هو العنصر الخاص بالفعل فيه، ويمثل جانبا من جوانب معناه «ما بين الأشخاص»، أي ما يستخدم لفعل شيء على المستوى الاجتماعي، أو أية «أفعال كلام» يستخدم ل «أدائها» (مثل إصدار أمر، أو طرح سؤال، أو التهديد، أو الوعد ... إلخ). والقوة هي عكس «الإخبار»: فإن العنصر الإخباري، الذي هو جزء من المعنى الفكري، يمثل العملية أو العلاقة الناتجة عن وجود كيانات معينة. وهكذا ففي حالة جملة تقول «أتعهد أن أدفع لحامله عند الطلب مبلغ خمسة جنيهات» نجد أن القوة قوة وعد، وأما الجملة الإخبارية فيمكن تمثيلها هيكليا بصيغة «س يدفع ص إلى ع». وقد تكون بعض أجزاء الجملة ملتبسة من حيث القوة، وقد تكون لها «إمكانية قوة» مديدة. فمثلا «هل تستطيع حمل الحقيبة؟» قد تكون سؤالا، وقد تكون طلبا أو أمرا، أو اقتراحا، أو شكوى، وهلم جرا. وبعض تحليلات أفعال الكلام تميز بين القوة المباشرة والقوة غير المباشرة ، ولنا أن نقول هذا في هذه الحالة، فلدينا صيغة لها القوة المباشرة للسؤال ولكنها قد تتميز بأية قوة من القوى الأخرى التي وردت باعتبارها قوتها غير المباشرة. أضف إلى هذا أنه لا يندر أن تظل التفسيرات ملتبسة الدلالة، فأحيانا ما لا يتضح إن كان السؤال البسيط سؤالا بسيطا فعلا أم طلبا مستترا (وتتعذر تلبيته إذا طعن السامع فيه).
والسياق بالمعنيين المذكورين أعلاه عامل مهم من عوامل تقليل التباس القوة، والمواقع المتتابعة في أحد النصوص تنبئ عن وجود القوة. ففي الاستجواب نجد أن أي شيء يقوله المحامي للشاهد مباشرة بعد إجابة قدمها الشاهد من المحتمل تفسيره على أنه سؤال (وذلك لا يستبعد تفسيره في الوقت نفسه باعتباره غير ذلك، كأن يكون اتهاما). ويساعد هذا على إيضاح كيف يمكن لأشكال الكلمات أن تتمتع بقوى تبدو بعيدة الاحتمال إن نظر إليها المرء خارج السياق، أضف إلى هذا، طبعا، أن سياق الحال، أي الطبيعة العامة للسياق الاجتماعي، تقلل من الالتباس كذلك.
ومع ذلك فلا بد أن المفسر يتوصل إلى تفسير معين لسياق الحال من قبل أن يرجع إليه، بل وقبل أن يرجع لسياق التتابع النصي ابتغاء تفسير قول منطوق، وهذا مماثل لتفسير النص، إذ إنه يستند إلى التفاعل ما بين المفاتيح النصية و«موارد الأعضاء» (جماع خبرته) وإن تكن «موارد الأعضاء» في هذه الحالة، في الواقع، خريطة ذهنية للنظام الاجتماعي. ومثل هذه الخريطة الذهنية بالضرورة ليست سوى تفسير واحد للحقائق الاجتماعية التي تقبل تفسيرات كثيرة، ذوات أصباغ سياسية وأيديولوجية محددة. وتحديد سياق الحال من خلال هذه الخريطة الذهنية يقدم إلينا مجموعتين من المعلومات المتعلقة بتحديد كيفية تأثير السياق في تفسير النص في أية حالة من الحالات: فهو أولا: يقدم إلينا قراءة للحال تشغل فيها بعض العناصر مكان الصدارة، وتنسحب عناصر أخرى إلى الخلفية، وتقيم علاقات محددة بين العناصر، وهو ثانيا يحدد الأنماط الخطابية التي من المحتمل أن تكون لها صلة بالموضوع.
وهكذا فإن من بين آثار قراءة (سياق) الحال في التفسير منح الصدارة لبعض جوانب الهوية الاجتماعية للمشاركين، وإبقاء بعضها الآخر في الخلفية. وهكذا فإن احتمال تأثير انتماء منتج النص إلى أحد الجنسين، أو تأثير انتمائه العرقي أو عمره، في تفسير النص في كتاب في علم النبات مثلا أقل من احتمال تأثير أي من هذه العوامل في محادثة عابرة أو في مقابلة شخصية للحصول على وظيفة. وهكذا فإن تأثير سياق الحال في تفسير النص (وإنتاج النص) يعتمد على قراءة الحال، وأما تأثير سياق التتابع النصي فيعتمد على نمط الخطاب، فعلى سبيل المثال لا نستطيع أن نفترض أن أي سؤال سوف يجعل السامع يفسر العبارة التي تتلوه بأنها إجابة عنه بنفس الدرجة في جميع الأحوال، إذ يعتمد ذلك على نمط الخطاب. ففي خطاب قاعة الدرس تنبئ الأسئلة بأن ما يتلوها إجابة عنها، وأما في نطاق الأسرة فإن الأسئلة كثيرا ما تطرح من دون إجابة عنها، ومن دون أن يشعر أحد فعلا بالتعدي عليه أو ضرورة الاعتذار له. وهكذا فإن التركيز الأحادي على سياق التتابع النصي باعتباره العامل المتحكم في التفسير، من دون الإقرار بالمتغيرات المذكورة، يعتبر جانبا معيبا من جوانب تحليل المحادثات، على نحو ما بينت في الفصل الثاني آنفا. أضف إلى ذلك أن الفوارق بين أنماط الخطاب من هذه المرتبة ذات أهمية اجتماعية، وحيثما تتعين إجابة الأسئلة، فمن المحتمل أن تبرز الاختلافات في المكانة بين الأدوار الذاتية التي تفصلها فوارق حاسمة، ومن ثم فإن البحث في المبادئ التفسيرية المستخدمة في تحديد المعنى يتيح لنا أن نكتشف الصبغة السياسية والأيديولوجية لنمط الخطاب.
فلننتقل الآن من القوة إلى «ترابط المعنى» (انظر دي بوجراند ودريسلر، 1981م، الفصل الخامس؛ وانظر براون ويول، 1983م، الفصل السابع). وعادة ما يعامل المعنى باعتباره من خصائص النصوص، ولكن من الأفضل أن نعتبره من خصائص التفسيرات. فالنص المترابط المعنى نص ترتبط الأجزاء التي يتكون منها (الجمل، الوحدات) ارتباطا معقولا بحيث يبدو أن النص كله نص «له معنى»، حتى ولو كان يخلو نسبيا من «العلامات» الشكلية التي تشير إلى العلاقات التي يقوم عليها ارتباط المعنى، أي إذا كان خاليا نسبيا من أدوات «التماسك» الصريحة (انظر القسم الأخير)، ولكن المسألة في الواقع أن أي نص لن يكون له معنى إلا عند من يستطيع إدراك معناه، أي من يستطيع أن يستنبط علاقات المعنى المذكورة في غياب العلامات الصريحة المشار إليها، ولكن الطريقة الخاصة التي تتولد بها قراءة المعنى المترابط في النص تعتمد هنا أيضا على طبيعة المبادئ التفسيرية التي تستند إليها. وترتبط مبادئ التفسير الخاصة ارتباطا مطبعا بأنماط معينة من الخطاب، وهذا الارتباط جدير بالنظر فيه بسبب الضوء الذي يلقيه على الوظائف الأيديولوجية المهمة لترابط المعنى في «مساءلة» الذوات. ومعنى هذا أن النصوص تنشئ مواقع للمفسرين «القادرين» على إدراك معانيها، بحيث يستطيعون إقامة الروابط واستنباط العلاقات، وفقا لمبادئ التفسير الخاصة بالنص، والتي لا بد منها للقراءات القائمة على المعاني المترابطة. وقد تستند هذه الروابط والعلاقات المستنبطة إلى افتراضات من نوع أيديولوجي. فعلى سبيل المثال نرى أن ما ينشئ ترابطا في المعنى بين الجملتين التاليتين: «سوف تستقيل من عملها يوم الأربعاء المقبل. إنها حامل» هو افتراض أن النساء يتوقفن عن العمل عند إنجاب الأطفال. وما دام المفسرون يشغلون هذه المواقع ويقيمون هذه الروابط بصورة آلية، فإنهم يخضعون للنص، أو قل: إن النص يخضعهم له، وهو ما يمثل جانبا مهما من «العمل» الأيديولوجي الذي يقوم به النص والخطاب في «مساءلة» الذوات (انظر القسم التالي)، ولكننا نشهد إمكانية الصراع حول القراءات المختلفة للنص، بل والمقاومة كذلك للمواقع التي تنشئها النصوص.
Bog aan la aqoon