Khariidadda Aqoonta
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
Noocyada
عاد قسطنطين إلى مسقط رأسه في قرطاج، حيث بدأ يدرس الطب ثم مارسه . بعد بضع سنوات، أبحر ثانية إلى ساليرنو، جالبا معه كمية من الكتب التي من شأنها أن تغير حال دراسة الطب وممارسته في أوروبا، وتعزز مكانة ساليرنو بصفتها المركز الرئيسي للتعليم الطبي. عادة ما يشاد بالمدرسة الطبية بساليرنو، التي تأسست في القرن التاسع، بوصفها أول مدرسة طبية في أوروبا. وهذا ادعاء مضلل. أولا، لم تكن المدرسة مؤسسة منظمة بالمفهوم الحديث؛ إذ كانت أقرب إلى مجموعة من معلمي الطب تجمع حولهم الطلاب. وكما هو الحال في بغداد وطليطلة، لا توجد أدلة على وجود موقع مركزي للدراسة الطبية في المدينة. ثانيا، كان يوجد كثير من «المدارس» الطبية في العالم القديم؛ لذا فإن أي زعم بأن ساليرنو هي الأولى هو زعم يحتاج إلى تحديد؛ فوصفها بأنها «أول مدرسة طبية في أوروبا فيما بعد العصور القديمة» ليس له الوقع نفسه. ومع ذلك، فبدءا من نحو عام 850 وما بعده، كانت ساليرنو في طليعة دراسة الطب لقرون عدة، وكانت المدرسة ذات تأثير بالغ في امتداد المعرفة الطبية إلى مراكز فكرية أخرى، وأن يصبح الطب، في نهاية الأمر، جزءا معترفا به رسميا في منهج الدراسة الجامعية.
تحير المؤرخون بشأن السبب الذي لأجله أصبحت ساليرنو مركزا للطب وكيفية حدوث ذلك، والمصدر الذي جاءت منه المعرفة والكيفية التي تطور بها التقليد المتبع هناك. حتما، يوجد كثير من المصادر والإجابات المحتملة، لعل أبرزها هو موقعها الجغرافي على البحر، وهواؤها النظيف، ومناخها المعتدل، ومناظرها الطبيعية الجميلة، والينابيع الساخنة المحلية وكثير من المنتجات المحلية الطازجة؛ إذ كان الاستحمام والحمية الغذائية جزءا لا يتجزأ من العلاج الطبي. لآلاف السنين اشتهر هذا الساحل التيراني المترامي الأطراف لدى من يبحثون عن الراحة والاسترخاء. في نحو عام 600ق.م كان اليونانيون قد استقروا على بعد بضعة كيلومترات إلى الجنوب، وما زالت المعابد الضخمة التي بنوها في بيستوم قائمة إلى يومنا هذا. بحلول القرن الأول الميلادي، كان الساحل موطنا لفيلات فخمة ومزارع كروم، وكانت تلك هي قصور المتعة التي كان أعضاء مجلس الشيوخ والأباطرة يأتون إليها للاستمتاع بالصيف والهروب من حر روما.
والأدلة على وجود دراسة محددة للطب، وليس مجرد نمط عام للعلاج والصحة، أمر أصعب في تحديده. اقترح الباحثون، الذين كانوا يفتشون عن مكان بالقرب من ساليرنو يمكن أن يكون قد أتى منه الاهتمام بالطب، مدينة فيليا، وهي مدينة يونانية، على بعد ثمانين كيلومترا إلى الجنوب، كانت قد اشتهرت كمركز للمعرفة تحت الحكم الروماني، في القرن الأول الميلادي، لا سيما فيما يتعلق بدراسة الفلسفة والطب. عثر علماء الآثار على تماثيل لأسكليبيوس وهيجيا، بالإضافة إلى نقوش وعملات وأدوات جراحية؛ تدعم جميعها الزعم القائل إن فيليا كانت مركزا للبراعة الطبية. تكمن المشكلة في الانتقال من فيليا في القرن الثاني الميلادي (عندما بدأت المدينة في التدهور بسبب استمرار تفشي الملاريا) إلى ساليرنو في القرنين الثامن أو التاسع. من المحتمل، بالطبع، أن يكون الأطباء، الذين كانوا يفرون من فيليا، قد ذهبوا إلى ساليرنو، آخذين معهم كتبهم، وبدءوا تقليدا لدراسة الطب نجا من الفوضى التي شهدتها القرون الفاصلة؛ مما أدى إلى استمرارية الطب في عام 700 ميلادية (عندما يظهر أول دليل على وجود ممارسة طبية في ساليرنو)، ولكن من المستحيل إثبات هذا.
أفضل طريقة لتناول مسألة بداية تاريخ المدرسة الطبية في ساليرنو هي دراسة النصوص التي كان الطلاب يتعلمون منها وتتبع أصولها. تضمنت هذه النصوص نسخة غير كاملة من كتاب «عن المواد الطبية» لديسقوريدوس وكتاب «الفصول» لأبقراط وكتاب «رسالة إلى جلاوكون» لجالينوس، وكلها بتراجم لاتينية. كان الكتابان الأخيران جزءا من المنهج الدراسي الإسكندري، الذي كان قد وضع لتعليم الأطباء الشبان في القرنين الثاني والثالث، والذي كان قد امتد، بحلول عام 500، إلى القسطنطينية وأثينا أيضا. بحلول عام 531، كانت تلك الكتب قد شقت طريقها، إلى جانب العديد من كتابات أرسطو إلى سوريا، حيث ترجمت إلى السريانية ودرسها الباحثون المحليون هناك.
2
في ثلاثينيات القرن السابع، سافر طبيب يدعى بولس الأجانيطي إلى الإسكندرية من القسطنطينية، وربما كان ذلك بهدف جمع معارف يضعها في موسوعة طبية كان يعكف على كتابتها. وقد أصبحت هذه الموسوعة واحدة من أدق الملخصات الطبية وأوسعها انتشارا، واستخدمها الباحثون في أنحاء أوروبا في القرون التالية واقتبسوا منها.
لذا، من الواضح، بناء على ذلك، أن هذا النوع من المعرفة كان يتداول، ولو على نطاق ضيق، في مناطق حول البحر المتوسط. ولاكتشاف الكيفية التي وصلت بها إلى ساليرنو، نحتاج إلى تتبع الأثر الذي يبدأ في أقصى جنوب إيطاليا، في سكيلاتشي، في دير فيفاريوم، الذي تركنا فيه كاسيودوروس يجمع بقايا النظام التعليمي الكلاسيكي القديم. كانت المخطوطات التي تمكن من إنقاذها وإضافتها إلى مكتبته، هي، مع استثناءات قليلة، النصوص الكلاسيكية الوحيدة، التي تتناول موضوعات علمانية، المتاحة في أوروبا الغربية حتى القرن الحادي عشر. جعل كاسيودوروس الدراسة الفكرية وعمل النسخ جزءا لا يتجزأ من نظام رهبانيته اليومي، واضعا قاعة النسخ وإنتاج الكتب في القلب من حياة الرهبنة. كان لاعبا مؤثرا في إدخال الأفكار الكلاسيكية وأساليب التعليم في السياق الديني، وهو ما أدى بدوره إلى جعل الكنيسة الاختيار الحقيقي الوحيد لأي شخص لديه اهتمامات وطموحات فكرية. وكان من نتائج هذا أن «لم يعد الشرف والمجد محصورين في الفهم العلمي الموضوعي للظواهر الطبيعية، وإنما في تعزيز أهداف الكنيسة الجامعة.»
1
تعرض كثير من أوجه البحث العلمي والفلسفي للتجاهل أو حتى للتدمير لأنها لم تتفق مع العقيدة المسيحية. وفي الفترة بين عامي 500 و1100، كان الطب هو المعرفة «الدنيوية» الوحيدة التي كانت تدرس باستمرار. ربما يكون السبب في هذا واضحا؛ فائدته العاجلة والعملية في مقاومة الضعف الإنساني. وحتى عودة قسطنطين إلى ساليرنو، كانت العلوم المأخوذة عن كاسيودوروس هي ما يحدد أغلب جوانب دراسة الطب في أوروبا الغربية وييسرها.
كان القديس بندكت هو أول من وضع نظام رعاية المرضى باعتباره أحد المبادئ الأساسية لحياة الرهبنة. تابع كاسيودوروس هذا الأمر وتوسع فيه بإدخال نصوص طبية في بيانه الخاص بالتعليم، المسمى «المؤسسات الدينية والأدب الإنساني». هذا الكتاب المؤثر، الذي كان مستخدما على نطاق واسع في سائر أنحاء أوروبا لقرون، هو دليل دراسة موسوعي، وهو بالأساس عبارة عن قائمة بالنصوص التي توقع من رهبانه أن يكونوا على اطلاع عليها ومناقشات لفائدتها. ركز الجزء الأول، المسمى «روحانية»، على النصوص الدينية، ولكن كان به قسم في نهايته يتناول الطب. بحث الجزء الثاني من العمل، والذي يحمل اسم «علمانية»، فيما سوف يصبح بعد ذلك «الفنون الثلاثة» و«العلوم الأربعة» بما في ذلك الرياضيات وعلم الفلك. اشتملت المؤلفات الطبية التي نصح بها على كتاب «عن المواد الطبية»، لديسقوريدوس وتراجم لاتينية، أصدرت في منسخه، لمؤلفات متنوعة لجالينوس وأبقراط. نعلم أن هذه الكتب كانت على أرفف دير فيفاريوم في القرن السادس؛ لأن كاسيودوروس يقول صراحة: «تركت لكم هذه الكتب، المحفوظة في غور مكتبتنا.»
Bog aan la aqoon