فالجاهل بهذا الطريق لما أصابت النفس حلاوة العطاء، استقرت بصاحبها، فدعته إلى عمل الأركان، وهي خائنة لما فيها من الشهوات. فإن تركها صاحبها وما استقرت به أفسدت نصيبها من العطاء له بشهواتها. فهذا الحارس لهذا الطريق، بغاية الشغل فكيف يصل إلى عمل الأركان؟ أليس عمل الأركان، على ما وصفناه، بطالة؟ فلا تعبأن بهؤلاء البطالين، ولا يغرنك تماوتهم وسمتهم، فإن عامتهم هراب، وعبيد أباق!
فما زال ذلك دأب هذا الصادق، في سيره إلى الله تعالى. يمنع نفسه لذة الحلال، ولذة الطاعات، ولذة العطاء. ومع ذلك، يجاهد نفسه في تصفية الأخلاق الدنيئة: مثل الشح والرغبة والمذمة والجفوة والحقد، وأشباه ذلك. فإن الشح والرغبة والحقد والجفوة من قدر النفس. وهو دائب في هذا السير. فأي عبادة تفوق هذا؟ حتى إذا استفرغ مجهوده من الصدق، ولم يبق للحق قبله اقتضاء، التفت إلى نفسه فوجدها كما كانت بديا، فيها تلك الهنات موجودة.
قال له قائل: وما تلك الهنات؟
قال: الفرح بالأحوال عند الخلق، والطلب للمنازل العلية عند الله. ومع هذا الفرح بالأحوال يطلب عندهم المنازل في مكامن نفسه، ركونا إلى الحياة وتنسما لروحها، ولقاء الأخوان، والبطر في المواضع التي هي مطمأن النفس من بقاع الأرض. بمنزلة سمكة يريد صاحبها أن يميتها، فيلقيها على التراب، فهي تضطرب فيه، قد أزف منها الموت. ثم يشفق عليها صاحبها، فيغطها في الماء غطا ثم يرمي بها إلى اليبس. ثم لما أزف منها الموت، رش عليها الماء فأحياها: فهذا لعب من صاحبها بها!
فلما استفرغ هذا الصادق مجهوده من الصدق في سيره، على ما وصفت، ووجد نفسه حية معها هذه الصفات تحير وانقطع صدقه. وقال: كيف لي أن أخرج من نفسي حلاوة هذه الأشياء؟ فعلم أنه لا يقدر على ذلك، كما لا يقدر أن يبيض الشعرة السوداء.
وقال: إن هذه نفسي قد أوثقتها بالصدق مني إلى الله؛ فكيف لي إن حللت وثاقها فأبقت وهربت، متى ألحقها؟ فوقع في مفازة الحيرة. فاستوحش، وبقي وحيدا في تلك المفازة. لأنه قد ذهب أنس النفس ولم ينل أنس الخالق. فحينئذ صار مضطرا، لا يدري أيقبل أم يدبر؟ فصرخ إلى الله، يائسا من صدقه، صفر اليدين، خالي القلب من كل جهد. وقال في نجواه: قد تعلم، يا عالم الغيوب والخفيات، إنه لم يبق لعلمي بالصدق، موضع قدم أتخطى به؛ ولا لي مقدرة على محو هذه الشهوات الدنسة من نفسي وقلبي فأغثني!
Bogga 11