وانطوت فترة تخيل ممتعة، وغابا في صمت طويل.
وبغتة، انفجر صوت حاد انخلع له قلباهما في لحظة واحدة؛ صوت آدمي صاح: «هو!» ورأيا رجلا يشد مركبا مطوي الشراع، كأنه واقف لا يتحرك، أو يتحرك في بطء شديد ثقيل كالوقوف، يكاد يلتصق بالسور من الخارج، متأخرا عن مجلسهما مترين، ويجذب المركب بحبل طويل ملفوف حول منكبيه، وهو يلقي بنفسه إلى الأمام، شادا على عضلاته بكل قوة وإصرار، والمركب يزحف أبطأ من سلحفاة فوق ماء راكد وفي هواء ميت، وقد نهض في مقدمتها عجوز مجلبب معمم، تابع صراع الآخر ببصر كليل وإشفاق. ذهب الرعب وحل محله في صدريهما حنق وغيظ، ولكنهما لم ينبسا بكلمة، وظل الرجل يهب عمله الشاق جميع حيويته في عناء مضن حتى حاذى مجلسهما. شاب في العشرين، غامق اللون، غليظ القسمات، عاري الرأس حليقه، حافي القدمين، يرتدي جلبابا لا لون له، يكشف عن أعلى الصدر، وينحسر عن ساقين بارزتي العروق من الحزق، وقد جحظت عيناه، وتصلب شدقاه، وأحنى رأسه ليجنب وجهه شمسا حامية، وكلما أعياه الجهد، توقف لحظة ليأخذ نفسا عميقا، فيصيح به العجوز: شد حيلك.
فيصيح بدروه: هو.
ويواصل نضاله القاسي الفظ، وفي الدقائق التي حاذاهما فيها، لفحتهما رائحته الآدمية الملبدة بالعرق والتراب، فتقلص وجهاهما، وأخفت نادرة أنفها الدقيق في منديل معبق بشذا جميل، ولكنهما تجاهلا تقززهما وانزعاجهما وهما يراقبان النضال الأليم، وراقباه خطوة خطوة، حتى أرهقتهما المشاركة، فحولا عنه عينيهما، وتبادلا نظرة، ثم ابتسما في رثاء، وأشعلا سيجارتين.
شهرزاد
1 - ألو! - الأستاذ محمود شكري؟ - نعم يا فندم، من حضرتك؟ - لا تؤاخذني على إزعاجك دون سابق معرفة. - العفو، ممكن أتشرف؟ - الاسم غير مهم، ولكني واحدة من الآلاف اللاتي يعرضن عليك مشاكلهن. - تحت أمرك يا آنسة. - سيدة من فضلك. - تحت أمرك يا سيدتي. - ولكن حكايتي طويلة. - لعل من الأفضل أن تكتبي لي؟ - ولكني لا أحسن الكتابة. - هل تتفضلين بزيارتي في المجلة؟ - لا أجد الشجاعة الكافية، على الأقل الآن.
وقف انتباهه عند «الآن» لحظات. ابتسم وهو يستطعم صوتها الرخيم، ثم تساءل: وإذن؟ - أطمع في أن تأذن لي بدقائق كل يوم، أو كلما سمح وقتك الثمين. - طريقة طريفة، تذكرني بطريقة شهرزاد! - شهرزاد! اسم جذاب، اسمح لي باستعارته اسما لي مؤقتا.
فضحك وقال: ها هو شهريار يصغي إليك.
ضحكت أيضا فوجد ضحكتها ممتعة كصوتها، أما هي فتابعت: لا تتوقع أن أعرض عليك مشكلة معينة محددة، إنها حكاية طويلة كما قلت لك، وهي تعيسة أيضا. - أرجو أن تجديني عند حسن ظنك. - وأرجو أن توقفني بأي طريقة إذا جاوزت الوقت الذي تهبه لي. - تحت أمرك. - ولكني أخذت اليوم من وقتك قدرا لا يستهان به، فلنؤجل الحديث إلى غد، حسبي الآن أن أعترف لك بأن قلمك الإنساني هو الذي جذبني إليك. - شكرا. - ليس قلمك فقط، ولكن صورتك أيضا!
تساءل باهتمام زائد: صورتي؟! - أجل، قرأت في عينيك الواسعتين نظرة ذكية رحيمة إنسانية، جديرة بأن تدعو الملهوفين على العزاء. - أكرر الشكر .. (ثم وهو يضحك) .. كلامك لطيف كأنه غزل. - إنه إعراب عن أمل أن يكون في الدنيا - بعد - أمل.
Bog aan la aqoon