اقتربت من الفراش، فقالت المرأة: سيجارة يا عدلية.
تناولت عدلية علبة السجائر من فوق الترابيزة، أشعلت سيجارة، ثم وضعتها بين شفتي سيدتها، وهي تقول: أنت تعلمين أن التدخين مضر بصحتك.
وغادرت الحجرة.
إذا ضاقت بها يوما قضي عليها بالهلاك، لا أحد لها في الواقع سواها، أما عن أبناء وبنات إخوتها، فمن ذا الذي يهتم بالخالة عيون؟! إنها ملقاة منسية، تتعلق بأذيال الحياة بخوف ويأس، وتتمنى الموت بلسانها. والقلب قبل أن يهتصره الداء، قتله الحزن لفقد الابن الوحيد في مظاهرة دامية. من عجب أنها لا تفقه للسياسة معنى، ولا يتحرك في نفسها لها ساكن، ورغم ذلك فقد التهمت وحيدها، وتوفي الأب بعد استشهاد ابنه بعام واحد، وها هي ذكريات الأحزان تختلط بأنات المرض ومخاوف الضياع.
في العيد زارتها بثينة ابنة المرحومة أختها، ناظرة مدرسة ابتدائية، والوحيدة التي تتذكرها في المواسم، وقد أهدتها باقة ورد وعلبة حلوى، وجلست على كرسي على كثب من الفراش. دمعت عينا عيون، وهي تقول: أشكرك يا بثينة، كيف حالكم؟ كيف حال الجميع؟ كم أني متشوقة لرؤيتكم، ولكن لا يسأل عني أحد.
اعتذرت بثينة بابتسامة، وقالت: الدنيا شواغل يا خالتي. - لا أحد لي غيركم، وحتى الأموات يجدون من يتذكرهم. - كم تردين على خاطري يا خالتي، ولكن الدنيا شواغل. - نسوني تماما يا بثينة.
لاذت بثينة بالصمت، فقالت عيون: إني خالتهم الوحيدة الباقية على قيد الحياة، ولو تركتني عدلية لمت جوعا فوق فراشي.
وزفرت لوعة، ثم قالت: كنا - أنا وأمك وخالتك - أخوات سعيدات، وكانت أياما سعيدة. - رحمهما الله! - كنت الصغرى، ولم يكن يعجبني العجب! - ربنا يشفيك يا خالتي. - يا له من دعاء لن يتحقق يا بثينة، إني وحيدة مهجورة، وقد وكلت عني أحد الجيران لتسلم معاشي.
وجففت دمعة بيدها النحيلة المعروقة الزرقاء، وقالت: إني خائفة يا بثينة، وأعمل ألف حساب لليوم الذي تذهب فيه عدلية. - هيهات أن تجد بيتا كبيتك يا خالتي. - إن خدمتي الشخصية شاقة وغير سارة؛ لذلك لا يفارقني القلق. - إنها في الواقع تهيمن على بيتك ومعاشك، فكيف يهون عليها أن تهجرك؟ - ولكنني قلقة، دائما قلقة، لا يتخلى عني الوسواس، وخوفي منها لا يقل عن خوفي عليها.
وسكتت بثينة؛ إما لأنها لا تجد ما تقوله، وإما لأنها ملت تكرار الأكليشيهات، فقالت عيون: آسفة يا بثينة، نفد رصيدي من الكلام الطيب، ولكن لا يصح أن أضايق أكثر من ذلك، الإنسانة الوحيدة التي حافظت على الوفاء لي.
Bog aan la aqoon