وقال ثان: إنهم يتقاضون مرتبات خيالية. - وله دراية مذهلة بالنفس البشرية. - وفي المعلومات العامة، أستاذ بكل معنى الكلمة. - ألا ترى كيف يحادث، وكيف يضاحك، وكيف يناقش؟ - ولذلك، فالشريب العتيق هو زبون البارمان قبل كل شيء. - هو كل شيء، وكل ما يجيء من ناحيته طريف، حتى اسمه، فاسيليادس .. فاسيليادس .. أصغ إلى موقعه من الأذن!
فنظرت إليه بإكبار، واندفعت إلى الإعجاب به اندفاعا لا يصدر عادة إلا عن يافع الشباب، وكانت مودته قيمة أعتز بها حقا، ويستخفني الفرح كلما استقبلني بابتسامة متفتحة مشرقة، تنجاب معها هموم القلب، وفي مساء العطلة الأسبوعية، كان يدعوني إليه الشباب قبل السهرة، أي سهرة، وما أكاد أجلس على المقعد الطويل، حتى تمتد يده إلى زجاجة الديوارس، فيصب لي منها في الكأس المضلعة، ويتابعني وأنا أشرب، ثم يسأل باهتمام: أين تذهب هذا المساء؟
فأجيبه بما أنوي الذهاب إليه من سينما أو مسرح أو صالة غناء، فيقول: كل هذا جميل في عهد الشباب.
فأقول ضاحكا: شباب .. شباب .. لم التغني الدائم بالشباب؟ .. أليس لكل فترة من العمر قيمتها؟ - إنك تتطاول على الشباب؛ لأنك شاب، بالله انتبه إلى قيمة الكنز الذي في قلبك. - لا تبالغ يا فاسيليادس، الحياة ليست دماء وساعات ودقائق. - إذن ما هي الحياة؟ - هي المال قبل كل شيء يا فاسيليادس. - المال مهم جدا، ولكن الشباب أهم، ثم إن مظهرك ...
فقاطعته: دعك من مظهري، ماذا تعرف عن موظف صغير بتلك الوزارة المشئومة، التي ترى مدخلها من موقفك وراء البار؟ الرغائب كثيرة واليد قصيرة، فلا تحدثني عن الشباب. - أتدري كيف كان صاحب هذه القهوة عندما هاجر إلى مصر؟ - جاء فقيرا معدما، ثم شق سبيله في عالم غير عالم الوزارة والوظائف، جميع الترقيات والعلاوات موقوفة لأجل غير مسمى، فماذا بقي للشباب؟ - الموقوف اليوم يسير غدا، ولا يبقى شيء على حاله .. خذ.
ويملأ الكأس من جديد، فسرعان ما أصدقه وأستحلي منطقه، ثم أودعه بقلب ممتن ودود.
وفي صباح يوم عيد وأنا راجع من القرافة، وجدت في البيت بطاقة معايدة من فاسيليادس، فطرت بها فرحا، وجلست حين المساء أمامه وأنا أقول: هذا يوم الشراب والورد والأفكار الطيبة.
فملأ الكأس وأهداني قرنفلة وابتسامة ، وحلا كل شيء وطاب حتى نسيت فاسيليادس نفسه، وجعلت أردد بصوت منخفض:
كتمت الهوى حتى أضر بك الكتم
ولامك أقوام ولومهم ظلم
Bog aan la aqoon