ووقف علي محتدا وفي عينيه نظرة زائغة، ونادى الضابط العسكري، ولكن جرس التليفون رن. تناول الضابط السماعة واستمع بعض الوقت، وأعاد السماعة وهو ينظر إلى علي بشماتة وحقد، ويداري في ذات الوقت ابتسامة، ثم قال: مات المصاب متأثرا بجراحه!
وجم علي موسى قليلا. تلقى النظرة الشامتة بغضب جنوني، وصاح بصوت مرتجف: القانون لم يقل كلمته بعد، وإني لمنتظره.
السكران يغني
خلت الحانة من الزبائن تماما، ومسح الجرسون العجوز على صلعته وهو يتثاءب بصوت مرتفع كالتوجع، ومضى يكوم المقاعد الخشبية والمناضد العارية، ومشى صاحب الحانة بين أرجائها المتقاربة متفقدا الأركان والمرحاض، وعد القروش على مهل، وأغلق الأدراج المدسوسة تحت الطاولة، ودرج منضدة الماركات، ثم أطفأ المصباح المدلى فوق الطاولة، فانخفض الضوء بالمكان وزاده كآبة على كآبة، وقال مخاطبا الجرسون: أسرع، فالساعة تدور في الثانية صباحا.
فانتهى الرجل من تكويم المقاعد والمناضد، ثم خلع المريلة المتسخة في أكثر من موضع، وعلقها بمسمار منغرز في الجدار، وسار نحو الباب يجر قدمين ثقيلتين مدفونتين في حذاء من المطاط، وجسمه النحيل يتأرجح في جلباب فضفاض. وأطفأ صاحب الحانة المصباح الآخر، فساد الظلام، وغادر المكان إلى الخارج، ثم أغلق الباب وذهب، باعثا من حذائه الثقيل أطيطا متواصلا كدر صمت الطريق.
ثمة رجل لابد تحت البرميل الأوسط يترقب ذهاب الرجلين بفارغ الصبر، تسمع أطيط الحذاء حتى سكن، وتنهد في ارتياح، ثم زحف خارجا من تحت البرميل. وقف في ظلام دامس، يحملق في الظلام ولا يرى شيئا، ولا شبح شيء، أعمى بكل معنى الكلمة، وضائع كأنما ألقي به في عالم الغيب، ولكن إذا كان البرميل الوسطاني وراءك فالبار إلى اليسار، وعند طرف البار يرقد صندوق النقود، وسار بحذر إلى اليسار مادا ذراعيه حتى مست أصابعه الطاولة، ثم مشى بحذائها معتمدا عليها حتى المنضدة العالية، ورائحة قوية من مزيج من المخلل والسردين والجبن تملأ أنفه. ضائع تماما، ولكن ها هو الدرج المنشود ، ها هنا توجد نقود مانولي التي يكسبها من بيع أقداح النبيذ المقطر من نيران الجحيم، وأخرج من جيبه آلة كالمبرد، ومضى يعالج بها القفل حتى فتحه، واقتحمته عطسة آتية من الخارج فشلت يده، وفي سره سب ولعن، وتخيل حانقا المتسكع في الشارع الضيق، شبه المظلم، الذي يضيئه فانوس واحد في طرف منحدره عند اتصاله بشارع البواكي. ودس يده في الدرج بلهفة، وتحسس أرضه من طرف إلى طرف، ولكنه لم يعثر على شيء، لا شيء البتة. يا مانولي الكلب، أتأخذ الإيراد معك؟ ألا تترك مليما؟ أليست الحانة آمن على النقود من الطريق والبيت؟ وقطب في غيظ وحنق، واشتد ضيقه بالظلام. هل تضيع المغامرة هباء! ويهزأ الفراغ من الحيلة والعدة ودهاء التدبير! ودفعه الغيظ إلى فتح أدراج الطاولة جميعا، ولكنه لم يعثر إلا على بقايا الجبن الرومي والزيتون والفول النابت. ولبث واقفا وراء الطاولة بمكان العجوز الداهية يفكر في لا شيء، ويتناول حبات من الفول بلا تذوق. وسلم أخيرا بهزيمته، ولكنه عزم على الترفيه عن نفسه قبل أن يعالج النافذة ليفر. مد يده وراء ظهره إلى الرف، فتناول زجاجة نبيذ، فض سدادتها وأطبق عليها فاه، وراح يشرب بشراهة ونهم حتى أفرغها. وركز انتباهه ليتابع تقلب الدوامة في جوفه. رهيب .. جليل .. لا مثيل له .. ولا يقدر بثمن. ولا وجه لإنفاق النقود خير من الخمر، فلا موجب للزعل. المؤسف حقا أن يفوت عربتك الكارو موسم القرافة غدا، فلعنة الله عليك يا مانولي. ومد يده فتناول زجاجة ثانية، ما أفظع الظلام والعماء! ليشرب حتى يروى، وليؤجل الشروع في الهرب حتى يقوم العسكري بدورة المرور، ولكن الظلام يقوم كالسد، وله أنفاس مخمورة وقبضة من الصخر، وها هي زجاجة ثالثة من المياه النارية، ويجب أن تجلس وليكن فوق البار. مضى مانولي والنقود معه، فإلى الجحيم يا مانولي. وليس ألعن من الجحيم إلا الظلام، وتنحنح بلا حذر، فسرت النحنحة في ظلام الحانة، ولكنه لم يبال كثيرا. لا يبالي أن يبالي، والحق أنك عدو الظلام. إني أعمل في الشمس ، وأنام تحت النجوم، وفي ليالي الشتاء يضيء فانوس الحارة حجرتي في البدروم، وضربت من الرجال عددا يفوق الحصر، وأرمي بجسدي على العصي بلا خوف، ولكني أخاف أن يمزق جلبابي الوحيد. وحماري يجرني وهو عار، فلا يتعرض له أحد، أما أنا فلا غنى لي عن الجلباب والخمر. ورفع الزجاجة الرابعة، فقرقر صوت الشراب وهو ينصب في حلقه، ويجلجل بين الجدران الغارقة في الصمت والظلام، وقال لي الشيخ زاوي لا تسكر، فقلت له أنا سلطان الترك والعجم، فقال لي عليك لعنة الله، فحلفت يمينا لأسمين حماري بالزاوي، وراح يدندن بصوت سري «أوان الوصل»، ولما تناول الزجاجة الخامسة اضطجع على راحتيه ومد ساقيه فوق الطاولة، وتذكر شاعر الربابة، فتساءل لماذا تختفي الأشياء الجميلة، واندفع يغني كأنه في بيته:
أوان الوصل قرب بالتهاني.
وتلوت النغمة المخمورة، ولكنه هز رأسه في إعجاب، وعند الهنك ارتفع صوته إلى طبقة عالية، واعتدل في جلسته وراح يصفق بيديه.
وإذا بقبضة تهوي على الباب، وصوت العسكري يصيح: من بالداخل؟
ولم يكف أول الأمر عن الهنك، ولكن تتابع الخبط أزعجه، فأمسك وهو يتمتم بغيظ: «لا منكم ولا كفاية شركم»، وتساءل في عظمة: من أنت؟ - أنا العسكري. - وماذا تريد؟ - عجيبة! .. قل من أنت؟
Bog aan la aqoon