شرب قدحا جديدا وهو يفكر؛ إن معابثة جرسون ليست بمستحيلة، ولا ضرر منها، وهي تسلية لا بأس بها لمن ألحت عليه الوحدة أو ثقل عليه الضجر، ولكن كيف تم تركيب اسم «محمد شيخون الماوردي»؟ محمد اسم شائع يرد على الذهن بسهولة، أما شيخون فما أغربه من اسم، أين ومتى سمعه؟ أتراه قرأه في كتاب مدرسي قديم؟ ولكن كيف وثب إلى خاطره؟ ولماذا؟ وما يقال عنه يقال كذلك عن الماوردي، وباجتماعهما - شيخون والماوردي - يبلغ عسر التركيب الملفق ذروته، بل إعجازه، فكيف يتبين بعد ذلك أنه اسم رجل حقيقي، رجل يحتمل أنه زار الحانة لأول مرة هذا اليوم، ثم يطلبه آخر بالتليفون في نفس الساعة، ألا يدعو ذلك للدهشة والتأمل؟!
وشرب قدحه الخامس فتطايرت نشوته مشعشعة بالدهشة والتأمل.
يجدر به منذ الساعة أن يولي نفسه ما يستحق من الاحترام، أن يتعجب ويتساءل، أن يحكي الحكاية لكل من هب ودب، أن يبحث لها عن تفسير. لقد وقعت معجزة، وقعت ببساطة بين جدران حانة، وسط السكارى والمعربدين من الجنسين، ولا سبيل - للأسف - لتنبيههم إلى مغزاها، أو التماس تصديقهم لها، فهم لم يفدوا إلى الحانة ليشهدوا معجزة أو ليتأملوا معناها، سيرمقونه - إذا حدثهم بها - باستغراب، ثم باستنكار، وسرعان ما يعرضون عنه راجعين إلى لهوهم، أو يتناولونه بألسنة الهزء والسخرية، ماذا يريد هذا الرجل؟ لعله لا يملك ثمن طعامه وشرابه، أو لعله نصاب أو مجنون. محمد شيخون الماوردي؟! أسمعتم عن المعجزة الجديدة؟ إنه لم يحي الميت ولم يسر إلى المسجد الأقصى، ولكنه عرف بإلهام خارق أن محمد شيخون الماوردي اسم، وأنه اسم سكير من زبائن فينيسيا. أرأيتم؟! أعرفتم الآن في أي عصر نعيش؟!
ليكن من رأيهم ما يكون، فلن ينال ذلك من قيمة المعجزة، ولو عن لأحد أن يعتبرها مصادفة لجاز أن نرجع المعجزات جميعا إلى مصادفات، لجاز أن نفسر الخلق بمصادفات لا معنى لها، ولكن ما عسى أن تكون هذه المعجزة؟ نوع من قراءة الغيب؟ موهبة غريبة بدأت تعلن عن نفسها؟ لقد بلغ الأربعين دون أن يفطن إلى موهبته الحقيقية. قنع عمرا طويلا بأن يكون كاتب حسابات، بأن يقتصر عمله على التعليمات المالية؛ لائحة المخازن والمشتريات، الأوامر المنفذة لها، الشطب والمراجعة والميزانية والحساب الختامي، على حين تستقر في أعماقه موهبة فذة، أن يحمل عبء أسرة، أن يرضى بالكفاف، أن يعتنق التقشف، على حين تستكن في قلبه جوهرة غالية. لندع السكارى جانبا، فثمة آخرون سيدهشون لها حقا، ويقدرونها حق قدرها، هناك زوجة، وبعض الزملاء الطيبين، وهناك شيخ الزاوية التي يصلي بها من حين لآخر.
وأفرغ ثمالة الدورق في القدح الأخير، فاقترب الجرسون من مائدته ليكون رهن إشارته، وما إن رآه حتى قال له بلا تدبير سابق: تعرف زيد زيدان زيدون؟
فأجاب الرجل وهو يرمقه بدهشة: كلا يا سيدي، أهو أيضا من زبائن المحل؟ - أجل. - حضرتك على ميعاد معه؟ - كلا، ولكني أريده لأمر هام أيضا.
وغاب الرجل برهة، ثم رجع ليؤكد له أن أحدا من موظفي المحل أو عماله لا يعرفه، أو يسمع باسمه من قبل. شعر - بعد فوات الأوان - أنه تسرع بلا حكمة، ما كان ينبغي أن يتحدى موهبته الوليدة على هذا النحو. من يتصور أن تقع معجزتان في ساعة واحدة، وفي حانة واحدة؟! وإذا فشلت التجربة الثانية، كما هو متوقع، فهل ينال من فشلها من مغزى التجربة الأولى؟! كلا، مهما يكن من أمر فلن يسمح.
ورأى الجرسون مقبلا نحوه، فلما بلغ مجلسه، قال له: تليفون يطلبك.
تساءل بدهشة: لا أحد يعرفني هنا، ولا أنت نفسك، فكيف عرفت أنني الشخص المطلوب؟ - اتصل صاحب حضرتك بالمدير و...
قاطعه متسائلا: أي صاحب تعني؟ - السيد زيد زيدان زيدون!
Bog aan la aqoon