فيقال لهذا البائس: إن كنت خلوا من هذا الذي ذكرناه، وفي عمى عنه، فما دخولك في هذا الباب حتى تكدر الماء الصافي؟ فأي جرم أعظم من جرم رجل يلتقط كلام الأولياء. حرفا حرفا. ثم يخلطه فيصوغه حكايات، ثم يرمي بها إلى قوم يتزين بذلك عندهم، فيعمى عليهم طريقهم ويفسد عليهم سيرهم؟
(فهذا البائس)، لا هو عالم بالطريق، ولا بالمكامن في الطريق، ولا بمنتهى القوم ومنازلهم؛ ومن شغله بنفسه، وانخداعه لها، وإصغائه إليها، وستره ذلك عن خلقه. فهو أبدا في الاعتذار والتزين والقصد؛ لما يعلم أنه يكسب بذلك جاها عند الخلق. وأعظم المصائب عنده، الوقت الذي يعمل فيه عملا ينكس به جاهه عند الناس.
فهذا عبد نفسه. فمتى يتفرغ لعبودية ربه؟ ومتى يصلح هذا لله؟ ومتى يصفو طريقه إلى الله تعالى؟
قال له قائل: صف لنا شأن الذين وصلوا، فوقفوا في مراتبهم على شريطة لزوم حفظ المرتبة، وما سبب اللزوم؟ وصف لنا شأن الذين وصلوا فرفعت عنهم الشريطة، وفوضت إليهم الأمور. ومن ولي حق الله؟ ومن ولي الله؟
قال: إن الواصل إلى مكان القربة، رتب له محل، فحل بقلبه هناك، مع نفس فيها تلك الهنات باقية، فإنه إنما ألزم المرتبة، لأنه إذا توجه إلى عمل من أعمال البر، ينال في موضع القربة، ليعتق من رق النفس، ما زجه الهوى ومحبة محمدة الناس، وخوف سقوط المنزلة. فعمله لا يخلو من التزين والرياء، وإن دق. أفيطمع عاقل أن يترك قلبه مع دنس الرياء. والتزين فيحل محل القربة؟
(بل) يقال له: يشترط عليك، مع العتق من رق النفس، الثبات ههنا؛ فلا تصدر إلى عمل بلا إذن. فإن أذنا لك، أصدرناك مع الحراس، ووكلنا الحق شاهدا عليك ومؤيدا لك؛ والحرس يذبون عنك.
قال له قائل: وما تلك الحرس؟
قال: أنوار العصمة موكلة به؛ تحرق هنات النفس ونواجم ما انكمن منها. وكل ما ينجم من مكامن النفس، من تلك الهنات، أحرقته تلك الأنوار، حتى يرجع إلى مرتبته ولم تجد النفس سبيلا إلى أن تأخذ بحظها من ذلك العمل. فيرجع إلى مرتبته طاهرا كما صدر؛ لم يتدنس بأدناس النفس: من التزين والتصنع، والركون إلى موقع الأمور عند الخلق.
Bogga 23