شكر وتقدير
مقدمة
1 - حياة كينز
2 - فلسفة الممارسة الاقتصادية لدى كينز
3 - المصلح النقدي
4 - النظرية العامة
5 - حسن الإدارة الاقتصادية لدى كينز
6 - ميراث كينز
خاتمة
المراجع
قراءات إضافية
شكر وتقدير
مقدمة
1 - حياة كينز
2 - فلسفة الممارسة الاقتصادية لدى كينز
3 - المصلح النقدي
4 - النظرية العامة
5 - حسن الإدارة الاقتصادية لدى كينز
6 - ميراث كينز
خاتمة
المراجع
قراءات إضافية
جون مينارد كينز
جون مينارد كينز
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
روبرت سكيدلسكي
ترجمة
عبد الرحمن مجدي
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
إلى ويليام
شكر وتقدير
أود أن أتوجه بالشكر لكل من بيتر أوبنهايمر، وويليام هاليجان، وكلايف لينكس؛ على تعليقاتهم المفيدة. وكل ما يشوب هذا العمل من نقص فهو مني.
مقدمة
كينز الإنسان والاقتصادي
تقوم رؤية كينز الأساسية على أننا لا نعلم ما سيحدث في المستقبل، ولا يمكننا التنبؤ به. وفي ظل هذا الوضع تمثل النقود مصدر اطمئنان نفسي في مواجهة عدم اليقين. وحينما يشعر المدخرون بالتشاؤم تجاه المستقبل، يمكنهم الاتجاه إلى الاحتفاظ بمدخراتهم بدلا من استثمارها في الأعمال؛ لذا ليس ثمة ما يضمن إنفاق الفرد لدخله بالكامل. يعني هذا أنه لا توجد نزعة فطرية لدينا لاستغلال جميع مواردنا المتاحة. يقول كينز في كتابه «النظرية العامة»:
لا يمكن تشغيل الناس عندما يكون الشيء المرغوب فيه (أي النقود) شيئا لا يمكن إنتاجه (أي نوظف الناس لإنتاجه) ولا يمكن وقف الطلب عليه بسهولة. وليس هناك حل إلا بإقناع الناس ببديل زائف للقمر يمكن تصنيعه وإخضاع من يصنعه (أي البنك المركزي) لسيطرة الدولة.
حينما ذكر كينز النقود بدلا من السلع ووصفها بأنها «الشيء المرغوب فيه»، هل كان ذلك سطحيا أم أنه قصد شيئا عميقا على نحو هزلي؟ وإلى أي مدى يمكن أخذ اقتراحه بجعل النقود مثل «البديل الزائف للقمر» على محمل الجد؟
لقد خضعت تلك المسألة للنقاش منذ ذلك الحين. فهل كان كينز مجرد متأمل لبعض الأفكار، أم أنه مخلص يقدم للعالم المريض أملا أو حلا جديدا؟ كتبت الاقتصادية بياتريس ويب، عضو الجمعية الفابية، تقول: «لم يكن كينز جادا بشأن المشكلات الاقتصادية؛ فهو يلعب معها مباراة شطرنج في أوقات فراغه. والمجال الوحيد الذي اهتم به هو علم الجمال.» أما راسل ليفنجويل - المسئول بوزارة الخزانة الأمريكية الذي تفاوض مع كينز في مؤتمر باريس للسلام عام 1919 - فقد رأى أن كينز «فاسد وخبيث دائما ... وشاب ذكي يصدم معجبيه الأكبر سنا بتشكيكه في وجود الرب والوصايا العشر!» لكن الاقتصادي جيمس ميد، الذي عرف كينز وهو طالب في مرحلة الدراسات العليا بجامعة كامبريدج وموظف عام وقت الحرب، قال عنه: «لم يكن كينز مجرد رجل عظيم جدا فحسب، بل كان رجلا رائعا كذلك.» وبالنسبة للاقتصاديين الأصغر سنا على نحو عام، فقد مثل كتاب كينز «النظرية العامة» شعاع ضوء في عالم من الظلام الدامس. وقال عنه ديفيد بينسوزان-بات، الذي أصبح أستاذا للاقتصاد بكلية كينجز كوليدج بجامعة كامبريدج عام 1933: «لقد كان الكتاب بمنزلة رسالة سماوية في عصر الظلام. لقد جاءت رأسمالية كينز المحسنة بكل ما كان يصبو إليه جيل الجمعية الفابية، بل أكثر، في الاشتراكية؛ فقد نادت بالمساواة إذا نظرنا إليها من منظور أخلاقي، وأحسنت استغلال كل شيء، وكانت سخية وبراقة ...» أما لوري تارشيس، وهو تلميذ آخر لكينز، فكتب يقول: «في النهاية كان ما قدمه كينز حقا هو «الأمل»؛ الأمل في استعادة الرخاء والحفاظ عليه دون الحاجة إلى معتقلات وأحكام إعدام واستجوابات وحشية ...»
استمر هذان الوصفان النمطيان حتى وقتنا هذا. فهؤلاء الذين يعارضون كينز يرون أنه قدم فرضيات مبتكرة لكنها في النهاية مشتتة وغير صحيحة؛ أما مؤيدوه فيرون أنه قدم أفكارا عميقة في مجال السلوك الاقتصادي، إلى جانب أدوات قيمة على نحو دائم للسياسات الاقتصادية. وكلا الوصفين صحيحان، بيد أنهما ناقصان. فشخصية كينز لها جوانب عديدة؛ فيرى الناس منه أوجها مختلفة. هذا بخلاف أنه تغير؛ ما يعني أن الأجيال المختلفة رأته بأشكال مختلفة. ولقد كان كينز بالفعل يحب التلاعب بالأفكار بطريقة متهورة، لكن صديقه أوزوالد فولك قال عنه: «بهذه الطريقة، ورغم الشواهد المضللة، كان أسرع في مواكبة سير الأحداث من غيره.» وقد كان بارعا في صياغة عبارات قوية، وكان يستخدم الكلمات عن عمد لاستثارة الناس وإخراجهم من حالة الكسل العقلي. لكن «حينما وصل إلى مكانة كبيرة في عقول الناس، لم يعد الاستخدام الجمالي للغة مقبولا.» صحيح أنه ليس هناك مجال للشك فيما يتعلق بجدية نوايا الرجل، لكن السؤال الأساسي يكمن فيما إذا كانت المفاهيم التي صاغها ونقلها إلينا هي المفاهيم الصحيحة لفهم عالمه وعالمنا من بعده أم لا.
إن أفكار كينز تضرب بجذورها في زمانه ومكانه؛ فقد ولد عام 1883 وتوفي في عام 1946. كان مولده في عالم افترض أن طريق السلام والرخاء والتقدم هو الطريق الطبيعي للعالم، وعاش طويلا على نحو كاف حتى رأى تلك التوقعات وهي تنهار. فعندما اشتد ساعده، كانت بريطانيا هي قلب إمبراطورية عظمى، في حين شهدت الأشهر الأخيرة من حياته استجداءها للولايات المتحدة الأمريكية. ولم يعاصر في حياته انهيار الإمبراطورية البريطانية فحسب، بل شهد كذلك الوهن وهو ينخر عظام الاقتصاد البريطاني. وشهدت حياته تحولا من اليقين إلى الشك، ومن حديقة طفولته السعيدة إلى غابة سنوات نضجه حيث الوحوش الضارية. وفي عام 1940، كتب إلى مراسل أمريكي يقول: «للمرة الأولى منذ أكثر من قرنين أصبحت رسالة هوبز إلينا أهم من رسالة لوك.»
كان كينز نتاج تفكك تقاليد العصر الفيكتوري. وهذا ما جعل مشكلة السلوك الشخصي والاجتماعي في قلب اهتماماته. لكن فيما قبل الحرب العالمية الأولى، غمر هذا التفكك كينز ومعاصريه بفيض من السعادة؛ فقد رأوا أنفسهم أول جيل يتحرر من الخرافات المسيحية، ورأوا في أنفسهم أيضا صانعي عصر تنويري جديد، والمستفيدين منه، والذين يمكنهم صياغة أفكاره وقواعد سلوكه في ضوء العقل فقط. فكانت أفكارهم شخصية وجمالية؛ فالحياة العامة كانت محبطة إلى حد ما؛ لأنه بدا أن معارك التقدم الكبيرة كلها قد باتت محسومة. وأصبحت التجربة لغة العصر في الفنون والفلسفة والعلوم وفي أساليب الحياة بدلا من السياسة والاقتصاد؛ فقد ولد دياجاليف عام 1872، وولد بيكاسو عام 1881، وجروبيس عام 1883، وجيمس جويس وفيرجينيا وولف في عام 1882، وولد راسل في 1872، وجي إي مور عام 1873، وولد فيتجنشتاين عام 1889، وأينشتاين عام 1880. وكان فرويد - أحد هؤلاء الذين شكلوا الوعي في أوائل القرن العشرين - هو الوحيد الذي لا ينتمي لهذا الجيل؛ فقد كان ميلاده في عام 1856.
نشبت الحرب العالمية الأولى، وتغير بعدها كل شيء. وبعد عام 1914 برزت قضية إدارة العالم الذي ننتمي إليه؛ وهو عالم اتضح أنه ينزلق إلى الفوضى. فكانت القضية هي قضية السيطرة لا التحرر. واعترف كينز عام 1938 أن الحضارة «كانت مجرد قشرة رقيقة غير مستقرة.» استولى رجال الحكم على مقاليد الأمور، عاقدين العزم على فرض تصوراتهم عن النظام للقضاء على الفوضى؛ حيث ولد ستالين عام 1879، وموسوليني عام 1883، وهتلر عام 1889. وفقدت الحداثة براءتها، وتراجع المرح مفسحا المجال للرعب. وبدأ كينز يتأمل عقيدته. وفي عام 1934 قال لفرجينيا وولف: «بدأت أعتقد أن جيلنا - جيلي أنا وأنت - يدين بشكل كبير لدين آبائنا. فلن يخرج الصغار ... الذين لم يتربوا عليه بالكثير من الحياة. فهم تافهون كالكلاب يجرون وراء شهواتهم. لقد فزنا بأحسن ما في العالمين؛ فقد انتصرنا على المسيحية، لكننا مع ذلك فزنا بمزاياها.» لكن النقطة الأهم تكمن في أنه لم يستسلم قط لسياسات اليأس الثقافي. فرغم كل شيء، بقيت لديه بهجة الحقبة الإدواردية. فالشك يمكن مواجهته، ليس بالقوة الوحشية، وإنما بالعقول وتوظيف الذكاء، وعندها يمكن استعادة التوافق مرة أخرى. كانت تلك عقيدته النهائية ورسالته، إن جاز التعبير، لعصرنا.
كان كينز مؤهلا جيدا لنقل تلك الرسالة؛ فقد كتب برتراند راسل يقول إن «عقل كينز كان الأذكى والألمع بين كل من عرفتهم. فعندما كنت أجادله، كنت أشعر أنني أرى حياتي أمام عيني، ولم أكن أشعر فيها قط بأني كنت أحمق إلا أمامه.» لكن ثمة آخرون شعروا أنه استخدم عبقريته بشكل مفرط، ومن بين هؤلاء كينيث كلارك الذي قال عنه إنه: «لم يخفت اتقاد ذهنه قط.» لكن تفكيره المتدفق هذا هو ما صدم معاصريه على نحو أساسي؛ فكانت لديه نزعة - كما يقول كينجسلي مارتن - «للالتفاف حول العقبات التي تقف أمامه وتجاوزها بدلا من التخلص منها. فهو مثل التيار يبدو عادة وكأنه يتحرك في اتجاهات متعاكسة.» ومن العبارات الساخرة التي شاعت في حياة كينز أنه لا يجتمع خمسة من الاقتصاديين إلا وتجد ستة آراء؛ اثنان منها لكينز. ويقول كينجسلي مارتن: «لكن الاتهامات التي وجهت إليه بالتقلب واتباع النزوات، لم تعن شيئا سوى أن عقله يتعامل بسرعة وبشجاعة الفرسان على نحو ما مع الصعوبات العملية، ليقدم حلا ممكنا تلو الآخر بشكل يرعب ويذهل أهل الحذر وجمود الفكر.» وتكمن المفارقة - كما قال كيرت سينجر - في أنه يمكن لشخص «لا يجد ضالته إلا في الحركة ... والذي يمكنه أن يبني ويهدم في يوم واحد عددا كبيرا من الفرضيات الفكرية الرائعة» أن يترك للعالم «كتاب عقيدة جديدة».
مع ذلك فمن الخطأ أن نحكم عليه، كما حكم عليه لويد جورج، بأنه «نبتة بلا جذور»؛ فقد ولد في العصر الفيكتوري، وظل يحتفظ بآثار «القيم الفيكتورية» طوال حياته. وورث كينز حسا قويا بالواجب، رغم أنه - مثل سيدجويك - لم يجد مبررا لذلك من الناحية الفلسفية. لقد آمن بهيمنة النخبة النبيلة أو الأرستقراطية الفكرية. وهذه الفكرة تخلط بين ما هو اجتماعي وما هو فكري؛ مما يعكس صعود عائلة كينز، من خلال التفوق العقلي ونجاح الأعمال، إلى دائرة النخبة الحاكمة في العصر الفيكتوري. وقد كان وطنيا فكريا، رغم أن وطنيته خلت من أي أثر للتطرف. وقد آمن بشدة بفضائل حقبة السلام النسبي الذي ساد أوروبا والعالم بعد هيمنة الإمبراطورية البريطانية على العالم، ولم يقتنع بوجود أي قوة أخرى يمكنها أن تتولى دور بريطانيا العالمي. كما كان مؤيدا لألمانيا ومعارضا لفرنسا، وهو ما ورثه أيضا عن القرن التاسع عشر.
كانت مخالفة العرف عاملا حاسما في تكوين شخصية كينز. وهو ما يظهر في أسلوبه المقتصد. فقد رأى الناس أن متعه كانت «قليلة جدا»؛ ففي نهاية حياته ندم على أنه لم يشرب المزيد من الخمر. وعلى الرغم من أنه قد أصبح فاحش الثراء، فإنه قد عاش باعتدال دون أبهة أو بذخ. وبصفته اقتصاديا، شغل تفكيره على نحو كبير ميل الناس لكنز الأموال بدلا من إنفاقها، وترجم هذا العيب الثقافي، أو النفسي، الموجود في سلوك الطبقة التي ينتمي لها إلى تفسير مفعم بالمفارقة لاحتمال سقوط الاقتصاديات الرأسمالية.
انحدر كينز من عائلة من الوعاظ، وخاصة من ناحية الأم. وكان ضمن الجيل الأول ممن لم يؤمنوا بالدين، والذين لم تزعجهم «الشكوك»، لكن اللاهوت كان يجري منه مجرى الدم، وكان الحد الفاصل بين علم اللاهوت وعلم الاقتصاد أصغر مما هو عليه اليوم. لكن كانت لديه قدرة كبيرة على مخالفة العرف والاعتراض مثل المنشقين البروتستانت؛ فقد كانت مقالاته الاقتصادية بمنزلة مواعظ علمانية. إن «الفردية غير المسبوقة لفلسفتنا» التي أشار إليها عام 1938 قامت على الاعتقاد بأن الإنسان (على الأقل في إنجلترا) هذبته القيم الفيكتورية أخلاقيا على النحو الكافي، وأصبح على استعداد «لأن يتحرر بأمان من القيود الخارجية للعرف والمعايير التقليدية وقواعد السلوك الجامدة، وأن يترك - من الآن فصاعدا - لملكاته العقلانية ودوافعه النقية وفطرته الخيرة السليمة.»
لم يحظ كينز بتعاطف اجتماعي كبير، رغم أنه نما بمرور الوقت؛ فقد بنت عائلته العصامية نفسها بسواعدها، وعلى نحو عام توقع أن يفعل الآخرون نفس الشيء، بشرط توافر فرص العمل التي تكفي الجميع. أما بالنسبة للباقين، فقد كانت هناك جمعية تنظيم العمل الخيري وغيرها من الجمعيات النموذجية التي ظهرت في منتصف العصر الفيكتوري لمساعدة غير القادرين ومدمني الخمر. لكن نزعة كينز الموروثة لمخالفة العرف انحسرت أمام القبول الاجتماعي؛ فقد انتقل إلى كلية إيتون (وهي أفضل مدرسة في بريطانيا في ذلك الوقت)، ونما حبه لرفقة زملائه النابغين الأكبر منه سنا. وقد أحب أيضا مرافقة الأغنياء وذوي النسب، رغم أنه لم يفرط في الاندماج معهم. وعندما كبر كينز أصبح أكثر تحفظا، ليكون رائدا للاستمرارية والتطور؛ فقد كتب في نهاية كتابه «النظرية العامة» أن النتائج الاجتماعية التي خرجت من أفكاره الاقتصادية كانت «إلى حد ما متحفظة». ورأى أن الرأسمالية التي كان ينبذها أخلاقيا يمكنها أن تبقى لكن في ظل إدارة محسنة.
أما ما لم يتغير منذ طفولة كينز، فكان عاداته في العمل؛ فقد كان يعمل كأكثر الآلات كفاءة. وبهذا فرض نظامه الخاص على عالم فوضوي. وهو ما مكنه من أن يعيش حيوات عديدة، وأن يستمتع ويتحمس لكل منها؛ فقد شغل كل لحظة في يومه بأنشطة وخطط متنوعة. وكان يؤدي كل أعماله في سرعة مبهرة. وامتلك قدرة عجيبة على الانتقال من مهمة إلى أخرى؛ ورغم كل ما كان يفعله، لم يبد عليه التسرع، وكان لديه وقت وفير للأصدقاء والتحدث وممارسة الهوايات.
كان حماس كينز «الهائل والغريب للتاريخ والإنسانية» هو ما قربه من فيرجينيا وولف؛ حيث كان «عقله يعمل باستمرار»، ويفيض «بأفكار غزيرة في موضوعات لا يطرقها إلا القليلون.» فقد كان شغوفا بالعالم، ولم يدرس أي موضوع إلا وكون عنه نظرية ما، مهما كانت خيالية. وهناك جملة مشهورة له تقول: «لم تكن إنجلترا مستعدة لاستقبال شكسبير إن ولد قبل مولده بخمسين عاما.» وكانت عادته الجذابة هذه بالتطرق إلى ميادين تخشى العقول الأبطأ من عقله دخولها، واعتماده على اختلاق الأفكار بسرعة للخروج من المآزق الصعبة؛ هما السبب في أغلب الأحيان في هجوم الخبراء عليه واشتهاره بأنه هاو حتى في علم الاقتصاد. لكن هذا لم يقتصر على محادثات ما بعد العشاء. كان كينز مهووسا باهتمامات فكرية تبدو بعيدة عن مجال عمله؛ فقد حاول في بداية حياته أن يضع صيغة للتنبؤ بعمى الألوان بناء على قوانين مندل الوراثية؛ وفي عشرينيات القرن العشرين استحوذ عليه على نحو متكرر مقال كتبه بعنوان «الجنون البابلي» عن نشأة النقود؛ حيث كتب إلى ليديا لوبوكوفا في 18 يناير 1924 قائلا: «إنه مقال سخيف تماما وعديم الفائدة إلى حد كبير، لكنه استحوذ علي مرة أخرى لدرجة الهوس ... والنتيجة أنني أشعر بالجنون والبلاهة. مع تحيات، مجنون يغمره الجموح، مينارد.»
لكن كفاءة كينز لم تعفه من الإرهاق المستمر؛ فقد كان مجهدا على الدوام. وفي شبابه ذهب ذات مرة ليقضي عطلة نهاية أسبوع هادئة مع برتراند راسل، وحدث أن وصل ستة وعشرون ضيفا بشكل مفاجئ، معظمهم - حسبما ألمح راسل - جاء تلبية لدعوة كينز. ولاحقا أصبحت الحقائب الممتلئة بالأوراق رفيقة دائمة له في عطلاته بالخارج. ولقد قضى سنوات فيما أسماه هو نفسه ب «العذاب على الطريقة الصينية» في لجان المدرسة والجامعة، التي كان من السهل عليه تفاديها؛ فقد كان دائم التساؤل: «هل هذا ضروري؟» «لم كل هذا الضجيج؟» «لماذا أفعل هذا؟» فهل كان لكينز أي هوية وهو وحده؟ لم يبد أنه يعيش في سلام مع نفسه؛ فقد كان يظن أنه قبيح، وكان يكره صوته. وشكا أصدقاؤه في مجموعة بلومزبيري من انعدام حساسيته الفنية، وسخروا من ذوقه في الصور والأثاث. فكانت «الأقنعة» التي يرتديها مادية قبل أن تكون عقلية. وتوارت العيون اللاهية والفم الجذاب خلف القشور التقليدية لأي رجل «ذي شأن»؛ الشارب العسكري والبذلات السوداء والقبعات التي كان يرتديها حتى في نزهاته؛ فقد حاول إثبات هويته من خلال تفوقه في العالم الخارجي.
أما سلوكه نحو الآخرين، فقد كان خليطا من الطيبة وعدم التسامح؛ فقد كان لديه في قلبه متسع كبير لحب الآخرين، وعلى عكس زملائه من أعضاء مجموعة بلومزبيري، كان وفيا لأصدقائه على نحو استثنائي. كما كان يقدر الألغاز والغرائب والهوس بكل ما يخص العقل؛ لأنه كان غالبا ما يراها مصدرا غنيا للاحتمالات المشوقة. وكان يقدر كلمة
genius ، والتي تعني «عبقري»، لكنه استخدمها بمعناها الأصلي وهو «الروح الطليقة». ومثل العديد من المفكرين، كان يحترم الخبرة العملية مهما كانت متواضعة. ولم يكن صبورا، لكنه كان قادرا على تحمل قدر كبير من المشكلات في علاقاته بأصدقائه ومن كان يرى أنهم يستحقون ذلك.
في الوقت نفسه كان من الممكن أن يتصرف أحيانا بطريقة غير مهذبة مطلقا، خاصة مع أولئك الذين كان يرى أنهم ينبغي أن يعرفوه على نحو أفضل. وكان مصابا بلعنة أكسبريدج؛ حيث كان مؤمنا بأن كل البراعة التي في العالم تكمن في جامعتي أكسفورد وكامبريدج وفي كل ما ينتج عنهما. وبالتوازي مع ذلك، كانت نظرة كينز للعالم تعتبر إنجلترا في مركزه، وهي نظرة كانت أكثر شيوعا وقتها من الآن. وكان عادة ما يفلت بسلوكه غير المهذب بسبب حضور بديهته وإتقانه لأسلوب تسفيه الرأي الآخر. لكنه كان قادرا على إيلام الآخرين. وعن هذا، كتب الاقتصادي الأمريكي والتر ستيوارت يقول:
في محادثاته، كان كينز بارعا في أغلب الأحيان، لكنه أحيانا يكون قاسيا أيضا. فلم يكن بإمكانه مقاومة إغراء تحقيق نقاط على حساب الآخرين، وحينها كان ينظر فيمن حوله من المستمعين ليرى هل كانوا قد لاحظوا تفوقه أم لا. وكان أحيانا يستخدم سيف ذكائه ضد من لا يمكنهم الدفاع عن أنفسهم بسهولة، وحتى ضد الغائبين عن المجلس.
لم يكن هذا الأسلوب ليروق لأحد. فلم يعجب قط الأمريكيين. فعلى سبيل المثال، بدا «خطابه المفتوح» لروزفلت عام 1933 - كما يقول هيربرت شتاين - «مثل خطاب معلم لولي أمر فاحش الثراء لتلميذ بليد جدا.» وفي مدينة سافانا، في مارس 1946، في الاجتماع الافتتاحي لصندوق النقد الدولي، ألقى كينز خطابا تمنى فيه ألا تكون هناك أي «جنية شريرة» إلا وقد دعيت إلى ذلك الاجتماع. كان ذلك إشارة لباليه تشايكوفسكي «الجمال النائم»، لكن فريدريك فينسون وزير الخزانة الأمريكي أخذ العبارة على محمل شخصي، وصاح قائلا: «لا أمانع أن أوصف بالشرير، لكني لا أرضى بأن أدعى جنية.»
أما كيرت سينجر، فيقدم صورة أفضل لسلوك كينز؛ حيث يقول عنه: «لقد جسد بالإشارة وبالنظرة وبالكلمة ... صورة طائر ذي سرعة غير معقولة، يرسم دوائر على ارتفاعات شاهقة، لكن بدرجة عالية في الدقة، ثم ينقض فجأة على حقيقة أو فكرة معينة، وهو قادر على نحت كلمات لا تنسى لتعبر عما رآه، فيفرض غنيمته الفكرية بقبضة حديدية حتى على من يرفضونها.»
لم يكن من الواضح، من خلال خلفية كينز ولا من قدراته، أنه سيتخذ من علم الاقتصاد مجالا للعمل؛ فقد كان والده اقتصاديا واختصاصيا في علم المنطق، لكن ما آلت إليه حياته العملية لم يكن شيئا مبشرا بالنسبة لكينز؛ فقد آلت به الحال للعمل في أعمال إدارية في الجامعة. أما كينز فكان عقله شديد الاتساع وروحه عالية الهمة بشكل لا يمكنه من القيام بعمل أكاديمي شديد التخصص. ففي أثناء كتابته لعمله «بحث في الاحتمال» استهلك كل اهتمامه الجدي بالمنطق؛ فقد كان المنطق أفقا ضيقا بالنسبة لعقله. فيجب أن يكون الإنسان قادرا على استخدام عقله بشكل جمالي وعملي. كان كينز مولعا منذ وقت مبكر بالجانب النفسي للتعاملات المالية والمراهنات في سوق الأوراق المالية، وكان من الممكن أن تجعله مواهبه الإدارية موظفا عاما رفيعا، وكان أيضا كاتبا رائعا. وفي نهاية المطاف كان قادرا على أن يجعل من علم الاقتصاد وسيلة لإشباع هوسه وصقل مواهبه، لكن حالة عدم اليقين في عالم صدمته الحرب هي ما جعل علم الاقتصاد مجال عمله.
لكن ما الذي يميز كينز كاقتصادي؟ إن أهم ما يميزه هو مزيج المواهب الذي قدمه لهذا المجال. ومن المستحيل أن تعتقد أنه لم يكن يقصد نفسه حينما كتب في مقاله عن ألفريد مارشال:
يجب على الاقتصادي المتمكن أن يمتلك مزيجا نادرا من الهبات ... يجب أن يكون عالم رياضيات ومؤرخا ورجل دولة وفيلسوفا، بدرجة ما. عليه أن يفهم الرموز ويتحدث بالكلمات. عليه أن يتأمل ما هو خاص في ضوء ما هو عام، وأن يتعامل مع المجرد والمادي معا في نفس جولة التفكير. وعليه أن يدرس الحاضر في ضوء الماضي من أجل المستقبل. ويجب ألا يخرج أي جزء من طبيعة الإنسان أو مؤسساته عن دائرة اهتمامه بشكل كامل. وعليه أن يكون هادفا ونزيها معا؛ فينعزل ويتسامى عن الشوائب مثل الفنان، لكن ينزل إلى أرض الواقع أحيانا مثل رجل السياسة.
وكتبت زوجة كينز - ليديا لوبوكوفا - إن كينز كان «أكثر من مجرد اقتصادي»؛ فقد رأى كينز نفسه أن «عوالمه كلها» أثرت فكره الاقتصادي. فهو أشبه ما يكون بعالم الاقتصاد السياسي - ذلك المفهوم القديم الذي يصعب تعريفه - وهو شخص يعتبر الاقتصاد فرعا من فروع إدارة الدولة، لا علما منغلقا على ذاته له قوانينه الثابتة. ذات مرة سأله أحد محاوريه في لجنة المالية والصناعة (لجنة ماكميلان): ألم تعطل مزايا الضمان الاجتماعي عمل «القوانين الاقتصادية»؟ رد كينز بقوله: «لا أعتقد أن من بين القوانين الاقتصادية ما ينص على أن تميل الأجور إلى الانخفاض أكثر من ميلها للارتفاع. إن الأمر يتعلق بالحقائق. والقوانين الاقتصادية لا تصنع حقائق؛ بل تبين تبعاتها.» وفي منتصف عمره، كان دائم الشكوى من أن الاقتصاديين الشباب لم يكونوا يتلقون تعليما مناسبا؛ فلم تكن لديهم ثقافة واسعة تمكنهم من تفسير الحقائق الاقتصادية. وفي هذا إشارة لمشكلة علم الاقتصاد، وكذلك للثورة الكينزية؛ فقد أشعل كينز نار الإبداع بين المختصين، لكنهم ظلوا مجرد مختصين؛ فقد استخدموا أدواته لكنهم لم يضيفوا جديدا لرؤيته.
وزعم كينز في مقاله عن توماس مالتوس أن «رجل الاقتصاد الأول في كامبريدج» لديه «حدس اقتصادي عميق»، و«مزيج غير عادي من انفتاح الذهن على الصورة المتغيرة للتجربة والتطبيق المستمر لمبادئ التفكير المنهجي على تفسيرها.» وفي هذا ملخص لفلسفة كينز في الاقتصاد؛ فقد أخبر روي هارود عام 1938 أن علم الاقتصاد «هو علم التفكير باستخدام النماذج ممزوجا بفن اختيار النماذج المناسبة للعالم المعاصر ... فالاقتصاديون الأكفاء نادرون؛ لأن موهبة توظيف «الملاحظة الواعية» لاختيار النماذج الجيدة ... تبدو غاية في الندرة.» وفي مقاله عن إسحاق نيوتن، نقل كينز كلمات دي مورجان عنه: «إنه سعيد جدا بحدسه بحيث يبدو وكأنه يعلم أكثر مما يمكنه إثباته.» وهذا الكلام ينطبق على كينز الذي كان يشعر بصحة النتيجة قبل أن يتمكن من تقديم الدليل عليها.
كان كينز أكثر الاقتصاديين اعتمادا على الحدس؛ والحدس المقصود هنا هو الحدس «الأنثوي»، وهو شعور باليقين بعيد كل البعد عن العقلانية. (ويرجع تشارلز هيسون، واضع إحدى سير حياة كينز، إبداعه إلى مزيج من الحدس الأنثوي والمنطق الذكوري.) ويجب التفريق بين الحدس بهذا المعنى والحدس الفلسفي الذي آمن كينز به أيضا، والذي ينص على أن المعرفة تنبع مباشرة من التأمل الذاتي. كان كينز يتمتع بقدرة ثاقبة على إدراك الصورة الكلية في مجمل المواقف، وكان لديه قدر كبير من الخيال العلمي الذي عزاه إلى فرويد، والذي «يمكنه أن يقدم سيلا من الأفكار المبتكرة والاحتمالات المثيرة والفرضيات المفيدة، التي لها جميعها أساس كاف في الفطرة والتجربة.» كما كانت الحقائق الاقتصادية أكثر ما يجذب تأملاته، عادة من الناحية الإحصائية. وكان دائما ما يقول إن أفضل الأفكار التي خطرت بباله جاءته في أثناء «عبثه بالأرقام ومحاولة اكتشاف مدلولاتها.» لكنه مع ذلك كان متشككا في علم الاقتصاد القياسي المعني باستخدام الطرق الإحصائية لأغراض التنبؤ. كما طالب بتطوير علم الإحصاء، ليس من أجل فهم أفضل لأمور مثل معامل الانحدار، ولكن ليعتمد عليه حدس الاقتصادي.
كان من أهم مصادر فهم كينز لمجال الأعمال انخراطه الشخصي في جني الأموال؛ فقد قال عنه نيكولاس دافينبورت صديقه ورفيقه: «لقد كان فهم كينز لنزعة المراهنة هو ما جعل منه اقتصاديا عظيما.» وأضاف:
الاقتصادي الأكاديمي لا يعلم حقا دوافع رجل الأعمال، ولم يفضل أحيانا أن يراهن على مشروع استثماري، بينما يفضل في أحيان أخرى الاحتفاظ بالسيولة النقدية. أما مينارد فقد فهم تلك الدوافع؛ لأنه كان نفسه مراهنا، وأدرك نزعتي المراهنة والحفاظ على السيولة لدى رجل الأعمال. وفي مرة قال لي: «تذكر يا نيكولاس أن الحياة دائما رهان.»
وغالبا ما كان يتعارض شغف التعميم عند كينز مع حسه الثاقب نحو الأشياء الخاصة المهمة. فقد كافح دائما من أجل «أن يرى عالما كاملا في حبة رمل ... وأن يرى الدهر في ساعة.» لقد كانت قدرة كينز على «أن يتعامل مع المجرد والمادي معا في نفس جولة التفكير» ميزة باهرة ومحيرة في نفس الوقت لأفكاره الاقتصادية. ولم يكن الناس على علم قط بمستوى التجريد في تفكيره. وقد شكا زميل كينز في جامعة كامبريدج، والذي يدعى بيجو، في أثناء نقده لكتابه «النظرية العامة»؛ من رغبة كينز في «تحقيق مستوى عال من التعميم؛ بحيث تجب مناقشة كل شيء في نفس الوقت.» وقال شومبيتر الكلام ذاته تقريبا؛ فقد قال إن كتاب كينز «النظرية العامة» قدم «في ثوب من الحقيقة العلمية العامة، نصائح ... لا معنى لها إلا في سياق المقتضيات العملية لموقف تاريخي مميز في زمان ومكان محددين»؛ فقد عرض الكتاب «حالات خاصة منحها ذهن الكاتب وطريقة عرضه تعميما خادعا.»
وجاء من زميل آخر لكينز في جامعة كامبريدج، وهو دينيس روبرتسون، نقد ذو صلة يلخص في عبارة «التأكيد المفرط المتتابع»، فقد قال في هذا الشأن:
يمكنني القول إنني - بقدرتي على التواصل المستمر مع جميع عناصر مشكلة ما بشكل تقليدي غير مميز - مثل دودة براقة تنشر ضوءها الضعيف على جميع الأشياء المحيطة بها؛ لكنك في المقابل - بفكرك الأكثر قوة - مثل منارة تسلط شعاعا أقوى بكثير، وإن كان مشوها جدا أحيانا، على شيء واحد ثم الذي يليه.
انتقد ألفريد مارشال في جيفنز ما انتقده الكثيرون في كينز: «حتى أخطاؤه عززت نجاحه ... فقد دفع الكثيرين للاعتقاد أنه يصوب أخطاء عظيمة، بينما كان ما يفعله حقيقة هو إضافة تفسيرات هامة.»
من الواضح أن هناك مجالا للتساؤل عما إذا كان كتاب «النظرية العامة» لكينز - كما يقترح كيرت سينجر - «لم يوضع ليلائم حالة خاصة جدا تحكمها التقلبات السياسية وتداعياتها النفسية للفترة الصعبة فيما بين الحربين العالميتين؛ وعما إذا لم يكن كينز في الحقيقة يناقش ظاهرة من غير الوارد أن تتكرر.» ويصعب على الجانب الآخر تفسير الانهيار الأمريكي عام 1929 في ضوء ذلك؛ فقد كان مقدار الاكتئاب الذي أصاب الولايات المتحدة «بلا سبب»، هو الحقيقة ذاتها التي سعى كتاب «النظرية العامة» لتفسيرها، كما سنرى.
في النهاية، لا يمكن فصل التحول من الاقتصاد «الكلاسيكي» إلى الاقتصاد «الكينزي» عن التغيرات الكبرى التي عاصرها كينز في السياسة والشئون الدولية والعلوم والفلسفة وعلم الجمال؛ فقد انعكست جميعها في عقله اللامع والغامض؛ فقد ظل إدواردي الفكر؛ بمعنى أن معتقداته عن العالم تشكلت في السنوات الأولى من القرن العشرين. وطوع عقيدته للحقائق البائسة اللاحقة. ولم يسع في أفكاره الاقتصادية للبحث عن الحقيقة، بل للوصول إلى فكرة ممكنة ضرورية لسلوك البشر في عالم فقد كل مبادئه الأخلاقية. ولم يستسلم كينز لليأس قط. بل تجاوز بتفاؤله أحلك اللحظات. وقبل وفاته بوقت قصير أثنى على دور علم الاقتصاد ورجاله، قائلا إنهم «أمناء، ليس على الحضارة، بل على السبل المتاحة أمامها.» ولم يكن ليختار هذه الكلمات الدقيقة إلا رجل يمتلك حسا لغويا مرهفا وحسا إدوارديا تجاه الهدف من الحياة.
الفصل الأول
حياة كينز
أخذ كينز على عاتقه إنقاذ ما سماه «الفردية الرأسمالية» من داء انتشار البطالة، الذي رأى كينز أننا إذا أهملناه فسيجعل «أنظمة الحكم الاستبدادية» هي الأنظمة السائدة في العالم الغربي. ولد كينز في الخامس من يونيو عام 1883 في حقبة مختلفة تماما من «الفردية الرأسمالية»؛ حقبة كان التقدم الاقتصادي فيها أمرا بديهيا، وحكمت الدولة فيها نخبة ليبرالية امتلكت الأراضي والأموال، وبدا أن بريطانيا أمنت لنفسها موقعها في قلب النظام التجاري العالمي. ولم ير سوى قليلين أن هذه الحقبة تتجه نحو الأفول. وكانت شكوك العصر الفيكتوري لا تزال دينية أكثر منها مادية، رغم الهواجس بشأن الأخطار التي تهدد النظام الراسخ، والتي منها ظهور الديمقراطية في الداخل، وخطر ألمانيا في الخارج، وتراجع الأهمية الاقتصادية، والتزايد المطرد في معدل التقلبات الصناعية. وظهرت كلمة «بطالة» لأول مرة في «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية» عام 1888، وهذه علامة على أشياء كانت وشيكة الحدوث.
لم يكن جون مينارد كينز نتاج قصة نجاح فيكتورية غير مألوفة؛ فقد كان الأكبر من بين ثلاثة أطفال لعائلة ميسورة الحال، عملت بالسلك الأكاديمي بجامعة كامبريدج، وسكنت في 6 طريق هارفي. ويعود أصل عائلة كينز إلى فارس نورماني جاء مع ويليام الأول الملقب بويليام الفاتح. لكن كان جد مينارد كينز من جهة الأب هو من أنقذ العائلة من الفقر، بعد أن جمع ثروة صغيرة من امتلاكه لمزرعة خضراوات صغيرة يبيع ثمارها للناس في سولزبيري. وتمكن ولده الوحيد، جون نيفيل، من الحصول على زمالة كلية بيمبروك في جامعة كامبريدج في سبعينيات القرن التاسع عشر. كان فيلسوفا واقتصاديا، حيث كتب نصوصا صالحة للنشر في علم المنطق والمناهج الاقتصادية، وأصبح لاحقا أمين سجلات الجامعة. وفي عام 1882 تزوج فلورنس أدا براون، ابنة كاهن طائفة معروف شمال البلاد وناظرة مدرسة كرست حياتها لقضية تعليم المرأة. كان نسب العائلتين يجمع بين «الدين والتجارة»، وكان انتقال العائلة إلى كامبريدج جزءا من استيعاب الشذوذ الريفي في أثناء تأسيس إنجلترا الفيكتورية.
جسد والدا كينز القيم الفيكتورية في صورة مرنة. فانغمس جون نيفيل كينز في مجموعة متنوعة من الهوايات. وورث عنه مينارد كينز حدة الفكر وكفاءة الإدارة مع نزعة للمزاح، رغم أن القدر رحمه ولم يرث القلق من أبيه. أما فلورنس كينز فقد تبنت «قضايا هامة»، لكن ليس على حساب أسرتها قط؛ فقد مثلت - كما هو الحال بالنسبة لجميع أفراد عائلة براون التي تنتمي إليها - جانبي «الوعظ وفعل الخير» فيما ورثه مينارد عن عائلته؛ كما أن عائلة براون كانت تتمتع ببعض الخيال الفكري. كانت عبقرية كينز ذاتية، لكنه شعر أن هناك تقاليد اجتماعية وفكرية عليه الالتزام بها.
كانت البيئة المحيطة بكينز على مستوى عقلي رفيع؛ فقد شملت دائرة كينز بعضا من أكبر الاقتصاديين والفلاسفة في ذلك العصر؛ ألفريد مارشال وهيربرت فوكسويل وهنري سيدجويك ودبليو إي جونستون وجيمس وارد. وعندما كان كينز شابا صغيرا كان يلعب الجولف مع سيدجويك، وكتب عنه بدقة يشوبها المكر (لصديقه برنارد سويثينبانك في 27 مارس 1906): «لم يكن يفعل أي شيء قط سوى التساؤل عما إذا كانت المسيحية حقيقة فيثبت العكس، ومع ذلك، يأمل أن تكون حقيقة.» كانت كامبريدج أقل اهتماما بزخارف الحياة من أكسفورد. ورغم أن مينارد امتزج بالعالم الدنيوي، فقد ظلت مبادئه سماوية. وطبق في الحكم على حياته وحياة الآخرين المعايير الفكرية والجمالية. وفرض نفسه على العالم المادي بقوة الفكر والخيال، لكنه لم ينشغل به قط.
تقبل كينز دون مناقشة القيمة الرفيعة التي رآها والداه في التفوق الأكاديمي. وفي واقع الأمر، لم يتمرد قط على والديه رغم أن دائرة اهتمامه كانت أكبر. وكان منزل الأسرة، الذي استمر نيفيل وفلورنس كينز في العيش فيه بعد وفاة مينارد، سببا في الاستقرار والاستمرارية في حياته. وارتبط فكره الاجتماعي بظروف أسرته على نحو دقيق. ورأى نفسه عضوا في الطبقة الوسطى «المفكرة». كما رأى أن الهروب من الفقر كان ممكنا دائما في أوروبا، فيما قبل الحرب العالمية الأولى، «لأي رجل له القدرة أو الشخصية التي تتجاوز الحد المتوسط.» ولم يفقد إيمانه قط بواجب النخبة الفاعلة صاحبة التفكير السليم في قيادة الجماهير.
في عام 1897 فاز بمنحة دراسية للالتحاق بكلية إيتون، أعلى الكليات البريطانية. وكان طالبا متميزا على نحو كبير؛ حيث فاز بعدد كبير من الجوائز، كما انتخب عضوا في النادي الاجتماعي الحصري الخاص بالكلية الذي يسمى «بوب»، وكان يؤدي أداء مشرفا في لعبة الحائط التي اشتهرت بها الكلية. وكان الشيء المميز هو النطاق المذهل لاهتماماته وقدراته. كانت الرياضيات مادته المفضلة، لكنه تفوق أيضا في مادتي الأدب الكلاسيكي والتاريخ. وحقق تقدما في دراسته بسرعة البرق. وحظي باحترام الأساتذة والزملاء معا، تماما كما تفوق لاحقا على كل من علماء الاقتصاد ورجال الأعمال. وأدرك كينز منذ سن صغيرة أن الدهاء هو الطريق إلى النجاح في التعامل مع البالغين؛ فقد كان الدهاء بديلا عن الاستسلام أو التمرد؛ فمن خلاله يمكن للإنسان أن يستغل أي موقف لصالحه. كما كان من الملاحظ أن هناك نوعا من عدم الاتساق بين قدراته واهتماماته؛ فقد كان يتحول إلى كينز عالم المنطق، الإحصائي، الإداري، المتغطرس؛ لكنه في الوقت ذاته كان «مينارد»، كما عرفه أصدقاؤه المقربون، الذي يتوق إلى الحب وينجذب إلى الكتاب والفنانين والحالمين، ويغرق في بحر شعر العصور الوسطى أو التأمل العميق. ورأى لاحقا الفائدة العملية لعلم الاقتصاد باعتباره درعا واقيا للحضارة من قوى الجنون والجهل.
وفي عام 1902، ذهب إلى كلية كينجز كوليدج في كامبريدج في منحة مفتوحة لدراسة الرياضيات والأدب الكلاسيكي. لم يجد قط متعة كبيرة في دراسته للرياضيات - مادته المفضلة - فتخلى عنها بطيب نفس بمجرد حصوله على درجة الشرف الأولى في الرياضيات من جامعة كامبريدج. وقضى معظم الوقت قبل تخرجه في أشياء أخرى؛ مثل دراسة الفلسفة، وكتابة بحث عن عالم المنطق بيتر أبيلارد الذي عاش في العصور الوسطى، وإلقاء الخطب في اتحاد جامعة كامبريدج (الذي ترأسه عام 1905)، ولعب البريدج، وتكوين الصداقات. وفي عام 1906 جاء ثانيا بعد أوتو نيماير في اختبار الخدمة العامة، والتحق بمكتب الهند. وبعد عامين من العمل الرتيب، كان قد حصل معرفة جيدة بالنظام المالي للهند؛ وهو ما أدى لتعيينه عضوا في اللجنة الملكية لشئون المالية والعملة بالهند في عام 1913. لكنه قضى معظم ساعات عمله في كتابة بحثه عن الاحتمالات، الذي منحه في ثاني محاولة درجة الزمالة في كلية كينجز كوليدج عام 1909. وبقيت جامعة كامبريدج بيته الأكاديمي لبقية حياته.
وبينما كان يؤسس بذلك لحياته العملية، حدث تغير في القيم، أدى به إلى تجاوز قيود القيم الفيكتورية المرنة التي تربى وفقها على يد والديه؛ فقد كانت الأخلاق الفيكتورية تدعمها معتقدات دينية آخذة في الانهيار. كان كينز وزملاؤه قبل التخرج ملحدين على نحو واضح؛ لكن بالنسبة لهم - كما هو الحال مع الكثير من المفكرين المنشقين عن الكنيسة - لم يغن تخليهم عن المعتقدات التي رأوها خاطئة عن الحاجة لمعتقدات يرونها صحيحة. فبحثوا في الفلسفة الأخلاقية محاولين إيجاد وسيلة لعيش حياتهم. فوجدوا في الفيلسوف جي إي مور ضالتهم لتبرير خرقهم للقواعد الاجتماعية والجنسية لآبائهم. وكان كتابه «مبادئ الأخلاق» (1903) هو البيان التأسيسي لحقبة الحداثة بالنسبة لجيل كينز، والذي وصفه كينز فيما بعد بأنه «السبيل إلى جنة جديدة على الأرض.»
وقع كينز تحت تأثير مور عندما انتخب - في الفصل الدراسي الثاني قبل تخرجه - عضوا بجماعة «رسل كامبريدج»؛ وهي جماعة فلسفية نقاشية انتقائية وسرية (في ذلك الوقت). وكون من خلال تلك الجماعة عددا من أفضل الصداقات في حياته، وخاصة مع ليتون ستراتشي، وفي نهاية العقد الأول من القرن العشرين أصبح عضوا في مجموعة بلومزبيري، والتي تضم أعضاء جماعة «رسل كامبريدج» وأصدقاءهم وأقاربهم من الرجال والنساء، وتوجد في لندن. كانت تلك المجموعة تضم عددا من شباب الكتاب والفنانين الذين وجدوا في الحياة الأكثر تحررا في منطقة بلومزبيري غير المعروفة الموجودة بلندن مهربا من الأعراف الضيقة الأفق لبيوت آبائهم. ووجد كينز في هذه المجموعة الماكرة من الأصدقاء البارعين - الذين يبدون الإعجاب به تارة ويهاجمونه تارة أخرى - موطنا عاطفيا له قبل زواجه.
أقنع مور أفراد تلك المجموعة بالقيمة السامية للتجارب الجمالية والصداقة الشخصية، ومحا سوداوية الجيل السابق الذي لم يجد سببا وجيها للقيام بواجبه؛ فأعاد إدخال التفاؤل والبهجة إلى النقاشات الأخلاقية، وهو ما فجر نقاشا جديدا للروحانيات على أساس من فلسفة كامبريدج التحليلية. ولم يكن ذلك التحول ممكنا إلا لمن سمحت لهم ظروف الحياة بذلك، وهؤلاء الذين كانت السياسة من أقل اهتماماتهم بحيث تعجز عن تعكير صفو «الحالات الشعورية الجيدة »؛ وهو شيء انطبق بكل تأكيد على كينز قبل عام 1914، لكنه كان تحولا محطما للقيود على نحو كبير.
كتب كينز في عام 1938 عن الأيام التي عاشها قبل الحرب العالمية الأولى: «كانت كبرى غاياتنا في الحياة هي الحب والإبداع والاستمتاع بالتجارب الجمالية والسعي وراء المعرفة. لكن الحب كان في مكانة أعلى بكثير من باقي تلك الغايات.» وكان الحب بالنسبة لكينز وأصدقائه في جماعة «رسل كامبريدج» يعني الحب المثلي، بشكل روحي نوعا ما في البداية. وكان رفيق كينز من عام 1908 حتى عام 1911 الرسام دانكان جرانت، ابن عم ليتون ستراتشي، الذي «اختطفه» كينز من الأخير؛ وهو ما سبب اضطرابا شديدا في المجموعة. واستمر ارتباط كينز العاطفي بالشباب الصغار حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. لكن كينز لم يكن متطرفا في الحب كما كان في الاقتصاد أو السياسة. فلم تمنعه مثليته من إمكانية الوقوع في الحب والدخول في علاقة جنسية سعيدة مع المرأة المناسبة؛ وكان موعد ظهورها في حياته بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.
أما الجمال بالنسبة لكينز وأصدقائه، فكان يعني بالدرجة الأولى الرسم القائم على مذهب ما بعد الانطباعية والباليه الروسي والأساليب الجديدة للفن الزخرفي التي تأثرت بكليهما. فكانت لندن بالنسبة لمن يملكون المال والذوق والخدم المحليين (لم يكن من المكلف استقدام خدم) مكانا مثيرا، وذلك قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. وكان التمسك الشديد بالتقاليد البريطانية، الذي شكا منه ماثيو أرنولد من قبل، قد بدأ يتوارى أمام محاولات التجديد الفني. ولم تخطر ببال أحد فكرة أن بإمكان بعض الأشخاص الأغبياء في وسط أوروبا أن يهدموا الحضارة بسبب الطموح للقوة والسيطرة والعداوات العرقية؛ فقد كان عالما منفصلا تماما عن الحياة البسيطة للناس الذين رأوا مع ذلك أن التقدم الاقتصادي سيؤدي إلى حياة أفضل لهم.
كان السعي وراء المعرفة بالنسبة لكينز يعني الفلسفة وعلم الاقتصاد، والفلسفة على الأخص. ووجه معظم طاقته الفكرية قبل عام 1914 إلى تحويل بحثه إلى كتاب تحت اسم «بحث في الاحتمال»، الذي لم ينشر حتى عام 1921، وفيه حاول توسيع نطاق المناقشة المنطقية لتغطي الحالات التي كانت نتائجها غير مؤكدة. وكان لهذا العمل تأثير مهم جدا في أفكاره الاقتصادية. ألقى كينز محاضرات في كامبريدج عن النقود. وكان منظرا متعصبا لأفكار مارشال المتعلقة بنظرية كمية النقود، ولم يبذل الكثير من الجهد في توسيع حدود هذا الموضوع، رغم أن كتابه الأول (والوحيد الصادر قبل الحرب العالمية الأولى) المسمى «العملة والمالية في الهند» (1913) كان محاولة واضحة لتطبيق النظرية النقدية القائمة من أجل إصلاح النظام النقدي الهندي. وتميز الكتاب بالمعرفة الخبيرة بالعمل في المؤسسات المالية، وبإجازته لمعيار صرف الذهب، وبدعوته لقيام بنك مركزي هندي. وقد تكشفت هذه التفاصيل لكينز من خلال عمله عضوا في اللجنة الملكية لشئون المالية والعملة بالهند في العام نفسه.
لكن كينز كان مهتما كذلك بمشكلة المعرفة في علم الاقتصاد، ودخل في عام 1911 في جدال حاد مع كارل بيرسون حول تأثير شرب الوالدين للكحوليات على حياة أولادهم. ورفض كينز استخدام بيرسون للمنهج الاستقرائي لإثبات الحقائق الاجتماعية. وعكس ذلك تشككه الأعم في فائدة الاستدلال الإحصائي، إلى جانب رفضه للنظرية الإحصائية أو التكرارية للاحتمال. فعلم الاقتصاد لا يمكن أن يكون علما محكما؛ لأن عدد المتغيرات كبير جدا، ولا ضامن لاستقرار المتغيرات عبر الزمن. وكما قال كينز لاحقا: من الأفضل أن تكون قريبا من الصواب عن أن تكون مخطئا على نحو جازم.
كان كينز في الحادية والثلاثين من عمره حين اندلعت الحرب العالمية الأولى. وغيرت الحرب أسلوب حياته وحياته المهنية وطموحاته، لكنها لم تغير قيمه الأساسية التي كان يؤمن بها. وبعد أن لعب دورا مهما في تجنب انهيار معيار الذهب في أزمة البنوك في أغسطس عام 1914، عمل بوزارة الخزانة في يناير 1915، وبقي هناك إلى أن استقال في يونيو 1919. في يناير 1917 أصبح رئيسا لإدارة جديدة مختصة بتعاملات بريطانيا المالية الخارجية. وخلال تلك الفترة ساعد في بناء نظام لمشتريات الحلفاء في الأسواق الخارجية، والتي كانت بريطانيا تمول جزءا كبيرا منها. وأثبت كينز في الحقيقة أنه مسئول خزانة كفء؛ حيث تكيف بسرعة مع نظام العمل في المؤسسات الحكومية البريطانية، وطبق أكثر من مرة بفاعلية المبادئ الأساسية على المواقف الخاصة، وكانت لديه قدرة رائعة على إعداد مذكرات قصيرة وواضحة بسرعة البرق، وهي ملكة لا تقدر بمال عند الوزراء المنهكين. كما أشبعت الحكومة جزءا من رغباته التي طمحت إلى السيطرة على العالم المادي. استمتع كينز بعمله وسعد بصحبة العظماء وذوي النفوذ التي أتاحها له عمله في وزارة الخزانة كموظف كبير، وعبقري، ووسيم، وعزب، وماهر في لعبة البريدج، ويثير قوله الكثير من القيل والقال.
لكن تلك الصورة التي كشف عنها السير روي هارود في سيرته لكينز لم تكن إلا قناعا أخفى وراءه كينز صراعا داخليا عميقا؛ فقد صدم كينز ورفاقه باندلاع الحرب التي قضت على آمالهم في بناء «حضارة جديدة». ومع تطور الحرب ضعف إيمانهم بتلك الفكرة شيئا فشيئا. لعب كينز الدور المطلوب منه في الحرب؛ ما جعله عرضة للانتقاد المتزايد من أعضاء مجموعة بلومزبيري وأصدقائه من دعاة السلام، وزاد من شعوره بتأنيب الضمير. لكنه برر موقفه بأشكال مختلفة. فبداية من صيف عام 1915 حتى يناير عام 1916، قدم لريجنالد ماكينا، وزير الخزانة، مذكرات رصينة عن العواقب الاقتصادية للتجنيد الإجباري. وكانت فكرته التي عرضها في تلك المذكرات هي أن بريطانيا عليها أن تركز على تقديم الدعم المالي لحلفائها من خلال زيادة الإيرادات بالعملات الأجنبية، بدلا من تبديد الرجال والذخيرة على الجبهة الغربية. كانت تلك الفكرة منطقية مبنية على مبدأ تقسيم العمل، لكن من ورائها كانت هناك كراهية متنامية للحرب ورغبة في إبعاد نارها عن أصدقائه. كما أكسبته تلك الفكرة عداوة لويد جورج الذي آمن بفكرة «الضربة القاضية»، والتي ترى بضرورة تقديم ضربة موجعة للأعداء للتخلص منهم نهائيا.
وعندما فرض التجنيد الإجباري في يناير 1916، أراد كينز من ماكينا ورانسيمان وغيرهما من قادة الليبرالية الأسكويثية أن يستقيلوا من الحكومة، واقترح انضمامه وإياهم للمعارضة. وحينما بقوا في مناصبهم، بقي في منصبه هو الآخر، لكن بعد أن قدم طلبا بإعفائه من الخدمة العسكرية بوصفه رافضا لها، وهي خطوة رمزية بما أنه كان معفى بالفعل بسبب عمله في وزارة الخزانة. وفي الأشهر الستة التالية، استغل منصبه الرسمي ليساعد دانكان جرانت وغيره في الحصول على الإعفاء من الخدمة العسكرية؛ إذ كان يشهد - كما قال - «على إخلاص أصدقائه واستقامتهم وصدقهم.» لم يكن كينز ورفقاؤه من دعاة السلام بالمعنى المعروف، لكنهم كانوا ليبراليين يؤمنون بأن الدولة ليس لها الحق في إجبار الناس على القتال. كما أنهم آمنوا بأن هذه الحرب لم تستحق خوضها، وبأنه يجب بذل كل ما يمكن لإيقافها من خلال تسوية سلمية. وفي ديسمبر عام 1916، أصبح لويد جورج رئيسا للوزراء في ظل أزمة مالية هددت بحرمان بريطانيا من وسائل تمويل مشترياتها العسكرية من الولايات المتحدة. وكتب كينز لدانكان جرانت في 14 يناير 1917 يقول: «اللعنة عليه (قاصدا لويد جورج) ... إنني أصلي من أجل أن تحدث أزمة مالية طاحنة، ومع ذلك أكافح في سبيل منعها؛ لذا فإن كل ما أفعله يتنافى مع كل ما أشعر به.»
كان من بين عوامل زيادة كراهية كينز للحرب أنها كانت تجعل بريطانيا تعتمد على الولايات المتحدة. ومع استنفاد موارد بريطانيا كان عليها أن تقترض من الولايات المتحدة لتساعد حلفاءها، وخاصة روسيا. وفي 24 أكتوبر عام 1916، وفوق الأحرف الأولى من اسم ريجنالد ماكينا وزير الخزانة، كتبت كلمات - صاغها كينز بكل تأكيد - جاء فيها: «إذا استمرت الأمور على منوالها الحالي ... فسيصبح رئيس الجمهورية الأمريكية في وضع ... يسمح له بإملاء شروطه علينا.» تلك الكلمات سجلت لحظة انتقال الهيمنة المالية عبر المحيط الأطلنطي. وتكرر الموقف ذاته لاحقا في الحرب العالمية الثانية. وزاد إدراك كينز أفول نجم بريطانيا (وأوروبا) في مقابل بزوغ نجم الولايات المتحدة من إلحاحه في المطالبة بالتفاوض من أجل السلام، وشكل هذا جزءا كبيرا من تفكيره فيما بعد الحرب.
في سبتمبر 1917 ذهب كينز إلى واشنطن ليشارك للمرة الأولى في مفاوضات القروض، ولم تعجبه تلك التجربة. وكتب إلى دانكان جرانت يقول: «إن الشيء الوحيد الودود والأصيل حقا في الولايات المتحدة هو الزنوج الرائعون.» ولم يعجب الأمريكيون بكينز كذلك؛ حيث خلف «انطباعا سيئا عنه هناك بسبب وقاحته»، حسبما قال باسيل بلاكيت، وهو أحد ممثلي وزارة الخزانة بالسفارة البريطانية. وكان ذلك بداية علاقة مضطربة استمرت حتى وفاة كينز.
وبنهاية عام 1917، اقتنع كينز، كما قال لوالدته، بأن استمرار الحرب معناه «انتهاء النظام الاجتماعي الذي طالما عرفناه ... إن ما يرعبني هو فكرة «الفقر العام». ففي خلال عام من الآن سنكون قد خسرنا ما نستحوذ عليه في العالم الجديد، وسيرهن هذا البلد للولايات المتحدة.» تلخص هذه الكلمات المزاج الذي ساد كتابه «الآثار الاقتصادية للسلام»، الذي نشر في ديسمبر من عام 1919، وهو رثاء لعصر ولى، كما أن فيه هجوما عنيفا على معاهدة فرساي. وفي غضون ذلك، كانت روسيا قد استسلمت للثورة البلشفية، واندلعت الثورات في ألمانيا والمجر، وساد التضخم، وعانت معظم دول أوروبا من الجوع. ومع ذلك، كان ما يشغل بال صانعي السلام هو «الحدود والسيادة». وحاول كينز، بوصفه أحد كبار ممثلي وزارة الخزانة البريطانية في مؤتمر باريس للسلام، أن يقنع لويد جورج بالموافقة على الحصول على مبلغ معقول كتعويضات من ألمانيا. وعندما فشل في ذلك استقال في 7 يونيو 1919، وألف كتابه عن السلام في صيف عام 1919 في تشارلستون بساسيكس حيث تعيش فانيسا بيل ودانكان جرانت.
استنكر كتابه حمق صناع السلام الذين حاولوا أن ينتزعوا من ألمانيا تعويضا لا يمكنها دفعه. وتنبأ كينز بأن محاولات إجبار ألمانيا على دفع التعويضات سيدمر الآليات الاقتصادية التي اعتمد عليها رخاء أوروبا القارية قبل الحرب. كما توقع أن تشن ألمانيا حربا انتقامية. وضم الكتاب صورا مميزة لكبار صناع السلام، من أمثال جورج كليمنصو ووودرو ويلسون، إلا أن كينز استثنى صورة لويد جورج بناء على نصيحة أسكويث.
كانت اقتراحات كينز الرئيسية هي شطب كل الديون فيما بين دول الحلفاء، وتقليل التزامات ألمانيا الخاصة بالتعويضات إلى مبلغ سنوي معقول يمكن دفعه لفرنسا وبلجيكا، ومساعدة ألمانيا لتعود رائدة الاقتصاد في أوروبا القارية، وأن يعاد بناء روسيا «من خلال المؤسسات والمشروعات الألمانية.» وكان الهدف من شطب الديون فيما بين دول الحلفاء بعد الحرب هو التحرر من التمويل الأمريكي لأوروبا؛ فقد أيد كينز القروض الأمريكية لاستعادة الصناعة الأوروبية لسابق عهدها ، ولدفع تكاليف واردات الغذاء الأساسية، والعمل على استقرار أسعار العملات. لكنه عارض بشدة اقتراض الأوروبيين من الولايات المتحدة لخدمة أعباء الدين الثقيلة.
أصبح كتاب كينز أحد الكتب الأكثر بيعا على مستوى العالم، وكان له تأثير عميق في فكر ما بعد الحرب، كما جعل كينز مشهورا في جميع أنحاء العالم. وسيكون تسطيحا للأمور أن نعتبر الكتاب هو ما «خلق» مناخ التهدئة تجاه ألمانيا؛ فقد كان النفور من دعاية الحرب قد بدأ فعلا. ولم يفعل الكتاب سوى أنه حول الانتباه من سياسات القوى العظمى إلى أسباب الرخاء الاقتصادي. وضع كينز الاقتصاد في الصورة بالنسبة لعامة الجماهير المطلعة، وبقي الاقتصاد في الصورة منذ ذلك الحين. كما بدأت فكرة الحاجة لإدارة الرأسمالية في الترسخ في الأذهان. فلم يخرج كينز من الحرب اشتراكيا ولا بلشفيا. وأخذ يقول إن الاشتراكية وجدت لظروف لاحقة؛ أي بعد حل المشكلة الاقتصادية، وفي ذلك صلة غريبة بالماركسية الكلاسيكية. وظل كينز ليبراليا إلى أن مات. وكانت المهمة التي أخذها على عاتقه هي إعادة بناء النظام الاجتماعي الرأسمالي على أساس من الإدارة الفنية المحسنة.
تسببت الحرب كذلك في إعادة ترتيب حياة كينز الشخصية؛ حيث تخلصت من صبغتها الجامعية التي استمرت حتى عام 1914. وأصبح كينز الآن رجلا عظيما له وزنه في مسائل التمويل الدولي، وتسبب كتاباته اضطراب العملات، ويسعى إلى مشورته رجال المال والسياسة والمسئولون في جميع الدول. عاد كينز إلى كامبريدج في أكتوبر 1919، لكن كامبريدج لم تعد مركز حياته كما كانت؛ فقد أصبح يقيم فيها وقت الدراسة فقط، وحتى مع ذلك اقتصرت الإقامة على نهايات الأسبوع المطولة (عادة من مساء الخميس حتى صباح الثلاثاء)؛ حيث يجمع فيها كل تكليفاته التدريسية القليلة ولجانه الجامعية وحياة اجتماعية تمحورت حول عائلته التي تعيش في بيته القديم وبعض الأصدقاء المقربين من بين زملائه الأصغر سنا. وفي الفترة بين الحربين أصبح كينز أمين صندوق ناجحا على نحو مذهل في كلية كينجز كوليدج؛ حيث زاد رأسمال صندوق الكلية من 30 ألف جنيه استرليني عام 1920 إلى أكثر من 300 ألف جنيه بحلول عام 1945.
كان سكن كينز في لندن في 46 ميدان جوردون، الذي يعتبر «النصب التاريخي» لمجموعة بلومزبيري. وكان يقضي هناك منتصف الأسبوع في وقت الدراسة والجزء الأول من كل عطلة. وازدحمت حياته في لندن بأنشطة أكثر. ففي بعض الأوقات شغل كينز مناصب في مجالس إدارة ما لا يقل عن خمس شركات استثمار وتأمين، كان أكبرها الشركة الوطنية للتأمين التعاوني على الحياة؛ حيث كان رئيسا لمجلس إدارتها بين عامي 1921 و1937. وفي عامي 1923 و1931، كان أكبر مساهم ورئيس مجلس الإدارة في جريدة «نيشان آند أثينيوم» الأسبوعية؛ حيث عمل عن قرب مع محررها هوبرت هيندرسون. كما كان يحرر دورية «إيكونوميك جورنال» (1911-1937) من لندن أيضا. فكانت لندن مهمة لكينز بوصفها منطلق نفوذه؛ إذ كان على اتصال مباشر مع رئيس الوزراء والوزراء في معظم سنوات الفترة فيما بين الحربين. وفي عشرينيات القرن العشرين انطبعت أفكاره المطورة عن السياسات الاقتصادية على الفكر الرسمي من خلال الاجتماعات الشهرية لنادي الثلاثاء، وهو ناد لتناول الطعام للمصرفيين وموظفي الخزانة والاقتصاديين والصحفيين الاقتصاديين، أنشأه سمسار الأوراق المالية أوزوالد فولك عام 1917، وفي الثلاثينيات سعى كينز للتأثير في السياسة من خلال عضويته في المجلس الاستشاري الاقتصادي التابع لرئيس الوزراء.
في عشرينيات القرن العشرين كان أوزوالد فولك شريك كينز الأول في استثماراته. وبدأ كلاهما المضاربة على العملات بمجرد انتهاء الحرب، واستمرت مضاربتهما في السلع. وبالرغم من تعرض كينز لثلاث أزمات كبيرة - في عام 1920، وفي عامي 1928 و1929، وفي عامي 1937 و1938 - فقد تمكن من زيادة قيمة صافي أصوله من 16315 جنيها استرلينيا في عام 1919 إلى 411238 جنيها استرلينيا - وهو ما يساوي 10 ملايين جنيه استرليني اليوم - قبل وفاته. وخلال سنوات ما بين الحربين، تغيرت فلسفته الاستثمارية من المضاربة على العملات والسلع إلى الاستثمار في أسهم الشركات الممتازة مع تغير نظريته الاقتصادية. وكان فشل نظريته الاستثمارية التي تقوم على فكرة «دورة الائتمان» في إدرار أرباح عليه سببا في تحوله إلى نظرية «الغرائز الحيوانية» في السلوك الاستثماري في كتابه «النظرية العامة»، وإلى فلسفة استثمارية شخصية تقوم على فكرة «الإخلاص». (فمن أجل التغلب على تقلبات الاستثمار ، طالب كينز باعتبار العلاقة بين المستثمر وأسهمه مثل العلاقة بين الزوج وزوجته.) وكانت الصحافة كذلك مصدرا كبيرا لكسب الأموال، وخاصة في أوائل العشرينيات. وربح من ثلاث ضربات استثمارية موفقة بين عامي 1921 و1922، بجانب مكاسبه من الصحافة، ما يعادل 100 ألف جنيه استرليني في يومنا هذا. ومكنه نجاحه في جمع الأموال من تمويل أنشطته كمحب لجمع الصور والكتب النادرة، مسترجعا فكرته المثالية في شبابه عن الحياة الطيبة.
كانت أكبر علامة على إعادة تنظيم حياته هي زواجه؛ فقد قابل راقصة الباليه ليديا لوبوكوفا في أكتوبر عام 1918 عندما عادت عروض دياجاليف للباليه إلى لندن، وبدأ في التودد إليها في نهاية عام 1921، عندما رقصت في رائعة تشايكوفسكي «الجمال النائم»، التي قدمها دياجاليف ولم تنجح تجاريا على مسرح ألهامبرا. كانت ليديا - بضآلة جسمها وتألقها، وأنفها الأقنى، ورأسها الذي ذكر فيرجينيا وولف ببيضة طائر الزقزاق - فنانة متميزة بذاتها، تتمتع بحس فكاهي خليع، وعبقرية في صياغة الأفكار باللغة الإنجليزية (فقد تحدثت ذات مرة عن «تحريض المسيح للماء كي تتحول إلى نبيذ في قرية قانا»)، وبديهة قوية واثقة تعبر عنها بشكل مباشر. افتتن كينز بها، وتزوجا في 4 أغسطس 1925. ولم يكن من الممكن إلا لامرأة أجنبية آتية من خارج البيئة الاجتماعية لكينز أن تأسر قلب رجل اتجهت عواطفه أساسا للرجال من أبناء جنسه. ورغم تحذيرات ومخاوف مجموعة بلومزبيري، أثبتت ليديا أنها زوجة مثالية له؛ فقد أدخلت على حياته الاستقرار العاطفي الذي كان ينقصه لسنوات عديدة، وهو ما وفر الخلفية الضرورية لاستمرار جهده الفكري. وفي عام 1925 استأجر مزرعة تيلتون، وهي مزرعة في شرق ساسيكس بالقرب من تشارلستون. وكان يقضي فيها مع ليديا عطلاتهما، وكان الأصدقاء والأقارب يأتون إليهما، وفي مبنى رطب بعض الشيء ملحق بالمنزل الرئيسي كتب كينز الجزء الأكبر من عمليه النظريين الكبيرين «بحث في النقود» و«النظرية العامة».
كان كينز مشغولا طوال الوقت. ففي سنوات ما بين الحربين تشتت جهده على أنشطة متنوعة في اتجاهات مختلفة. وعرفه معاصروه بأنه رجل يحمل دائما حقيبة مليئة بالأوراق ، يهرول من مكان لمكان ومن اجتماع لآخر. وكانت تلك الأنشطة المتنوعة هي ما أثرت فكره، وهيأته للكتابة وصرفته عنها في نفس الوقت. وكان فشله في كتابة عمل نظري كبير حتى عام 1930 - حينما شارف على عامه الخمسين - هو الثمن الذي دفعه. لكن ربما كان ذلك من الأفضل لشخص مثله في عشرينيات القرن العشرين أن يبقى مرنا فكريا، ولا يلتزم على نحو كبير بنظرية اقتصادية معينة؛ فقد كانت النظريات الاقتصادية في حالة سيولة. وتطلب الأمر تعرض النظام الرأسمالي لصدمات ما بين الحربين؛ لكي تتبلور المآخذ على التصورات القديمة عن السلوك الاقتصادي. كما أسفر تنامي شهرة كينز وانشغاله بالشئون العامة عن ضيق دائرة صداقاته ونوعياتها. وفيما سوى زواجه تضاءلت مساحة «اللحظات الشخصية». وكان ل «جودة الأداء» الأولوية على «جودة الحياة الشخصية». لكنه لم يتخل قط عن مثل شبابه؛ فرغم أنه كان منشغلا دائما، فقد أعطت السرعة والكفاءة، اللتان كان يؤدي بهما عمله، إيحاء بتميزه بالهدوء وعدم العجلة.
كان الدافع وراء جهود كينز النظرية والعملية في الفترة بين الحربين هو خوفه من المستقبل. وتوارت أفكار الحرية الاقتصادية والجنسية فيما قبل الحرب - التي ساعد على ظهورها التطلع إلى التطور «التلقائي» - أمام الإحساس بهشاشة الحضارة الرأسمالية. وتعزز ذلك الإحساس من خلال الكوارث التي وقعت فيما بين الحربين، خاصة فترة الكساد الكبير في عامي 1929 و1933 ونجاح هتلر في ألمانيا. وحل محل الإيمان باستقرار نظام السوق ومرونته اعتبار حقبة «الحرية الاقتصادية» في القرن التاسع عشر أنها حقبة استثنائية في التاريخ الاقتصادي اعتمدت على ظروف خاصة لم تعد قائمة، وأنه رغم التقدم التقني فإن الإنسانية كانت تعيش في خطر الانتكاس من حالة الرخاء والتحضر التي وصلت إليها في العصر الفيكتوري. ومن طرق تفسير هواجس كينز هذه أنها رد فعل متأخر للخوف الذي ساد القرن التاسع عشر من الحياة دون الرب. وفي عام 1925 - بعد زيارته للاتحاد السوفييتي - كتب كينز أن «الرأسمالية الحديثة ملحدة تماما ... وعلى مثل هذا النظام ألا يكون ناجحا وحسب، بل ناجحا جدا كي يصمد.» وكانت هذه هي الخلفية الروحية والنفسية للفكر الكينزي.
وفي السنوات اللاحقة للحرب ركز كينز على شيئين: الفوضى المالية الدولية التي خلفتها الحرب وزادها إبرام معاهدة فرساي للسلام سوءا، وانهيار عوامل التوازن التجاري بين أوروبا والعالم الجديد. وفي ضوء معدلات الإنتاج القائمة، كان على الأوروبيين أن يقبلوا بمستوى معيشة أدنى مما كان قبل الحرب؛ إذ إن صادرات المنتجات الصناعية لم تعد تسمح إلا باستيراد كميات أقل من المواد الغذائية والمواد الخام من الخارج من ذي قبل. ويمكن تتبع هذه المخاوف في إسهامات كينز في ملاحق إعادة البناء بجريدة «مانشستر جارديان كوميرشال»، التي حرر كينز أعدادها الاثني عشر في 1922 و1923. ولم تحظ صبغة «المالتوسية الجديدة» في فكر كينز بالانتباه الكافي؛ فقد كانت في قلب حجته الخاصة بانخفاض قيمة العملات الأوروبية الرئيسية أمام الدولار.
ورغم استقالته من وزارة الخزانة، والاستنكار الذي أثاره كتابه «الآثار الاقتصادية للسلام» في بعض «الأوساط الرسمية»؛ لعب كينز دورا لا يمكن تجاهله أبدا في إصلاح ما أفسده صناع السلام؛ فقد شارك بشكل مباشر في خطة الخزانة البريطانية لحل مشكلة التعويضات الألمانية في نهاية عام 1922، ومن خلال صداقته مع المصرفي الألماني المولود في هامبورج، كارل ملكيور، عمل كمستشار غير رسمي للحكومة الألمانية في عامي 1922 و1923، وهو دور مثير للجدل ما زال محل بحث.
لم يكن كينز قبل عام 1923 مهتما بوجه خاص بمشكلات بريطانيا، التي بدت له تافهة مقارنة بمشكلات دول أوروبا القارية. لكن ظهور مشكلة انتشار البطالة واستمرارها لفترة طويلة جذب انتباهه لهذه السمة المميزة للوضع البريطاني. وأرجع كينز جل مشكلة البطالة غير الطبيعية في بريطانيا خلال العقد الثاني من القرن العشرين إلى سوء الإدارة النقدية؛ فقد أدى عدم الرفع السريع لسعر الفائدة البنكية أو عدم رفعه بالقدر الكافي إلى خروج مشكلة الازدهار التضخمي في عامي 1919 و1920 عن السيطرة، وأدى أيضا خلال الفترة اللاحقة التي انخفضت فيها الأسعار والناتج ومعدلات الإنتاج ونسبة التوظيف إلى تعميق مشكلة الكساد بشدة عن ذي قبل. ذكر كينز أن الهدف من المرحلة الثانية من السياسة الاقتصادية ليس فقط هو الرغبة في تقليل التضخم فيما بعد الحرب (وهو الأمر الذي كان يريده أيضا)، وإنما أيضا في خفض مستويات الأسعار بشكل كاف؛ ليعود الجنيه الاسترليني على معيار الذهب إلى سعر صرفه أمام الدولار قبل الحرب، عندما كان الجنيه الاسترليني يساوي 4,86 دولارات. وتوقع كينز، مثل كل الاقتصاديين، أن تستعيد نسب التوظيف البريطانية معدلاتها «الطبيعية» (طبقا لمقاييس ما قبل الحرب) عندما «استقرت» الأسعار في عام 1922. لكن نسبة البطالة لم تقل، وظلت أعلى من 10٪. وكان عدم القدرة على خفض البطالة عن تلك النسبة حتى نهاية عشرينيات القرن العشرين، هو ما نبه كينز لاحتمال أن تصبح تبعات حالة الانكماش القاسية فيما يتعلق بالتوظيف أكبر من أن تكون «مؤقتة» في ظل سقوط الاقتصاد في فخ انخفاض نسبة التوظيف. وأصبح تفسير كيفية إحداث «التوازن في حالة نقص التوظيف» هذا هو الهدف الأساسي من كتاباته النظرية.
كان كتاب كينز «بحث في الإصلاح النقدي» (1923) محاولة من كينز لوضع ما يسمى الآن «نظاما» نقديا من شأنه أن يتيح ثباتا معقولا في النشاط الاقتصادي. رفض كينز معيار الذهب ولم يعتبره النظام النقدي المناسب. فلم يضمن شرط قابلية استبدال العملة المحلية بالذهب بسعر ثابت رسمي ثبات مستويات الأسعار المحلية، وهو ما اعتبره كينز ضروريا لاستقرار التوقعات الاقتصادية؛ لأن قيمة الذهب ذاتها كانت عرضة للتذبذب بوصفه سلعة عرضة لأن تكون نادرة أو متوفرة. كذلك فإنه مع وضع التوزيع الفعلي والمحتمل لاحتياطيات الذهب العالمية في الاعتبار، فإن العودة إلى معيار الذهب سيعني تسليم سيطرة بريطانيا على مستويات الأسعار لديها لمجلس الاحتياطي الفيدرالي في واشنطن. ويجب أن تظل لدى بريطانيا حرية التصرف في تحديد سعر الصرف حسب احتياجات اقتصادها المحلي. وقال كينز إن نظام السيطرة النقدية المحلية هذا سيتماشى مع استقرار سعر الصرف على المدى القصير. لكن استقرار سعر الصرف هو نتيجة استقرار الأسعار المحلية، وليس هدفا مستقلا للسياسة الاقتصادية.
وضع كتاب «بحث في الإصلاح النقدي» كينز في موقع الخصم الفكري الأول للسياسة «الرسمية»، التي تتضمن إعادة الجنيه الاسترليني لمعيار الذهب عند سعر صرفه أمام الدولار قبل الحرب. لكن مطالبته بوجود «إدارة» نقدية لم تلق ترحيبا كبيرا. وأعاد ونستون تشرشل، وزير الخزانة، الجنيه الاسترليني إلى معيار الذهب عند سعر 4,86 دولارات في 20 أبريل 1925. فهاجم كينز القرار فورا في كتيب مهم سماه «الآثار الاقتصادية لقرار السيد تشرشل». وقال فيه إن إعادة تقييم الجنيه الاسترليني تتطلب تقليص تكاليف الأجور في بريطانيا بنسبة 10٪، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا من خلال «زيادة نسبة البطالة دون حدود». وكانت الفكرة الضمنية لما قاله هي أن تكلفة التوظيف هي المؤثر الرئيسي في مستوى الأسعار، وفي ظل مفاوضات الأجور التي تقودها الاتحادات العمالية في العصر الحديث، فإن تقليل كمية النقود أدى بشكل مباشر إلى تقليل نسبة التوظيف. وتوقع كينز أن تنكمش السياسة النقدية الفعلية بسبب محاولة استعادة التوازن بهذه الطريقة. فأسعار الفائدة ستظل مرتفعة على نحو كاف لجذب رءوس الأموال الأجنبية للندن، لكنها لن ترفع أكثر للتغلب على معارضة الاتحادات العمالية لتقليل الأجور النقدية للعمال. وستكون النتيجة اقتصادا منخفض نسبة التوظيف. وهو ما حدث بالفعل. وعلى الرغم من إنهاء الإضراب العام عام 1926، فلم يسع أصحاب الأعمال لتقليل الأجور النقدية التي ظلت ثابتة حتى نهاية العشرينيات، مع أن مستويات الأسعار انخفضت. كان كينز أول من أدرك وأعلن بوضوح بأن العملة المبالغ في سعر صرفها هي عملة ضعيفة وليست قوية.
أسفرت الأحداث المحيطة بالإضراب العام عن تحول ولاء كينز السياسي من أسكويث إلى لويد جورج، كما زاد تعاطفه مع حزب العمال. وفيما بين عامي 1926 و1929، لعب كينز دورا ملحوظا في صياغة سياسة حزب لويد جورج الليبرالي؛ فقد استعان لويد بكينز لإعداد برنامج اقتصادي يؤمن لليبراليين على الأقل حصة في السلطة، ورأى كينز في لويد جورج وسيلة واعدة ل «محاربة البطالة». ومثل اشتراك كينز في الاستقصاء الصناعي للحزب الليبرالي في عامي 1927 و1928 ذروة اشتغاله بالسياسة. وكانت كذلك مرحلة من حياته تأمل فيها بعمق المشكلات الهيكلية للصناعة البريطانية. ونتيجة لتلك المرحلة تبلورت فلسفته السياسية التي تعتمد على فكرة الطريق الوسط، وظهرت لأول مرة في عمله «نهاية مبدأ الحرية الاقتصادية» (1926).
قضى كينز المدة فيما بين عامي 1925 و1928 بشكل جزئي في تأليف كتابه «بحث في النقود»، الذي بدأ في صورة تطوير لأفكاره في كتاب «بحث في الإصلاح النقدي». وكان رفيقه الفكري الأساسي في ذلك الوقت هو دينيس روبرتسون، زميله في كلية ترينيتي، وهو رجل متقاعد لكنه مجادل عنيد. لم يكن لكينز أي تلامذة في منتصف عشرينيات القرن العشرين، وذكر كيرت سينجر أن كينز كان «شخصية وحيدة متمردة مثيرة للشفقة ومولعة بالسيطرة، لكنه لم يمتلك بعد ما يمكنه من قيادة الآخرين.» لكن كان هناك جيل أصغر من الذين شاركوا في صناعة الثورة الكينزية يمد جذوره في جامعة كامبريدج، مثل المهاجر الإيطالي بيرو سرافا، وجون، وأوستن روبنسون، وقبلهم جميعا ريتشارد كان، الذي وصفه كينز بأنه «تلميذه المفضل». وكان أحد تلاميذ كينز - إتش إم روبرتسون - يرى أنه «أشبه بسمسار أوراق مالية أكثر منه أستاذا جامعيا»، ببذلاته ونميمته اللندنية.
كان كتاب «بحث في النقود» - الذي نشر عام 1930 - خير مثال على شغف كينز بالتعميم؛ فقد بنى كينز بالأساس منظومة مفاهيم معقدة جدا؛ ليبين كيف يمكن لاقتصاد قائم على معيار الذهب - تحت ظروف معينة - أن يسقط في فخ انخفاض نسبة التوظيف. فإذا منعت المؤسسة النقدية من خفض سعر الفائدة الطويل الأجل لمستوى يتماشى مع توقعات المستثمرين، وإذا منعت تكاليف الإنتاج المحلية تحقيق فائض تصديري يساوي ما يرغب الناس في إقراضه بالخارج، فستكون النتيجة هي الإفراط في الادخار على حساب الاستثمار، وانخفاض سعر صرف العملة، وجمود الاقتصاد. وكان هذا مصير بريطانيا في عشرينيات القرن العشرين. ونادى الفكر الثوري - الذي ظهر بوضوح أكثر في كتاب كينز «النظرية العامة» - بأنه ليس هناك آلية تلقائية في أي نظام اقتصادي حديث للموازنة بين معدلي الادخار والاستثمار المستهدفين. وكما لاحظ «هايك» وحده، كان معنى هذا أنه لا توجد آلية تلقائية في النظام الاقتصادي لضبط إجمالي الطلب مع إجمالي العرض. وكانت فكرة عدم التناسب بين المدخرات المحلية والاستثمارات المحلية أو الأجنبية هي ما وفر لكينز أساس برنامج لتمويل المشروعات العامة بالقروض لزيادة نسب التوظيف في ظل قيود نظام معيار الذهب.
وكان أهم ما ميز إقرار كينز في أبريل عام 1929 بسياسة لويد جورج لتمويل المشروعات العامة بالقروض في عمله «هل يمكن للويد جورج أن ينجح؟» - الذي كتبه بالاشتراك مع هوبرت هيندرسون - هو زعمه أن الإنفاق على المشروعات العامة سيسفر عن موجة رخاء «تراكمية». وسنحت له فرصة التأثير في سياسة حكومة رامزي ماكدونالد العمالية الثانية، لما عين في لجنة ماكميلان التي تشكلت في نوفمبر 1929، وكذلك في المجلس الاستشاري الاقتصادي للحكومة الذي أنشئ في يناير 1930. وكان عرضه الذي استغرق تسعة أيام لنظرية عمله «بحث في النقود» وللحلول المقترحة لمشكلة البطالة أمام لجنة ماكميلان في مارس 1930؛ بمنزلة البداية الحقيقية للثورة الكينزية في السياسة الاقتصادية. لكن اقتراحاته بخصوص المشروعات العامة والحماية لم تلق قبولا في ذلك الوقت؛ فقد أدى انهيار الاقتصاد العالمي وفقدان الثقة في مجال الأعمال إلى دعم الفكر المحافظ. وأدت الضغوط في سبيل خفض النفقات في مجال التمويل العام إلى استبدال حكومة ائتلافية بالحكومة العمالية في 25 أغسطس 1931. وفي 21 سبتمبر أدى الانهيار المالي في دول وسط أوروبا مع تفاقم عجز الحساب الجاري في بريطانيا إلى إنهاء الارتباط بين الجنيه الاسترليني ومعيار الذهب. وفي ذلك الخريف بدأ كينز تأليف كتاب نظري جديد للتأكيد على دور التغيرات في الناتج في التكيف مع وضع توازن جديد.
ورغم أن كينز لم يكتب إلا كتيبا واحدا عن السياسة الاقتصادية، وهو «الطريق إلى الرخاء» في عام 1933، فإنه لم يقض معظم «وقت فراغه» فيما بين عامي 1931 و1935 في تقديم المشورة للحكومات، بل في تأليف كتابه «النظرية العامة» الذي نشر في فبراير 1936. كما نشر له كتابان عبارة عن مقالات مجمعة؛ وهما: «مقالات في الإقناع» (1931)، و«مقالات في السيرة الذاتية» (1933). وضم الأول ما أطلق عليه كينز في مقدمته «نبوءات اثني عشر عاما؛ نبوءات العرافة كاساندرا التي لا يصدقها أحد ولا يمكنها أبدا أن تؤثر على مسار الأحداث الجارية». وكان من أهم خصائص الكتاب الثاني هو استغلال كينز لحياة العلماء القصيرة ليتأمل ويرسم صورة للعبقرية العلمية.
وفي المدة ما بين عامي 1931 و1932، اشتغل كينز بكتابة مراسلات متقطعة لكنها قوية عن بعض النقاط في نظريات هوتري وروبرتسون وهايك. كما ساعده أيضا مجموعة من الاقتصاديين الشباب الذين سموا أنفسهم «سيرك كامبريدج» الذي قدم أبرزهم له، وهو ريتشارد كان، نظرية «المضاعف». ولم يكن عمله «الطريق إلى الرخاء» هو العلامة الوحيدة على تقدمه في كتابة عمله الأساسي، بل كانت هناك أيضا مسودات لفصول الكتاب وأجزاء من محاضرات ومجموعة كاملة من الملاحظات التي دونها تلاميذ كينز في محاضراته من عام 1932 حتى عام 1935. وتحدث أحد تلامذته هؤلاء - وهو إيه سي جيلبين - عن الجو العام في جامعة كامبريدج عام 1933 في خطاب إلى والديه قائلا:
يبدو أن محاضرات علم الاقتصاد هذا العام بشكل أساسي عبارة عن توضيحات أو تفنيدات للنظريات التي درسناها العام الماضي؛ فمارشال يهاجمه شوف، وبيجو يهاجمه كينز، وروبرتسون يختلف مع كينز ويترك للحضور أن يقرروا من على صواب، وتحاول السيدة جون روبنسون - وهي سيدة حادة - أن تشرح لنا سبب اختلافهم. الأمر شائق لكنه مربك.
وفي المرحلة الأخيرة الخاصة بالبراهين في صيف عام 1935 قدم روي هارود لكينز بعض الاقتراحات الهامة.
لم يكن كينز يقضي وقته في عمل شيء واحد. فبالإضافة إلى انشغاله بتأليف كتابه الأساسي، فقد قضى معظم وقته في عامي 1934 و1935 في التخطيط والإشراف على بناء مسرح كامبريدج للفنون؛ تحقيقا لحلمه فيما قبل الحرب بإثراء كامبريدج بمركز دائم للفنون المسرحية. أصبح كينز، بوصفه أمين صندوق كلية كينجز كوليدج وبصفته «مالك ضيعة في تيلتون»، أكثر انشغالا بأعمال الفلاحة. وانعكست تلك الأعمال في مقالين كتبهما عام 1933 للإشادة ب «الاكتفاء الذاتي الوطني»، وهما اللذان حملا في طياتهما هجوما أخلاقيا على التقسيم الدولي للعمل، بحجة أن «معظم عمليات الإنتاج الواسع النطاق الحديثة يمكن إجراؤها في معظم الدول والظروف المناخية بنفس الكفاءة تقريبا.» زار كينز الولايات المتحدة مرتين عامي 1931 و1934. وفي زيارته الثانية قابل روزفلت وأغلب الذين وضعوا «الصفقة الجديدة» بجانب عدد ممن انتقدوها. واستخف كثيرون بتأثير حضور كينز وكتاباته في المرحلة الأولى من تنفيذ «الصفقة الجديدة».
لقد غير كتاب كينز «النظرية العامة» طريقة فهم معظم الاقتصاديين لآليات عمل الاقتصاد. وفي هذا السياق كان الكتاب ثوريا بشكل مباشر وناجحا. كما كان للكتاب تأثير جذري في السياسات الاقتصادية. لم يكن التأثير آنيا، لكن في أعقاب الحرب العالمية الثانية التزمت الحكومات الغربية بشكل صريح أو غير صريح بالحفاظ على معدلات توظيف عالية. وكان الكتاب في حد ذاته رحلة استكشاف عميقة لمنطق السلوك الاقتصادي في ظل عدم اليقين المقترن بنموذج قصير المدى لتحديد الدخل؛ حيث ركز على ضبط كمية النقود لا أسعار صرفها. وكانت العلاقة الفضفاضة بين هذين العاملين سببا لمعظم الخلاف الذي حدث لاحقا حول «المعنى الحقيقي» للكتاب بين من سماهم آلان كودنجتون الكينزيين «الأصوليين» والكينزيين «المتساهلين»؛ فقد كان نموذج تحديد الدخل القائم على المضاعف، بجانب التطور اللاحق في إحصائيات الدخل الوطني، هو ما جعل الاقتصاد الكينزي مقبولا لدى صناع السياسات؛ إذ إنه وفر لهم طريقة آمنة في ظاهرها للتنبؤ والسيطرة على سير متغيرات «حقيقية» مثل الاستثمار والاستهلاك والتوظيف.
جاءت محاولة كينز الأولى لتطبيق نظريته المعروضة في عمله «النظرية العامة» على السياسة الاقتصادية في ثلاثة مقالات كتبها لصحيفة «ذا تايمز» في يناير 1937 حول كيفية تجنب الكساد، وهي عبارة عن تقييم حذر لاحتمال تقليل البطالة إلى أدنى من مستواها في ذلك الوقت البالغ 12٪ من خلال إيجاد «إجمالي طلب أعلى» في الاقتصاد. لم يتمتع كينز بصحة جيدة قط. ففي مايو عام 1937؛ أي وهو في الثالثة والخمسين من عمره، عانى من جلطة في الشريان التاجي، ولم يتعاف منها إلا ببطء. ولما قامت الحرب في 3 سبتمبر 1939 كان يانوس بليش، وهو طبيب مجري، قد أعاد لكينز شيئا من حيويته السابقة.
وفي أعقاب نشر كتابه «النظرية العامة»، أصبح لكينز أكبر تأثير في السياسة الاقتصادية البريطانية. وقد حقق ذلك بفضل قدراته العقلية وشخصيته، لا بفضل منصبه السياسي. ورغم تلقيه عروضا كثيرة للترشح للبرلمان، فإنه لم يترشح. وفي يونيو 1940 أصبح عضوا في لجنة استشارية شكلت لتقدم نصائح لوزير الخزانة بخصوص مشكلات الحرب، وعين في أغسطس في وزارة الخزانة، وعمل سكرتيرا بدوام جزئي. ولم تكن لديه «واجبات روتينية ولا ساعات عمل محددة ... بل كان عمله عبارة عن مفوض متنقل بجانب عضويته في لجان عليا عديدة، وهو ما سمح له بالدخول في أي مكان ليقول ما يريد.» واستغل كينز وضعه الاستثنائي للتدخل، بشكل حاسم غالبا، في كل ما يقع في نطاق العمل الاقتصادي، كبيرا كان أم صغيرا. فأصبح أكثر الموظفين الحكوميين نفوذا في تاريخ الحكومة البريطانية؛ ولم يكن «موظفا لدى رؤسائه بقدر ما كان سيدا عليهم.» وكان من الممكن أن يتيح دخوله في طبقة النبلاء عام 1942 بحمل لقب بارون تيلتون الفرصة أمامه لدخول الحكومة، لكن ذلك لم يطرح قط؛ ربما لأنه كان أكثر نفعا في موقعه. لكن ذلك مكنه من تمثيل الحكومة في بعثات عديدة للولايات المتحدة؛ حيث كان قد ترأس في آخرها (بالاشتراك مع اللورد هاليفاكس) الوفد البريطاني لواشنطن في سبتمبر 1945 للتفاوض بشأن الحصول على قرض أمريكي.
كانت أهم الخدمات التي قدمها كينز في الفترة الأخيرة من حياته هي المساعدة في وضع أسس محلية ودولية للرأسمالية المحسنة التي أشارت إليها نظريته. وهناك ثلاثة من إسهاماته في إدارة الشئون الاقتصادية فيما بعد الحرب تستحق الوقوف عندها.
ظهرت أولى تلك الإسهامات في سياق التمويل وقت الحرب. كان من بين التبعات المحتملة للنظرية الكينزية أن ميزانية الحكومة ينبغي أن تستخدم لموازنة حسابات الأمة، لا الحكومة فقط، لضمان تساوي إجمالي العرض والطلب في ظل وضع التوظيف الكامل. لم تكن المشكلة في وقت الحرب تحقيق نسب التوظيف الكامل - التي تحققت عام 1940 - لكن في منع التضخم، الذي يرتفع فيه إجمالي الطلب عن إجمالي العرض. وكانت المهمة المحددة للتمويل وقت الحرب هي التأكد من أن الحكومة كانت السبب في الزيادة في الطلب الناتجة عن التوظيف الكامل، لا المستهلك الفردي. وفي ثلاثة مقالات منشورة في صحيفة «ذا تايمز» في أكتوبر 1939، وأعيد نشرها في صورة كتيب بعنوان «كيف تمول الحرب؟» قدم كينز مشروعا للادخار القسري أو «الدفع المؤجل»؛ حيث يتلاشى فائض القوة الشرائية أمام الضريبة الإضافية التصاعدية على جميع الدخول (مع تقديم تعويضات للفقراء في صورة إعانات أسرية)، ويعاد جزء منها في صورة أقساط بعد الحرب لمواجهة الكساد المتوقع حدوثه. ورغم أن هذا المشروع لم يتم تبنيه إلا جزئيا، فقد أصبح مذهب كينز التحليلي بجانب تقديرات الدخل القومي التي استخدمها لحساب حجم «الفجوة التضخمية» هما الأساس لخطط الميزانية طوال فترة الحرب، بدءا من ميزانية كينجسلي وود عام 1941. لكن أهمية النظام تتجاوز ذلك. ففي 1939 شك كينز في توافر إرادة «الديمقراطية الرأسمالية» لعمل «التجربة الكبرى» التي ستثبت نظريته. وأجريت التجربة وقت الحرب وثبتت صحة النظرية. فكان الاقتصاد يعمل بكامل طاقته ولم يكن هناك تضخم إلا بقدر قليل. وما يمكن تطبيقه وقت الحرب أمكن تطبيقه وقت السلام، أو كان هذا ما يبدو على الأقل.
كان ثاني إسهامات كينز الكبرى لنظام ما بعد الحرب هو اشتراكه في تأسيس نظام بريتون وودز. وكان هذا بقية عمل لم ينته خلفه انهيار النظام القديم. لم يكن كينز مؤيدا لتعويم العملة حتى في عمله «بحث في الإصلاح النقدي»؛ فقد أراد نظاما «مدارا» لسعر الصرف يتماشى مع الاستقرار «الفعلي» في أسعار الصرف لفترات طويلة.
وسمحت خطة كينز المشهورة، الخاصة بإنشاء «اتحاد المقاصة الدولي»، في عام 1942 بالربط بين العملة المحلية وأصل احتياطي جديد سماه «بانكور». وتحتفظ الدول التي لديها فائض بأرصدة من عملة بانكور في بنك اتحاد المقاصة الدولي، وتتاح للدول التي لديها عجز تسهيلات ائتمانية على المكشوف بحيث لا تتجاوز إجمالي الفائض. وضعت الخطة لتشجيع الدول على عدم تراكم فوائض ميزان المدفوعات لديها على نحو مستمر. ومع تبني الدول لتلك الخطة يمكن للدول المدينة تلقائيا السحب من أرصدة الدول المدينة من عملة بانكور. ومع أن تلك فكرة انهارت أمام مشروع هاري دكستر وايت البديل لاعتماد معيار صرف ذهب تدعمه آلية تعديل بسيطة (وهي صندوق النقد الدولي)، فقد استمر كينز في السعي للتوصل إلى اتفاقية بريتون وودز وحشد الدعم لها في بريطانيا؛ حيث شارك في جولتي مفاوضات شاقة في واشنطن عامي 1943 و1944. ومن خلال ذلك ، لعب كينز دورا حاسما في نقل بريطانيا (وأوروبا) إلى الجانب الليبرالي من النظام الاقتصادي الدولي فيما بعد الحرب.
أما الإسهام الثالث لكينز فكان التفاوض بخصوص القرض الأمريكي في الفترة بين سبتمبر وديسمبر من عام 1945. قدر كينز آنذاك أن عجز الحساب الجاري البريطاني سيصل مجمله إلى نحو 7 مليارات دولار في السنوات الثلاث الأولى بعد الحرب. وذهب كينز لواشنطن في سبتمبر 1945؛ طلبا لمنحة «غير مشروطة» قيمتها 5 مليارات دولار. وعاد - بعد ثلاثة أشهر مليئة بالنزاعات الشهيرة - بقرض قيمته 3,75 مليارات دولار، بشرط الالتزام بالسماح بتحويل الجنيه الاسترليني للعملات الأخرى بعد عام من تفعيل الاتفاق. وكانت تلك على الأرجح أكثر تجارب حياته إذلالا؛ فقد كان الاستجداء من الولايات المتحدة تجربة مريرة بالنسبة لشخص كان واحدا من المسئولين الكبار في أكبر إمبراطورية في العالم. لكن كينز ابتلع مرارتها، وأقنع حكومة حزب العمل الجديدة هي الأخرى بابتلاعها؛ لأنها - كما قال للورد هاليفاكس - كانت البديل لأساليب «النازيين أو الشيوعيين». كما ألقى خطابا بليغا في مجلس اللوردات البريطاني دفاعا عن الاتفاق.
لم يتعاف كينز تماما من الضغط العصبي الذي سببته مفاوضات القرض. وذهب إلى الولايات المتحدة مرة أخرى، وتحديدا إلى مؤتمر سافانا في مارس 1946، لتدشين صندوق النقد الدولي. وتورط كينز مرة أخرى في شجار مع الأمريكيين حول إدارة الصندوق. وكعادته كانت لديه مسئوليات أخرى. ففي أثناء الحرب أضيف لمسئوليات كينز في وزارة الخزانة واجباته بصفته رئيس مجلس تشجيع الموسيقى والفنون؛ إذ كان قد عين في عام 1945 أول رئيس لمجلس الفنون. وبعد وصوله إلى نيويورك في أعقاب مؤتمر سافانا، رتب كينز لزيارة فريق الباليه الأمريكي لدار الأوبرا الملكية بكوفنت جاردن، الذي قدم عرض «الجمال النائم» في إعادة افتتاح الأوبرا في 20 فبراير 1946، وذهب هو لمشاهدة العرض. وبعد شهرين - في 21 أبريل 1946 - توفي نتيجة تجلط شديد في الشريان التاجي. وأقيم له حفل تأبين في كنيسة ويستمينستر آبي، إلا أنه اختار قبل سنوات رثاءه الخاص عندما كان تلميذا في إيتون؛ حيث اقتبس مقطعا من قصيدة بيرنار ناسك كلوني التي بعنوان «في ازدراء العالم»:
ليس فقط هؤلاء
الذين يسمعون أصداء حديث السماء بوضوح
هم من يستحقون الاحترام؛ فهم مباركون في جميع الأحوال .
لكن هؤلاء الذين يسمعون
بعض الأصداء الضعيفة الصافية وسط غفلة العوام،
ويرون من إبداع الرب في الطبيعة
ما لا يراه الناس، فهم، وإن لم يجدوا
لرؤاهم مكانا، من المباركين،
ولا يستحقون منا الرثاء.
الفصل الثاني
فلسفة الممارسة الاقتصادية لدى كينز
كانت آراء كينز في الاقتصاد - بخلاف النظرية الكينزية في الاقتصاد - تحركها دوافع فلسفية. وتأثرت بنظرته ل «الحياة الجيدة»؛ وتخللتها نظريته في الاحتمال. ترسخت الأسس الفلسفية هذه لدى كينز في سنوات حياته الأولى؛ فقد جاءت الفلسفة قبل الاقتصاد، وجاءت فلسفة الغاية عنده قبل فلسفة الوسيلة.
كانت فلسفة كينز نتاج جيل ملحد؛ فقد رأى كينز ومعاصروه أنهم يستبدلون ب «الخرافات» المسيحية نظاما عقلانيا للأخلاق والسلوك. لكنهم استخدموا أدوات فكرية ورثوها عن الماضي المسيحي (واليوناني)؛ حيث كان هيكل فكرهم ذا طابع ميتافيزيقي.
كانت نظرية كينز المعرفية المعتمدة على الحدس محورية؛ فقد اعتبر الحدس، لا التجربة الحسية، أساس المعرفة، بما فيها المعرفة الأخلاقية، وهو تقليد يرجع إلى أفلاطون. فكان تركيزه على التفكير الحدسي في الاقتصاد، إلى جانب رفضه لعلم الاقتصاد القياسي، مبنيا على أسس فلسفية لا مجرد ميل.
واستمد كينز معتقداته الأخلاقية من كتاب جي إي مور «مبادئ الأخلاق»، الذي نشر عام 1903 وكان ذلك عامه الثاني في الجامعة. وفي عام 1938 قال كينز: «لا أرى أي داع لتجاهل الحدس الأساسي في كتاب «مبادئ الأخلاق».» وهناك ثلاثة أشياء تعلمها من مور تبدو ذات أهمية خاصة. كان أولها استحالة تعريف الخير؛ فقد قال مور إن الخير كلمة تعبر عن صفة بسيطة غير طبيعية، ومعروفة بالبديهة. أما الشيء الثاني؛ فهو أن الحالات الشعورية الجيدة أو السيئة تسبق فعل الخير أو الشر؛ فالقيم تحدد الواجبات. والشيء الثالث هو أن «أثمن الأشياء التي نعرفها أو يمكن أن نتصورها هي حالات شعورية معينة، والتي ربما تنحصر في الإحساس بلذة ممارسة الجنس والاستمتاع بالأشياء الجميلة.» وآمن مور بأن تلك حقيقة بديهية. وأضاف كينز الشاب المتأثر تأثرا شديدا بأفكار مور إلى هذين الشيئين حب المعرفة.
كانت أعمال الخير عند مور هي تلك التي تجلب حالات شعورية جيدة؛ فقد قال مور إن «هذين الشيئين (لذة ممارسة الجنس والاستمتاع بالأشياء الجميلة) والحصول على أكبر قدر ممكن منهما في وقت معين هما المسوغ الوحيد الذي يجعل أي شخص يقوم بأي واجب خاص أو عام، وإنهما أسباب وجود الفضيلة، وهما يمثلان الغاية العقلانية للفعل البشري والمعيار الوحيد للتقدم.»
ورأى كينز الشاب في ذلك مشكلتين؛ أولا: عجز مور - بحسب قول كينز - عن وضع أساس عقلاني لسلوك الإيثار؛ فليس هناك «رابط واضح» بين الخيرية الفردية والعامة، ويعلل كينز ذلك قائلا: «لأن الخيرية الفردية والخيرية العامة تفرضان علي متطلبات لا يمكن الجمع بينها ولا يمكن المفاضلة بينها على ميزان واحد.» ويمكننا القول إن المتطلبات المتعارضة لدى كينز هي متطلبات مجموعة بلومزبيري والحكومة البريطانية.
ثانيا: لأننا «لم تسنح لنا الفرصة قط للمعاينة المباشرة للمشاعر الخيرة للآخرين، فإنه من المستحيل تحديد أنواع الأفعال التي تزيد الخيرية العامة ككل.» ويعد معيار مور لتقييم الفعل العام أدنى مرتبة من معيار بنثام؛ إذ إنه من المستحيل باستخدام هذا المعيار معرفة هل كان التقدم الأخلاقي يحدث أم لا. وبالأخص، لا تعتمد الحالات الشعورية الجيدة للناس بأي نحو مباشر على صلاح أمر العالم.
بنى مور جسرا للإصلاح الاجتماعي بأفكاره عن الوحدة العضوية. وكان الهدف الرئيسي من مبدئه، كما وصفه كينز، هو الحد من محاولات تحديد الخيرية بالرجوع فقط لحالات شعورية منفصلة. بل ينبغي عند الحكم على خيرية وضع معين الرجوع إلى الزمن وعناصر التجربة. وحلل كينز «الكليات المركبة» لمور إلى حالات عقلية خيرة في جوهرها، وإلى أشياء اعتبرها «مناسبة» أو «مرغوبة». ولا تحتاج تلك الأشياء لأن تحمل قيمة أخلاقية في ذاتها. لكن قيمة التجربة دونها أقل من قيمتها في وجودها. ويمكن للمصلح الاجتماعي الادعاء بأنه بتحسين جودة عناصر التجربة تزيد الخيرية الأخلاقية في العالم. ويرى مور أن الخيرية تزداد، مع ثبات العوامل الأخرى، بزيادة مقدار الجمال. وقد تصرف كينز تبعا لهذا الاعتقاد بوصفه محبا لخير البشرية، ومؤسسا لمسرح كامبريدج للفنون، وكونه أول رئيس لمجلس الفنون. وفي ذروة الكساد، أشار كذلك إلى أنه إذا وضع برنامجا للاستثمار العام مستوحى من مبادئ مور، فإنه سيسعى لتزويد مدن بريطانيا «بكل أدوات الفن والحضارة» وجعلها «أعظم الإنجازات البشرية على مستوى العالم». وقد يود كينز، كأحد تلامذة مور، العمل على رفع مستوى التعليم والرفاهية ما دام أن هذا يحسن مستوى الذكاء ويزيد الوعي والجمال لدى الأمة.
لكن تظهر المشكلة مع ما صنفه مور ضمن فئة «الخير المختلط»؛ حيث تعتمد المشاعر الجيدة على وجود نظيرتها السيئة؛ إذ يمكن القول إن مشاعر الشفقة والشجاعة والعدل التي تحمل قيمة أخلاقية إيجابية تعتمد على وجود المعاناة والخطر والظلم. وقد يقلل الإصلاح الاقتصادي من مجمل الخيرية الأخلاقية بقدر ما يخلص العالم من المشاعر السيئة. وربما يعتبر المصلحون الاجتماعيون تلك الاعتبارات تافهة إذا ما قورنت بالمعاناة والاضطهاد اللذين يمكن التخلص منهما. ويبين انتباه كينز لذلك أمانته الفكرية؛ كما يفسر ضعف حماسته تجاه الإصلاح الاجتماعي.
كما ظهرت مشكلة أخرى في مناقشة مور لفكرة الواجب دفعت كينز، بحسب قوله، لقضاء «كل وقت فراغه على مدار سنوات» في دراسة الاحتمال؛ فقد قال مور إننا يجب أن نتصرف بشكل يجلب لنا أكبر قدر ممكن من الخيرية العامة. لكن معرفتنا بنتائج أفعالنا ستكون احتمالية في أحسن الأحوال. وبما أنه من المستحيل معرفة الآثار المحتملة للأفعال الممتدة عبر الزمن إلى المستقبل، فإن أقصى ما يمكننا عمله في معظم الأحوال، حسبما قال مور، هو اتباع القواعد الأخلاقية المفيدة بشكل عام، والتي تمارس على نطاق واسع كما اقترح هيوم من قبل. وكان هذا الاستنتاج غصة في حلق كينز الشاب؛ فقد استرجع عام 1938 قائلا: «قبل نزول وحي السماء، كنا نزعم أننا القاضي الوحيد في قضيتنا.» وأخذ كينز يحاول اكتشاف أساس عقلاني للأحكام الفردية للاحتمال. وقال في مقال قرأه على أعضاء جماعة «رسل كامبريدج» في 23 يناير 1904 إن مور خلط بين معرفة الاحتمالات ومعرفة التكرار النسبي للحدوث؛ فقد كان مور يزعم أننا إن لم نعلم بشكل مؤكد أن أي خير يمكننا عمله في المستقبل القريب لن يفوقه مقدار الضرر الناتج عنه في المستقبل البعيد، فإنه ليس لدينا أساس عقلاني للحكم الفردي. لكن كينز قال إن هذا غير صحيح. فكل ما نحتاجه هو «تلاشي أسباب الاعتقاد» بأن أي خير آني نفعله لن تفسده النتائج بعيدة الأمد. فلم يكن الجهل عائقا أمام الحكم الفردي، بل كان وسيلة لتحييد المجهول. وبتطبيق «مبدأ اللامبالاة» - أي تخصيص احتمالات متساوية لكل البدائل التي تتساوى لدينا الأدلة عنها (بما في ذلك انعدام الأدلة) - يمكننا توسيع نطاق الأحكام الاحتمالية. وعلى نحو أكثر عمومية، كانت المعرفة الاحتمالية نوعا من المعرفة المنطقية، بالنظر إلى «ارتباط الأدلة» بالاستنتاجات؛ فقد ارتبطت بعقلانية الاعتقادات لا بظروف الأحداث. وكان بحث كينز في الاحتمال الذي نشر أخيرا في عام 1921 نابعا من تلك الفكرة الجريئة.
كان السؤال الذي طرحه كينز هو: ما هي مبادئ الاختيار والفعل العقلاني عندما يكون المستقبل مجهولا أو غير مؤكد؟ هذا يعني أن اهتمامه كان بعقلانية الوسيلة لا الغاية، رغم أن الحكم بخيرية الفعل يعتمد على كلتيهما. وزعم كينز أن العقل يمكنه غالبا أن «يقلل» عدم اليقين إلى احتمال؛ حيث يدله الحدس إلى أن بعض النتائج أكثر أو أقل احتمالا للحدوث من غيرها؛ أو كما قال إنه «يدرك» علاقة احتمال بين الدليل (المقدمة) والنتيجة في مسألة ما. ويسمح هذا الإدراك ب «درجة من تصديق» النتيجة. فالمنطق الذي يقترحه هو منطق الاستتباع الجزئي.
اعتبر رأي كينز بأن الاحتمال عبارة عن «تبصر» منطقي هجوما على النظرية السائدة في ذلك الوقت - وهي النظرية التكرارية - التي قالت إن الاحتمال حقيقة من حقائق الطبيعة؛ فإذا كان واحد من كل عشرة مدخنين يموت بالسرطان، فإن احتمال وفاة المدخنين بسبب السرطان هي 10٪. كتب كينز يقول إن المطابقة بين التكرار والاحتمال «هي انحراف شديد عن الاستخدام المعروف للكلمات.» علاوة على ذلك، فإنها تفترض «الافتراض الاستقرائي» الذي لا يمكن اشتقاقه من التكرار.
كانت النقطة التي أراد كينز - قبل كل شيء - أن يثبتها هي أن معرفتنا بالاحتمالات أوسع من معرفتنا بالتكرار. وبنفس المنطق فإن معرفتنا بالاحتمالات جزئيا هي معرفة رقمية؛ أي معرفة النسب. فالحدس المنطقي - عندما يقوم على دليل - لا يمكنه في معظم الأحوال إلا أن يشير إلى أن نتيجة معينة أكثر احتمالا للحدوث من الأخرى دون القدرة على الإشارة إلى نسبة احتمال الحدوث أو عدم الحدوث. فلدينا قدر محدود من التبصر الفردي تجاه طبيعة الكون. وطرح كينز فكرة الاحتمالات المجهولة نتيجة استحالة المقارنة بين الاحتمالات في بعض الأحيان بناء على أوجه مقارنة مختلفة. فعند اتخاذ قرار أخذ مظلة عند الخروج للسير، أي القرائن التي ستدفعنا أكثر لذلك: هل كثرة الغيوم، أم ارتفاع قياس الضغط الجوي في البارومتر؟ وفي تلك الحالة، «سيكون من المنطقي السماح لرغباتنا بتحديد قرارنا وتوفير الوقت الذي سيضيع في النقاش.» مرة أخرى، لا يمكن اعتبار الجهل عائقا أمام الحكم العقلاني.
تتسم نظرية كينز في الاحتمال بالتفاؤل حيال قوة العقل البشري وبالتشاؤم حيال قدرة العقل على كشف أسرار الكون. اقتبس كينز عن لوك قوله: «في الجزء الأكبر من دائرة اهتمامنا، أستطيع القول إن الرب لم يقدم لنا سوى «شفق الاحتمال»، وهو ما يناسب - حسب ما اعتقد - الحالة المتواضعة والبدائية التي أراد أن نكون عليها في هذه الأرض.»
وعند تحديد الشيء العقلاني حتى نفعله، علينا أن ننظر إلى اعتبارين آخرين لا علاقة لهما بالاحتمال؛ وهما، بحسب كينز: «مدى أهمية القضية» و«المخاطرة الأخلاقية». ويقصد كينز بالأولى قدر الدليل الذي يؤيد حكما احتماليا معينا. ولا يغير هذا من الاحتمال، وإنما قد يغير قدر الثقة في حكمنا. ويلعب تفريق كينز بين عقلانية أي حكم نصدره وقدر الثقة التي من المنطقي توافره فيه دورا محوريا في مناقشة الجانب النفسي للاستثمار في كتابه «النظرية العامة». ويشير مبدأ المخاطرة الأخلاقية إلى أنه من المنطقي أكثر استهداف نوع أصغر من الخيرية يزيد احتمال تحققه بدلا من استهداف نوع أكبر من الخيرية يقل احتمال تحققه، وذلك في حالة تساوي احتمال وجود الخير في الحالتين. وعند تساوي العوامل الأخرى، «تؤدي زيادة أهمية القضية وغياب المخاطرة الأخلاقية إلى زيادة الرغبة في القيام بفعل ما.» وتمثل هذه الفكرة الأساس الفلسفي لرفض كينز للتغيير الثوري.
وفي أثناء إعداد بحثه في الاحتمال للنشر، أضاف كينز بعض الأقسام عن الاستقراء والاستدلال الإحصائي. وكتب يقول إن العالم المتعمق في المذهب التجريبي لا يمكنه الاستفادة من الاستقراء دون عدم اتساق؛ إذ إن استخدام المنهج الاستقرائي يتطلب تعيين احتمال مسبق لصحتها. أما الصفحات التي تربو على المائة بقليل عن الاستدلال الإحصائي، فهي رائعة بسبب محاولة كينز قصر نطاق صحة تلك الطريقة على مجموعات الحالات التي يتوافر فيها معدل التكرار الثابت بدلا من المتوسط. وهذا مكمن اعتراضه على إساءة استخدام علم الاقتصاد القياسي. ومما لا شك فيه أن اعتراض كينز الفلسفي على الاستقراء جعل آراءه الاقتصادية تنحرف بشدة عن المذهب التجريبي، رغم مطالبته المستمرة بتحسين جودة البيانات. وبينما قصد اختيار نماذج قادرة على تفسير «حقائق التجربة»، لم تشتق نماذجه من التجربة، بل من التأمل الذاتي. وفي هذا السياق يعد منهجه أقرب لمنهج الاقتصاديين الكلاسيكيين من منهج نقادهم من أتباع الاقتصاد «المؤسسي».
لم ينتشل تلامذة كينز كتابه «بحث في الاحتمال» من غياهب النسيان إلا مؤخرا. ويعد ذلك جزءا من تنامي الوعي بأهمية نظرية كينز المعرفية في فهم نظريته في السلوك الاقتصادي. هناك جدل حول وضع نظريته في الاحتمال. فهل كانت النظرية عبارة عن بنية منظر واقعي كما يزعم رودريك أودونيل، أم أنها عبارة عن «منطق رأي» كما تقول آنا كارابيلي؟ يبدو أن إصرار كينز على أن الاحتمال هو علاقة «موضوعية واقعية» وأن كل المعتقدات المنطقية تعتمد على فرضيات صحيحة يدعم مذهب أودونيل، رغم أن كينز عدل رأيه لاحقا استجابة للنقد الذي وجهه إليه فرانك رامزي. وهناك مسألة أخرى تتعلق بالاتساق المعرفي بين كتاب «بحث في الاحتمال» وكتاب «النظرية العامة»؛ إذ يتساءل أثول فيتزجيبونز عن سبب تحول «شفق الاحتمال» بحلول عام 1936 إلى «ظلام حالك» من عدم اليقين. وتقدم نقطة التحول المتمثلة في الحرب العالمية الأولى الإجابة. لكن في النهاية هل يرى كينز - في كتاب «النظرية العامة» - في السلوك الاستثماري سلوكا عقلانيا أم غير عقلاني؟ هنا يظهر الخلاف الجوهري بين من يرون أن استراتيجية الاستثمار «التقليدي»، التي ذكرها كينز في «النظرية العامة»، هي شكل «باهت» من العقلانية، ومن يقولون إن كينز كان يعتقد أن السلوك الاستثماري غير عقلاني. ربما كان هذا حكما «تقليديا» غير قابل للجدال على الاحتمالات، والذي يحافظ على ثبات معقول للاستثمار مع كون «الغريزة الحيوانية» هي السبب في دورته.
لم تكن تلك المناقشات مجرد اهتمام بالتاريخ؛ فقد كان كينز أول اقتصادي يضع عدم اليقين في قلب المشكلة الاقتصادية، وهو ما أثار قضية نطاق العقلانية ومعناها في علم الاقتصاد. فهل العقلانية ممكنة في عالم يتسم بعدم اليقين؟ وكيف يمكن تحديدها؟ ترتبط المسألة المتعلقة بالسياسة الاقتصادية بالظروف التي ينبغي توفيرها؛ لئلا ترى العناصر الاقتصادية الفاعلة هيكل الاقتصاد يتسم من الأساس بعدم اليقين.
وضعت نظرية كينز في السياسة ضمن الإطار المفاهيمي ذاته لفلسفته الأخلاقية والاقتصادية. وكانت أقرب محاولاته لتقديم عرض منهجي هو المقال الذي كتبه في 100 صفحة خلال دراسته الجامعية عن إدموند بيرك، الذي نجح في الحصول به على الجائزة الجامعية في المقال الإنجليزي عام 1904، وهي نفس السنة التي كتب فيها أول مقالاته عن الاحتمالات. أبدى كينز تعاطفا شديدا مع آراء مؤسس مبادئ التيار المحافظ البريطاني؛ فقد أيد فصل بيرك بين الأخلاق والسياسة، بجانب تفضيله للمصلحة الحالية على المصلحة المستقبلية. لكن كينز انتقد بيرك لجبنه الشديد بوصفه مصلحا ولاستخفافه بادعاءات الحقيقة؛ فقد انتقده بشكل عام لمبالغته في تحميل الافتراضات المنطقية ما لا تحتمل. وقد كانت الآراء التي قدمها في مقاله هذا الذي كتبه خلال الدراسة الجامعية، وكذلك في كتاباته الناضجة لاحقا، سابقة لعصرها.
تكمن «حكمة بيرك السياسية التي لا تضاهى» - طبقا لكينز - في أنه كان أول مفكر على الإطلاق يضع نظرية سياسية تقوم على النفعية بدلا من الحقوق المجردة، رغم أن تلك النفعية «اقترنت» بمبدأ المساواة القائل إن على الحكومات أن تتجنب التمييز المفتعل ضد أفراد أو طبقات معينة. واقتبس كينز عن بيرك، مؤيدا له، قوله: «القضية بالنسبة لي لا تتمثل فيما إذا كنت تمتلك حق إتعاس شعبك أم لا، وإنما إذا كنت ليست لديك الرغبة في إسعاده أم لا.» وأضاف كينز: «ليست هذه الفكرة عميقة تماما، لكن يجب أن نقر، بفضل بيرك، بأنه أول من عبر عنها بوضوح وثبات.» وكان أهم تبعات هذه الفكرة هو احتفاء بيرك بالنفعية بوصفها مبدأ جوهريا في السياسة، وهو ما أيده كينز بالتأكيد. وقد قال كينز في أحد مقالاته في منتصف عشرينيات القرن العشرين: «إنها لكارثة فادحة أن تتبنى حكومة رأسمالية أي مبادئ. بل يجب عليها أن تكون انتهازية بكل معاني الكلمة وتعتمد على المواءمة وعلى التقدير السليم للموقف. وأي حكومة، سواء كانت ملكية أم حكومة أثرياء أو غيرها، إن تبنت أي مبادئ فستسقط في النهاية.» كان لدى كينز في صناعة السياسات ميل صريح، وإن كان غير متطرف، تجاه حرية التصرف في مقابل القواعد الثابتة؛ وذلك لأسباب يمكن استنتاجها بسهولة من إعجابه بأفكار بيرك.
لقد تقبل كينز الرأي الذي أرجع أصله لبيرك، والقائل إن هدف السياسة ليس جلب المشاعر «الخيرة في ذاتها والمنفصلة عما سواها»، وإنما تيسير سعي أعضاء المجتمع نحو الأهداف الأخلاقية، عن طريق ضمان توافر ظروف «الراحة البدنية والرفاهية المادية والحرية الفكرية». وتتفق متطلبات الرفاهية ومتطلبات الخيرية الأخلاقية إلى حد ما. لكن كينز لم يعتبر قط السياسة ملعبا لتحقيق أهداف أخلاقية، ولم يجعل للعواطف السياسية إلا قيمة أخلاقية محدودة.
كما أقر كينز أحد مبادئ بيرك الجوهرية الأخرى؛ وهو أن السعادة أو المنفعة التي ينبغي أن تسعى الحكومات لتعظيمها هي المنفعة قصيرة المدى، لا طويلة المدى. وكان هذا نتيجة لقبوله معيار «المخاطرة الأخلاقية» لكل من مور وبيرك؛ إذ يقول: «طالما رأى بيرك - وكان على صواب - أنه نادرا ما تصح ... التضحية بمنفعة حاضرة من أجل منفعة مستقبلية غير مؤكدة.» وكان مفهوم المخاطرة الأخلاقية أحد المبادئ التي وجهت أعمال كينز السياسية. كما حصنه بنفس القدر من الشيوعية وفكر التضحية الموجود ضمنا في معظم الأفكار الاقتصادية التقليدية.
مع ذلك رأى كينز أن بيرك فسر معيار «المخاطرة الأخلاقية» على نطاق شديد الضيق؛ إذ انتقد بيرك في مقاله عام 1904 «لتفضيله السلام على الحقيقة، ولتردده الشديد في قبول شر حال من أجل تحقيق منفعة مستقبلية، ولإنكاره أن البشر يفعلون الصواب، إلا فيما ندر من الحالات؛ لأنهم يحكمون على أفعالهم بالصواب.» فقد كان تشكك بيرك المعرفي هو ما أجبره للعودة إلى التقاليد. أنكر بيرك قيمة السعي للوصول إلى الحقيقة على أساس أن ذلك ربما يفسد سلام الأمة (أي خير حال) بغير وجود ضمانة لوجود منفعة أكبر. وكان هذا استنتاجا أراد كينز مقاومته. فقد حاج - مستلهما فكر ميل - أنه «مهما كانت التبعات الفورية لحقيقة جديدة، فإن هناك احتمالا قويا أن تلك الحقيقة ستؤدي إلى نتائج أفضل من نتائج الزيف على المدى البعيد.» واتسق هذا مع هجومه على فكرة مور باتباع القواعد المتفق عليها على المستوى العام بدلا من الحكم الفردي. لكنه خلص إلى أن «التحيز الحديث للحقيقة ربما يكون مبنيا على أسس غير كافية إلى حد ما»؛ لذا يمكن اعتبار كتاب كينز «بحث في الاحتمال» ردا على كل من مور وبيرك في هذه المسألة؛ فقد كانت العقلانية مبدأ هاما في فلسفة كينز السياسية. وكانت فكرة السياسة التي توجهها العقلانية تتضمن أفقا مستقبليا متفائلا، وربما ثوريا غير موجود في المذهب الكلاسيكي المحافظ. لقد كان إيمان كينز بقوة العقل وإمكانية تصرف الحكام تبعا لما يمليه عليهم هو ما جعله يسمح بقدر كبير من الحرية للحكام في وضع السياسات الاقتصادية.
يعد تناول كينز لآراء بيرك عن الملكية والديمقراطية في ضوء «قوانينه» السياسية جديرا بالملاحظة الدقيقة؛ فقد دافع بيرك عن حقوق الملكية القائمة على أساس أن إعادة توزيع الثروة لن تحدث أي فارق حقيقي للفقراء؛ إذ إن عددهم يفوق عدد الأغنياء بكثير، بينما في الوقت ذاته «تقلل عدد من يمكنهم الاستمتاع بالمنافع المؤكدة للثروة، وتقلل عدد من يمكنهم أن يجلبوا على الدولة المنافع التي يجلبها دائما وجود الأثرياء.» ورأى كينز أن هذه الفكرة «تحمل أهمية كبيرة بلا شك ... ويجب أن تكون ضمن أقوى الردود على أي خطط تستهدف تحقيق المساواة.» لكن تلك الفكرة لا تصح إن وجهت ضد «أي محاولة للتأثير على قنوات تدفق الثروة» وضد مواجهة الجوع أو الفقر الشديد؛ فلا تصلح مثلا للاعتراض على ضرائب التركات «التي يقصد منها تقليل تكدس الثروة»، ولا للاعتراض على مصادرة الملكيات الإقطاعية في أثناء الثورة الفرنسية. فطالما اهتم بيرك بالدفاع عن «الأسوار الخارجية» لنظام الملكية، لدرجة أنه لم ير أن ذلك ربما يعرض «قلب» النظام نفسه للخطر.
كانت تلك فكرة تقليدية عرضت بشكل تقليدي. لقد أصر كينز في عمله «بحث في الإصلاح النقدي» (1923) على أن الحكومات يجب أن تكون لديها حرية مراجعة العقود بين الأحياء والأموات؛ حيث إن «عواقب العوائد الربوية غير المنقطعة ضخمة جدا.» فبحسب قوله، إن «مؤيدي ثبات عقود الدين هم آباء الثورة»؛ وهذا موقف يحمل طابع بيرك عن جدارة، رغم أن بيرك كان يتجاهله أحيانا.
وسط أزمات ثلاثينيات القرن العشرين، تكون لدى كينز اعتقاد بأنه قد يكون من الضروري القيام ببعض التدخلات بشأن «الأسوار الخارجية» أكبر من التي أشار إليها في عام 1904 للدفاع عن قلب النظام؛ لذا فقد اقترح في «النظرية العامة» تنفيذ «القتل الرحيم في أصحاب الدخول الربوية» من خلال عدم السماح بوجود فوائد ربوية على القروض، كما دافع عن قوانين العصور الوسطى الربوية التي أرست حدا أقصى للفائدة. لكن عندما أوضح له مراسله الفرنسي مارسيل لابوردير أن «استقرار الثروات واستمرار التوريث في العائلات التي تنتمي لطبقات اجتماعية مختلفة هي أحد الأصول الاجتماعية غير المرئية التي تعتمد عليها جميع الثقافات بشكل أو بآخر»؛ رد كينز على الفور بقوله: «أتفق تماما مع ما تقول، وأرجو أن تكون كلماتك كافية لتأكيده بشكل كاف. وكلما كبرت أصبح أكثر اقتناعا بأن ما تقوله صحيح وهام. لكن يجب ألا أسمح لك بتحويلي إلى محافظ متشدد.»
قال كينز إن قضية الديمقراطية تتضمن سؤالين منفصلين؛ أولا: هل للجماهير الحق في إدارة حكومة ذاتية؟ ثانيا: هل من النافع والمفيد أن تكون الحكومة الجيدة حكومة ذاتية؟ كان بيرك قد رد على كلا السؤالين بالنفي القاطع. وأيد كينز بيرك بشدة في إجابة السؤال الأول. فالحكومة ما هي إلا «أحد ابتكارات الحكمة البشرية» من أجل «إشباع حاجات معينة، وهذا آخر القول.» فللناس الحق في حكومة جيدة لا حكومة ذاتية، وهو مبدأ ينطبق بلا نقاش على مكتب الهند. لكن المسألة الأصعب هي ما إذا كانت الحكومة الذاتية شرطا لوجود حكومة جيدة، وكان كينز في هذه النقطة أكثر انفتاحا من بيرك؛ إذ إنه اتفق معه في أن «الناس» غير قادرين على حكم أنفسهم، وأن على البرلمان أن يكون مستعدا دائما لمقاومة التحيز الشعبي تحت اسم المساواة بين الأفراد والطبقات. إلا أنه انتقد حلم بيرك بوجود «طبقة ممثلي الشعب» وقال إنه استخف بالقيمة التربوية للحكومة الذاتية. مع ذلك شك كينز في أن يجرؤ أي «كيان شعبي عقلاني أو غير متحيز» على أن يجري التجربة في ظل المعاناة الموجودة في العالم ما لم يكونوا «تحت تأثير الفكر الخاطئ القائم على الحقوق السياسية الطبيعية.»
لم يظهر في عصر كينز ما يشوب الديمقراطية؛ كان هذا لأن «قوتها الكاملة لم تكن قد دخلت حيز التنفيذ»؛ فالنظام القائم كان نظاما نخبويا تحكمه قلة من الأثرياء، وليس نظاما ديمقراطيا. وكان افتراض كينز استمرار النظام بهذا الحال مع إضافة بعض «الخبرة الفنية» نقطة ضعف في نظريته السياسية.
زاوج كينز في فلسفته السياسية بين عنصرين جوهريين لمذهب بيرك المحافظ؛ وهما: الرضا بوصفه هدفا، وتجنب المخاطرة بوصفها منهج الحكومة؛ وعنصرين جوهريين في إصلاح الليبرالية؛ وهما: الالتزام بالحقيقة، والإيمان بإمكانية وجود حكم فردي عقلاني. ورفض كلا من المذهب المحافظ غير المعتمد على العقلانية والاشتراكية الراديكالية. وكان هذا بشكل كبير هو مضمون فكرة «الطريق الوسط» التي اعتنقها في فترة ما بين الحربين العالميتين.
لقد ثار قدر كبير من الجدل حول ماهية الليبرالية التي اتبعها كينز؛ إذ يراه بيتر كلارك جزءا من الحركة «التقدمية» فيما قبل عام 1914 التي وحدت الليبراليين اليساريين والاشتراكيين المعتدلين في برنامج ديمقراطي مشترك لإعادة توزيع الثروة. في حين يقول مايكل فريدن إن كينز كان ليبراليا «وسطيا» صارما يطوع الحلول التكنوقراطية لمذهب فردي؛ فقد تبرأ كينز من السمات المميزة لليبرالية «التقدمية» من خلال تقييد تدخل الدولة لملء الفراغات التي يتركها القطاع الخاص، و«التخلي عن إعادة توزيع الثروة بوصفها مجالا واسعا للسياسة الاقتصادية الاجتماعية»، و«نزع الديمقراطية» من صناعة السياسات لصالح سيطرة الخبراء.
من الممكن إيجاد مبررات لكلا الطرفين. فمن الواضح أن ما جعل كينز بعيدا عن «التقدميين» هو سلوكه تجاه العدالة الاجتماعية؛ إذ لم يعترض كينز - أو بالأحرى لم يعترض بالقوة الكافية - على النظام الاجتماعي القائم على أساس أنه غير عادل أو غير منصف في توزيع الفرص، بل لأن مبدأ الحرية الاقتصادية لم يحم «الأعراف» الاقتصادية والاجتماعية القائمة. فالظلم بالنسبة لكينز يعني أي تغير عشوائي في الترتيبات الاجتماعية المستقرة، كتلك التي تسببها التغيرات في قيمة النقود؛ فقد تعاطف بشدة مع عمال المناجم في أثناء إضرابهم العام سنة 1926؛ لأنه رأى أنهم ضحايا العودة لمعيار الذهب بسعر مبالغ فيه للجنيه، والذي تم في العام السابق. وحول كينز مشكلة العدالة من الاقتصاد الجزئي إلى الاقتصاد الكلي؛ فأصبح الظلم مسألة عدم يقين، والعدل مسألة توقع تعاقدي. ولعبت فكرة إعادة توزيع الثروة دورا هامشيا في فلسفته الاجتماعية، ثم أصبحت مجرد جزء من آليات استقرار الاقتصاد الكلي، وليست وسيلة لتحقيق غاية مثالية كالمساواة.
تظهر تلك الاتجاهات في مقاله «نهاية مبدأ الحرية الاقتصادية» الذي قرأه لأول مرة في صورة محاضرة في جامعة أكسفورد عام 1924. وكانت شرور النظام القائم مصدرها في الغالب «المخاطرة وعدم اليقين والجهل». وتطلب علاجها «السيطرة المدروسة على العملة وعلى الائتمان من قبل مؤسسة مركزية»، و«جمع بيانات الأعمال ونشرها»، و«القرارات الحكيمة المنسقة» فيما يخص إجمالي حجم المدخرات وتوزيعها بين الاستثمار المحلي والأجنبي، ووضع سياسة سكانية «تهتم بالجودة الجوهرية ... مثل اهتمامها بالأرقام.» إن ما كان يسعى إليه كينز - كما كتب لاحقا في عمله «النظرية العامة» - هو سد الفجوات في «ليبرالية مانشستر». وقدم كينز معيارا لتدخل الدولة تمثل في فكرة الخدمة أو النشاط «الاجتماعي من الناحية الفنية»؛ بمعنى أن الدولة هي الوحيدة القادرة على تقديمه. واقترن بمجموعة النقاط تلك على نحو غير متناسق بعض الشيء منظور تطوري انحسرت بموجبه الرأسمالية الفردية لشركات العائلات أمام الرأسمالية «الاشتراكية الطابع» للمنفعة العامة والشركات الخاصة الكبيرة. وهكذا تنبأت التطورات الصناعية التلقائية ب «إضفاء الطابع الاشتراكي على الاستثمار» الواعي الذي دافع عنه كينز في عمله «النظرية العامة» وجعلته ممكنا.
ورغم رفض الليبراليين له، لم ينضم كينز إلى حزب المحافظين ولا حزب العمال. وتساءل في مقال له في عام 1926 بعنوان «هل أنا ليبرالي؟» قائلا: «كيف يكون لي أن أصبح محافظا؟» ثم أضاف:
إنهم لا يوفرون لي الطعام ولا الشراب، ولا يقدمون أي تعزية فكرية أو روحية ... فالتوجهات المحافظة لا تؤدي إلى أي شيء؛ فهي لا تحقق أي مثل، ولا تتفق مع أي معيار فكري، وليست حتى آمنة أو حذرة بحيث يمكنها حماية ما وصلنا إليه من الحضارة مما قد يفسدها.
كان حزب المحافظين بالنسبة لجيل كينز من الليبراليين عدوا تاريخيا، وظل كذلك طوال سنوات ما بين الحربين رغم «سمو أخلاق» ستانلي بولدوين؛ فقد اعتبروا الحزب حزب الحماقة والخرافات والتحيز؛ حزب الحماية الاقتصادية والوطنية الجوفاء. وكان المحافظون أنصار القواعد الأخلاقية الرجعية التي ثار عليها جيل كينز. أدرج كينز ضمن أجندة الليبرالية «تحديد النسل واستخدام وسائل منع الحمل وقوانين الزواج ومواجهة الجرائم والتشوهات الجنسية والوضع الاقتصادي للمرأة والأسرة ... وقضايا المخدرات.» واتخذ المحافظون - على الأقل في العلن - من كل تلك القضايا التي كانت ذات أهمية خاصة لجماعتي بلومزبيري وهامبستيد موقفا طالما وصفه كينز بأنه متخلف يرجع للعصور الوسطى.
أرجع كينز حماقة التوجهات المحافظة لارتباطها بمبدأ التوريث. وفسر هذا أيضا عدم كفاءة العديد من الشركات البريطانية؛ فقد سيطر أفراد من الجيل الثالث على الرأسمالية البريطانية. واختفى احترام كينز الذي أظهره في البداية لقائد المحافظين ستانلي بولدوين سريعا؛ حيث كتب في عام 1925: «كنت أشعر في البداية أن السيد بولدوين لا يمكن ألا يكون بارعا. لكنه عندما وجدته دائما يستسلم لعواطفه ويتصرف بحماقة، زال هذا الشعور.» لكنه قال عنه في عام 1936 إنه «نموذج لرجل الدولة الذي يمكنه وضع نظام اشتراكي معدل إن سمح له حزبه بذلك.»
إذا كان حزب المحافظين هو الحزب الأحمق، فقد كان حزب العمال هو الحزب السخيف. لكن كانت معظم توجهاته على الأقل على الطريق الصحيح. وكان ما يحتاجه حزب العمال - حسبما أوضح كثيرا كينز - هو محركا يقوده نحو برنامج لإصلاح الليبرالية. انشغل كينز في معظم كتاباته السياسية بحوار مع ليبرالية حزب العمال. وتخلل ذلك أحيانا استخدام لغة شديدة الالتباس؛ حيث حاول أن يفصل موقفه عن موقف الاشتراكية، وأن يؤكد في الوقت ذاته على التوافق بين مجموعة من الطموحات الليبرالية والاشتراكية. ويجعل ذلك الالتباس - الذي بدا أن كينز رآه جزءا ضروريا من جهوده الإقناعية - من الصعب معرفة مدى استعداد كينز لأن يسلك طريق الاشتراكية. ولم يضطر كينز خلال حياته للاختيار الذي واجه الكثيرين في سبعينيات القرن العشرين.
رفض كينز بشكل قاطع الاشتراكية باعتبارها علاجا «اقتصاديا» لمشكلات الرأسمالية. وطالما قال إن الاقتصاديين الكلاسيكيين والاشتراكيين يؤمنون بقوانين الاقتصاد نفسها. لكن في الوقت الذي اعتبرها الفريق الأول صائبة وحتمية، رآها الفريق الثاني صائبة ولا يمكن تحملها. وحاول كينز أن يثبت خطأ تلك القوانين. وأضاف أن مجرد فكرة تحول الرأسمالية نحو الاشتراكية تجعل الملكية العامة غير ضرورية.
عارض كينز الجانب الثوري للاشتراكية. وأدرك أن السواد الأعظم من أعضاء حزب العمال لم يكونوا «بلشفيين يعقوبيين شيوعيين»، لكنه رأى أن مكر تلك المجموعات وحقدها أثر في الحزب بالكامل؛ حيث تم الجمع بين الخبيث «وما هو مثالي من أجل بناء جمهورية اشتراكية حقيقية.» وقال كينز في إحدى المناظرات مع الاشتراكي الاسكتلندي توماس جونستون عام 1929، إن حزب العمال يجب أن «يظهر بمظهر المعارض لكل من هو أكثر نجاحا أو مهارة أو اجتهادا أو أكثر نجاحا من المتوسط ... وذلك قمة الظلم والحمق؛ فهذا يدمر ما يجب أن يكون دائما هو القطاع الأقوى من المجتمع ويلقي به في المعسكر الرجعي.»
عارض كينز صراحة الأساس الطبقي الذي تقوم عليه السياسة الاشتراكية. وقال في إحدى ملاحظاته الأكثر اقتباسا: «حزب العمال هو حزب طبقي تختلف طبقته عن طبقتي. وإن سعيت يوما لتحقيق مصالح فئوية، فعلي أن أسعى لتحقيق مصالحي ... من الممكن أن أتأثر بما قد يبدو عدلا وحسن تقدير، لكن في «الحرب الطبقية» سأكون في جانب الطبقة البرجوازية «المستنيرة».» فقد كان من أنصار المساواة برفع مستويات الطبقات الدنيا، لا بخفض مستويات الطبقات العليا. وقال: «أريد أن أشجع كل الجهود والقدرات والشجاعة والشخصيات الاستثنائية. ولا أريد أن أستعدي كل ما هو ناجح واستثنائي.»
وأخيرا رفض كينز معارضة حزب العمال للنخبوية. وشعر بأن العناصر المفكرة في حزب العمال «لن تكون لديها أبدا السلطة الكافية، وسيتخذ من لا يفقهون شيئا على الإطلاق عما يتحدثون بشأنه جل القرارات.» كان المحافظون أفضل حالا في هذا الجانب؛ حيث إن «الدائرة الداخلية في الحزب يمكنها أن تحدد تفاصيل سياسة الحزب وآلياتها.» آمن كينز - كما تبين كتاباته الأولى - بحكم الطبقة الأفلاطونية الحارسة التي تقيدها - ولا تهيمن عليها - الديمقراطية.
أعجب كينز بثلاثة أشياء في الاشتراكية، هي: شغفها بالعدالة، ومثل الخدمة العامة الفابية، ومثاليتها المبنية على إلغاء دافع الربح. وكان لدى كينز مدينته الفاضلة كذلك، وهي ما ألهم أعماله في الاقتصاد، والتي عبر عنها على نحو بارز في مقاله «الإمكانات الاقتصادية لأحفادنا» المنشور عام 1930. في هذا المقال يشرح كينز تصوره لمجتمع ينعم بالوفرة والرفاهية والجمال والفضيلة والتنوع، ويعتبر فيه «حب المال» مرضا عقليا. لكن تلك المثالية كان منبعها كامبريدج أكثر من الفلسفة الاشتراكية (حيث ليس هناك فيها مكان واضح للمساواة أو الأخوة أو الديمقراطية). هذا بخلاف أنها لا تتحقق إلا بعد حل المشكلة الاقتصادية. في الوقت الراهن، كما قال كينز: «علينا أن نستمر في التظاهر بأن الجميل قبيح والقبيح جميل؛ إذ إن القبيح نافع والجميل لا ينفع.» باختصار، عارض كينز الاشتراكية بوصفها وسيلة، ولم يقرها بوصفها غاية إلا من خلال تصوره الذاتي.
قدم دميتري ميرسكي، المراقب الدقيق للثقافة البريطانية في فترة ما بين الحربين، تفسيرا ماركسيا لفلسفة الممارسة لدى كينز في كتابه «مفكرو بريطانيا العظمى». فقال إن النخبة الأرستقراطية المفكرة تعتبر نفسها خارج نظام الطبقات أو أعلى منه؛ نظرا لأنها لا تشارك في عملية الإنتاج بشكل مباشر. فهي طالبت في مجال الاقتصاد بنظام، والذي أطلقت عليه الاشتراكية، لكنها في الحياة الفردية أرادت مزيدا من الحرية، وهو ما ربطها بالرأسمالية.
تبدو تلك الأطروحة المضادة أقل أهمية اليوم؛ فقليل من الناس الآن يعتقدون أن الاشتراكية - بالشكل الذي رفضه كينز - مناسبة لمشكلاتنا الاقتصادية. لكن السؤال يكمن فيما إذا كان طريق كينز الوسط لا يزال مفيدا أم لا. فقد توقع نمو العجز في إجمالي الطلب في الاقتصاديات الرأسمالية الناضجة - في ظل تضاؤل فرص الاستثمار - لكن ستستمر عادات الادخار الملائمة للعصر الفردي. وسيكون التدخل الحكومي ضروريا للحفاظ على الطلب على الاستثمار، وإعادة توزيع الدخل على الفئات الأكثر استهلاكا، وإعادة تنظيم ظروف العمل والأجور من أجل زيادة الاتجاه إلى الراحة بشكل تدريجي، مع تعزيز العلم لقدرات الإنتاج. وإلا فسيكون الكساد الكبير فيما بين عامي 1929 و1932 - كما حذر - مجرد مقدمة لحالة شبه ركود دائمة. وقد وردت أفكاره السياسية في سياق أفكاره الاقتصادية الموجهة لمواجهة انتشار البطالة في بريطانيا في عشرينيات القرن العشرين، وهو ما سنتناوله في الفصل القادم.
الفصل الثالث
المصلح النقدي
جاءت مناقشة كينز لمشكلة البطالة في بريطانيا في عشرينيات القرن العشرين في إطار نظرية كمية النقود؛ إذ كان متأكدا من أن التقلبات في النشاط الاقتصادي يمكن منعها من خلال تطبيق سياسة نقدية ملائمة. وكان منظرو نظرية كمية النقود في زمن كينز مصلحين نقديين أرادوا استخدام نظريتهم لتحقيق استقرار النشاط الاقتصادي. وكانت تلك النظرية أول نظرية تسعى لتحقيق استقرار الاقتصاد الكلي على المدى القصير.
وتعتبر تلك نقطة غريبة في ظاهرها؛ إذ إن نظرية كمية النقود هي نظرية تربط المعروض من النقود ب «مستوى سعر» شراء السلع بدلا من «كمية» السلع المنتجة. لكن الواقع يشير إلى أن التغيرات الخاصة بالنقود والأسعار كانت ترتبط بالتقلبات في كمية الناتج ومعدل البطالة، وهو ما يحتاج إلى تفسير. وعلى مدار العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين أو نحو ذلك، حاول الاقتصاديون - بما فيهم كينز - أن يستفيدوا مما سموه نظرية كمية النقود لتفسير التقلبات في الناتج؛ وكان من أسباب ذلك هو ملاحظتهم للارتباط بين الأوضاع النقدية والتقلبات في النشاط الاقتصادي، وكذلك لأن السياسة النقدية مثلت نطاق عمل واعد للذين طمحوا لإدارة النظام الرأسمالي لا لتدميره. وفي الثلاثينيات تخلى كينز عن استخدام نظرية كمية النقود في تفسير التقلبات قصيرة الأجل في الناتج. إلا أن النقود في كتاب «النظرية العامة» لا تزال تحتفظ بقدرتها على إرباك الاقتصاد الحقيقي. لكن تأثيرها هذا نابع من وظيفتها كمخزن للقيمة لا كوسيلة للتبادل. ويثير ذلك مسألة أخرى وهي إمكانية الاعتماد على السياسة النقدية باعتبارها أداة للإدارة الاقتصادية.
لقد قامت نظرية كمية النقود على تناول النقود من منظور دورها في المبادلات؛ فالنقود هي وسط للتبادل ووسيلة لتنفيذ عمليات شراء السلع والخدمات وبيعها. ليس للنقود وظيفة أخرى، على الأقل في أي اقتصاد «حديث» في ظل وجود نظام قانوني وسياسي مستقر ونظام بنكي متطور. وفي ضوء هذا، لا يمكن لحدوث تغير في كمية النقود (أو قيمتها) أن يربك المعادلة السابقة إلا إذا أسفر عن تغيرات غير متناسبة في المخزونات النقدية لدى العناصر الاقتصادية الفاعلة. وكان هذا بالفعل هو افتراض الذين استخدموا نظرية كمية النقود في تحليل التقلبات الاقتصادية. وكان دائما ما يقال إن رفع الأسعار يخدم المستثمرين وأصحاب المشروعات على حساب المدخرين والعمال؛ والعكس بالعكس. وقامت هذه المسألة على التمييز بين الأسعار المرنة والأسعار غير المرنة؛ لذا افترض أن أسعار الأجور «ثابتة» أو على الأقل «متماسكة» على المدى القصير، وأن أسعار البيع «مرنة». وفي الوقت نفسه تبدو عملية تثبيت مستويات الأسعار سهلة على نحو خادع، وذلك عند التعامل مع النقود من منظور دورها في المبادلات. فهذا المنظور يعتبر النقود مجرد وسيلة لإجراء المبادلات. طالما قال كينز قبل عام 1914 إن الناس يقبلون على الحصول على النقود فقط ليصرفوها بأسرع ما يمكن. وكل ما كان يجب على السلطة المركزية عمله هو ضمان وجود تدفق ملائم للنقود؛ وسيسير كل شيء على ما يرام. وكانت أعمال كينز منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى وحتى كتابه «بحث في النقود»، بما فيه كتابه هذا، تدور في فلك تلك الفكرة، رغم أنها أصبحت في النهاية إشكالية بالنسبة له.
كانت هناك صيغتان مطروحتان لنظرية كمية النقود عندما بدأ كينز عمله في الاقتصاد؛ الأولى: صيغة «المبادلات» لإرفينج فيشر، والثانية: صيغة كامبريدج ل «الأرصدة النقدية» التي وضعها ألفريد مارشال الذي درس علم الاقتصاد لكينز. واستخدم كينز كلتا الصيغتين في محاضراته فيما قبل عام 1914، قائلا إنهما «يصلان عمليا للنتيجة نفسها.» تنص معادلة فيشر للتبادل على أنه في أي فترة محددة تساوي كمية النقود مضروبة في سرعة دورانها - وهي متوسط عدد مرات إنفاق العملة في فترة محددة - متوسط سعر كل مبادلة مضروبا في الحجم الكلي للمبادلات. وكل ما يعنيه هذا هو أن قيمة ما ينفق تساوي قيمة ما يشترى، وهي نتيجة ليست بجديدة. لكن لا تزال هناك حاجة لثلاثة افتراضات أخرى لتتحول معادلة التبادل إلى نظرية خاصة بمستوى الأسعار؛ أولا: هناك علاقة سببية بين النقود والأسعار. ثانيا: تتحدد سرعة دوران النقود، بغض النظر عن المعروض من النقود، تبعا لمستوى الدخل وعادات الإنفاق في المجتمع، وهما عاملان لا يتغيران إلا ببطء. ثالثا: يتحدد حجم التبادلات، بغض النظر عن كمية النقود، تبعا لقوى «حقيقية». إن صحت تلك الافتراضات، فسيؤدي أي تغير في كمية النقود إلى تغير متناسب في مستوى الأسعار.
أما صيغة «الأرصدة النقدية» من نظرية كمية النقود لمارشال، فتنص على أن كمية النقود تساوي متوسط سعر كل مبادلة مضروبا في الحجم الكلي للمبادلات مضروبا في مقلوب سرعة دوران النقود، وهو النسبة من الدخل أو الثروة (استخدم مارشال المصطلحين بالتبادل) التي يحتفظ بها المجتمع في صورة سائلة في فترة معينة. لم تركز معادلة كامبريدج على إنفاق النقود، وإنما على دور النقود باعتبارها مخزنا مؤقتا للقوة الشرائية فيما بين عمليتي البيع والشراء. ومهد ذلك لوظيفة النقود بوصفها «مخزنا للقيمة» من خلال الإشارة إلى الدوافع الفردية للاحتفاظ بالسيولة النقدية وافتراض إمكانية تحليلها هي الأخرى.
لم تشر تلك النظرية في هذا الاتجاه على نحو أكبر من وجهة نظر كينز قبل الحرب؛ إذ اعتبرها، ليس فقط أنها مجرد تدريب على استعمال المنطق - من خلال عرضها للشروط اللازمة لصحتها - وإنما أيضا مجموعة من الافتراضات الواقعية عن عالم الواقع. ورأى كينز بالتأكيد أن هناك علاقة سببية بين النقود والأسعار، منتقدا «رجال الأعمال» و«الرأي الشائع» لاعتقادهما عكس ذلك. واعتقد أيضا أن «سرعة الدوران» أو «الطلب على الأرصدة النقدية لكي يتم الاحتفاظ بها» يتحدد بشكل مؤسسي، ولا يخضع للتغيرات العشوائية. كما أيد الافتراض الثالث، الذي ينص على أن حجم المبادلات يتحدد وفق قوى «حقيقية». وبهذا يكون كينز قد أيد نظرية كمية النقود بصيغتيها. كما أقر في الوقت ذاته بأن تقلبات الأسعار يمكن أن تكون لها آثار مؤقتة على سرعة الدوران وحالة التجارة، رغم أن مناقشته لتلك النقطة لم تكن باهتمام كبير.
كانت رؤية كينز «لآلية التحول» من النقود إلى الأسعار مارشالية الطابع بامتياز؛ إذ إنه اتهم فيشر بالعجز عن تحديد آلية في هذا الشأن؛ إذ تؤدي الزيادة في احتياطيات الذهب في البنك المركزي إلى انخفاض أسعار الفائدة؛ ومن ثم يزيد اقتراض أصحاب المشروعات؛ ويعد إنفاقهم لودائعهم الجديدة هو السبب في ارتفاع الأسعار، وهذا التأثير «ينتقل تدريجيا لجميع جوانب المجتمع إلى أن تظهر الحاجة لكميات جديدة من الذهب لتمويل قدر جديد من التجارة الفعلية ليس أكبر مما كان في السابق.» فمستوى الأسعار هو ما يوازن بين «الطلب على السيولة النقدية» وبين «المعروض من النقود». لكن النقطة المهمة هي أن ضخ الأموال يستغرق وقتا لتظهر آثاره النهائية على الأسعار، وبينما تتكيف الأسعار مع التغيرات في المعروض من النقود تنشط حركة التجارة أو تقل. كما يترتب على ذلك أنه في ظل معيار الذهب «يعتمد المعروض من القوة الشرائية على البنوك والذهب معا.»
سعى المصلحون النقديون قبل عام 1914 إلى الحد من تأثير الذهب على «المعروض من القوة الشرائية». وتطلب استقرار مستوى الأسعار وضع كمية النقود تحت سيطرة السلطة النقدية المركزية . لكن عندما تكون النقود الرسمية عبارة عن قطع نقود ذهبية، فستحدد قيمة النقود على المدى البعيد طبقا للظروف غير المنظمة للعرض والطلب في سوق الذهب. وأرجع كثيرون انخفاض مستوى الأسعار في أواخر القرن التاسع عشر، إلى حد كبير، إلى زيادة تكلفة استخراج الذهب من مناجم كاليفورنيا وأستراليا التي نضبت، إضافة إلى زيادة معدل اكتناز الذهب في الهند. من الناحية الفنية، لم تكن كمية النقود الذهبية تعد متغيرا خارجيا؛ فقد وضع المصلحون خططا لتغيير كمية الذهب في النقود - ومن أمثلتها معيار مارشال الجدولي والدولار المعوض لفيشر - بغرض تحقيق استقرار أكبر في مستوى الأسعار. أما الاقتصادي السويدي كنوت فيكسل، فقدم اقتراحا جريئا؛ إذ قال إن المعيار الدولي المثالي هو المعيار الورقي، وهو ما يعطي البنوك المركزية السيطرة الكاملة على المعروض من النقود. وقال فيكسل في كتابه «الفائدة والأسعار» المنشور بالألمانية في عام 1898: «هناك سعر معين للفائدة على القروض يكون محايدا بالنسبة لأسعار السلع، ولا يميل لرفعها ولا لخفضها.» وأطلق عليه سعر الفائدة «الطبيعي» (أو سعر الربح). ويكمن جوهر ما في أفكاره المعارضة لمعيار الذهب في أنها تمنع البنك المركزي من تعديل سعر الفائدة السوقي تبعا للتغيرات في سعر الفائدة «الطبيعي». ولم يتبن كينز هذا التوجه حتى عام 1930. لكنه حتى قبل عام 1914 طالب مثلما طالب إرفينج فيشر بمعيار «أكثر منطقية واستقرارا» من معيار الذهب. واقترح كينز في عمله «العملة والمالية في الهند» (1913) خطة لإصلاح النظام المصرفي الهندي من أجل زيادة المرونة الموسمية لاحتياطي الروبية، وتطلع إلى اليوم الذي تقتصر فيه العملات القائمة على الذهب على دولة أو دولتين، يدير بنكها المركزي ما كان في الواقع معيارا دوليا ائتمانيا. وقال: «من غير المرجح أننا سنستمر في ترك التعديلات الدقيقة في منظومتنا الاقتصادية تحت رحمة منقب عن الذهب محظوظ، أو عملية كيميائية جديدة، أو تغير الأفكار في آسيا.» وأكد أيضا على أن «تفضيل وجود عملة احتياطي ملموسة ... أصبح شيئا من الماضي؛ حيث كانت الثقة في الحكومات في مثل تلك الأمور أقل منها الآن.» لكن خططه المتتالية التي قدمها، حتى خطة بريتون وودز من أجل إقرار عملات مدارة، أبقت على دور «ملكي دستوري» للذهب باعتباره أساسا لنظام سعر صرف مدعوم، وبوصفه خط الدفاع الأخير ضد التضخم.
ورغم أن الخطط «الدستورية» لإصلاح معيار الذهب قبل الحرب العالمية الأولى قد باءت بالفشل، فإن هذا المعيار كان في طريقه للتحول إلى معيار «مدار» في ظل استخدام البنوك مجموعة متنوعة من الأدوات لمعاوضة تدفقات الذهب أو تحييدها من أجل استقرار الأسعار المحلية. وكان يعتقد أن آثار تدفق الذهب إلى الداخل أو الخارج تعتمد على نحو عام على قدرة البنك المركزي على التصرف. وأدى ذلك إلى أن تؤكد النظرية النقدية قبل الحرب بشكل متزايد على دور السياسة المصرفية في تحديد المعروض من النقود. وتحول الاهتمام من تأثير حركة الذهب على الأسعار إلى تأثير تدفق الائتمان. كانت نظرية كمية النقود تتحول تدريجيا إلى نظرية كمية الائتمان. قال كينز في مقال بعنوان «إلى أي درجة يتحمل المصرفيون المسئولية عن تناوب الأزمات والكساد؟» - والذي قرأه على نادي الاقتصاد السياسي في ديسمبر 1913 - إن المصارف يمكنها أن تقرض أصحاب المشروعات دون أن تقترض المبلغ الذي أقرضته من المدخرين؛ فخلق الائتمان يمكن أن يكون سببا مستقلا للتضخم؛ إذ عندما «يسبق» الاستثمار الادخار، فيجب أن يحدث الكساد ليتمكن الادخار من «اللحاق» بالاستثمار. وعرض تلك الأفكار مرة أخرى في منتصف العشرينيات. لكن ما دام البنك المركزي يمتلك وسائل تنظيم معدل خلق الائتمان في البنوك التجارية، فإن وجود النقود الائتمانية لا يشكل أي خطر على قدرة البنك على «السيطرة على المعروض من النقود».
كان معظم الجانب النظري والعملي لعملية الإصلاح النقدي قد تم التوصل له فيما قبل عام 1914، لكن تجربة الحرب وتوابعها على النقد أثرت نظرية كينز، وأعطت لمناقشته للسياسة الاقتصادية أولوية لم تحظ بها قبل الحرب قط. قدم كينز المشورة لوزارة الخزانة في أثناء الأزمة المصرفية فيما بين شهري يوليو وأغسطس من عام 1914؛ حيث فسر الأزمة في ضوء «طلب غير معتاد على النقود» من جانب النظام المصرفي، وذلك بعد توقف التحويلات النقدية الأجنبية وانهيار سوق الأوراق المالية. وتفادى بنك إنجلترا الأزمة بشرائه الأوراق النقدية من السوق. وكان واجب البنك المركزي في التصرف بوصفه «المقرض الأخير» للنظام المصرفي جزءا من نظرية عمله منذ أيام والتر باجيت، التي طرحها في كتابه الشهير «شارع لومبارد» (1870) وأيدها كينز دون تردد. كما ساعدته خبرته التي اكتسبها من عمله في وزارة الخزانة أثناء الحرب على الإشارة إلى أن التضخم آلية يمكن من خلالها للحكومات الفقيرة غير القادرة على فرض ضرائب عادلة أن تحول الموارد الحقيقية إليها. وأنكر كينز في إحدى المراسلات وقت الحرب مع إدوين كانان - أستاذ الاقتصاد بكلية لندن للاقتصاد - إمكانية التغلب على التضخم بمجرد تقليل إصدار الأوراق المالية؛ فقد كتب إلى كانان في 28 يناير عام 1918 يقول:
إن الإفراط في إصدار الأوراق المالية وحجم التضخم - المرتبط بعملية الإصدار تلك وبالزيادة في الائتمان المصرفي - يبدو لي أن سببهما هو تجاوز الإنفاق العام لقدرة الحكومة على تحمله من خلال الضرائب والقروض ... وفي ظل هذا الوضع يصبح تنظيم إصدار الأوراق المالية أمرا مستحيلا ... وأظن أنه من المنصف علميا إرجاع سبب التضخم للإفراط في الإنفاق العام، واعتبار تقليص الإنفاق العام والخاص هو الحل الوحيد لمواجهة هذا التضخم.
وعلى المستوى الأعم كانت القضايا التي شغلت مساحة متزايدة من الاهتمام، مقارنة بنظيرتها السائدة قبل الحرب، هي تلك التي نشأت عن التضخم وقت الحرب وتقلبات العملة بعد الحرب وعبء الديون وقت الحرب. وأرجع السبب في التضخم في أثناء الحرب وبعدها في ضوء نظرية كمية النقود إلى التمويل الحكومي التضخمي. ولتفسير العلاقة بين تضخم الأسعار المحلية وانخفاض أسعار الصرف، وضع الاقتصادي السويدي جوستاف كاسل نظرية «تكافؤ القوة الشرائية» الخاصة بأسعار الصرف. وأثارت مسألة قدرة ألمانيا على دفع التعويضات مناقشة فنية حول طبيعة «مشكلة التحويل». وكان لكينز دور نشط في كل تلك المناقشات. ومن الأشياء المهمة التي قدمها في ذلك الوقت تحذيره من إمكانية حدوث تضخم. وفي كتابه «الآثار الاقتصادية للسلام» اقتبس كينز ملاحظة تعود إلى لينين مقرا بما فيها تقول: «ليس هناك وسيلة لقلب أسس المجتمع القائمة أدق وأقوى من إفساد عملته.» فقد شكل التقلب الشديد للأسعار ولأسعار الصرف في الفترة التالية للحرب مباشرة، بجانب التغير في موازين القوى بين الولايات المتحدة وأوروبا، المادة التاريخية لكتاب كينز «بحث في الإصلاح النقدي» (1923).
كان الهدف الصريح لكتاب «بحث في الإصلاح النقدي» هو تحقيق استقرار الأسعار المحلية. فاستقرار الأسعار وحده كفيل بجعل النشاط الاقتصادي مستقرا أو طبيعيا. وقد كتب كينز يقول: «إنني أعتبر أن استقرار الأسعار والائتمان والتوظيف ذات أهمية قصوى.» ونصت فكرته على أن التقلبات في قيمة النقود تسبب تقلبات على المدى القصير في النشاط الاقتصادي؛ لأنها تغير نصيب الطبقات من الدخل وتخل بالتوقعات القائمة. ويقال إن انخفاض الأسعار يضر بنسبة التوظيف؛ لأن الأجور النقدية تكون ثابتة على المدى القصير، ولأنه يحبط توقعات عوائد المبيعات. لكن كينز قال: «سيكون من الأسوأ في عالم فقير زيادة نسبة البطالة بدلا من إحباط أصحاب الدخول الربوية.» وكان هذا الجمع بين المسائل النظرية والمؤسسية من السمات المميزة لكينز. ويعد ذلك أحد أسباب الخلافات الكثيرة بشأن مقصده الحقيقي. لكن النقطة المهمة التي أكدها هي أن استقرار الأسعار كان ضروريا بالنسبة لإمكانية التنبؤ التعاقدية التي كانت ترتبط باستقرار الاقتصاد. فكان الإصلاح النقدي ترياقا للثورة الاجتماعية.
هناك أربع نقاط لافتة للنظر في كتاب «بحث في الإصلاح النقدي»؛ أولا: أن كينز هاجم السياسات الهادفة لاستعادة معيار الذهب. وخلال ذلك واجه استنتاجها المنطقي بالحجة الخاصة بالمصلحين الاقتصاديين بأن استقرار الأسعار المحلية قد لا يتماشى مع استقرار أسعار الصرف؛ فبدلا من ضبط الأسعار المحلية وفق سعر الصرف، ينبغي ضبط سعر الصرف وفقا لمستوى أسعار محلية يتماشى مع نسبة توظيف «طبيعية» (أي كاملة على نحو معقول). وخصص كينز قسما رائعا عن سوق الصرف الآجل؛ ليبين أن التجار يمكنهم «التحوط» من تقلبات سعر الصرف بشكل أسهل من تحوط المنتجين لتقلبات الأسعار المحلية؛ لذا فإن «العقود والتوقعات الاقتصادية - التي تفترض استقرار سعر الصرف - ربما تقل كثيرا حتى في الدول التجارية، مثل إنجلترا، عن مثيلتها التي تفترض استقرار مستوى الأسعار المحلية.»
كان السياق المهم لتلك الحجة هو الهيمنة الصاعدة للولايات المتحدة؛ إذ قال كينز: «في ظل التوزيع القائم للذهب على مستوى العالم، فإن العودة إلى معيار الذهب يعني حتما أن نسلم إدارتنا لمستوى الأسعار وتعاملنا مع دورة الائتمان لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الخاص بالولايات المتحدة.» وستضع السلطات النقدية الأمريكية سياستها النقدية تبعا لظروفها الداخلية، لا وفق متطلبات الدول الأخرى مثل بريطانيا. وكان أفضل الحلول في هذا الشأن يتمثل في تقسيم العالم إلى كتلتين بعملتين «مدارتين»؛ هما الجنيه الاسترليني والدولار. قال كينز: «وما دام قد تمكن مجلس الاحتياطي الفيدرالي من الحفاظ على ثبات أسعار الدولار، فسيتساوى هدف تحقيق ثبات أسعار الجنيه الاسترليني مع ثبات أسعار صرف الدولار أمام الجنيه الاسترليني.» وسيعود الذهب وسيلة نهائية لتسوية الديون الدولية.
ثانيا: رأى كينز أنه يمكن تحقيق استقرار الأسعار من خلال السياسة النقدية وحدها. فلم ير في ضغط الأجور عاملا معقدا للمشكلة. كما لم يشكك في مسألة مرونة الفائدة في الاستثمار، رغم أنه أدرك وجود حدود توقعية للتغيرات في أسعار الفائدة الحقيقية، وهي فكرة لم يستغلها إلا في كتابه «النظرية العامة». فالسيطرة على التضخم تكمن بالأساس في منع التمويل الحكومي التضخمي.
ثالثا: كان كينز ينظر للنقود بمعناها الواسع، لا الضيق. وكانت السياسة السليمة تقتضي «مراقبة عملية خلق الائتمان والسيطرة عليها والسماح بخلق العملة بناء على ذلك.» ويرجع هذا إلى أن كمية السيولة النقدية كانت مؤشرا عكسيا؛ إذ يجب التصدي للارتفاع المستقبلي في الأسعار، لا ارتفاعها في الماضي. ومهد الخلاف بين كينز وإدوين كانان وقت الحرب لظهور الخلافات بين شكلي النظرية النقدية القائمين على النقود «بمعناها الواسع» و«بمعناها المحدود» في ثمانينيات القرن العشرين. وطرحت مشكلة نوع النقود التي يجب تتبعها أو مراقبتها للمرة الأولى.
وأخيرا فضل كينز الإدارة التفويضية، رافضا وضع قاعدة خاصة بالمعروض من النقود باعتبارها غير مناسبة للسيطرة على دورة الائتمان. وقدم صيغة مبسطة من معادلة بيجو النقدية؛ وهي أن كمية الأوراق النقدية وغيرها من صور السيولة النقدية المتداولة تساوي الرقم القياسي لتكلفة المعيشة مضروبا في حاصل جمع القيمة الحقيقية للنقد الحاضر والقيمة الحقيقية للودائع المصرفية، بما فيها عمليات السحب على المكشوف مضروبة في نسبة احتياطيات النظام المصرفي إلى التزاماته. وقال كينز إن نظرية كمية النقود قامت على الافتراض القائل إن «حدوث تغيير في كمية العملة لا يمكن أن يؤثر في المتغيرات الثلاثة الأخيرة في المعادلة السابقة»؛ أي إن تلك المتغيرات تحدد على نحو مستقل بمعزل عن كمية الأوراق النقدية وغيرها من صور السيولة النقدية المتداولة؛ ومن ثم إن حدث تغيير في صور السيولة النقدية المتداولة، فسيؤدي إلى حركة مكافئة في الرقم القياسي لتكلفة المعيشة. وإذا تضاعفت كمية النقود، فسيتضاعف مستوى الأسعار. قال كينز:
ربما يكون هذا صحيحا على «المدى الطويل» ... لكن هذا المدى الطويل هو مؤشر مضلل للأوضاع الحالية. فعلى المدى الطويل سنكون موتى جميعا. وستكون مهمة الاقتصاديين شديدة السهولة وبلا جدوى إن لم يستطيعوا عمل أي شيء سوى إخبارنا وقت الأزمات أنه عند انتهاء الأزمة، ستنفرج الأمور وتتحسن مرة أخرى.
عندما ترتفع الأسعار، يقلل الناس «أرصدتهم الحقيقية» (أي القيمة الحقيقية للنقد الحاضر ونسبة احتياطيات النظام المصرفي إلى التزاماته)، والعكس صحيح، وتغير البنوك المركزية شروط احتياطياتها لمعاوضة تدفقات الذهب.
وفي ضوء عدم الاستقرار على المدى القصير لما نسميه الآن دالة «الطلب على النقود»، فإنه ليست هناك علاقة مستقرة على المدى القصير بين المخزون النقدي والدخل القومي من النقود. رأى كينز أن «المزاج العام ومزاج عالم الأعمال» يمكنهما التأثير بشكل منفرد على مستوى الأسعار؛ فقد كان على السلطة النقدية - عند محاولة إحداث استقرار في الأسعار - أن تكون مستعدة للتدخل فيما يتعلق بالمعروض من النقود والطلب عليها؛ وبلغة كينز، فإن واجبها يكمن في «محاولة تثبيت القيمة الحقيقية للنقد الحاضر والودائع المصرفية، وفي حالة تعذر ذلك أو استحالته، فواجبها التدخل لتغيير كمية الأوراق النقدية وغيرها من صور السيولة النقدية المتداولة ونسبة احتياطيات النظام المصرفي إلى التزاماته من أجل موازنة التغير في العاملين السابقين.» وقد جعل استخدام المعادلات الجبرية مهمة الإدارة النقدية تبدو سهلة جدا في مجملها. ويمكن مواجهة أي اتجاه لحدوث زيادة في الأرصدة الحقيقية عن طريق خفض سعر الفائدة البنكية؛ «حيث إن الإقراض السهل يبدد مزايا الاحتفاظ بهامش سيولة للطوارئ.» ويمكن للبنك المركزي أن يغير كمية السيولة التي يتيحها للنظام المصرفي من خلال شراء سندات الدين وبيعها. وما دمنا قد «تجنبنا التمويل التضخمي من ناحية، وتجنبنا العودة إلى معيار الذهب غير المقنن من الناحية الأخرى»؛ فستئول السيطرة على المعروض من النقود، ومن ثم مستوى الأسعار، إلى البنك المركزي.
لقد أقر كتاب «بحث في الإصلاح النقدي» بأن الصدمات النقدية يمكنها أن تؤثر في النشاط الاقتصادي بسبب عدم اليقين بشأن الاتجاه المستقبلي للأسعار. وكان منظرو نظرية كمية النقود يميلون للقول إن التغيرات «غير المتوقعة» في مستوى الأسعار هي وحدها ما يسبب اختلالات في التناسب. لكن كينز تحلى بقدر أكبر من الواقعية، وحاج قائلا إنه حتى إن كان ارتفاع الأسعار أو انخفاضها متوقعا؛ فإن عدم اليقين بشأن مدى التغير يمكن أن يؤثر على السلوك الاقتصادي. لقد بين كينز الأهمية المحورية لعدم اليقين، لكنه لم يحدد أي سعر أو مجموعة من الأسعار ترتبط به من أجل تفسير إيقاعات حركة التجارة، وهي مسألة تناولها في كتابيه التاليين.
لكن لم يتم النظر في تلك المسائل العميقة بعناية عندما قرر ونستون تشرشل العودة بالجنيه الاسترليني إلى معيار الذهب في أبريل 1925. وقد تناول كينز في كتيبه «الآثار الاقتصادية لقرار السيد تشرشل»، المنشور في يوليو من نفس العام، ذلك القرار باعتباره صدمة نقدية تسببت فيها الحكومة ومنيت بها الصناعة الوطنية. وكان رأيه أن إعادة الجنيه الاسترليني إلى سعر صرفه أمام الدولار في فترة ما قبل الحرب - 4,86 دولارات للجنيه الواحد - فيها مبالغة في قيمة الجنيه بنسبة 10٪؛ وهو ما يتطلب خفضا بنسبة 10٪ في تكلفة الإنتاج النقدية إذا استمر حجم الصادرات البريطانية الحالي بنفس المستوى. وسيلاقي ذلك معارضة عمالية قوية لا يمكن التغلب عليها - كما قال كينز - إلا «بتعزيز التوظيف» دون حدود. وقال كينز إنه يمكن مواجهة هذا الأمر من خلال عقد «اتفاق وطني» لتقليل الأجور وغيرها من الدخول بالاتفاق. لكنه مع ذلك أعرب عن شكه في أن تؤدي سياسة الحكومة فعلا إلى تجمد الاقتصاد وانخفاض نسبة التوظيف. فستعزز الحكومة الانكماش بشكل يزيد البطالة ولا يعالجها، وستقترض من الخارج لتعويض النقص في الصادرات.
وهذا هو ما حدث تقريبا؛ فبحلول عام 1928 كان كينز يضع ما سيصبح ملخصه النموذجي للمرحلة كاملة:
لقد خفضنا الأسعار من خلال رفع سعر صرف الجنيه الاسترليني ومن خلال السيطرة على حجم الائتمان؛ لكننا «لم نخفض التكلفة» ... لقد حان الوقت لدفع ثمن أخطاء وزارة الخزانة وبنك إنجلترا الفادحة، منذ البداية وحتى اعتقادهم بأنهم إن تولوا أمر خفض الأسعار فستنخفض التكلفة من تلقاء نفسها.
بعد مرور أقل من عام على نشر كتاب «بحث في الإصلاح النقدي»، شرع كينز في تأليف كتاب جديد أطلق عليه في البداية اسم «نظرية النقود والائتمان». وكان من المقرر أن يكون عبارة عن دراسة لنظرية النقود في ضوء علاقتها ب «دورة الائتمان». كان كينز قد أناط بالسلطة النقدية في كتابه «بحث في الإصلاح النقدي» مهمة معاوضة التقلبات في «الأرصدة النقدية». لكن تكوين هذه الأرصدة وأسباب تقلبها لم تتناول بالتحليل. وخلال تناوله للمشكلة عاد كينز إلى أفكار مقاله المنشور عام 1913؛ إذ يمكن للبنوك أن تمنح ائتمانا أكبر أو أصغر مما يريد الناس ادخاره. ومهمة السياسة النقدية هي إبقاء الائتمان المصرفي في نفس مستوى المدخرات المتوقعة.
تأثر كينز على نحو كبير في تحليل العلاقة بين «النقود المصرفية» والادخار بزميله في جامعة كامبريدج، دينيس روبرتسون، الذي كان يؤلف وقتها كتابه «السياسة المصرفية ومستوى الأسعار» المنشور عام 1926. وكان احتكاكه الفكري بروبرتسون في تلك المرحلة ذا أثر حاسم على تطور أفكاره الخاصة؛ فقد كان روبرتسون، قبل كل شيء، منظرا لنظرية الدورة الاقتصادية؛ حيث اتخذ المؤلفات الاقتصادية في أوروبا القارية أساسا لمعرفة أسباب تقلب نمو الثروة. تأثر كينز على نحو دائم بجانبين في نظرية الدورة الاقتصادية؛ أولهما: اعتبار أن الدورة الاقتصادية هي دورة استثمار تسببها تقلبات الربحية المتوقعة للسلع الرأسمالية. وثانيهما: أن تلك الدورة «الحقيقية» تتضخم لدرجة الطفرة والكساد بسبب العوامل النقدية، وخاصة عجز السياسة النقدية عن إبقاء الاستثمار في نفس مستوى الادخار. ورأى روبرتسون أن التقلبات الاقتصادية «الحقيقية» لا يمكن فصلها عن التقدم. لكنه أراد استخدام السياسة النقدية لمنع التقلبات «غير الملائمة» في النشاط الاقتصادي الحقيقي. وربما يستتبع ذلك، التخلي عن هدف استقرار الأسعار.
بدأ كينز وروبرتسون بالإقرار بأن تضخم الائتمان أو انكماشه هو السبب الوحيد الذي يمكنه أن يبعد مسار الاستثمار عن الادخار الاختياري. وقد خصص روبرتسون معظم كتابه «السياسة النقدية ومستوى الأسعار» - بكل مصطلحاته الغريبة - ليبين كيف أن الصور المختلفة للإنفاق والادخار القسريين يمكن أن تحدث نتيجة العمليات الائتمانية. وتضمن ذلك فكرة أن التضخم المؤقت يوجد صندوق استثمار من خلال «إجبار» الناس على تقليل الاستهلاك؛ ومن ثم زيادة «الادخار». وأعيد اكتشاف فكرة «الادخار القسري» الشهيرة، التي طرحها لأول مرة توماس جوبلن بعد الحروب النابليونية، بعد ملاحظة الطريقة التي «صادرت» بها الحكومة دخول مواطنيها دون فرض ضرائب عليها خلال الحرب العالمية الأولى؛ إذ تقتطع الحكومة بالأساس جزءا من الناتج القومي عن طريق إنفاق كمية إضافية من النقود الجديدة المصدرة بناء على رغبتها من خلال النظام المصرفي. ويؤدي هذا الإنفاق إلى رفع مستوى الأسعار العام (حيث تؤدي إلى زيادة الطلب في ضوء مستويات الأسعار السابقة) وتجد العناصر الفاعلة الاقتصادية الخاصة نفسها في حاجة (أو رغبة) للاحتفاظ بالنقود الجديدة المصدرة بدلا من إنفاقها؛ لأن ارتفاع مستوى الأسعار يتطلب أرصدة نقدية اسمية أكبر تتناسب مع حجم المبادلات الفعلية. وستؤدي محاولات الحكومة لتكرار تلك العملية إلى الدخول في دوامة تضخمية متسارعة في ظل توقع العناصر الفاعلة الاقتصادية الخاصة أهداف الحكومة، ومحاولة التصدي لها من خلال تعديل معدل إنفاقها.
اتخذ كتاب كينز الجديد هذا المسار، لكنه تركه في النهاية. وكتب يشرح الأمر لروبرتسون في عام 1931:
في أثناء تأليفك كتاب «السياسة النقدية ومستوى الأسعار» ومناقشتنا له، رأى كل منا أن التفاوت بين الادخار والاستثمار - بما حمله هذان المصطلحان من غموض وقتها - لم يكن إلا نتيجة لما يمكن تسميته الدفع باتجاه التضخم أو الانكماش من قبل النظام المصرفي. وقد تبنيت تلك الفكرة لوقت طويل، وتوصلت في النهاية إلى أنها غير صحيحة؛ فنتيجة لظهور تعريفات أوضح، في رأيي، للادخار والاستثمار، وجدت أن تلك الظواهر البارزة يمكن أن تحدث من دون أي فعل صريح من جانب النظام المصرفي.
لقد تحدث روبرتسون عن أن المدخرات إما أن يتم استثمارها أو تجميعها. لكن كينز أكد على اختيار ثالث؛ وهو ألا تستثمر المدخرات ولا تجمع، بل تستخدم لشراء أصول قائمة. وبذلك يمكن للادخار أن «يسبق» الاستثمار (والذي يعني شراء تجهيزات رأسمالية «جديدة») من دون إبطاء السرعة الكلية للدوران. وتأثرت تلك الفكرة بسوق المضاربة الصاعدة بسوق نيويورك للأوراق المالية فيما بين عامي 1927 و1929. وبات كينز لا يؤمن بقدرة صيغة «التبادلات» لنظرية كمية النقود على تفسير التقلبات الاقتصادية على المدى القصير. فلم يكن إجمالي المبادلات في فترة ما هو الشيء المهم بالنسبة لنسب التوظيف، بل كان المهم هو ما إذا كان الدخل النقدي ينفق على الناتج الحالي أم لا.
كما تأثر كينز في تمييزه بين «الاستثمار الأجنبي» و«الإقراض الأجنبي» في «بحث في النقود» باشتراكه في الجدل الدائر حول التعويضات الألمانية؛ إذ إن إقراض المدخرات البريطانية، والتي لا يتم استثمارها محليا، للخارج لم يكن يعني أن كل المدخرات يتم استثمارها؛ لأن أي محاولة لزيادة الإقراض للخارج بسعر صرف ثابت بشكل يفوق الفائض التصديري لبريطانيا ستؤدي إلى استنزاف الذهب، وتجبر على رفع سعر الفائدة البنكية في الداخل. وسيؤدي ذلك إلى انخفاض معدل الاستثمار المحلي بمقدار يساوي الزيادة في الإقراض الأجنبي عن فائض الحساب الجاري.
لقد كان كينز وروبرتسون يحاولان - دون تحقيق نجاح كبير - دمج تحليل الادخار والاستثمار في نظرية النقود بدلا من الإبقاء على الفصل الموجود بينهما، والذي كان يميز المدرسة الكلاسيكية أو مدرسة نظرية كمية النقود.
حاج على نحو مقنع بيتر كلارك في كتابه «الثورة الكينزية في طور التكوين» (1988) بأن نشر «بحث في النقود» تأجل وتغير ما فيه من تحليل بسبب الحاجة لأن يطلع كينز على ما يسمى ب «رؤية وزارة الخزانة»، التي ظهرت في عامي 1928 و1929، لدحض خطة لويد جورج لعلاج البطالة من خلال برنامج المشروعات العامة الممولة بالقروض. وكان صاحب تلك الرؤية سيئة السمعة هو رالف هوتري؛ فقد قال هوتري في مقال نشر في دورية «إيكونوميكا» في مارس 1925 إنه في ظل ثبات المعروض من النقود، «سيزاحم» أي قرض حكومي للمشروعات العامة (بلغتنا اليوم) قدرا مكافئا من الإنفاق الخاص. فلا يمكن زيادة نسبة التوظيف إلا بزيادة الائتمان؛ أي بالاقتراض من البنوك. لكن زيادة الائتمان كانت أهم من المشروعات العامة التي أدانها هوتري بوصفها «إحدى العادات الموروثة». وبدأت وزارة الخزانة منذ أواخر عام 1928 سيرا على، نهج هوتري، تدعي أن «ما كان يقصده كينز بالطبع هو تضخم محدد في الائتمان»، وهو ما لم يتماش مع الإبقاء على معيار الذهب. وأملي رئيس الوزراء ستانلي بولدوين هذه الكلمات: «علينا إما أن نأخذ النقود الحالية أو نصدر نقودا جديدة.» ومع استبعاد الخيار الثاني بسبب معيار الذهب، اكتسبت فكرة المزاحمة أرضية أكبر. ولم يكن كينز وقتها قد أعد تحليله الخاص بدالة الاستهلاك/المضاعف ليدحض تلك الفكرة، وحتى لو أعده وطرحه وقتها لأصبحت القابلية لتطبيقه في ظل غياب النقود الرخيصة محل شك.
اتخذ كينز خطوة تجاه إعداد هذا التحليل في عمله «هل يمكن للويد جورج أن ينجح؟» الذي كتبه بالاشتراك مع هوبرت هيندرسون في مايو 1929. ورد كينز على مزاعم «رؤية وزارة الخزانة» بأنه لا توجد مدخرات كافية لتمويل أي استثمار «إضافي» بأن تلك المزاعم افترضت التوظيف الكامل لكل الموارد؛ فقد تضمنت الموارد غير المستخدمة المدخرات غير المستغلة بسبب «التطلع إلى الرخاء». وكانت تلك طريقة غريبة في عرض المسألة. لكن الفكرة التي طرحها كينز - بلغة عمله «بحث في النقود» - هي أن الخسائر الناتجة عن الركود تسببت في انخفاض المدخرات القومية عن مستواها في حالة جني أصحاب المشروعات لأرباح «طبيعية». وكان مضمون ذلك هو أن أي سياسة (بما في ذلك برنامج المشروعات العامة الممولة بالقروض) تنجح في استعادة مستويات الدخول «الطبيعية» ستولد المدخرات المطلوبة لتمويل الاستثمار .
وبالتوازي مع ذلك، لن تقتصر آثار زيادة الإنفاق الحكومي لزيادة نسبة التوظيف على من يتم تشغيلهم في المشروعات الحكومية فحسب ؛ ففي مقابل كل رجل يعمل في مد طريق أو بناء منزل، هناك على الأقل رجل آخر سيجد عملا لإمداده بالمواد الضرورية. وعلاوة على ذلك ستنتج القوة الشرائية الإضافية «قوة تراكمية» تحرك النشاط الاقتصادي؛ مما يجعل آثار التوظيف لأي إنفاق رأسمالي معين أوسع بكثير من الآثار المباشرة وغير المباشرة المشار إليها بالأعلى، رغم أنه «لا يمكن قياس آثار من هذا النوع على أي نحو دقيق.» وكان «مضاعف التوظيف» الذي طرحه ريتشارد كان عام 1931 محاولة لقياس تلك الآثار «التراكمية».
إن المنظور الأكثر مباشرة لتحليل الناتج والتوظيف الذي أفرزه هجوم كينز على «رؤية وزارة الخزانة» في عام 1929 جعل معظم ما ورد في كتاب «بحث في النقود» مجرد إسهاب - من وجهة نظر كينز - حينما نشر في أكتوبر عام 1930. ومع ذلك فقد كان كتابا غنيا بالفهم المؤسسي للأسواق المالية والنقدية، وببعض الأسس النظرية وببعض الأفكار النظرية الفضفاضة التي اتخذها كينز لاحقا نقطة انطلاق له.
من الصعب تلخيص ما جاء في هذا الكتاب؛ لكن فرضيته النظرية الأساسية تقوم على أن الادخار والاستثمار تقوم بهما شريحتان مختلفتان من الناس بدوافع مختلفة، ولا توجد آلية تلقائية في اقتصاد النقود الائتمانية لإبقائهما عند مستوى واحد؛ فهناك سعر ربح على رأس المال (وهو الذي سماه كينز سعر الفائدة «الطبيعي» تبعا لفيكسل)، وهناك سعر فائدة على القروض، وهو سعر «السوق». لكن سعر السوق الذي يريده المقرضون قد يكون أعلى أو أدنى من سعر الربح المتوفر للمستثمرين أو المتوقع من جانبهم؛ لذا تظهر إمكانية عدم إنفاق المستهلكين أو المستثمرين لكل ما يجنونه من دخل.
ويكمن الاستنتاج العملي من كل هذا في أن الموازن الوحيد في اقتصاد النقود الائتمانية هو «السياسة» المصرفية؛ ففي ظل معيار الذهب لم يسمح لبنك إنجلترا بخفض سعر الفائدة البنكية بالقدر الكافي للسماح بمعدل استثمار يكافئ ما يرغب المجتمع في ادخاره، وكانت النتيجة هي انتشار البطالة. وكان تحول كينز من التركيز على المخزون النقدي إلى تدفق الإنفاق حاسما في هذا الشأن؛ فقد أدى عدم كفاية الإنفاق على الاستثمار الذي يرتبط بمعدل الادخار إلى انهيار مستوى الأسعار وارتفاع نسبة البطالة.
كان خروج كينز عن النظرة الكلاسيكية للادخار باعتباره سبيلا تلقائيا للاستثمار أمرا أساسيا من منظور علم النفس الاقتصادي. وقد استبعد نظرية «الإحجام» فيما يخص التقدم الاقتصادي في فقرتين رصينتين:
أصبح من الشائع الاعتقاد أن الثروة المتراكمة في العالم قد جمعت بصعوبة نتيجة الإحجام الاختياري للأفراد عن الاستمتاع الفوري بعملية الاستهلاك، وهو ما نسميه الادخار. لكن يجب أن ندرك أن الإحجام فقط ليس كافيا في حد ذاته لبناء المدن أو تطهير المستنقعات ... بل المشروعات هي التي تبني وتحسن ما يملكه العالم ... فإن سارت المشروعات على نحو جيد، فستتراكم الثروة مهما كان ما يحدث للادخار؛ وإن توقفت، فستتبدد الثروة أيا كان معدل الادخار.
لذا ربما يكون الادخار خادما للمشروعات أو لا. وهو على الأرجح لا يخدمها؛ إذ إن العلاقة بين الادخار والمشروعات ليست مباشرة لكنها وثيقة جدا؛ فكثيرا ما يكون الرابط الذي ينبغي أن يصل بينهما مفقودا. فالادخار ليس هو ما يحرك المشروعات وإنما الربح.
لسوء الحظ، حاول كينز أن يصوغ تلك الأفكار المبهرة على هيئة «معادلات أساسية»، وهي التي ظهرت أصولها في مرحلة سابقة لظهور الكتاب، عندما كان لا يزال يحاول استخدام نظرية كمية النقود في تفسير تقلبات النشاط الاقتصادي. ويصطدم قارئ كتاب «بحث في النقود» بأفكار قديمة وضعها كينز في أثناء تأليفه الكتاب. ومن أجل المواءمة بين الأفكار الجديدة والقديمة، تم استخدام مصطلحات مثل «الدخل» و«الأرباح» و«الادخار» بطريقة خاصة. ورغم أن كينز كان يحاول توضيح أن منع أسعار الفائدة من الانخفاض يمكن أن يؤدي إلى حدوث ركود واستمراره، فقد كان تركيزه منصبا على إحداث تغيير في مستويات الأسعار لا في الناتج والتوظيف.
إن المجموعات الثلاث من التعريفات ذات الصلة هي: (أ) الدخل النقدي للمجتمع (أو الإيرادات «الطبيعية»، أو إيرادات التوازن لعناصر الإنتاج أو تكاليف الإنتاج). (ب) الأرباح التي تعرف بأنها الفرق بين تكاليف الإنتاج وأسعار البيع، وتستبعد الإيرادات «الطبيعية» لأصحاب المشروعات. (ج) الادخار، ويعرف بأنه ذلك الجزء من دخل المجتمع «الطبيعي» الذي لا ينفق على الاستهلاك. وكان الهدف من استبعاد الأرباح والخسائر (التي سماها كينز أيضا المكاسب المفاجئة) من الدخل هو فصل المتغير الذي يسبب زيادة الناتج أو انخفاضه. لكن تلك المحاولة أفضت إلى تعريفات غير عملية للدخل والادخار اللذين كانا سببا في معظم الالتباس. فنحن نتوهم أنهما يظلان ثابتين سواء كانت قيمة الأرباح بالإيجاب أم بالسلب. لكن مسألة «سبق» الادخار الكلي للاستثمار أو «تخلفه» عنه، استندت بالكامل إلى تعريف الادخار والاستثمار.
إن كتاب «بحث في النقود» يعد، من الناحية الشكلية، محاولة لوصف ديناميكيات أي اقتصاد ينتقل من مستوى أسعار (المستهلك) إلى آخر من خلال مجموعة من المعادلات؛ إذ يطرح الكتاب، من ناحية، مسألة تدفق النقود المكتسبة من جانب عناصر الإنتاج خلال عملية إنتاج السلع الاستهلاكية والاستثمارية، ويطرح من الناحية الأخرى مسألة تقسيم تلك النقود لأجزاء تنفق على شراء السلع الاستهلاكية وأجزاء تدخر. ويظل مستوى أسعار السلع الاستهلاكية مستقرا، ما دامت نسب النقود المكتسبة خلال عملية إنتاج السلع الاستهلاكية والاستثمارية بقيت مساوية لنسب النقود التي تنفق على الاستهلاك والادخار الحاليين.
وفي هذه الحالة، تتساوى تكاليف الإنتاج وأسعار بيع السلع الاستهلاكية، وتنعدم الأرباح، ويتساوى الادخار مع تكلفة الاستثمار. لكن - من الناحية الأخرى - إذا أنفق الناس مبالغ أقل على شراء السلع الاستهلاكية من التي اكتسبوها من إنتاجها، فستنخفض أسعار المستهلك. وفي هذه الحالة، ستتجاوز التكاليف الأسعار وتقل الأرباح بالقدر ذاته، وسيسبق الادخار تكلفة الاستثمار.
لقد وضع هذا المنظور المعقد ليؤكد نقطة جوهرية واحدة؛ وهى أنه إن أراد الناس أن يفوق الادخار تكلفة الاستثمار، فسيصاب الاقتصاد ككل بالكساد ما لم يتسبب أي شيء بشكل متزامن في رفع «قيمة» الاستثمار أو ربحيته. ولا يتم التحويل المطلوب للإنفاق من الاستهلاك إلى الاستثمار بشكل تلقائي؛ إذ يعتمد حدوث ذلك على «مجموعة مختلفة من الاعتبارات»؛ وهي ما إذا كانت الربحية المتوقعة للاستثمار في تزايد، أو ما إذا كان سعر الفائدة ينخفض، أو كلاهما، في الوقت نفسه.
يحدث الكساد إن لم يكن الحافز لشراء أجزاء «جديدة » من التجهيزات الرأسمالية كافيا لامتصاص معدل الادخار من الدخل «الطبيعي»؛ بعبارة أخرى، إذا قل سعر الربح المتوقع عن سعر السوق الذي يحدده النظام المصرفي. ويطبق كينز تحليل عدم اليقين الذي بدأه في كتاب «بحث في الإصلاح النقدي» على مجموعة محددة من الأسعار، وهي أسعار السلع الرأسمالية؛ فالتقلبات في سعر الفائدة «الطبيعي» - نتيجة تقلب التوقعات - حول سعر السوق الذي تحدده الممارسات البنكية هو ما يفسر الدورة الاقتصادية.
يتضمن كتاب «بحث في النقود» النقاش الأول من نقاشي كينز المشهورين للجانب النفسي للمضاربة في أسواق الأوراق المالية، والذي تأثر كثيرا بانهيار «الصعود» الطويل لسوق نيويورك للأوراق المالية في عام 1929. وتكمن الفكرة الرئيسية للنقاش في أن جزءا من المدخرات «يحتفظ» به لأغراض المضاربة بسبب عدم اليقين بشأن القيمة المستقبلية للأصول الرأسمالية. فإذا كان يتوقع ارتفاع سعر الأسهم في سوق الأوراق المالية، فستتحول المدخرات إلى «أوراق مالية»؛ والعكس صحيح إذا كان من المتوقع انخفاض سعر الأسهم. وعندما يضارب معظم المستثمرين يحدث صعود في سوق الأوراق المالية؛ وحينما لا يضارب معظمهم يحدث الكساد. وهكذا فإن الاحتفاظ بالأرصدة النقدية بدافع المضاربة قد ورد في كتاب «بحث في النقود»، لكنه لم يتحول إلى ما يعرف بنظرية تفضيل السيولة إلا في كتاب «النظرية العامة».
لم يكن لدى كينز أي شك في أن «الفجوة» بين الاستثمار و«الادخار» يمكن معالجتها عن طريق خفض سعر الفائدة السوقية. لكن ذلك كان متعذرا بسبب معيار الذهب؛ فسعر الفائدة - في اقتصاد مفتوح وفي ظل ثبات سعر الصرف - له وظيفتان قد لا تكونان متسقتين؛ هما: تنظيم الاستثمار، وإدارة ميزان المدفوعات. فإذا تجاوزت رغبة مجتمع ما في إقراض مدخراته للخارج صافي فائضه التصديري، فسيعني ذلك تصدير الذهب، وهو ما ينبغي للسلطة النقدية تعويضه برفع سعر الفائدة؛ الأمر الذي يزيد من تكلفة رأس المال داخل الدولة. وستكون النتيجة النهائية لارتفاع سعر الفائدة البنكية هي انخفاض «معدل كفاءة الأجور» (الدخل القومي)، وهو ما سيسمح بزيادة الفائض التصديري. ويبين هذا مرة أخرى عدم التناسق في فرضية السياسة الاقتصادية الواردة في كتابه «بحث في الإصلاح النقدي». ويظل عرض كينز لأسلوب عمل سعر الفائدة البنكية نموذجيا؛ لكنه قصد نموذج تعديل مستوى الأسعار لا الناتج.
فهل رأى كينز في مرونة الأجور علاجا نهائيا لأي تغير في دالة الاستهلاك أو الاستثمار؟ لقد أوحى أحد أجزاء كتاب «بحث في النقود» بذلك فعلا؛ ففي الكتاب الرابع، نجد قصة كلاسيكية عن دورة الائتمان تعتمد على ضبط تأخر الأجور عن الأسعار؛ ففي مرحلة الصعود الاقتصادي، يكون هناك تضخم سلعي (في الأسعار) وتضخم في الأرباح وتضخم في الدخل، ثم ينعكس الأمر في مرحلة الانكماش؛ حيث تنخفض الأسعار وتنخفض الأرباح، وأخيرا تنخفض الأجور النقدية كإجراء أخير في عملية الضبط. لكن في الباب الثالث يتحدث كينز عن «حكاية الموز المجازية» الشهيرة التي لا تعالج فيها مرونة الأجور الاضطراب الأولي؛ لأنه إذا زاد معدل الادخار المراد نتيجة حملة ادخار مع خفض أصحاب العمل للأجور، «فستقل قدرة الناس على الإنفاق بما يساوي إجمالي تكاليف الإنتاج.» وإن ظلت أسعار الفائدة ثابتة، فلن يحدث التوازن إلا عندما يتوقف الإنتاج كله ويموت الناس جوعا، أو عندما يؤدي الفقر المتزايد إلى تقليل المدخرات، أو «ينشط الاستثمار بطريقة أو بأخرى»؛ من خلال المشروعات العامة الممولة بالقروض، على سبيل المثال.
وإذا استبعد كل من ضبط سعر الفائدة والمشروعات العامة، فلن تبقى أي آلية ضبط واقعية إلا الفقر. ويطلق كينز على ذلك اسم «علاج الطبيعة». لم يوضح كينز بالقدر الكافي أن القصة الأولى (في الكتاب الرابع) تتعلق باقتصاد مفتوح يمكن أن يؤدي خفض التكاليف فيه إلى زيادة الطلب على الصادرات، وأن القصة الثانية تتعلق باقتصاد مغلق ليس فيه قطاع تصديري. كما عجز كينز عن بيان كيف أن «الادخار» يمكن أن يظل متفوقا على الاستثمار في أرض الموز في ظل تراكم الخسائر الاقتصادية وانخفاض الدخل. وكان هذا أهم المشكلات الاقتصادية الفنية في كتاب «بحث في النقود»، الذي نتج إلى حد كبير عن تعريف كينز غير العملي ل «الادخار».
ينبغي أن يكون الهدف الرئيسي للسياسة النقدية القومية هو إقرار سعر فائدة يسمح بالتوظيف الكامل على المدى الطويل في ظل مستوى أسعار معين بتبني أسلوب «كفاءة الأجور». ولا يمكن ضمان استقلال سعر الفائدة هذا إلا عن طريق الضبط الدوري لسعر الصرف. قال كينز إن جمود الأجور وقت الانكماش لا يتماشى مع «المرونة تجاه الإقراض للخارج»؛ لذا تشكك كينز فيما إذا كان «من الحكمة العمل بنظام عملة ذي نطاق أوسع من النظام المصرفي والنظام الجمركي ونظام الأجور.» لكن لم يتعارض هذا التصريح المتطرف عن القومية النقدية على نحو كامل مع فكرة إقرار نظام نقدي دوري أكثر مرونة.
كان كينز محقا عندما اعتبر أن المعادلات الأساسية الواردة في كتابه «بحث في النقود» صور من معادلتي المبادلات الخاصة بفيشر وكامبريدج. لكن التسلسل السببي فيها انعكس؛ فقد كانت القوى المؤثرة في الطلب على الأرصدة النقدية - لا قرارات السلطة النقدية بتوفير تلك الأرصدة - هي ما تتسبب في التغيرات في مستوى الأسعار. لكنه مع ذلك توقع أن تكون السلطة النقدية قادرة على تحييد تأثير تلك القوى من خلال طرح كمية مناسبة من النقود. وكتب يقول:
إن الذين يرجعون السيادة للسلطة النقدية في إدارة الأسعار لا يزعمون بالطبع أن الظروف التي تطرح خلالها النقود هي المؤثر «الوحيد» في مستوى الأسعار؛ إذ إن الاعتقاد بإمكانية إبقاء الاحتياطي عند أي مستوى مرغوب فيه عن طريق ضخ كمية كافية من النقود لا يتعارض مع الإقرار بأن مستوى الاحتياطي يعتمد على عوامل أخرى عديدة بجانب مقدار النقود التي تم ضخها.
اعتمد كينز فيما بين عامي 1929 و1931 على نموذج عدم التوازن بين الادخار والاستثمار في كتابه «بحث في النقود»، باعتباره أساسا لاستشاراته التي قدمها لحكومة رامزي ماكدونالد العمالية حول السياسة النقدية، وذلك في ظل تأثرها بالمراحل الأولى للكساد العالمي. وقدم كينز في لجنة ماكميلان - التي شكلها فيليب سنودن وزير الخزانة في حكومة العمال لاستشارتها في شئون العملة والائتمان - ستة حلول ممكنة للكساد، والتي يمكن تطبيقها على حالة بريطانيا وقتها. وقد استبعد إمكانية تخفيض قيمة العملة واعتبره الملاذ الأخير. كان هناك عدد من الاقتراحات لتخفيض التكاليف المحلية للإنتاج، وكان أحدها - والذي ينص على الاتفاق على خفض مستوى الدخول النقدية - مطابقا لما اقترحه عام 1925، ويمكن إعفاء الصناعات التصديرية من الضرائب مثل اشتراكات التأمين الاجتماعي، أو تخفيض معدلاتها. أما الحلول الثلاثة الأخرى، فكان الهدف منها زيادة نسبة التوظيف في ظل تكاليف الإنتاج القائمة؛ وكان أولها هو الحماية التي «تقوم بما لم تقم به التجارة الحرة في ظل الظروف الحالية.» أما الثاني فتضمن سياسته القديمة لتحويل المدخرات المهدرة في الخارج إلى برنامج المشروعات العامة الممولة بالقروض. وتضمن حله الأخير تنسيق الجهود الدولية من أجل رفع مستوى الأسعار عالميا.
قدمت مجموعة الاقتراحات تلك في شهري فبراير ومارس عام 1930. ورجح اقتراح الحماية في ظل زيادة الكساد العالمي. وعين كينز في المجلس الاستشاري الاقتصادي الجديد الذي شكله رئيس الوزراء حديثا في يناير عام 1930؛ وفي يوليو من العام ذاته عين رئيسا للجنة فرعية من الاقتصاديين ليقدموا «تشخيصا موحدا ... وقائمة مسببة بالحلول الممكنة.» واستخدم كينز في مذكرته المقدمة إلى اللجنة بتاريخ 21 سبتمبر 1930 لغة أنيقة للحديث عن العلاقة بين الوضع الاقتصادي البريطاني الجامد ومكانتها الدولية المتراجعة؛ إذ عرف «التوازن التجاري» بأنه ذلك الذي يسود «عندما تكون النسبة بين مستوى الأجور النقدية في الداخل إلى مستواها في الخارج بحيث يتساوى الميزان الخارجي (أي ميزان الاستثمارات الأجنبية) مضافا إلى حجم الاستثمار في الداخل، في ظل سعر الفائدة الذي تحدده الظروف الدولية ... مع حجم المدخرات في الداخل.» كان أهم عوامل ارتفاع مستوى البطالة في بريطانيا اختلال التوازن التجاري بالعودة إلى معيار الذهب عام 1925 دون خفض التكاليف النقدية للإنتاج. وأدت المبالغة في تحديد قيمة الجنيه الاسترليني إلى تقليل الفائض التصديري المتاح للاستثمار الأجنبي، مع رفع سعر الفائدة البنكية؛ وهو ما قلل من حجم الاستثمار المحلي. وبذلك انخفض إجمالي الاستثمار مقارنة بالادخار في وضع التوظيف الكامل؛ وهو ما أدى لحدوث خسائر اقتصادية وارتفاع مستويات البطالة.
كان من المفترض أن تواجه البدائل المتعلقة بالسياسة الاقتصادية المقترحة في هذا التحليل اختلال التوزان التجاري بتقليل تكاليف الإنتاج (وخاصة الأجور النقدية) أو تحسينها بتقليل ضغط الإقراض للخارج و/أو زيادة الميزان الخارجي في ظل ظروف تجارية معينة؛ وهو ما يشير إلى مزيج من الحماية والاستثمار العام الممول بالقروض. تقبل كينز فكرة الانخفاض الحتمي في مستوى المعيشة في بريطانيا، لكنه قال إن رفع الأسعار كان وسيلة أفضل لتحقيق ذلك من تخفيض الأجور النقدية؛ حيث ستقل المعارضة الاجتماعية ويقع العبء على المجتمع بالكامل، بما في ذلك طبقة أصحاب الدخول الربوية.
استخدم كينز للمرة الأولى في عرضه لفكرة الاستثمار العام الممول بالقروض صيغة بدائية من نظرية المضاعف التي وضعها ريتشارد كان. طرحت فكرة الحماية الجمركية باعتبارها وسيلة لزيادة الميزان الخارجي وزيادة الثقة الاقتصادية، وأيضا نظرا لأن «أي دولة صناعية ربما تكون قادرة مثل نظيراتها على تصنيع الغالبية العظمي من المنتجات.» وكانت تلك الفكرة انتهاكا جوهريا لفكر التجارة الحرة. وفي حال رفض الحكومة لمثل تلك السياسات، فمن المنطقي أنها ستضطر إلى محاولة تحقيق التوازن التجاري بتفعيل خطط الانكماش. وسيكون التذبذب بين الجانبين هو أسوأ اختيار.
دفع استبعاد تخفيض قيمة العملة بجانب أهمية «الثقة» الاقتصادية كينز إلى طرح دفاع مبني على أسس نظرية عن سياسة الحماية؛ باعتبارها «علاجه» المفضل للكساد في الفترة التي انتهت بتخلي بريطانيا عن معيار الذهب في سبتمبر عام 1931. وراع كينز في أثناء التوصل إلى تلك النتيجة المتحفظة - وإن كانت راديكالية من الناحية النظرية - الحجج التي قدمها كل من بنك إنجلترا ووزارة الخزانة إلى لجنة ماكميلان في وقت سابق من نفس العام؛ فقد أعرب بنك إنجلترا عن شكه في اعتقاد كينز الخاص بالفاعلية المطلقة للسياسة النقدية؛ إذ قال المتحدث باسم البنك إن خفض سعر الفائدة ليس كافيا لدفع المستثمرين للاقتراض إذا كانت احتمالات الاستثمار سيئة؛ فذلك مثل الفرس الذي من الممكن توجيهه ناحية الماء لكن لا يمكن إجباره على الشرب. وقال السير ريتشارد هوبكنز، أحد المسئولين بوزارة الخزانة، إن برنامج المشروعات العامة الممولة بالقروض سيؤدي لمزاحمة «نفسية» للاستثمار الخاص إذا انتشر عدم الثقة في المشروعات التي من المقرر إنفاق إيرادات القروض عليها، أو في تولي الحكومة عملية الإنفاق؛ فقد كانت الحماية هي السياسة الوحيدة التي وعدت بتحقيق المتطلبات النظرية والثقة المطلوبة للنجاح في ظل الظروف المحددة.
وأثرت تلك الاعتبارات في التطور اللاحق في نظرية كينز وكذلك في الثورة الكينزية في صناعة السياسات الاقتصادية؛ إذ تضمن وضع نماذج نظرية «مناسبة» للعالم الواقعي وضع أدوات متعلقة بالسياسات تناسب النطاق الواسع للظروف الواقعية؛ فكينز المنظر لم ينفصل قط عن كينز مستشار السياسات الاقتصادية.
الفصل الرابع
النظرية العامة
يشترك كتابا كينز «بحث في النقود» و«النظرية العامة للتوظيف والفائدة والنقود» في جوهر فكري قوي واحد؛ إذ إن الفصل بين خطط الادخار والاستثمار، وعدم وجود أي «عملية اقتصادية فعالة» (بحسب كلمات صامويلسون) للموازنة بينهما، وثبات الاستهلاك في مقابل تذبذب الاستثمار، ووظيفة النقود باعتبارها مخزنا للقيمة؛ كلها أفكار وردت في كتاب «بحث في النقود». وأضاف كتاب «النظرية العامة» آلية موحدة في صورة «مبدأ الطلب الفعال». وللمرة الأولى يطرح كينز في حياته المهنية نظرية للعرض والطلب على الناتج ككل؛ فقد أوضح أنه إذا قل الطلب عن العرض، فربما يقل الناتج ليعود التوازن بينهما مرة أخرى، وهو ما طرح إمكانية «وصول الاقتصاد إلى حالة من التوازن المستقر ... في مستوى أدنى من التوظيف الكامل.» وكان هذا هو الاكتشاف المهم بالنسبة للاقتصاديين الذين أرادوا تحسين أوضاع العالم؛ إذ فسر أسباب الكساد وبين الخطوات المطلوبة للخروج منه.
لقد حول الكتاب الجديد - بحسب اعتقاد كينز - الانتباه من تحليل «أسباب» حدوث تغير في مستوى الناتج إلى تحليل «توابع» هذا التغير، وهي نقطة تركت «ناقصة وملتبسة جدا» في الكتاب السابق. وكان هذا أقرب ما يكون للقول إن كلا الكتابين ضروريان لفهم «الصورة الكلية» للاقتصاديات الحديثة. أما من الناحية الفعلية، فقد أهمل كتاب «بحث في النقود»، بينما أصبح كتاب «النظرية العامة» المرجع الأساسي بالنسبة للاقتصاديين ولرجال السياسة الذين يستشيرونهم.
لولا انهيار الاقتصاد العالمي، لكان من المستبعد أن يهتم كينز أو غيره بالتركيز على النتائج بدلا من الأسباب. فلم يكن ما يريد الجميع تحليله في ثلاثينيات القرن العشرين هو العقبات المؤسسية أمام الانتقال من أحد أوضاع التوازن المرضي إلى وضع آخر، بل كان المراد هو تحليل العوامل القادرة على إبقاء النشاط الاقتصادي عند مستويات منخفضة. كذلك كان المطلوب من السياسة الاقتصادية ألا تمنع التقلبات في توازن التوظيف الكامل - وهو الهدف التقليدي للمصلحين النقديين - بل أن ترفع مستوى توازن التوظيف. وقدم كينز كلا من النظرية والخطة العملية للظروف الجديدة. وتحتل الجوانب النفسية ومبدأ التوقعات بؤرة تصوره التحليلي، كما قدم مفاهيم ومصطلحات وأدوات جديدة تفيد صانع السياسة على نحو مباشر.
لقد تأثر فكر كينز على نحو مباشر بالكساد العالمي بطريقتين؛ أولا: بدد الكساد إيمانه بقوة السياسة النقدية، وهو انحراف جذري عن ماضيه الشخصي. ورغم توافر النقود الرخيصة بعد تخفيض قيمة الجنيه الاسترليني عام 1931، فقد كانت معدلات التعافي ضعيفة جدا. واستنتج كينز أن «تدخل الدولة المباشر لتعزيز الاستثمارات الجديدة ودعمها» ربما يمثل «السبيل الوحيد لتفادي الوقوع في حالة كساد طويلة، وربما دائمة.»
ثانيا: أدى الكساد لتحول تركيز كينز - أكثر من أي شيء آخر - من بريطانيا إلى الولايات المتحدة؛ فقد كانت الإشكالية في كتاب «بحث في النقود» هي جمود اقتصاد مع وجود مبالغة في تقييم سعر الصرف. أما الأجور والأسعار في أمريكا، فكانت أكثر مرونة بكثير من نظيرتها في بريطانيا، وكان القطاع الأجنبي الأمريكي أصغر بكثير، ومع ذلك كان انهيار الناتج هناك أشد وطأة. فحفزت الأحداث في أمريكا كينز على التفكير بصورة أعم في مشكلة الاقتصاديات الغنية. كما أدت عمومية الكساد على مستوى العالم إلى استبعاد حلول تتضمن خفض قيمة العملة أو الحماية أو غيرها من العناصر «الخارجية». حاول كينز في كتاب «النظرية العامة» تفسير إمكانية أن يتسبب غلق باب الاستثمار مقترنا بالميل الكبير للادخار في حدوث بطالة متوطنة «قسرية» على نطاق واسع في المجتمعات الغربية الغنية. ويمكن اعتبار كل من نموذج «الاقتصاد المغلق» في كتاب «النظرية العامة» والمدرسة «المالية» الكينزية بمنزلة نتائج للكساد العالمي .
كما تأثرت إحدى المسائل الفنية المبكرة التي أثارها كتاب «بحث في النقود» بالوضع العالمي. فالمعادلات الأساسية هي معادلات متعلقة بمستوى الأسعار . والتغيرات في الناتج وفي وضع التوظيف ليست سوى أحداث - حتى وإن كانت أحداثا مطولة ومؤلمة - في سياق ضبط تكلفة إنتاج الناتج وفقا للأسعار التي يمكن بيعه بها على نحو مربح. وبدت هذه الرؤية التحليلية - المستمدة من كتاب سابق لكينز؛ وهو «بحث في الإصلاح النقدي» - ملائمة للكساد الذي حدث في عامي 1920 و1921، حينما بدا أن انخفاض الناتج ونسبة التوظيف كان نتيجة لانخفاض الأسعار. لكن تلك الرؤية تعارضت مع ما حدث في الكساد الذي وقع في عامي 1930 و1931 الذي ظهرت آثاره الأولى وأشدها وأبقاها في الدول الصناعية على مستويات الناتج والتوظيف لا الأسعار.
وحتى قبل نشر كتاب «بحث في النقود» حاول رالف هوتري إقناع كينز بتحويل انتباهه من التغيرات في الناتج إلى التغيرات في الإنفاق؛ إذ كتب هوتري لكينز في عام 1930 يقول: «إن حدث أي شيء يؤثر في الطلب على السلع، فإن أول نتيجة ستكون الزيادة أو النقص في المبيعات «في ظل الأسعار القائمة» ... فهناك دائما فاصل زمني قبل أن تضبط الأسعار، وربما يكون الفاصل كبيرا.» وفي 28 نوفمبر 1930 أقر كينز أن التغيرات في الأسعار وفي الناتج ربما تلعب دورا في ضبط الاقتصاد عند حدوث زيادة أو نقص شديد في الطلب، كما أقر أنه «ربما يكون من الصعب منع النظرية النقدية ونظرية العرض قصير الأجل من العمل معا في المستقبل.» فقد رأى كينز أن الآثار المباشرة للتغيرات في الإنفاق على الكميات تغطي على آثارها على التكاليف والأسعار.
وأثار تحليل عدم التوازن في كتاب «بحث في النقود» مشكلة فنية مختلفة؛ إذ كيف افترض كينز التعامل مع «زيادة الادخار على الاستثمار» إن لم يكن سعر الفائدة - لسبب أو لآخر - قابلا للانخفاض؟ فقد رأى كينز في قصة الموز المجازية أن زيادة الفقر في المجتمع ستؤدي في النهاية إلى استعادة التوازن بتقليل حجم الادخار. لكن هذه الصورة الهلامية لآلية ضبط الدخل أعاقتها تعريفات الكتاب التي جعلت «زيادة الادخار عن الاستثمار» مساوية للخسائر الاقتصادية. وكان هذا يعني أن الادخار سيكون دائما أكبر من الاستثمار في حالة انهيار الاقتصاد. وكان نقد دينيس روبرتسون في سبتمبر عام 1931 حاسما في هذا الشأن؛ حيث قال:
من بين من يؤيدون الادعاء بأن الكساد سببه زيادة الادخار على الاستثمار ... كم يبلغ عدد هؤلاء الذين يدركون أن جانبا كبيرا من المدخرات التي تكون وافرة جدا في أثناء الكساد عبارة عن دخول أصحاب المشروعات التي لا تنفق، لسبب بسيط هو أنهم لم يكتسبوها؟
وإذا كانت خسائر رجال الأعمال تعتبر اقتطاعات من الدخل القومي، فقد اختفت «المدخرات الزائدة».
وفي ملاحظة بتاريخ 22 مارس 1932 أظهر كينز الاحترام لروبرتسون (بالإضافة إلى هوتري وهايك) باقتراح وضع تعريف ل «الدخل الإجمالي» ليشمل الخسائر والأرباح «غير العادية» لكي «يحدث توازن بين الادخار والاستثمار بالضرورة في كل الأوقات.» وعندها «يضبط أي ادخار من الدخل الإجمالي من نفسه ليتوافق دائما وبالضرورة مع الاستثمار ... فلم يعد الادخار هو الأساس بل صار تابعا.» لذا كان بمقدور كينز بحلول 2 مايو 1932 أن يقول: إن «حجم التوظيف يعتمد على حجم الاستثمار ... وإن أي شيء يزيد الأخير أو ينقصه سيزيد الأول أو ينقصه بالتبعية.»
بدأت العناصر الأساسية التي يقوم عليها كتاب «النظرية العامة» - وهي الاستهلاك والاستثمار والدخل والناتج - في الظهور من بين حطام التعريفات الخاصة لكتاب «بحث في النقود». وتخضع تلك العناصر للقياس الإحصائي؛ ومن ثم محاسبة الدخل القومي؛ ومن ثم أهداف محددة للسياسة الاقتصادية. «أيها السادة، إن تغيير عنوان هذه المحاضرات من «النظرية البحتة للنقود» إلى «النظرية النقدية للإنتاج» هو تغيير ذو مغزى.» هذه هي الكلمات - كما يتذكر لوري تارشيس - التي افتتح بها كينز في 10 أكتوبر عام 1932 «أولى محاضراته الثمانية، والتي أعلنت بالفعل عن انطلاق الثورة الكينزية.» كان استفسار كينز هو: ما الذي يحدد حجم الناتج في اقتصاد نقدي؟ والإجابة عن هذا السؤال كانت في كتاب «النظرية العامة»، لكن معظم الإجابة كان لا يزال كامنا في لغة كتاب «بحث في النقود» ومفاهيمه. ومع ذلك برز الكثير من لبنات كتاب «النظرية العامة» المألوفة. واتضحت أكثر في مجموعة المحاضرات التي ألقاها كينز في خريف عام 1933.
يتحدد حجم الناتج حسب إجمالي «الدفع» أو الإنفاق؛ فإذا نقص الإنفاق على الناتج الجاري عن الدخل الجاري - أي، بلغة كتاب «بحث في النقود»، إذا قلت عوائد المبيعات للناتج الجاري عن تكاليف إنتاجه - يجب أن ينخفض الدخل إلى مستوى الإنفاق من خلال انخفاض في الناتج والتوظيف. ولتفسير كيف يمكن تقليل تكاليف الإنتاج بتقليل نسبة التوظيف بدلا من تقليل الأجور، قدم كينز مسودة أولية للفصل الثاني من كتاب «النظرية العامة». واحتدم الجدال في عام 1933 بسبب الفرضية القائلة إن الأجور الحقيقية تعتمد على حالة الطلب الفعال، لا على مفاوضات الأجور النقدية («ربما لا مفر للعمالة من الحصول على أجور حقيقية مرتفعة في أثناء الكساد») وبسبب ظهور مفهوم «البطالة القسرية» في المقابل. وفي ظل غياب إمكانية ضبط الأجور الحقيقية، يصبح استناد النظرية الكلاسيكية على قانون ساي - الذي ينص على أن «العرض يخلق الطلب المكافئ له» - للحفاظ المستمر على وضع التوظيف الكامل أمرا مؤكدا كذلك.
يتحدد الإنفاق - في الاقتصاد الحر - تبعا «للعوامل النفسية للسوق» وهي: حالة التفضيل الزمني (والتي أطلق عليها دالة الاستهلاك لاحقا) التي تربط بين الادخار والدخل، و«أشباه العوائد» المتوقعة أو الربحية المتوقعة للاستثمار (والتي أطلق عليها لاحقا الكفاءة الحدية لرأس المال)، وحالة تفضيل السيولة التي تحدد إلى جانب كمية النقود سعر الفائدة. وتنبئنا تلك المعاملات الخاصة بالاقتصاد النقدي، بجانب جدول إجمالي العرض و«استجابة الأرباح» (للتكاليف في مقابل الأسعار) «بحالة الناتج المترتبة ... وكيفية التأثير في تلك المعاملات للحصول على مستوى الناتج المرغوب.» وطرح هذا بشكل أوضح في عام 1933: «إن القوى الأساسية في تحديد حجم التوظيف هي حالة الثقة والميل للاستهلاك وتفضيل السيولة وكمية النقود. ويمكننا أن نسمي هذا «القانون العام للتوظيف».» وبذلك يكون قد سلط الضوء بقوة أكثر على دور التوقعات وعدم اليقين.
أدرك كينز أن تحديد حجم الإنفاق الإجمالي من خلال «العوامل النفسية» ربما لا يكون كافيا للحفاظ على وضع توظيف ناتج كامل، لكنه لم يذكر السبب بدقة في عام 1932. كان كينز مدركا بالفعل أن سعر الفائدة يتحدد وفق الطلب على النقود لا الطلب على القروض. وبناء على ذلك ، فإن سعر الفائدة «يثبت القيمة الحالية لأشباه العوائد المتوقعة.» لكنه لم يجهر صراحة برأيه الأخير القائل إن صحة قانون ساي تعتمد على فاعلية الآلية الكلاسيكية لضبط سعر الفائدة؛ إذ تمسك برأيه الوارد في كتاب «بحث في النقود» الذي يرى أن السلطة النقدية لها السيطرة الكاملة على الأسعار على المدى القصير والطويل، وأن واجبها هو «إقرار سعر الفائدة الذي يحقق مستوى الاستثمار الأمثل.» ولم يطرح كينز الفرضية القائلة إن الاحتفاظ بالنقود بدافع المضاربة ربما يمهد الطريق لانخفاض سعر الفائدة بشكل واضح حتى عام 1933.
وتساءل كينز: كيف يمكن - في ظل غياب سياسة تحقق الاستقرار - منع الدخل والناتج من الانخفاض «حتى يتوقف الإنتاج بشكل تام»؟ والإجابة المختصرة هي أنه بعد أي صدمة للاستثمار ينخفض الإنفاق (الاستهلاك) بمعدل أقل من الدخل، وهذا ما يجعل «التوازن المستقر» ممكنا. وذكرت هذه الإجابة هي الأخرى بشكل أوضح عام 1933 حينما قال كينز: «يجب أن يتساوى الادخار والاستثمار، وسيضبط الدخل نفسه ليحقق هذا الشرط.» فلا يمكن زيادة الدخل وهو في مستوى متدن ما لم يقل «الميل للادخار» أو يزيد حجم الاستثمار. وكانت الميزة التي قدمتها صيغة كينز الأقل دقة المطروحة عام 1932 هي أنها احتفظت بالتحليل الدوري الوارد في كتاب «بحث في النقود». فانخفاض الدخل يميل لإحداث انخفاض في أسعار الفائدة مع ارتفاع نسبة المخزون النقدي إلى الدخل، وهو ما يسمح بزيادة الاستثمار. لكن في حال عدم خفض سعر الفائدة على نحو أكبر من خلال السياسة المصرفية، «فربما لا تتم الزيادة في الاستثمار ... بنفس سرعة الزيادة في المدخرات مع اتجاه الناتج للزيادة من جديد»، وهو ما يسبب توقف التعافي قبل الوصول إلى وضع التوظيف الكامل. ويعطي هذا صورة لمفهوم كينز عن «التوازن» دون المستوى الطبيعي، والتي هي أشمل مما نجح في بيانه في كتاب «النظرية العامة»، الذي صمم تحليله الثابت لإصلاح الاقتصاد في وقت ما من أجل تحديد هدف دقيق أمام السياسة الاقتصادية.
وكان من بين أسباب عدم الدقة النسبية في محاضرات كينز عام 1932 أنه لم يستخدم نظرية المضاعف لريتشارد كان؛ فقد عجز تماما مثل «كان» عن إدراك الصلة المنطقية بينها وبين تحليل التوازن النقدي.
كتب ريتشارد كان مقاله «العلاقة بين الاستثمار الداخلي والبطالة»، المنشور في دورية «إيكونوميك جورنال» في يونيو 1931، ليهاجم اعتراضات وزارة الخزانة البريطانية على برامج المشروعات العامة الممولة بالقروض بوصفها علاجا للبطالة. وقد بنيت تلك الاعتراضات على ضآلة حجم التوظيف الذي يوفره إنفاق نقدي معين والعبء الناتج على الميزانية وعلى فكرة «مزاحمة» الاستثمار الخاص. وأكد كينز وهيندرسون في كتيبهما «هل يمكن للويد جورج أن ينجح؟» الذي ظهر في عام 1929 أن برامج المشروعات العامة ستوفر، بجانب قدر يمكن حسابه من التوظيف الأساسي، قدرا من التوظيف «الثانوي» الناتج عن إنفاق العاملين الجدد لأجورهم، لكن هذا التوظيف الثانوي لا يمكن حسابه. وكان السؤال الذي طرحه كان هو: ما الذي قد يمنع الزيادة في دخل فرد ما بمقدار جنيه استرليني واحد من زيادة دخل المجتمع على نحو لا نهائي؟ الإجابة البديهية هي أن جزءا من الدخل الإضافي سيدخر في كل مرة يتم إنفاقه حتى يتبدد أثر الزيادة. وإذا فرض معرفة حجم ذلك الجزء المدخر، فإن إجمالي الدخل الزائد أو التوظيف الثانوي يمكن حسابه، وسيكون رقما محدودا يمكن التعبير عنه بنسبة أو مضاعف للاستثمار الأولي أو للتوظيف الأساسي. بالإضافة إلى ذلك، فإن قدر الاستثمار الإضافي سيخلق قدر ادخار مكافئا من خلال رفع الدخول الإجمالية، وهذا يؤكد افتراض كينز أن «الاستثمار يجر الادخار دائما ليسير بنفس الإيقاع»، كما يدحض ادعاء وزارة الخزانة بأن الاستثمار العام الممول بالقروض سيسحب المدخرات من الاستخدامات القائمة بالفعل. ويعد ذلك جوهر نظرية المضاعف.
ولم تكن نظرية كان صحيحة؛ إذ إنه حسب «تسربات» من تدفق الإنفاق الزائد بخصم مدفوعات البطالة (أي ما ينفقه العاطلون بالفعل) وكذلك الإنفاق الإضافي على الواردات (الذي لم يكن يزيد التوظيف الداخلي على نحو مباشر)، كما لم يدرك أن صيغته أقرت التساوي الضروري بين الادخار والاستثمار. (ففي أي اقتصاد «مفتوح» لا يكون التساوي ضروريا بين الادخار والاستثمار؛ بل بين الادخار والواردات من جهة، والاستثمارات والصادرات من الجهة الأخرى.) طرحت فكرة تسرب الادخار «الشخصي» لأول مرة في أدبيات نظرية المضاعف في مقال للمتخصص الدنماركي، ينس فارمنج، في دورية «إيكونوميك جورنال» في يونيو 1932. جمع فارمنج «بين دالة ادخار شخصي مرتبط بالدخل على نحو حصري ومعادلات المضاعف الجبرية لكان من أجل وضع آلية لضبط الدخل توازن الادخار مع التغير الأولي في الاستثمار.» رأى كينز بشكل شبه مؤكد مقال فارمنج عندما قدم لأول مرة إلى دورية «إيكونوميك جورنال»؛ لذا فمن المرجح أن التأثير النظري انتقل على نحو مباشر أكثر من فارمنج، وليس من كان، إلى كينز في تلك المرحلة. وطرح كان - المتأثر هو الآخر بفارمنج - صيغة لنظرية المضاعف مشتقة من الميول الحدية للادخار والاستيراد في بحثه في سينسيناتي بالولايات المتحدة في ديسمبر 1932. وتضمن عمل كينز «الطريق إلى الرخاء» الذي نشر بعدها بثلاثة أشهر عرضا لتلك النسخة المعدلة من نظرية المضاعف لكان، لدعم حجته بشأن برامج المشروعات العامة الممولة بالقروض.
تعد نظرية المضاعف أبرز النقاط سيئة السمعة في الفكر الكينزي؛ فقد نشأت من قضية الثقة (أو «المزاحمة») ومن مشكلة تمويل الميزانية. واعتمدت دقة مضاعف التوظيف - في مقابل مضاعف الدخل - دائما على نقطة الثقة؛ حيث استندت إلى الافتراض العشوائي بشأن كيفية تقسيم الإنفاق الإضافي بين زيادة الإنتاج وارتفاع الأسعار. ولم يحظ هذا الأمر باهتمام كبير في بداية ثلاثينيات القرن العشرين حينما كانت الأسعار في انخفاض، إلا أنها أصبحت لها آثار قاتلة بعد الحرب. ربما يؤكد كثير من أتباع المدرسة الكينزية بكل ثقة أن «الكميات هي التي تتغير لا الأسعار». لكن تشكك كينز الشهير في فكرة «المستقبل الممكن تقديره» راح في ذلك الوضع ضحية للدافع العاطفي لديه لتقديم أدوات عمل للحكومات.
ثار جدل واسع عن مسألة التوقيت الذي توصل فيه كينز على وجه التحديد إلى نظريته الجديدة الخاصة بالعرض الفعال. لم يكن ثمة اختلاف أن ذلك حدث في عامي 1932 و1933. لكن ما عدا ذلك يعتمد على اختبار فهمه لها. ربما من الأفضل أن تترك لكينز الكلمة الأخيرة في هذا الشأن، رغم أن ذلك مستحيل؛ فقد أوضح في محاضرة له بتاريخ 6 نوفمبر 1933 أن الأفكار الجديدة تظهر في البداية في صورة «كيان مخيف باهت غامض فوضوي» في عقل الإنسان، ثم «تأتي الصيغة اللغوية الدقيقة عنها في مرحلة متأخرة من تطورها. فمن الممكن أن تفكر بدقة ووضوح قبل وقت طويل من تمكنك - إن جاز التعبير - من التصوير الفعلي لأفكارك.» لقد عرف كينز أكثر مما استطاع التعبير عنه في خريف عام 1932، لكنه كان أكثر ثقة فيما عرفه في العام التالي؛ لذا استطاع أن يعبر عنه على نحو أفضل.
إن كتاب «النظرية العامة» المنشور في 4 فبراير 1936 هو عمل يتميز بسحر أبدي؛ فهو كتاب بسيط ودقيق، غامض وعميق؛ فقد قدم طريقة منهجية للتفكير، ليس فيما يخص سلوك الاقتصاديات المعاصرة وحسب، بل أيضا فيما يخص العقبات في الطريق إلى زيادة الثروة في كل الأزمان؛ فقد جمع بين تصور لسلوك الاقتصاديات وبيان دقيق لإمكانية تحقيق التوازن في حالة نقص التوظيف. ورغم أن صغار الاقتصاديين ذوي النزعة التأملية انجذبوا إليه، باعتباره يحوي حصيلة من الأفكار الملهمة، فقد كانت فائدته العملية هي ما جذبتهم إليه في عالم يترنح بين ديمقراطية آفلة وشمولية فتية.
ليس الكتاب على نفس الدرجة من سوء التنظيم كما يشاع عنه؛ فمن يبدأ الكتاب بقراءة الفصل الثالث، ثم الفصول من الثامن وحتى الثالث عشر، ثم الفصل الثامن عشر، فسيكون تصورا دقيقا لجوهر نظرية كينز. وتظهر الإشكاليات الأساسية عندما يحاول كينز الربط بين نظريته وما يسميه «النظرية الكلاسيكية» عن طريق التعليق أو محاولة التوفيق بينهما أو النقد الهدام، وهو الأسلوب الأكثر استخداما. وتزداد حدة الإشكاليات تحديدا في الفصل الثاني وهو بعنوان «مسلمات علم الاقتصاد الكلاسيكي»، والفصلين الرابع عشر والخامس عشر اللذين يتناولان النظرية الكلاسيكية لسعر الفائدة ونظرية كينز عن الفائدة في صورتها الأكثر اكتمالا، وكذلك في الكتاب الخامس عن «الأجور النقدية والأسعار». ومن الأفضل قراءة الفصل السادس عشر «ملاحظات متعددة عن طبيعة رأس المال» والفصل السابع عشر «الخصائص الجوهرية للفائدة والنقود»، بجانب الكتاب السادس (الفصول من الثاني والعشرين وحتى الرابع والعشرين ) باعتبارها أفكارا عامة تأملية حالمة نابعة من جوهر النظرية. كما يمكن تخطي الكتاب الثاني «تعريفات وأفكار»، وهو ما يحدث في العادة.
لقد استخدم كينز في كتاب «النظرية العامة» تحليلا «قصير الأجل» خاصا بمارشال. فبما أن رأس المال المساهم به ثابت، فإن السبيل الوحيد لضبط الاقتصاد مع زيادة أو نقص شديد في الطلب هو الاستخدام المكثف بشكل أو بآخر للموجودات القائمة. وبدت هذه أداة تحليلية منطقية وسط ظروف الكساد الكبير. لكنها استبعدت التغيرات في «هيكل الإنتاج» التي اعتبرها اقتصاديو المدرستين النمساوية والسويدية أساسية في عملية الضبط، سواء كانت مصحوبة بالبطالة أم لا.
هناك سمة أخرى لمنهج كينز التحليلي جديرة بالملاحظة؛ فقد تخلى عن المنطق الفالراسي للتوازن العام لصالح التسلسل السببي المنطقي. وكان التسلسل التالي أساسيا في كتاب «النظرية العامة»: بفرض الميل إلى الاستهلاك، يتحدد حجم التوظيف وفقا لحجم الاستثمار؛ وبفرض توقع ربحية الاستثمار، يتحدد حجم الاستثمار تبعا لسعر الفائدة؛ وبفرض معرفة كمية النقود، يتحدد سعر الفائدة حسب حجم تفضيل السيولة. ويستخدم هذا التسلسل السببي، كما سنرى، لإثبات أنه إذا كان الدخل (عوائد المبيعات) الذي يتوقعه أصحاب المشروعات من تشغيل عدد معين من الناس يتوقع أن يقل عن تكلفة تشغيل هذا العدد، فسينخفض الناتج ونسبة التوظيف حتى تتساوى تكاليف التوظيف مع عوائد المبيعات المتوقعة.
يعيد كينز ترتيب الرؤية «الكلاسيكية» التي تقول إن البطالة القسرية مستحيلة في ضوء نفس التسلسل السببي المنطقي لتأكيد اعتمادها على النظرية الكلاسيكية لسعر الفائدة. فبفرض معرفة الأجور الحقيقية، تعتمد نسبة التوظيف على قانون ساي، الذي ينص على أن «العرض يخلق الطلب المكافئ له»؛ وبفرض توقع ربحية الاستثمار، يعتمد قانون ساي على تحديد سعر الفائدة على نحو حصري في سوق القروض. وإن لم يكن هذا صحيحا، فستنهار النظرية الكلاسيكية تماما.
وينبغي إيضاح ثلاث نقاط بخصوص تعريفات كينز (الكتاب الثاني) قبل أن نعرض للأفكار الرئيسية؛ أولا : يتساوى الادخار والاستثمار طبقا للمعادلات التالية: الدخل = الاستهلاك + الاستثمار، الادخار = الدخل − الاستهلاك، الادخار = الاستثمار. وهذا يطرح السؤال التالي: ما الذي يمكن ضبطه في الاقتصاد لتكون المعادلة الأخيرة صحيحة؟ ثانيا: اقترح كينز تقليص التغيرات في الدخل الاسمي من خلال أسعار الأجور - وهى المدفوعات النقدية لكل ساعة عمل - وذلك من أجل قياس تأثير التغير في الطلب على التوظيف. وبافتراض معرفة متوسط أسعار الأجور، فسيتغير حجم التوظيف بنفس حجم التغير في الدخل الاسمي. بدا هذا تبسيطا منطقيا قصير الأجل، لكنه طرح السؤال عن كيفية مشاركة آثار عملية الضبط بين التوظيف والأجور في الظروف الفعلية. وأخيرا: قدم كينز «منهج التوقعات» لتحديد التوازن قصير الأجل من خلال جعل التوظيف قصير الأجل يعتمد بالأساس على توقعات الأرباح طويلة الأجل.
طرح كتاب «النظرية العامة» على نحو صريح فكرة لم ترد في كتابيه السابقين إلا ضمنا؛ وهي أن النقود ليست فقط مجرد وسط للتبادل، بل هي كذلك مخزن للقيمة. والشرط الرئيسي لوظيفة النقود تلك هو عدم اليقين؛ فالاحتفاظ بالنقود يقلل التعرض للمخاطر، وبذلك يخفف التوتر. ومن سوء الحظ أن كينز لم يطرح فكرة «الطلب على النقود» في «تسلسله السببي» إلا في جزء متأخر نسبيا من الكتاب؛ حيث إن جميع استنتاجات كينز - وسبب تأليفه للكتاب - تنبع من إدراكه أنه حينما يزداد عدم اليقين على نحو كبير جدا، تمثل السيولة انسحابا من النشاط الاقتصادي. ويواجه صاحب المشروع دائما الاختيار بين استخدام النقود بشكل أو بآخر أو عدم استخدامها على الإطلاق؛ لذا تمثل حرية عدم الإنفاق لدى الناس في اقتصاد نقدي الجوهر المنطقي لرفض كينز فكرة أن «العرض يخلق الطلب المكافئ له»، ولطرحه فكرة أن «الإنفاق يخلق الدخل المكافئ له.» وتعد هذه الأفكار أساس «رؤيته».
يعد الكتابان الثالث والرابع - اللذان يتناولان الطلب على الاستهلاك والطلب على الاستثمار وسعر الفائدة - هما اللب التحليلي لكتاب كينز؛ لأن تلك المتغيرات هي ما يحدد حجم الناتج ونسبة التوظيف. ويمثل «الميل للاستهلاك» (ومن ثم للادخار) على المدى القصير نسبة «مستقرة إلى حد ما» من الدخل الجاري . ويتيح شكل الدالة (أو الأجزاء المدخرة من الدخل المتزايد أو المتناقص) حساب رقم محدد (عن طريق المضاعف) لحجم ضبط الدخل المطلوب للموازنة بين خطط الادخار والاستثمار. وتمكن دالة الاستهلاك كينز من تفسير سبب عدم استمرار الدخل والناتج، بعد حدوث زيادة أو نقص شديد في الطلب، في الانخفاض إلى الأبد (كما في أرض الموز)، بل يصبحان في وضع من «التوازن في حالة نقص التوظيف»، كما تمكن الدالة الحكومات من معرفة حجم النقود الإضافية الواجب أن تنفقها لتفادي «فجوة الناتج». وتعد الدالة بجانب مضاعف الاستثمار أهم أدوات السياسة الاقتصادية التي قدمها كتاب «النظرية العامة» لنا.
من المهم ملاحظة أنه بينما يتساوى الادخار والاستثمار «الفعليان»، فإنه ليس من الضروري أن يتساوى الادخار والاستثمار «المخططان». وعندما لا يتساويان، فإن بعض الخطط على الأقل ستتحقق وتفوق التوقعات أو تخيب. فإذا زاد الادخار المخطط عن الاستثمار المخطط، فسيتجه الاقتصاد نحو الانكماش. وإذا زاد الاستثمار المخطط عن الادخار المخطط، فسيتجه الاقتصاد نحو التوسع.
وبهذا يقلب كينز علم النفس الكلاسيكي رأسا على عقب؛ إذ يمدح الاقتصاديون الكلاسيكيون «الاكتناز» أو «الادخار» بوصفه وسيلة لزيادة المعروض من رأس المال. وتضمنت فكرة كينز عن «مفارقة الادخار» أن أي زيادة في الادخار المخطط يمكن أن تؤدي إلى حدوث انخفاض في الادخار الفعلي بسبب انخفاض الدخل، ما لم يرتفع مستوى ربحية الاستثمار المتوقعة على نحو مستقل. لكن وجود زيادة في الميل للادخار يمكن أن يأتي بنتائج عكسية على الاستثمار؛ إذ يمكن أن يقلل توقعات أصحاب المشروعات للاستهلاك المستقبلي الذي تعتمد عليه ربحية الاستثمار. هذا بخلاف أن مشكلة توفير القدر الملائم من الاستثمار - في ظل زيادة الميل الحدي للادخار بزيادة الدخل - تميل إلى التفاقم بمرور الوقت. فلتحقيق مستوى التوظيف الكامل يحتاج المجتمع الغني أن يستثمر نسبة أكبر من دخله، حتى إن انخفضت ربحية الاستثمار المتوقعة؛ لأن الفجوة بين الدخل والاستهلاك ستزداد.
وبافتراض وجود «ميل للاستهلاك»، فإن حجم التوظيف يعتمد على معدل الاستثمار أو على الزيادة في رأس المال المساهم به. كما يظهر «الحافز على الاستثمار» عندما يكون العائد المتوقع للاستثمار أعلى من تكلفة القيام به؛ أي عندما تكون ما سماها كينز ب «الكفاءة الحدية لرأس المال» إيجابية. وفي الفصل الثاني عشر الذي بعنوان «حالة التوقعات طويلة الأجل»، يبرز عدم الاستقرار في الطلب على الاستثمار باعتباره السبب الأساسي في التقلبات الاقتصادية. والسبب هو التذبذب في التوقعات المستقبلية بخصوص عائد الاستثمار.
ويمثل «إدراك عدم اليقين المفرط للأساس المعرفي الذي نبني عليه تقديراتنا للعائد المتوقع» نقطة انطلاق كينز؛ فسوق الأوراق المالية تقلل مخاطر الاستثمارات بجعلها سائلة أو حاضرة للأفراد، لكن هذا يجعل الاستثمار ككل أكثر تذبذبا؛ إذ يمكن للمستثمرين أن يبيعوا ويشتروا في ظرف لحظة واحدة. ولا تعتمد أسعار الأسهم على احتمالات الاستثمار الحقيقي - التي لا يمكن معرفتها في أغلب الأحيان - بل على الشعور السائد الذي يمكن أن يتذبذب بشدة بسبب الأخبار اليومية؛ فعدم وضوح المعلومات التي تدعم التقييم التقليدي للأسهم هو ما يجعل دالة الاستثمار معتمدة على نحو خاص على «الغريزة الحيوانية»، التي تعرف بأنها «دافع تلقائي للفعل بدلا من اللافعل».
ويري معظم أتباع المدرسة الكينزية أن الفصل الثاني عشر يحتوي على «رؤية» كتاب «النظرية العامة»، بل والثورة الكينزية، في كل من هجومها على أخلاقيات الرأسمالية - «عندما تصبح تنمية رءوس الأموال في بلد ناتجا ثانويا لأنشطة أحد أندية القمار، فالعملية قد تكون لا جدوى لها» - وكذلك رفضها لفكرة القدرة على التقدير في الأمور الإنسانية. وتؤدي المناقشة إلى نتيجة طبيعية؛ وهي أن الدولة ينبغي أن تتحمل «مسئولية أكبر من ذي قبل في التنظيم المباشر للاستثمار ... بنظرة بعيدة.» كما تقر المناقشة منطقية تفضيل السيولة - وهو تفضيل الاحتفاظ بالسيولة النقدية بدلا من استثمارها - الذي يلعب دورا محوريا في نظرية كينز عن سعر الفائدة.
يتحدد حجم الاستثمار تبعا لسعر الفائدة مع وضع حالة التوقعات في الاعتبار. ويؤمن كينز بأن سعر الفائدة يتحدد في سوق النقود؛ إذ يعتبر أن الفائدة هي سعر التخلي عن السيولة، التي تعني التحكم المباشر في المبالغ المالية. وقال في عام 1937 إن الفائدة هي «مقياس لدرجة القلق لدينا.» فكلما زاد تفضيل الناس للاحتفاظ بمدخراتهم في صورة نقود، ارتفع سعر الفائدة الذي سيطلبه الناس للتخلي عن نقودهم. وبذلك يكتمل التسلسل المنطقي لكتاب «النظرية العامة» ببيان أن سعر الفائدة يمكن أن يظل في مستوى أكبر من «معدل العائد على رأس المال» الضروري لتحقيق مستوى التوظيف الكامل.
إن «الشرط الأساسي» بل وأيضا «التفسير الوحيد المعقول» لتفضيل السيولة هو «عدم اليقين تجاه مستقبل سعر الفائدة». إذ برهن كينز على أنه إن لم يكن ذلك صحيحا، فسيتجه المستثمرون الراغبون في التخلص من السندات إلى شراء الدين الحكومي، وسيؤدي هذا إلى رفع أسعار السندات وخفض عوائدها، وهو ما يزيد من ربحية الاقتراض بغرض الاستثمار بالنسبة لرجال الأعمال. لكن إن رأى المضاربون أن سعر الفائدة «شديد الانخفاض» - أي انخفض لأدنى من مستواه «التقليدي» أو المتوقع - فسيبيعون السندات للحصول على مقابل نقدي؛ وبذلك يوقفون أو يعكسون اتجاه الانخفاض في سعر الفائدة. ولم يتناول كينز ما الذي يجعل سعر الفائدة المتوقع على ما هو عليه، وهو ما فعله دينيس روبرتسون.
يمكن للسلطة النقدية التدخل عن طريق شراء السندات بنفسها (عمليات السوق المفتوحة). لكن هذا يمكن أن يؤدي لمبيعات سندات مقابلة من قبل القطاع الخاص إذا اعتبرت السياسة النقدية «غير حكيمة». ويمكن عندها السقوط في «فخ السيولة»؛ وهو عندما تعجز السياسة النقدية عن دفع سعر الفائدة للانخفاض إلى أدنى من مستوى تحدده مخاوف التضخم أو العجز عن السداد. وكلما انخفض سعر الفائدة انخفضت «عوائد عدم السيولة» المتاحة للحماية من مخاطر الخسارة في حساب رأس المال. ويقول كينز إن هذه هي العقبة الرئيسية أمام انخفاض سعر الفائدة لمستوى شديد التدني. فإذا كان سعر الفائدة لفترة طويلة 2٪ مثلا، فإنه «لا يبشر بالخير بقدر ما يثير المخاوف، ويقدم في الوقت نفسه عائدا ثابتا لا يكفي إلا لتعويض جزء صغير جدا من الخوف.» وربما يصبح تفضيل السيولة حينها «عاما تقريبا»؛ حيث يفضل الجميع تقريبا الاحتفاظ بالسيولة النقدية على الاحتفاظ بالدين. إلا أن التحول للاحتفاظ بالسيولة النقدية يمكن أن يحدث في ظل سعر فائدة أعلى، مثلما حدث في الولايات المتحدة عام 1932. وفي هذه الحالة ستكون السلطة النقدية قد فقدت بالفعل السيطرة الفعالة على السعر الطويل الأجل للفائدة. لكن السياسة النقدية التي تحظى بثقة الجمهور يمكنها أن تنجح فيما ستفشل فيه السياسة التي يرى الناس أنها «ذات طابع تجريبي أو أنها عرضة للتغير بسهولة.»
وتصل مناقشة كينز لمشكلة سعر الفائدة إلى جوهر نظريته؛ إذ إن تأكيده على كون تفضيل السيولة يمكن أن يبقي سعر الفائدة مرتفعا جدا بدرجة لا تسمح بالوصول لمستوى استثمار يتحقق فيه التوظيف الكامل - من وجهة نظره - قد حسم هجومه النظري على مبدأ «العرض يخلق الطلب المكافئ له». كما يقوض رفضه اعتبار الفائدة مكافأة على الادخار النظرة الكلاسيكية للادخار باعتباره فضيلة في حالات الكساد؛ حيث إنه لا يؤدي إلى خفض سعر الفائدة؛ ومن ثم لا يشجع الاستثمار. ويعزز عدم الفاعلية المحتملة للسياسة النقدية في ضمان النتيجة نفسها من الحاجة لسياسة مالية لمواجهة الكساد.
يلخص ما سبق الجانب الإيجابي من «النظرية العامة» لكينز؛ فالأفكار الأساسية «شديدة البساطة»، كما قال في المقدمة. ولا تظهر الصعوبات في محاولة فهم نظريته، بل في علاقة نظريته بما سماه النظرية «الكلاسيكية». فلأي مدى لا تتفق نظريته مع الأفكار التقليدية؟ وإن لم تكن متسقة معها، فلأي درجة كانت نظريته «أصح» أو «أعم» بحسب قول كينز؟ ليس هناك من إجابة حاسمة على أي من هذين السؤالين. لقد وضع كينز نظريته في مقابل تصوره الخاص للنظرية «الكلاسيكية» الذي نفى كثير من خصومه تبنيهم له. كما أنه من غير الواضح ما قصده كينز بكلمة «أعم»؛ إذ فرق في الفصل الأول من الكتاب بينها وبين «الحالة الخاصة التي تفترضها النظرية الكلاسيكية»، بينما قارن في مواضع أخرى بينها وبين «الحالة الجزئية» كما فعل في أثناء هجومه على النظرية الكلاسيكية لتجاهلها العلاقات المترابطة بين العمالة وأسواق السلع.
افتتح كينز عرضه بمهاجمة وجهة النظر «الكلاسيكية» القائلة إن التوظيف يتحدد وفق سوق العمل؛ إذ قال في الفصل الثاني معتمدا على أفكار بيجو في كتابه «نظرية البطالة» (1933) إن المنظرين الكلاسيكيين يرون أنه في ظل مرونة مثالية للأجور النقدية لا توجد أي عقبة أمام تحقيق مستوى التوظيف الكامل، مهما كان وضع الطلب الاسمي.
ومن وجهة النظر «الكلاسيكية»، كما قال كينز، يعتمد حجم التوظيف على مسلمتين بشأن الأجور «الحقيقية»؛ وهما: أن الأجور في حالة التوازن تتساوى مع الناتج الحدي للعمل، وأنها تتساوى مع نقص المنفعة الحدية للعمل. فالمسلمة الأولى تقدم منحنى تناقصيا للطلب على العمل يعكس انخفاض الكفاءة الحدية للعمل، بينما تقدم المسلمة الثانية منحنى تصاعديا للعرض يعكس ارتفاع مستوى نقص المنفعة الحدية للعمل أو «الألم». وفي ظل الأجور المرنة على نحو مثالي، يتحدد حجم التوظيف في المرحلة التي يصبح فيها نقص المنفعة (والأجر المدفوع) لآخر ساعة عمل مساويا لقيمتها الربحية بالنسبة لصاحب العمل؛ أي عندما لا تكون هناك عقبات أمام استمرار وضع التوظيف الكامل. وفي مثل هذا الوضع لا يمكن أن تظهر البطالة القسرية، فقط ستظهر البطالة الاختيارية وبعض البطالة «الاحتكاكية». وتعد البطالة الاختيارية غير قسرية؛ لأنه يمكن دائما للعاملين الخروج منها بمراجعة حساباتهم النفسية للذة والألم وتقبل أي عمل إضافي يتاح أمامهم. (لم يكن من الواضح قط كيف يمكن ترجمة مفهومي الكفاءة واللذة المرتبطين بساعات العمل إلى قدر من التوظيف في نظام يعمل بالأجور الأسبوعية. وكان الحل المعتاد هو افتراض أن زيادة التوظيف تمتص العمال ذوي المهارة الأقل والأكثر تفضيلا للبطالة الاختيارية.)
وقد تقبل كينز المسلمة الكلاسيكية الأولى، لكنه رفض الثانية؛ فقد رأى إمكانية تحقق بعض الظروف التي يكون فيها عدد العمال الراغبين في العمل بأي أجر نقدي أكبر من عدد فرص العمل المعروضة. وسيتخطى العمل من الناحية الإجمالية منحنى العرض الخاص به؛ وبذلك تحدث «البطالة القسرية». والسبب هو أن اتفاقات الأجور تتم بلغة النقود. وإذا انخفضت على نحو فوري الأجور والأسعار معا بعد حدوث نقص شديد في الطلب، فسيبقى الأجر الحقيقي كما هو. ووقتها لن يحدث أي شيء من أجل تحسين ظروف الأعمال؛ لذا سيستمر معدل البطالة في الازدياد. قال بيجو إن الأجور يمكنها في ظل المرونة التامة للأجور أن تنخفض بمعدل أكبر من دخول (أرباح) أصحاب الأعمال - أي تكون التكاليف أعلى من الأسعار - فيقل الأجر الحقيقي ويسمح ذلك بزيادة نسبة التوظيف. قلب كينز هذه الفكرة رأسا على عقب بوصف الدخول بالمتوقعة؛ إذ يعتمد أثر انخفاض الأجور النقدية في التوظيف على أثره في توقعات الأرباح. وكما قال كينز على نحو دقيق في عام 1933: «إن الدخل هو الشيء المتوقع الذي يغري أصحاب الأعمال بأن يؤسسوا المشروعات.»
انقطعت مناقشة هذه القضية في الفصل الثاني لتستكمل في الكتاب الخامس بعد أن شرح كينز نظريته الخاصة. وفي الفصل التاسع عشر بعنوان «التغيرات في الأجور النقدية»، يتناول كينز أثر تقليل الأجور النقدية على محددات إجمالي الطلب؛ وهي: الاستثمار والادخار وتفضيل السيولة. وكان استنتاجه الرئيسي هو أن التقليل العام للأجور النقدية يمكن أن يحسن مستوى التوظيف على نحو غير مباشر في نظام مغلق بشرطين: (أ) إذا عزز انخفاض الأجور الثقة بالاقتصاد. (ب) إذا أدى إلى انخفاض مستوى الأسعار؛ ومن ثم انخفاض الطلب على أرصدة المبادلات التي تتناسب مع المخزون النقدي على نحو يسمح بانخفاض سعر الفائدة. لكن السياسة الأكثر ضمانا لتحقيق الشرط الثاني هي زيادة المخزون النقدي الاسمي؛ حيث قال كينز: «لا يفضل سياسة الأجور المرنة على السياسة النقدية المرنة ... إلا شخص أحمق.» وكما قال في الفصل الثاني: تظهر البطالة القسرية حينما تؤدي الزيادة في الأسعار المرتبطة بأسعار الأجور إلى زيادة حجم التوظيف.
وأضاف ديفيد تشامبرنون في نقده لكتاب «النظرية العامة» شرطا لسياسة كينز لرفع نسبة التوظيف؛ وهو أنها لن تنجح إلا إذا امتنع العمال عن المطالبة برفع الأجور النقدية بعد حدوث ارتفاع في الأسعار. وتنبأ بأن التضخم سيمنع قبولهم للنقص في الأجر الحقيقي وهو ما اكتشف في النهاية أنه للأسف هو الواقع. وأدى ذلك لتوجيه الاتهام المتكرر لكينز بأن أساليبه الخاصة بزيادة نسبة التوظيف تعتمد على «وهم النقود»؛ أي خفض قيمة النقود أملا في ألا يلاحظ العمال انخفاض أجورهم الحقيقية. لكن لم يكن الاتهام منصفا؛ إذ إن ما قاله كينز لم يكن إلا محاكاة للاعتقاد السائد بأن التعافي من الكساد يتطلب تعافي الأسعار وعودتها إلى مستوياتها «الطبيعية» قبل الكساد؛ أي إنه افترض استمرار ثبات تكلفة المعيشة في ظل عدم تغيير أصحاب الأجور لعقودهم للتكيف مع الاضطرابات المؤقتة. ولم يكن يقترح ضخ مزيد من النقود في اقتصاد يتعرض بالفعل لضغوط تضخمية.
في الفصل الحادي والعشرين بعنوان «نظرية الأسعار»، أقر كينز بأن زيادة نسبة التوظيف ستكون مصحوبة بارتفاع متوسط في الأسعار بعيدا عن أي تغير في متوسط أسعار الأجور؛ لأن العمل غير متجانس، ولأنه من المحتمل حدوث أزمات في العرض، ولأن تكلفة رأس المال قد ترتفع على نحو أسرع من تكلفة العمل. لقد تقبل كينز مثل هذا الارتفاع في مستوى الأسعار المرتبط بأسعار الأجور باعتباره شرطا أساسيا لزيادة نسبة التوظيف، كما رأينا. لكن من المحتمل كذلك أن يضيف التعافي ضغطا على الأجور النقدية؛ لذا من المحتمل ظهور حالات «شبه تضخم» لا تصل لمستوى التوظيف الكامل. فعند تحقيق مستوى التوظيف الكامل تتحقق نظرية كمية النقود؛ حيث تؤدي أي زيادة أخرى في الطلب على النقود إلى رفع الأسعار. ويبين الفصل الحادي والعشرون أن الملخص التقليدي لرسالة كتاب «النظرية العامة»، وهو: «ضبط الكميات لا ضبط الأسعار»، غير مكتمل على نحو كبير؛ فهذا الفصل لا يبين كيف تنقسم الزيادة (أو النقص في هذه الحالة) في الطلب على النقود بين الأسعار والأجور والناتج، رغم أن كينز رأى أنه من المنطقي افتراض أن «الزيادة المتوسطة في الطلب الفعال في وضع يتسم بانتشار البطالة يمكن ألا تصب في رفع الأسعار إلا قليلا، وأن تصب بشكل رئيسي في زيادة نسبة التوظيف.» وفي عام 1939 أقنعه جيه جي دانلوب وإل تارشيس جزئيا أن زيادة العوائد والمنافسة غير السليمة ستؤدي لخفض متوسط تكاليف وحدات العمل في ظل زيادة نسبة التوظيف، وهو ما يبرز الحاجة إلى زيادة الأسعار وانخفاض الأجور الحقيقية، ورأى كثير من أتباع الفكر الكينزي بعد الحرب أن هذا العامل سيكون كافيا لتجريد سياسات التوظيف الكامل من أي مخاطر تضخمية. وكان ذلك هو الوهم الحقيقي.
كانت نتيجة مناقشة كينز لمشكلة الأجور هي نقض الفكرة «الكلاسيكية» القائلة بعدم وجود عقبات أمام الوصول إلى مستوى التوظيف الكامل عند أي مستوى للدخل النقدي في ظل المرونة التامة لأسعار الأجور النقدية. بل أوضح أنه لا يوجد إلا مستوى واحد من الدخل النقدي (أو إجمالي الطلب) يمكنه تحقيق أجر حقيقي يسمح بمستوى التوظيف الكامل؛ أي إنه في ظل نطاق واسع من الظروف الفعلية لا يتحدد الأجر الحقيقي في سوق العمل، وإنما يتحدد وفق مجموعة من العوامل التي تؤثر في مستوى الطلب على السلع في الاقتصاد.
ويطرح السؤال التالي نفسه: إلى أي مدى تعد نظرية كينز لسعر الفائدة مهمة في ظل إنكاره لقانون ساي؟ تبدو آلية دالة الاستهلاك/المضاعف كافية لتفسير عملية ضبط الدخل. ويعتبر الاستهلاك دالة للدخل؛ حيث يبين المضاعف حجم الدخل الواجب تغيره للموازنة بين خطط الادخار والاستثمار. وإذا افترضنا أن الاستثمار لا يتأثر بالتغيرات الطفيفة في سعر الفائدة، فسيصبح سعر الفائدة غير ضروري لتفسير أي شيء؛ فسيصبح «معلقا في الهواء» بحسب تعبير كينز. لكنه وافق اتفاقا مع رأي روي هارود على وضع رسم بياني يعرض الادخار باعتباره دالة للفائدة والدخل معا. لذا أصبح سعر الفائدة ضروريا لتحديد «توازن محدد». وطالما شعر أتباع كينز من مؤيدي دالة الاستهلاك بالندم على هذا الاتفاق مع رأي هارود؛ لأنه يجعل الأهمية النظرية لكتاب «النظرية العامة» معتمدة على وجود تفضيل للسيولة. فإذا أمكن إثبات أن كينز بالغ في سيادة مبدأ تفضيل السيولة أو أنه لم يقدم نظرية كاملة عن الفائدة، فالطريق مفتوح لتعرض البناء النظري الذي طرحة كينز لهجوم شديد.
ركز شريك كينز السابق، دينيس روبرتسون، على النقطة الثانية؛ فقد قال إن اعتبار سعر الفائدة دالة للطلب على النقود «في المضاربة» لا يمثل نظرية كاملة للفائدة؛ لأن الانخفاض في الطلب على النقود في المبادلات المرتبط بالمخزون النقدي سيقلل سعر الفائدة، ويعزز الاستثمار (وهو ما اعترف به كينز). وزعم روبرتسون أن هذه النقطة أعادت إحياء نظرية النقود القابلة للإقراض الكلاسيكية، والخاصة بارتباط سعر الفائدة بعاملي «الإنتاجية والادخار». كما فسرت الحقيقة الواضحة المتمثلة في حدوث انخفاض في سعر الفائدة خلال الكساد وارتفاعه في أثناء الانتعاش الاقتصادي . وتبع ذلك سلسلة من المقالات والتعقيبات الغاضبة التي نشرت في دورية «إيكونوميك جورنال»، وهو ما اختتم باقتراح كينز طبع مذكرة وردت فيها الكلمات التالية: «سمعت في اندهاش (من روبرتسون) أن أسلافنا رأوا ... أن زيادة الرغبة في الادخار ستؤدي إلى تراجع في معدل البطالة والدخل، وستؤدي فقط إلى هبوط في سعر الفائدة إذا ما استمر هذا الوضع.» وكتب كينز إلى روبرتسون في 25 يوليو 1938: «رأى أسلافنا ... أن سعر الفائدة يعتمد على عرض الادخار. بينما تنص نظريتي على أنه يعتمد على المعروض من النقود غير المستغلة. ولا يمكن التوفيق بين هذين الرأيين مطلقا.»
أما زميل كينز المشهور الآخر في كامبريدج والخصم الرئيسي المفتعل لكتاب «النظرية العامة» آرثر بيجو، فقد هاجم كينز من جهة أخرى؛ إذ زعم بيجو في عدد ديسمبر من عام 1943 لدورية «إيكونوميك جورنال» أن العجز في إجمالي الطلب سيؤدي إلى خفض الأسعار؛ ومن ثم زيادة القيمة الحقيقية للأرصدة النقدية، وكذلك صافي الثروة، ما دام حجم الديون لم يصل إلى حجم تلك الأرصدة. إن «تأثير بيجو» هذا يزيد من الاستهلاك؛ مما يؤدي إلى زيادة إجمالي الطلب في النهاية إلى مستواه الطويل الأجل في ظل وضع التوظيف الكامل.
لقد دخل روبرتسون وبيجو معركة بائسة؛ لا ليظهرا أن الفكر الكلاسيكي أنكر إمكانية حدوث «البطالة القسرية»، بل ليبينا أن هذه البطالة لا يمكن أن تكون جزءا من حالة توازن. فتراجع الاقتصاد يحرك عوامل التعافي بغض النظر عن سياسة السلطة النقدية. ورغم الإقرار بوجود تلك العوامل لاحقا، بالإضافة للحكم على هجوم كينز على النظرية الكلاسيكية بأن فيه خللا منطقيا، فإن النظرية التقليدية لم يعد إحياؤها. واضطر منتقدو كينز للاعتراف بأن تفعيل عوامل التعافي غير مؤكد أو مضمون بعد مرور مدة طويلة من النشاط الأقل من المستوى الطبيعي؛ لذا لم تكن تلك العوامل على قدر كبير من الأهمية بالنسبة للاقتصاديين أو الحكومات التي رأت أن كينز قدم لها أدوات لمنع حدوث التقلبات الكبيرة في الطلب من البداية أو لقلب تأثيرها سريعا إن حدثت.
أما معظم الجزء المتبقي من كتاب «النظرية العامة»، فكان يقصد أن تكون الأفكار الموجودة به ملهمة لا قاطعة. فهي تضم نظرية للتاريخ الاقتصادي وردت فيها نقطة ضعف «إغراء الاستثمار» النابعة من عدم اليقين باعتبارها مشكلة دائمة، كما اعتبر فيها القرن التاسع عشر «حالة خاصة» ارتبطت فيها الميول النفسية لتحقيق «نسبة توظيف متوسطة مرضية على نحو معقول». هناك أيضا «ملاحظات عن المركنتيلية» في الفصل الثالث والعشرين، والتي حاول فيها كينز أن يحدد المسار التاريخي لاهتمامه بالطلب الفعال، وذلك في مقابل الفكر الاقتصادي السائد المبني على فكر ريكاردو الذي يفترض أن علم الاقتصاد هو العلم الذي يبحث كيفية توزيع الموارد بين الاستخدامات المختلفة. وهناك أيضا ما سماه بيجو بالتأملات الخاصة ب «يوم القيامة» فيما يتعلق بمصير الاقتصاديات الرأسمالية الناضجة إن لم تتدخل الدولة لتعزيز الطلب القليل على الاستثمار الخاص. أبهرت بعض الاقتصاديين على وجه الخصوص إحدى نسخ فرضية «الركود المزمن»، التي وردت في الفصل السابع عشر بعنوان «الخصائص الجوهرية للفائدة والنقود». ويوحي كينز من خلال شرحه المتميز لرؤيته الانكماشية أن الرغبة في اكتناز النقود يمكن أن تقضي على جميع صور الإنتاج الأخرى في سبيل أن يبقى الأغنياء - مثل الملك ميداس - غارقين في بحر من الذهب. ونجحت الحكومات بعد الحرب في «إفساد» النقود، وهو ما كان له تبعات توقعها كينز - في إطار فكري آخر - عام 1933؛ حيث قال إن النتيجة هي «نظام قائم على المشروعات يكون عرضة لزيادة الطلب والبطالة تماما مثلما أن نظامنا الفعلي عرضة لنقص الطلب والتوظيف.»
وربما ينظر للفصل الأخير بعنوان «ملاحظات ختامية عن الفلسفة الاجتماعية» باعتباره تطويرا لأفكاره الخاصة بالطريق الوسط التي وضعها في العشرينيات، والذي طرحته نظريته الجديدة. إذ يمكن التعامل مع الادخار المفرط من خلال إعادة توزيع القوة الشرائية على الذين لديهم ميل أكبر للاستهلاك (العمال) ومن خلال تقليل مزايا الادخار بإقرار سعر فائدة منخفض. وسيقضي ما سبق على فرصة المدخرين في الاعتماد على قيمة ندرة رأس المال؛ أي إن النتيجة ستكون تنفيذ «القتل الرحيم في أصحاب الدخول الربوية». وبما أنه من المستبعد أن تتمكن السياسة المصرفية من الإبقاء على «سعر الفائدة الأمثل»، فقد نادى كينز ب «تأميم شامل نوعا ما للاستثمار»، وهي عبارة ملتبسة تحتاج للتفسير في ضوء إقرار كينز قبل عشر سنوات لنمو قطاع المرافق العامة في الاقتصاد (انظر الفصل الثاني). ومع القضاء على عجز الطلب، ستفقد الفاشية والشيوعية جاذبيتهما، وستتحقق مزايا «نظام مانشستر» ووعوده الكاملة؛ وهي: الكفاءة والحرية والتنوع في الحياة في الداخل، والانسجام والسلام المشترك في الخارج. توقع كينز في ختام بليغ لكتابه، والذي يعد من المقولات الأكثر اقتباسا، انتصاره الفكري بعد أن كتب أن «قوة المصالح الخاصة مبالغ فيها جدا مقارنة بالطغيان المتدرج للأفكار.»
ولم ينتظر كينز طويلا؛ فقد حدث تحول فكري لدى جميع الاقتصاديين الشباب في بريطانيا والولايات المتحدة بمجرد نشر كتاب «النظرية العامة»، واستخدمت السياسة المالية الكينزية في الولايات المتحدة بدءا من عام 1940، وفي بريطانيا بدءا من عام 1941.
لكن لم يكن ما قبلته الأوساط الاقتصادية كله ميراث كينز فقط؛ فقد كان الاقتصادي الإنجليزي جون هيكس - المنضم حديثا للثورة الكينزية - هو من وضع النموذج الكينزي «المتنقل» عام 1937، وهو الذي درسه طلبة الاقتصاد منذ ذلك الحين. يحول هيكس التسلسل المنطقي الذي طرحه كينز إلى مجموعة من المعادلات المتزامنة التي يوضحها بيانيا من خلال منحنياته الشهيرة الخاصة ب «الادخار والاستثمار/تفضيل السيولة والمعروض من النقود». وترك هذا النظام «التعميمي» مساحة لنظرية كينز الخاصة - التي تنص على أن الادخار يتحدد وفق الدخل، وأن الاستثمار لا يتأثر إلى حد ما بتغير سعر الفائدة، وأن تفضيل السيولة يحكم أسعار الفائدة - وأيضا على الأقل لبعض صور «رؤية وزارة الخزانة» التي ألف كينز كتابه ليقوضها. ويعتمد الأمر برمته على اتجاه المنحنيات. وتظهر نظرية كينز والنظرية الكلاسيكية بوصفهما «حالات خاصة» في «النظرية العامة» الحقيقية، مع افتراض أن حالة كينز الخاصة هي الأكثر فائدة للسياسة الاقتصادية. لقد كان أداء هيكس متميزا بحق.
لم يعارض كينز، الذي سعى قبل كل شيء للتأثير في السياسة الاقتصادية، هذه الطريقة التوافقية لنشر أفكاره ما دامت تجعل أفكاره أكثر قبولا وانتشارا بين شباب الاقتصاديين. لكنه استغل الجدل الذي ثار بعد نشر كتاب «النظرية العامة» لتعديل نظريته عام 1937 بطريقة بينت افتراضاته المعرفية بشكل أفضل من الكتاب. ويمثل المقال، الذي وضح فيه هذا والذي نشر عام 1937 في دورية «ذا كوارترلي جورنال أوف إيكونوميكس»، بالنسبة لأتباع كينز الأصوليين النص المقدس لموقف أستاذهم.
إن إعادة بيان كينز لجوهر كتاب «النظرية العامة» معني على وجه الخصوص بآثار عدم اليقين في الاستثمار وسعر الفائدة؛ فقد اختار من الكتاب بالتحديد فكرة الفصل الثاني عشر «حالة التوقعات الطويلة الأجل» التي تؤكد على تقلب الطلب على الاستثمار، وكذلك فكرتي الفصلين الثالث عشر والسابع عشر اللتين تشرحان سبب أهمية السيولة أو النقود. فالرغبة في امتلاك السيولة هي، قبل كل شيء، السبب الذي يجعل الاقتصاد غير المركزي القائم على المشروعات غير مستقر، والذي يضمن أن تحدث تقلباته في مستوى نشاط أقل من الطبيعي. وتساءل كينز عن سبب استخدام جميع العقلاء للنقود باعتبارها مخزنا للقيمة. والإجابة الوحيدة المناسبة هي الشعور الجذري بعدم اليقين؛ وهي احتمالية استبعدها افتراض النظرية الكلاسيكية بأن المستقبل «محدد وقابل للتوقع». ولم يرد في المقال المنشور عام 1937 أي دالة للاستهلاك ولا مضاعف للاستثمار، وإنما عرض المقال معلومات غامضة وغير مؤكدة ومستويات الثقة المتذبذبة ومشاعر الشجاعة والخوف والأمل، التي لا تقترن في أحسن الأحوال إلا ببعض الاستراتيجيات والتقاليد التي يمكن أن تطيح بها التغيرات في «الأخبار». وقال كينز إن عدم اليقين هو سمة الحياة البشرية. لهذا يتميز كتاب «النظرية العامة» - بحسب عبارة شاكل - ب «ارتباطه الوثيق ... بالمشكلات المستعصية للإنسانية حبيسة الزمان.»
وفي التنقيح النهائي هذا لفكره، تبرز النقود - أو ما سماها كينز السيولة - قبل كل شيء باعتبارها استراتيجية توفر الطمأنينة. وقد مر على كينز من الناحية الفنية وقت طويل منذ أن كان مصلحا نقديا، إلا أن رؤيته لم تتغير كثيرا؛ إذ تمحورت أعماله - مثل أعمال جيله من الاقتصاديين بالكامل - حول أثر النقود الخفي وقدرتها المبهرة على التأثير في الاقتصاد الحقيقي؛ فقد أرادوا جميعا أن يجعلوا الاقتصاد النقدي يتصرف باعتباره اقتصادا «تبادليا حقيقيا»؛ أي اقتصادا ليس فيه بطالة. أما السؤال العميق الذي تطرحه أعمال كينز فهو: هل النقود هي السبب في انحراف سوء الأداء الاقتصادي؟ أم أن عدم اليقين هو السبب في انحراف السلوك النقدي؟ وما بين هذين الرأيين لا تزال نظرية السياسة النقدية تتأرجح.
الفصل الخامس
حسن الإدارة الاقتصادية لدى كينز
كان كينز مبدعا في الإدارة مثلما كان مبدعا في نظريته؛ فقد كان لكل مشكلة اقتصادية في جعبته «خطة كينزية» جاهزة، يعدها بسرعة البرق. والجانب المشترك بين هذه الخطط - التي يعود أصلها إلى اقتراحه بإنشاء بنك مركزي في الهند عام 1913، وهو ما أثنى عليه مارشال بوصفه «معجزة العمل البناء» - هو أنها لاءمت الترتيبات الإدارية القائمة، رغم أنها كانت تسبق دائما التقاليد الفكرية السائدة. وهكذا يمكن القول إن كينز قد قدم تطورات ثورية للممارسة الحالية. وكان الاستثناء الوحيد هو إقرار كينز عام 1929 لبرنامج للمشروعات الحكومية مدار مركزيا، وهو ما تطلب إحداث ثورة في الإدارة الحكومية. لكن هذه كانت خطة لويد جورج لا كينز؛ أما كينز ففضل توجيه الزيادة في الاستثمار عبر شركات المرافق العامة. كما فضل السيطرة (المالية) غير المباشرة عن السيطرة (المادية) المباشرة على الاقتصاد؛ وذلك من أجل الاحتفاظ بمزايا صنع القرار اللامركزي. وهو ما أوقعه في صراع مع الأساليب الاشتراكية، إن لم يكن مع المثل الاشتراكية في بعض الجوانب.
فرض اندلاع الحرب مع ألمانيا في 3 سبتمبر عام 1939 تحديا اقتصاديا لم يستطع كينز تجنبه، وقد تجاوب معه من خلال مقالين؛ هما «تمويل الحرب» المنشور في صحيفة «ذا تايمز» في 14 و15 نوفمبر، والمعاد نشره لاحقا مع بعض الإسهاب والتغيير في الصياغة في صورة كتيب بعنوان «كيف تمول الحرب؟» المنشور في فبراير 1940، أي قبل خمسة أشهر من عودته لوزارة الخزانة. ولقي هذا الكتيب ثناء كبيرا باعتباره أول تطبيق عملي للنموذج الاقتصادي في كتاب «النظرية العامة» على السياسة الاقتصادية ، وهو ما كان صحيحا. لكن الكتيب عكس أيضا الخبرة التي اكتسبها كينز من خلال عمله بوزارة الخزانة في الحرب العالمية الأولى.
مع ضمان تحقق مستوى التوظيف الكامل من خلال الزيادة الكبيرة في الطلبيات الحكومية، كانت المشكلة التي واجهت كينز عام 1939 هي تحويل الموارد إلى المجهود الحربي دون حدوث تضخم لا مبرر له، أو فرض ضرائب تثبط الاقتصاد، أو فرض ضوابط بيروقراطية ترتبط بالتخطيط المادي الشامل. ففي الحرب العالمية الأولى أدت زيادة المشتريات الحكومية إلى رفع الأسعار، وأدى ارتفاع الأسعار إلى تقليل الدخول الحقيقية لأفراد الطبقة العاملة، أما القفزة في أرباح أصحاب المشروعات فكانت تقتطعها الحكومة في صورة ضرائب وقروض. وكانت النتيجة اضطراب القطاع الصناعي في المراحل الأخيرة من الحرب، وارتفاع تكلفة الاقتراض الحكومي - وهو ما زاد عبء الدين بعد الحرب - وامتلاك الأثرياء للدين العام.
وضعت خطة كينز الجديدة للتغلب على تلك المشكلات. وكان أساسها مخططا للدفع المؤجل؛ إذ تمتص الزيادة في القوة الشرائية بالنسبة للقطاع الخاص من خلال فرض ضريبة تصاعدية كبيرة على جميع الدخول التي تزيد على حد إعفاء معين يحدد حسب الضرائب المباشرة والادخار القسري. وتطرح المدخرات القسرية الموزعة على حسابات فردية في بنك الادخار البريدي في صورة أقساط بعد الحرب لمواجهة الكساد المتوقع. وكما يقول البروفيسور موجريدج: «تمتع المخطط بإمكانية تطبيقه في ظل الترتيبات القائمة الخاصة باشتراكات التأمين الاجتماعي.» وبعد الانتقادات التي وجهت إلى الخطة الأصلية، اقترح كينز «توفير التمويل اللازم للاستهلاك المؤجل هذا دون زيادة الدين العام من خلال فرض ضريبة عامة على رأس المال بعد الحرب»، كما اقترح حماية الناس الأكثر فقرا عن طريق منح إعانات عائلية - 5 شلنات أو 25 بنسا في الأسبوع لكل طفل - وعن طريق توفير غطاء تمويني من الاحتياجات الأساسية تباع بأسعار منخفضة وثابتة. ولتقدير حجم «الفجوة التضخمية» - أي القدر الذي يجب تقليل الاستهلاك المدني به للسماح بتوجيه الناتج إلى المجهود الحربي دون رفع الأسعار - قدم كينز في ظل غياب إحصاءات الدخل القومي الرسمية، تقديرات مبنية على أعمال كولين كلارك للناتج القومي والدخل الخاضع للضرائب، ولتقسيم الإنفاق العام بين الحكومة والقطاع الخاص، ولتوزيع الدخل، كل ذلك بأسعار عام 1939. وأصبح بعد ذلك من السهل نسبيا حساب قدر «نفقات الجهات الخاصة» الواجب تقليله لاستيعاب أي زيادة مرغوبة في «نفقات الحكومة» في ظل تلك الأسعار، بجانب التضحيات التي سيتحملها كل قطاع من المجتمع.
لم تؤثر خطة كينز في ميزانية يوليو 1940؛ حيث كان عليه أن يستمر في حملته الإقناعية داخل أروقة وزارة الخزانة. لكن ميزانية كينجسلي وود في أبريل 1941 اعتبرت أول ميزانية «كينزية»، ليس لأنها تبنت المعايير المحددة التي اقترحها كينز (رغم أن الدفع المؤجل نجح في البقاء في صورة مخطط متواضع للإعفاءات الضريبية بعد الحرب)، ولكن لأنها بنيت للمرة الأولى على الإطار المحاسبي القومي الذي وضعه جيمس ميد وغيره على أساس مقترحات كينز. وليس من المعروف هل كانت تلك الميزانية أول علامة للقبول العام للثورة الكينزية أم لا. ويمثل إقرار خطة كينز على يد كبار معارضيه، مثل هايك، دليلا على شعبيتها عند الاقتصاديين ومسئولي الخزانة؛ فقد اقترحت وسيلة لتقليل التضخم وقت الحرب. وكما قال جيم توملينسون: «لقد مثلت التقديرات الكينزية الأساس المنطقي النظري ومعايير القياس للسياسات الاقتصادية، والتي توافقت مع موقف وزارة الخزانة التقليدي من التمويل وقت الحرب بدلا من أن تتعارض معها.»
أتاح الجدل الذي أثاره كتيب «كيف تمول الحرب؟» الفرصة لكينز ليربط أفكاره الاقتصادية الجديدة بالأفكار السياسية الخاصة بالطريق الوسط، وهي الأفكار التي اعتنقها منذ عشرينيات القرن العشرين. إن «الطريقة الطبيعية» (أي التضخم) لإعادة توزيع الدخل من العمال لأصحاب المشروعات، ثم فرض ضريبة عليها، لم تعد تنفع - كما قال كينز - لأن ارتفاع الأسعار في ظل الظروف الجديدة، وهي قوة الاتحادات العمالية، سيقابل بمطالب لزيادة الأجور بذات القدر؛ وذلك إما أن يتحقق، وهو ما سيمنع تقليل الاستهلاك المدني؛ أو لا يتحقق، وهو ما سيتسبب في اضطراب الصناعة. فاستقرار الأسعار كان نتاج تعاون الاتحادات العمالية؛ وهي فكرة تعود لأيامه الأولى في عمله باعتباره مصلحا نقديا. فالهدف من خطته كان «اجتماعيا: وهو منع الأضرار الاجتماعية للتضخم في الحاضر والمستقبل، وتحقيق ذلك بشكل يرضي الحس العام للعدالة الاجتماعية، مع الحفاظ في نفس الوقت على دوافع كافية للعمل والاقتصاد»؛ لذا كانت أهمية اقتراحات كينز مزدوجة؛ فقد سعت للتحايل على مشكلة التضخم الناتج عن ارتفاع التكاليف في ظل مستوى التوظيف الكامل، وأناطت بالميزانية دورا في السياسة الاجتماعية يتجاوز الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي.
من ناحية أخرى، كانت تلك الاقتراحات معاكسة للفكر اليساري؛ فقد رأى معظم الاشتراكيين أن الحرب أتاحت الفرصة للتخطيط المادي لا المالي. فتوزيع الدولة للقوة البشرية والموارد حسب «الضرورات القومية» سيقضي على «الفوضى» في السوق. كما كان لتحديد حصص للمواد الغذائية والملابس جاذبية أكبر فيما يتعلق بالمساواة من «الادخار القسري». فكان الاختلاف هو أن خطة كينز تركت التصرف في الدخول بعد الحرب للحرية الشخصية، بينما فرض نظام الحصص أن ينفق الأفراد أموالهم على السلع وبالكميات التي حددتها الدولة. وكتب كينز في صحيفة «ذا تايمز» في 18 أبريل عام 1940 يقول: «إنني أستغل الفرصة لطرح مبدأ في السياسة الاقتصادية ربما ينظر إليه باعتباره الحد الفاصل بين الاقتصاد الشمولي والاقتصاد الحر.» وبالمثل، فإن الاتجاه إلى الدفع المؤجل «عن طريق السماح للأفراد بأن يختاروا بأنفسهم ما يريدون سيوفر على الحكومة وضع خطط شاملة للإنفاق (بعد الحرب) ربما لا تتفق كثيرا مع الاحتياجات الشخصية.» مرة أخرى قدم كينز طريقا وسطا بين «بطلان الفكر اليساري الذي فرغ العديد من القضايا الهامة من حكمتها وقوتها الداخلية» و«جمود» رد فعل اليمين على أي عبث بالنظام القائم. لقد خسر كينز من الناحية العملية معركته مع المخططين المركزيين، وحل تنظيم إجمالي الإنفاق في المرتبة الثانية بعد توزيع القوة البشرية والتوزيع المادي للمدخلات وتحديد حصص السلع الاستهلاكية.
لكن دور كينز كان أصغر بكثير في الورقة البيضاء الشهيرة الخاصة بسياسة التوظيف القائمة على الأفكار الكينزية، التي أصدرت في 26 مايو 1944 (قرار رقم 6527). وألزمت الجملة الأولى منها - التي رأى كينز أنها «أهم مما جاء في باقي الورقة» - الحكومة ب «ضمان وجود نسبة توظيف عالية ومستقرة بعد الحرب». لكن نص الورقة البيضاء كان حلا وسطا بين مؤيدي كينز في القسم الاقتصادي من الحكومة، والمتشككين التقليديين في وزارة الخزانة الذين شعروا بضرورة تقديم تنازلات نتيجة الضغوط السياسية. كان جزء كبير من تحليل الورقة لمشكلة البطالة المتوقعة مخالفا لفكر كينز؛ إذ عكس وجهة نظر هوبرت هيندرسون، والتي ترى أن مشكلات الاقتصاد البريطاني كانت من ناحية العرض لا الطلب. لكن لم ينتبه كثيرا إلى كيفية تحقيق الشرطين الواردين في الورقة لتحقيق مستوى «توظيف عال» مستقر ودائم؛ وهما: اعتدال سياسة الأجور (مسئولية أصحاب الأعمال والعمالة النقابية)، والمرونة الكافية لليد العاملة.
كان الاقتصاد الدولي هو المستهدف من خطة كينز التالية؛ فنظام معيار الذهب/التبادل الحر المتوارث يبدو أنه قد دمر بشكل يتعذر إصلاحه على يد الحرب العالمية الأولى والكساد الكبير والسياسات الاقتصادية القومية في سنوات ما بين الحربين. وكان السؤال هو: هل يمكن للاستمرار في العمل بالترتيبات الخاصة بالتفضيل الإمبريالي/منطقة الاسترليني التي وضعت في ثلاثينيات القرن العشرين أن يضمن مستوى التوظيف الكامل في بريطانيا؟ أم أن الحرب قدمت فرصة «لعملية خلق جديدة» كانت مستحيلة وقت السلم لإحياء النظام الليبرالي، لكن دون أن تكون له نزعة تضخمية؛ تلك النزعة التي دمرت النظام القديم؟ شغل هذا السؤال جزءا كبيرا من انتباه كينز وجهده المتناقص فيما بين عامي 1941 و1944. وكانت الإجابة لدى الولايات المتحدة؛ حيث إن السياسة الأمريكية هي التي حددت شكل النظام بعد الحرب.
يوفر تعامل كينز مع الولايات المتحدة سياقا هاما لفهم أفكاره الاقتصادية؛ فهؤلاء الذين يستقون معرفتهم بكينز فقط من نموذج «الاقتصاد المغلق» الوارد في كتابه «النظرية العامة» يغفلون أن المشكلة التي أرقته طوال معظم حياته المهنية كان سببها آثار الاستدانة غير المتوازنة من الولايات المتحدة على الاقتصاد البريطاني. وتركزت معظم خططه الاقتصادية على محاولة تحديد طرق التغلب على هذا الخلل أو معاوضته. وكانت النتيجة تأسيس نظام بريتون وودز عام 1944، والتفاوض على القرض الأمريكي عام 1945؛ وهو ما نتج عنه قبول بريطانيا ضمنيا بدور هامشي في النظام الاقتصادي الدولي الذي تديره الولايات المتحدة. لكن لم يكن أي من تلك النتائج نهائيا؛ إذ قضى كينز معظم حياته في استكشاف البدائل بهمة.
في عشرينيات القرن العشرين أراد كينز، كما رأينا، أن يفصل النظام المالي البريطاني (والأوروبي بشكل أوسع) عن النظام المالي الأمريكي. لكنه حتى في كتابه «بحث في الإصلاح النقدي» لم يؤيد تعويم العملة؛ فقد أراد وضع نظام «مدار» لسعر الصرف؛ نظام لإحداث استقرار في أسعار الصرف لفترات طويلة. وطالما تاق لنظام يتيح تثبيت سعر الصرف، مع صلاحيات وآليات لإكسابه المرونة. وفي كل من أوائل عشرينيات القرن العشرين وأوائل ثلاثينياته، حينما حدث تعويم لأسعار العملات بعضها مقابل بعض، اقترح كينز العودة إلى نظام معدل لمعيار الذهب يقوم في أوقات مختلفة على نطاقات واسعة من الأسعار أو أسعار صرف قابلة للتعديل أو التعديل التلقائي لحسابات الدائنين أو الأرصدة الاحتياطية الإضافية؛ فقد كان كينز مقتنعا أن أي نظام لتثبيت سعر الصرف سينهار إذا استخدم باعتباره أداة لتحقيق الانكماش، وأنه سينجح في وجود سياسات داعمة له تضمن التوظيف الكامل عبر الوقت. وستساعد أسعار الفائدة المستقرة بدورها على الحفاظ على استمرار النمو العالمي، وستعمل باعتبارها أداة لمنع التضخم.
وكما قال كينجسلي مارتن، كانت استجابة كينز الفورية حيال التخلي عن معيار الذهب في عام 1931 مميزة حيث قال: «لقد استعادت بريطانيا بضربة واحدة هيمنتها المالية على العالم، وكانت فرحتها فرحة صبي أطلق ألعابا نارية على شخص لا يحبه.» وأوحى الظهور التلقائي لكتلة الاسترليني إلى كينز بفكرة وضع «نظام جيد للجنيه الاسترليني في الإمبراطورية ... يديره بنك إنجلترا ويتمحور حول لندن.» وأشاد كينز بسياسة بنك إنجلترا القومية ل «تعقيم» تدفقات الذهب لإبقاء الجنيه أدنى من قيمته أمام الدولار والفرنك اللذين أبقيا على استخدام معيار الذهب، تماما كما أشاد بنفس السياسة التي اتبعها مجلس الاحتياطي الفيدرالي في عشرينيات القرن العشرين.
لكن لم تدم هذه النشوة طويلا؛ فقد أنهى قرار روزفلت بتخفيض قيمة الدولار أمام الذهب في 19 أبريل 1933 ميزة بريطانيا التنافسية القصيرة الأجل. واقترح كينز عندها أن تربط بريطانيا والولايات المتحدة عملتيهما بمعيار ذهب معدل ما دام أنهما يطبقان سياسات إنعاش اقتصادي على نحو مشترك. لكنه أعلن في 4 يوليو 1933 أن «الرئيس روزفلت كان محقا على نحو رائع» عندما أفسد المؤتمر الاقتصادي العالمي بلندن برفضه كل خطط استقرار العملات باعتبارها «أصنام من يسمون أنفسهم المصرفيين الدوليين». وأيد كينز ذلك قائلا: «لتكن الشئون المالية قومية بالأساس.»
لا يمكن فهم هذه التغيرات إلا مع الانتباه إلى أن كينز كان يقدم النصيحة التي كان يرى أنها تخدم بريطانيا على نحو أفضل؛ فقد رأى أن الجنيه والدولار يمكن الربط بينهما على نحو آمن في حالة تحقق شروط معينة. ولخص موقفه في خطاب بعثه لمراسل ألماني في 13 أكتوبر 1936، جاء فيه ما يلي: (1)
إنني أؤيد على نحو عام الأنظمة الوطنية المستقلة ذات أسعار الصرف المتقلبة. (2)
لكن ما لم تمر فترة طويلة، فلا يوجد داع لتقلب أسعار الصرف باستمرار من الناحية العملية. (3)
بما أن هناك مميزات معينة لاستقرار الأسعار ... فإنني أؤيد تماما الإجراءات العملية لتحقيق الاستقرار الفعلي ما دام أنه لم تتوافر أسباب جوهرية لتبني سياسة مختلفة. (4)
بل إنني سأذهب إلى حد ... التأكيد على ضرورة وجود ضمانة لتقليل قدر التقلب الذي يمكن السماح به على نحو طبيعي ... فما دام أنه لم يوجد أي تعهد فعلي، أعتقد أن هامش 10٪ كاف تماما في ظل معظم الظروف التقليدية. (5)
أؤكد على أن الفائدة من تحقيق الاستقرار تعتمد على: (أ) اتخاذ إجراءات من شأنها التحكم في حركة رءوس الأموال. و(ب) ميل الحركات الكبيرة في الأجور لأن تتساوى في الدول المختلفة ذات الصلة.
لكن موقف كينز تجاه الولايات المتحدة رق في ثلاثينيات القرن العشرين؛ فقد زارها مرتين في عامي 1931 و1934. وفي زيارته الثانية، وهي الأهم، ذهب كينز لدراسة «الصفقة الجديدة» وقابل روزفلت وشرح نظريته الجديدة عن العرض الفعال في كل من واشنطن ونيويورك. انبهر كينز بشدة. وكتب إلى فيلكس فرانكفورتر في 30 مايو 1934 قائلا: «هنا، وليس في موسكو، يوجد مصنع الاقتصاد العالمي. والشباب الذين يديرونه رائعون. إنني مذهول مما أراه من كفاءة وذكاء وحكمة. ويمكنك أن تقابل اقتصاديا كلاسيكيا هنا أو هناك وتشعر وكأنه ألقي من النافذة؛ لكن هذا ما حدث لمعظمهم بالفعل.» لقد كان التزام كل من الوزارة والجيل الصاعد من العاملين بمجال الاقتصاد في أمريكا بسياسة توسع اقتصادي، مهما في إقناع كينز بأن قيادة أمريكا للنظام الاقتصادي العالمي ربما لا تضر بمصالح بريطانيا بالقدر الذي تخوف منه من قبل.
وتكمن المفارقة هنا في أن الصفقة الجديدة الخاصة بهتلر كانت أكثر تماسكا من تلك الخاصة بروزفلت، ونجحت بدرجة أكبر في التخلص من البطالة. لكن باستثناء الإشارة المتحفظة لمميزات النظام الشمولي في تخطيط الناتج والواردة في التصدير المكتوب بالألمانية لكتاب «النظرية العامة»، لم يعلق كينز على نحو صريح على النظام الاقتصادي النازي سواء بالمدح أو بالذم. إلا أنه أدان النازية بوضوح باعتبارها نظاما سياسيا وحشيا، واعتاد أن يطلق على ألمانيا وإيطاليا «قوى قطاع الطرق». وكان السبب الرئيسي لامتناع كينز عن إبداء استحسانه للنظام الاقتصادي الألماني هو بغضه للنظام السياسي. لكن كان هناك عامل آخر؛ وهو أنه لم يكن من بين الاقتصاديين المهنيين في ألمانيا أو في أي دولة في أوروبا، باستثناء السويد، من يمكنه أن يجاريه أو يدخل معه في مناقشات، على عكس الولايات المتحدة. فبغض النظر عن مساهمة مدرسة ستوكهولم، كانت المناقشة الفنية المتخصصة التي تبعت نشر كتاب كينز «النظرية العامة» مناقشة أنجلوأمريكية بحتة. ويعد هذا أحد الأسباب المتجاهلة التي تبرر انجذاب كينز الفوري تجاه أمريكا ونفوره من أوروبا بعد انهيار ما كان يفترض أنه نظام اقتصادي دولي ذاتي التنظيم في ثلاثينيات القرن العشرين.
على الجانب الآخر، رغم أن ألمانيا النازية لم تكن بأي شكل شريكا مناسبا لبريطانيا، لم يطالب كينز قط بشن حرب وقائية لإيقاف ألمانيا. وأيد اتفاقية ميونخ رغم أنه عارض وسائل هتلر في الوصول إليها، ورأى أن استيلاء هتلر على دانسيج من عدمه لا يهم على الإطلاق، وكان سيسمح له بالاستيلاء على أوكرانيا إن استطاع. وكما بين البروفيسور كار، كانت هناك أسباب معقدة لكل هذه المواقف، لكن تفادي حرب أخرى في غرب أوروبا وإتاحة المجال لألمانيا للتوسع شرقا ضمن إعادة التوازن في أوروبا، التي نادى بها كينز في 1919 و1921، كانا أهم تلك الأسباب. ولم تكد الولايات المتحدة تظهر في خططه لاحتواء «قوى قطاع الطرق».
لم تشارك الولايات المتحدة في البداية في الحروب الجارية في أوروبا وآسيا، كما تجاهلت خطط جميع المتحاربين للنظام الاقتصادي فيما بعد الحرب الولايات المتحدة. وكان هذا قائما على منطق الثلاثينيات، عندما حاولت بريطانيا وألمانيا واليابان إنشاء تكتلات اقتصادية مضادة للولايات المتحدة؛ حيث شعرت كل منها بعدم إمكانية التعايش مع قوة أمريكا التنافسية غير المتوازنة. وفي المقابل اتجهت الولايات المتحدة لزيادة تعاونها الاقتصادي والسياسي مع الدول الأخرى، مع الدعاية الصاخبة من جانب وزير خارجية روزفلت، كوردل هال، لحرية التجارة. وبمجرد دخولها الحرب، أصبح هدفها الأول من الحرب هو تفتيت التكتلات المركنتيلية الجديدة التي أسسها المتحاربون. (وامتدت هذه الطموحات على نحو أكثر غموضا إلى نظام الاتحاد السوفييتي الذي يتمتع بقدر أكبر من الاكتفاء الذاتي.) كان من شأن هزيمة ألمانيا واليابان أن تؤدي للقضاء على نظاميهما تلقائيا، لكن الولايات المتحدة يمكنها أيضا أن تمارس ضغطا كبيرا على حليفتها المعتمدة عليها، بريطانيا.
وضعت أول خطة لما بعد الحرب في ألمانيا. وأعلن دكتور فولتر فانك وزير هتلر للاقتصاد عن «نظام أوروبي جديد» في باريس يوم 25 يوليو 1940. ودعا هذا النظام لتكوين تكتل اقتصادي أوروبي بأسعار صرف ثابتة واتحاد مقاصة مركزي في برلين، وأن تقوم العلاقات مع الولايات المتحدة على أساس المقايضة. وكان الهدف من تلك الخطة استعادة ما سماه فانك «تقسيما ذكيا للعمل» في أوروبا، مع حماية أوروبا من الآثار الانكماشية في حالة وجود معيار ذهب دولي.
رأى كينز وهو في وزارة الخزانة البريطانية منفعة كبيرة في مقترحات فانك. وكتب إلى هارولد نيكولسون في 20 نوفمبر 1940 يقول: «إذا نظرنا إلى خطة فانك من الناحية الظاهرة فسنجدها ممتازة، وأنها ما ينبغي علينا فعله. وإن أردنا مهاجمتها فإن الوسيلة الوحيدة لذلك هي التشكيك في نواياها.» وكان الأعجب من ذلك هو رد كينز الرسمي على الخطة الألمانية في 1 ديسمبر:
لا نرغب في أن نعكس الأدوار التي اقترحتها ألمانيا لنفسها ولجيرانها ... إذ يجب أن يتوقع من ألمانيا وأن يسمح لها بتولي القيادة الاقتصادية التي تنبع على نحو طبيعي من قدراتها وموقعها الجغرافي. صحيح أن ألمانيا هي أسوأ قائد عرفه العالم حتى الآن، لكنها يمكن على أسس من المساواة أن تكون شريكا فعالا.
وفي 25 من أبريل عام 1941 تصور كينز نظاما يعتمد على الجنيه الاسترليني يشمل بعض الدول الأوروبية يمكنه أن يفرض قيودا على السلع الأمريكية إذا ظلت الولايات المتحدة «في وضع الدائن غير المتوازن».
تلقى كينز صدمة كبيرة عندما زار واشنطن في الفترة من 7 مايو إلى 29 يوليو 1941. فكما كان الحال عام 1915، كانت بريطانيا تعتمد على مشتريات من الولايات المتحدة المحايدة، والتي لم تكن قادرة على تسديد ثمنها. وفي ديسمبر عام 1940 أعلن روزفلت عن برنامج «الإعارة والتأجير»، وهو برنامج لتقديم الإمدادات لبريطانيا ليس في مقابل الأموال المقترضة كما كان الحال في الحرب العالمية الأولى، ولكن في مقابل لم يعلن عنه يدفع بعد الحرب. لقد أتى كينز باعتباره مبعوث «أمة عظيمة ومستقلة يطلب ما اعتبره حقا وما لم يكونوا مستعدين لتقديمه لنا إلا معروفا.» وفي 28 يوليو؛ أي قبل مغادرته لأمريكا بيوم، أعطي مسودة وزارة الخارجية لاتفاقية الإعارة والتأجير التي كشفت - في المادة السابعة منها - عن المقابل المطلوب؛ وهو: تعهد بريطانيا بتجنب فرض قيود على استيراد السلع الأمريكية؛ أي إن بريطانيا تقايض نظام التفضيل الإمبريالي مقابل برنامج الإعارة والتأجير. وربما عجل كينز المسعى الأمريكي لتوقيع تلك الاتفاقية بإخبار وزارة الخارجية الأمريكية في 25 يونيو أن بريطانيا ربما تضطر إلى إقرار سياسات تجارية تمييزية للموازنة بين صادراتها ووارداتها بعد الحرب. لكن عندما رأى كينز المادة السابعة، انفجر غضبا. وانتشر شجبه ل «مقترحات السيد هال المجنونة» في جميع أنحاء واشنطن. بدا كل هذا تكرارا لتجربة الحرب العالمية الأولى المريرة. لكن كينز كان أكبر سنا وأكثر حكمة في تلك المرة. كما أن بريطانيا لم يكن لديها أي خيار واقعي إلا تنفيذ الطلبات الأمريكية في ظل انعدام الأمل في التفاوض على السلام على عكس عام 1916؛ لذا عاد كينز إلى منزله الريفي بتيلتون في شهر أغسطس ليضع خطة كينزية جديدة. وجاء فيها اقتراحه الشهير بإنشاء «اتحاد مقاصة» يشمل الولايات المتحدة هذه المرة، والذي وقع عليه بالأحرف الأولى في 8 سبتمبر 1941.
كانت السمة الجوهرية في تلك الخطة هي أن الدول الدائنة لا يسمح لها بادخار فائضها أو فرض أسعار فائدة عقابية على إقراضه؛ بل يتاح الفائض تلقائيا على هيئة تسهيلات ائتمانية رخيصة على المكشوف للدول المدينة من خلال آلية عمل بنك اتحاد مقاصة دولي، مودعوه هم البنوك المركزية لأعضاء الاتحاد. لكنه كان لا يزال مستعدا للتحول إلى بديل تكتل عملة تحت قيادة بريطانيا تعززه «أدوات شاختية» إذا رفضت الولايات المتحدة الاشتراك في الاتحاد. (وضع دكتور شاخت وهو وزير هتلر للاقتصاد في الثلاثينيات نظاما ناجحا لاتفاقات التجارة الثنائية لموازنة حسابات ألمانيا الخارجية.) وأضافت مسودة أخرى، وقع عليها كينز بالأحرف الأولى في 18 نوفمبر 1941، «الاقتراح الشديد الأهمية» الذي نص على أن عضوية الاتحاد النقدي قد تكون في مجموعات تقوم بناء على «الوحدات السياسية والجغرافية» مثل منطقة الاسترليني. واحتفظت تلك المقترحات بأهميتها باعتبارها نموذجا ممكنا للعودة التدريجية إلى نظام سعر صرف عالمي ثابت كما في يومنا هذا.
أدلت الولايات المتحدة بشروطها صراحة بمجرد دخولها الحرب في ديسمبر 1941. وأصرت الولايات المتحدة على أن تتعهد بريطانيا في مقابل المساعدات بأن تتخلى عن التمييز التجاري فيما بعد الحرب. وأضيف هذا التعهد إلى المادة السابعة من اتفاقية الإعارة والتأجير التي تم توقيعها في 23 فبراير 1942؛ أي بعد خمسة أيام من سقوط سنغافورة في يد اليابانيين. أدرك كينز عندها أن خيار التكتل الاقتصادي لن يتحقق؛ إذ لن تسمح أمريكا بتمويل الجهود الحربية البريطانية كي تبرز بريطانيا بعد ذلك وتكون على رأس نظام «شاختي» يفرض قيودا على الصادرات الأمريكية. وكان على كينز أن يكرس نفسه لحل المعضلة الفكرية؛ وهي كيفية المواءمة بين حاجة بريطانيا إلى أن تكون لها حرية إقرار سياسات تستهدف التوظيف الكامل من جهة، ونظام التجارة الحرة الأمريكي من جهة أخرى. واضطر إلى تقبل فكرة أن عالم ما بعد الحرب ستشكله القوة الأمريكية؛ أي ستحكمه المثالية الأمريكية والعقول البريطانية. كما أنه لم يكن ليرقى لمكانته الشخصية ولأن يكون اقتصاديا وليبراليا، إن لم ينشغل بإمكانية استغلال لحظة تاريخية فريدة كهذه لإعادة صياغة نسخة محسنة من النظام الاقتصادي الليبرالي الذي انهار بعد الحرب العالمية الأولى. وأدرك كينز كذلك حقيقة أخلاقية وجغرافية سياسية. فبافتراض هزيمة ألمانيا، فإن خيارات ما بعد الحرب ستنحصر فيما بين «التوجه نحو روسيا أو الولايات المتحدة»؛ أي بين الرأسمالية العالمية والاشتراكية القائمة على الاكتفاء الذاتي، دون أي خيار وسط. وكتب يقول: «أليس هناك الكثير ليقال عن تجربة التوجه للولايات المتحدة أولا؟»
من جانبهم كان الأمريكان يفكرون أيضا في النظام الاقتصادي بعد الحرب؛ إذ وضع هاري دكستر وايت، وهو مسئول بوزارة الخزانة الأمريكية، خطة في مارس 1942. واقترحت الخطة معيار ذهب معدلا يلحق به آلية ضبط بسيطة في صورة صندوق لاستقرار أسعار الصرف، يمكن للمشاركين فيه أن يسحبوا منه بحد أقصى يساوي مقدار مشاركتهم بنفس عملتهم؛ وهو مشروع دعم من الناحية الفعلية المذهب التقليدي لضبط حسابات المدينين، وذلك بتحديده للاعتماد على أمريكا. وكانت القيمة الإجمالية لآلية الضبط التي اقترحها وايت (5 مليارات دولار في البداية ثم 8 مليارات) أقل بكثير من قيمة الآلية التي اقترحتها خطة كينز (26 مليار دولار)؛ كما فرضت شروط صارمة على سحب الحصص. ولم يطلع كل من كينز ووايت على خطط الآخر إلا في صيف عام 1942. وتحولت الخطتان إلى مواقف تفاوضية لدولتيهما.
لكن اتفاقية بريتون وودز، التي وقعت في 22 يوليو 1944 بعد جولتي مفاوضات شاقتين في واشنطن، عكست وجهة النظر الأمريكية لا البريطانية، وعكست الخلافات بين الجانبين بشأن مسائل مثل إدارة سعر الصرف والتعامل مع الاحتياطيات والسياسة الجمركية والمسئولية عن عملية الضبط للمصالح الوطنية لكلتا الدولتين بعد أن نقحتها تجاربهما فيما بين الحربين وتوقعاتهما للمستقبل. وانحصرت إنجازات بريطانيا التفاوضية في الحصول على ضمانات وإرجاء لدفع الديون وتخفيف بعض الشروط في ظل الخطة الأمريكية. وكان النجاح الرئيسي لبريطانيا هو وضع بند «للعملة النادرة» يسمح للدول المدينة بالتمييز التجاري ضد الدول الدائنة في ظروف معينة.
وبحسب ما قال جيمس ميد وليونيل روبنز، وهما عضوا فرق التفاوض البريطانية اللذان سجلا يومياتهما، كان أداء كينز في مؤتمري واشنطن، في المدة من سبتمبر حتى أكتوبر 1943 ومن يوليو حتى أغسطس 1944، مزيجا من البلاغة غير العادية، سواء في الألفاظ والمعاني، والوقاحة غير العادية في الحديث مع الأمريكيين وعنهم. وفي أعقاب إحدى جلسات التفاوض قال هاري دكستر وايت لروبنز: «إن البارون كينز يشع عبقرية.» وكتب روبنز في أعقاب جلسة أخرى يتحدث عن «نشوة الأمريكيين أمام منشد ساحر وموهوب يغني في ضيافتهم وشعاع ذهبي يتلألأ حولهم.» من ناحية أخرى نقل ميد عن كارل بيرنستين، الذي عمل في وزارة الخزانة الأمريكية، «المعاناة من أخلاق كينز المتدنية». (قال كينز في إحدى مسوداته: «إن هذا لا يحتمل. إنه تلمود آخر.») عكست تصرفات كينز الخارجة، بوصفه أحد المفاوضين، إرهاقه وتدهور صحته بلا شك، وعكست أيضا شعوره بالإحباط تجاه قلة حيلة بريطانيا. كان هذا الشعور بالمثالية، الممزوج بإدراك أن الولايات المتحدة أصبحت في وضع المهيمن، مسيطرا على جميع المفاوضين البريطانيين. وقال ليونيل روبنز في هذا الشأن: «في عالم المستقبل سنضطر إلى الاعتماد بشكل أكبر على عقولنا.» لكن المشكلة كانت تكمن في أن العقول كان يجب إسكاتها إذعانا للخوف الأمريكي من التسفيه والسخرية، «خاصة على يد اللورد كينز البارع المخيف».
أثنى كينز في مجلس اللوردات في 23 مايو 1944 على الخطة البريطانية الأمريكية المتفق عليها من منظوري المثالية والضرورة؛ إذ قال: «ما البديل المتاح أمامنا؟» فعلى عكس الحرب العالمية الأولى، افتخر كينز الآن بأنه «بشن حرب دون حساب تكلفتها النهائية قد أثقلنا كاهلنا - دون باقي دول الأمم المتحدة - بعبء مديونية مؤجلة لدول أخرى، وهي التي سنرزح تحت قيودها.» على وجه الخصوص، أضاف أنه من دون الإطار الجديد الذي أقرته تلك الخطة:
ستخسر لندن بالضرورة مكانتها الدولية، وستنهار تماما ... ترتيبات منطقة الاسترليني. ويبدو لي أنه ضرب من الجنون افتراض أن نظاما قائما على الاتفاقيات والمقايضات الثنائية دون أن يعرف من يمتلك الجنيه الاسترليني ما يمكنه فعله به ... هو الوسيلة المثلى لتشجيع الدول التي كانت تابعة للإمبراطورية البريطانية على أن تتمحور أنظمتها المالية حول لندن.
لم يتسق أسلوب الاهتمام بإنجلترا، لا الإمبراطورية البريطانية، مع تراث إنجلترا الإمبريالي؛ «ففي ظل موارد بريطانيا المحدودة والمقيدة على نحو كبير، لا يمكن الحفاظ على الثقة الضرورية في الجنيه الاسترليني إلا إذا كان في وضع دولي قوي.» وهكذا، فإن دعم القوة والأموال الأمريكية - بشروط - للنظام الاقتصادي لبريطانيا القائم على موارد «محدودة ومقيدة» هو الغاية النهائية من تلك «العلاقة الخاصة» التي فرضتها الحرب.
فشل خطة كينز لإنشاء اتحاد مقاصة دولي سلط الضوء على مشكلة تمويل عجز الحساب الجاري المتوقع في بريطانيا بعد الحرب؛ إذ قدر كينز أن يصل العجز إلى ما بين 6 و7 مليارات دولار خلال مدة «انتقالية» قدرها ثلاث سنوات. وفي 17 أغسطس 1945؛ أي بعد ثلاثة أيام من استسلام اليابان، ألغت الولايات المتحدة اتفاقية الإعارة والتأجير بصورة مفاجئة. وأصبح على بريطانيا عندها أن تدفع ثمن كل ما حصلت عليه من إمدادات، بما في ذلك ما طلبته بالفعل. لقد صمم اتحاد المقاصة المقترح على نحو صريح ليجعل المساعدة الأمريكية في ميزان المدفوعات بعد الحرب غير ضرورية؛ إذ كان بنك اتحاد المقاصة سيتيح «عمليات سحب على المكشوف» على نحو تلقائي لسد «فجوة الدولار» في بريطانيا بعد الحرب. أما حصة بريطانيا في صندوق النقد الدولي فكانت أصغر بكثير بحيث لا يمكن أن تفي بهذا الغرض، وفي كل الأحوال، لا يمكن للدول أن تمارس «حقوقها في سحب الأموال» إلا إذا كانت ذات عملات قابلة للتحويل. واستبعد تخفيض قيمة الجنيه الاسترليني؛ لأن فائض واردات بريطانيا كان كبيرا جدا، ولأن «التنصل» من ديون بريطانيا بالجنيه الاسترليني (التي يصل إجمالي حجمها إلى 14 مليار دولار) كان من شأنه أن يدمر منطقة الاسترليني. وفضل الانعزاليون اليمينيون واليساريون وضع قيود صارمة على التجارة، لكن كينز سأل بيفربروك في 27 أبريل 1945 قائلا:
هل تفضل العمل بنظام تجارة يعتمد على المقايضة، وهو الذي يعني من الناحية العملية شبه احتكار الدولة للواردات والصادرات على غرار روسيا؟ هل توافق على الاستمرار الأبدي في فرض قيود صارمة و(ربما) نظام حصص أكثر قسوة؟ هل تتطلع إلى تحولنا في الوقت الراهن إلى قوة من الدرجة الثانية ...؟
لذا كانت المساعدة الأمريكية هي كل ما تبقى من خيارات.
تمنى كينز أن تكون مساعدة الولايات المتحدة في صورة منحة أو على الأقل قرض من دون فوائد. وكتب هيو دالتون - وزير الخزانة العمالي - إن «عيني كينز كانتا حالمتين في أثناء حديثه مع الوزراء قبل أن يغادر إلى واشنطن. لقد كان واثقا تمام الثقة ... أنه سيحصل على ستة مليارات دولار على هيئة منحة لا ترد ... ولم يتحدث ... إلينا كثيرا عن «الالتزامات».» وقال المصرفي روبرت براند: «عندما أستمع إلى اللورد كينز وهو يتحدث، أشعر أني أسمع رنين العملات المعدنية الموجودة في جيبي.» وبعد وقت قصير من وصول كينز إلى واشنطن في 5 سبتمبر، بصفته أحد رؤساء الوفد البريطاني، أدرك أن المزاج العام قد اختلف. فخلال مفاوضات شائكة جدا استمرت ثلاثة أشهر تحولت المنحة التي لا ترد، التي قيمتها ستة مليارات دولار، إلى قرض قيمته 3,75 مليارات دولار بفائدة 2٪، مع الالتزام بالسماح بجعل الجنيه الاسترليني قابلا للتحويل بعد عام من التصديق على الاتفاقية. وكلف هذا بريطانيا الحماية الانتقالية في ظل اتفاقية بريتون وودز. وبعد أن كان كينز مبالغا في تفاؤله، قاد الحكومة العمالية المذهولة والغاضبة خطوة بخطوة ناحية قبول شروط أقل ملاءمة. تدهورت صحته وساء طبعه. وفي النهاية استبدل به السير إدوارد بريدجز الذي وافق على التسوية النهائية.
وضع دفاع كينز البليغ عن مشروعه في مجلس اللوردات في 18 ديسمبر؛ أي بعد اثني عشر يوما من توقيع اتفاق القرض، المفاوضات في سياق الأحداث التي تكشفت منذ الحرب العالمية الأولى؛ إذ ظهرت قضية الضرورة أولا؛ فقد كان البديل للقرض - كما قال - «هو إنشاء كتلة اقتصادية منفصلة، تستبعد منها كندا، وتتكون من الدول التي ندين لها بالفعل بأكثر مما يمكننا سداده، على أساس موافقتها على إقراضنا أموالا لا تمتلكها، وعلى أن تشتري منا فقط أو من الدول الأخرى الأعضاء في الكتلة سلعا لا يمكننا إنتاجها.» أما القضية الثانية فكانت الرغبة في إعادة إحياء مذهب ليبرالي قائم على الشراكة؛ حيث قال:
إن التكتلات الاقتصادية المنفصلة وكل ما يستتبعها من خلافات وخسارة للأصدقاء هي تدابير ناجعة، ربما تضطر الدول إلى السعي إليها في عالم يتسم بالعداء ... لكن من الجنون بالقطع تفضيل هذا الحل. فهذا الإصرار على تدويل التجارة وعلى تجنب إنشاء تكتلات اقتصادية تحدد وتقيد التعاملات التجارية خارجها، هو قبل كل شيء شرط أساسي لتحقيق أقصى أمنيات العالم، وهو التفاهم البريطاني الأمريكي ... لقد تعلم بعضنا بالتجربة في مهام الحرب، ثم في مهام السلام في الفترة الأخيرة، أن دولتينا يمكنهما التعاون معا. لكن من السهل علينا جدا أن نفترق. إنني أناشد من ينظرون بارتياب إلى هذه الخطط أن ينعموا النظر ويتحلوا بالمسئولية في اختيار طريقهم.
كان السياق المألوف لأفكار كينز الاقتصادية هو الكساد الكبير في الثلاثينيات الذي أدى إلى انهيار الاقتصاد العالمي. لكن السياق الأبرز كان وضع الدائن غير المتوازن الذي تلعبه الولايات المتحدة؛ فطوال السنوات العشر التي تلت الحرب العالمية الأولى انتعشت الولايات المتحدة، بينما أصاب بريطانيا الكساد. ورأى كينز أن مشكلة البطالة في بريطانيا هي مشكلة المبالغة في تحديد قيمة الجنيه الاسترليني أمام الدولار. ومن هذا المنظور كان كتابه «النظرية العامة» بمنزلة إضافة - وليس تتويجا - لخط أفكاره؛ أي نظرية في الكساد العالمي العميق؛ حيث يمكن أن يتحقق التوظيف الكامل إذا انعدم التلاعب بالنقود.
في أعقاب التخلي عن معيار الذهب عام 1931، انقسم العالم إلى تكتلات اقتصادية بناء على العملات «الرئيسية». وقد دخلت بريطانيا الحرب مع ألمانيا عام 1939 بصفتها مديرة لنظام المدفوعات الإمبريالي المعروف باسم «منطقة الاسترليني».
لقد عزز نشوب الحرب العالمية الثانية أمل كينز في إنشاء نظام مدفوعات تسيطر عليه بريطانيا باعتباره الإطار النقدي للاقتصاد البريطاني. وضاع قدر كبير من المثالية والمسئولية في التوصل إلى نظام بريتون وودز. إلا أنه أذن بنهاية الاستقلال النقدي البريطاني؛ فنظام الجنيه الاسترليني لا يمكنه البقاء ما لم يدعمه الدولار. لقد شهدت فترة حياة كينز التحول من السيطرة إلى التبعية .
الفصل السادس
ميراث كينز
يجب أن يعكس أي تقييم لأعمال العباقرة الراحلين التوجه العقلي السائد في أزمنتهم. وفي وقت تأليف هذا الكتاب (يوليو 1995) كانت سمعة كينز تتسم بأنها متذبذبة بعض الشيء. ومنذ عشر سنوات كان يمكن القول إن الحقبة الكينزية قد ولت نهائيا. وقد قالها نايجل لوسون وزير الخزانة البريطاني بالفعل؛ فقد أعلن في إحدى المحاضرات عام 1984 أن «محاربة التضخم ينبغي ... أن تكون هدف سياسات الاقتصاد الكلي. أما خلق ظروف مشجعة على النمو والتوظيف ... فينبغي أن يصبح ... هدف سياسات الاقتصاد الجزئي.» فليس هناك أي التزام نحو التوظيف الكامل، بل كان الهدف هو تحرير الأسواق بأكبر قدر ممكن وتقبل مستوى النشاط الذي تحققه. واليوم يظهر بعض الارتداد إلى أفكار كينز؛ لأن السياسات الانكماشية المتبعة على مدار الخمسة عشر عاما الأخيرة خلفت مستويات عالية من البطالة الدائمة، وذلك كما توقع كينز بالفعل فيما يتعلق بتلك السياسات. استمرت البطالة في الاتحاد الأوروبي في الارتفاع منذ سبعينيات القرن العشرين، ووصلت إلى 10٪ من قوة العمل اليوم، ولم تنخفض كثيرا منذ التعافي من الركود الذي حدث فيما بين عامي 1991 و1992. ويبدو الأمر وكأنما لا تنتج شعوب الدنمارك وأيرلندا وسويسرا مجتمعين أي شيء على الإطلاق، وهو أبعد ما يمكن عن أن يكون إنجازا لقوى السوق.
رغم أن النظرية النقدية عجزت عن الحفاظ على استقرار الأسعار وتحقيق مستويات مناسبة من التوظيف، لم يعد إحياء السياسات الكينزية، كما عرفناها، من جديد؛ فمعظم الحكومات ترى أن الحلول الكينزية للبطالة إما غير فعالة وإما ضارة، تماما مثلما حدث عندما بدأ كينز في تقديمها والدفاع عنها. ومن ضمن ما يعكسه ذلك، الرأي القائل إن معظم البطالة في يومنا هذا «هيكلية» لا كينزية؛ بمعنى أنها لا تعكس نقصا في الطلب، بل تعكس سوء هيكل رأس المال والأجور المرتبطة به. علاوة على ذلك، ينتشر الاعتقاد أن سوء الضبط الهيكلي قد حدث (أو ترك ليستمر كل تلك المدة) نتيجة للسياسات «الكينزية» التي توجد التوظيف أو تحافظ عليه في وظائف غير منتجة أو تحقق خسائر. وحتى إن أقررنا - ولو جزئيا - أن البطالة القائمة ترجع إلى العجز في إجمالي الطلب، فإنه يعتقد أن زيادة الطلب ستلغي كل المكاسب التي تحققت على حسابها في ملف التضخم منذ عام 1979.
باختصار، تبرز السياسات الكينزية لنا اليوم وهى محاطة بتاريخ طويل من ارتفاع التضخم والتمويل العام غير الحكيم وزيادة سلطات الدولة وانهيار التشاركية والانفلات العام، وهي عوامل بدت كلها ملازمة للحلول الكينزية لعيوب المجتمع الصناعي. ونحن لن نطيق السير في هذا الطريق مجددا. وبحلول ثمانينيات القرن العشرين، تحول كينز، الذي اعتبر منقذا للعالم من الماركسية، إلى العبقري الكبير الذي فشل، تماما مثل ماركس.
تتطلب المسألة المتعلقة بكيفية إنتاج الحقبة الكينزية لتوقعات قوضت الثورة الكينزية تفسيرا نظريا وتاريخيا على حد سواء. وربما يستطيع أحد المؤرخين كغيره أن يقدم لنا تفسيرا ما. وسيكون شقا التفسير (النظري والتاريخي) أمرا شخصيا يرجع له؛ لأنه ما من اتفاق بشأن «مكمن الخلل». لكن من يريد أن يعيد روح فكر كينز إلى الحياة عليه أن يواجه نقاط فشل مذهبه بأمانة، دون محاولة تبرئة الأستاذ من أخطاء تلامذته. إن الثورة الكينزية كانت في جوهرها ضحية الطموح المفرط - أو بالأحرى التغطرس - الذي يحركه عدم الصبر، وتدعمه المزاعم غير المؤكدة بشأن المعرفة النظرية والعملية على حد سواء. كما كانت الثورة المضادة القائمة على النظرية النقدية مجرد محاولة لاكتساب قدر أكبر من التواضع والثقة في قوى السوق العشوائية.
من الصعب إيجاد مكان لكينز نفسه في الخلاف بين المذهب الكينزي والمذهب القائم على النظرية النقدية؛ لأن كتابه «النظرية العامة» قصد به فهم عالم الثلاثينيات لا عالم الستينيات أو السبعينيات من القرن العشرين. كما أنه من الممكن الخروج باستنتاجات نقدية (صالحة) من كتاب «النظرية العامة» في ظل افتراضات معينة بشأن توقعاته، لكن هذا لم يكن الهدف من تأليف الكتاب. ولفهم كثير مما قاله كينز عن النقود والائتمان وأسعار صرف العملات وعن النظام المصرفي والأسواق المالية، يجب على القارئ أن يرجع إلى كتابي كينز «بحث في الإصلاح النقدي» و«بحث في النقود». أما هؤلاء الباحثون عن الإلهام من كينز في الوقت المعاصر، فعليهم الالتفات إلى ثلاث حقائق أخرى؛ أولها: أنه رغم أن كينز كان مفرط الثقة من الناحية الفكرية - وهي سمة ورثها عنه تلامذته - فقد كان متواضعا على نحو لافت في توقعه لما يمكن أن تحققه السياسات الاقتصادية في مجتمع حر، وهي نقطة نزع مؤيدوه إلى تجاهلها. وثانيها: أن أهدافه الاجتماعية كانت - حسب قوله - «متحفظة ومعتدلة»؛ فلم يدعم أي شيء في فلسفة كينز الاجتماعية، ولا في ليبرالية ذلك العصر، التوسع المطرد في أنشطة الدولة الخاصة بالرعاية الاجتماعية، الذي ساهم بشكل كبير في الأزمات المالية في السبعينيات. ثالثها وآخرها: أن كينز قد نادى بالنمو ليس لذاته، بل باعتباره وسيلة لتحقيق الرفاهية وبناء حياة متحضرة. بل إن كينز في الحقيقة حاج في أواخر عشرينيات القرن العشرين بأن البطالة الناتجة عن التقدم التقني كانت علامة على أن المشكلة الاقتصادية في طريقها للحل. وكتب إلى تي إس إليوت في عام 1945 يقول: «إن سياسة التوظيف الكامل عن طريق الاستثمار هي تطبيق واحد فقط من تطبيقات النظرية الفكرية. ويمكن تحقيق النتيجة نفسها كذلك عن طريق زيادة الاستهلاك أو تقليل العمل ... فتقليل العمل هو الحل الأخير لمشكلة البطالة.»
ازدهرت الثورة الكينزية لربع قرن بعد وفاة كينز. وتقبل معظم الاقتصاديين «الأفكار الاقتصادية الجديدة» (حتى إن ميلتون فريدمان قال عام 1966: «لقد أصبحنا كينزيين جميعا الآن»، وهي عبارة كررها ريتشارد نيكسون عام 1972)، والتزمت معظم الحكومات بتحقيق التوظيف الكامل. لا شك أنه لم يقدس كل من اعتبروا أنفسهم «كينزيين» كتاب «النظرية العامة». بل في الواقع، انحسر تأييد نظرية كينز. ونتيجة لعمل باتينكين (1956)، أعيد تبني النظرية الكلاسيكية على نحو جزئي، من حيث إن ثبات الأجور النقدية كان ينظر إليه بوصفه عقبة «أساسية» أمام الوصول إلى التوظيف الكامل، كما زعم آرثر بيجو دائما. وفي كتاب ليونهوفود (1968) عن النظرية الاقتصادية لكينز، اعتبر «توازن البطالة» عند كينز وسيلة بلاغية؛ فقد اعتبرت نظريته نظرية لاختلال التوازن تؤكد على أخطاء التنسيق، وهو منهج أكد على ارتباط كتاب «النظرية العامة» بكتاب «بحث في النقود»؛ الأمر الذي قلل الفجوة بينه وبين مؤيدي نظرية اختلال التوازن النقدي في ثلاثينيات القرن العشرين. لكن ثبات الأجور النقدية المنخفضة بجانب الاحتمال القائم دائما بحدوث انهيار في الاستثمار الخاص جعلا دور السياسة الحكومية ضروريا لضمان استمرار مستوى التوظيف الكامل.
بخلاف ما سبق، بدت جوانب ثلاثة لميراث كينز منيعة؛ أولا: تقبل كل الاقتصاديين من الناحية العملية نموذج الاقتصاد الكلي الخاص بكينز؛ فقد ابتكر كينز فرعا جديدا لعلم الاقتصاد؛ هو الاقتصاد الكلي المعني بدراسة سلوك النظام الاقتصادي ككل بدلا من دراسة سلوك الأفراد أو الشركات أو الصناعات. وقد تعلم الطلاب في ستينيات القرن العشرين أنه من الممكن تشكيل الاقتصاد وتشخيص حالة الطلب الفعال ووضع آليات مناسبة للتدخل المالي. ثانيا: قدم كتاب «النظرية العامة» الأساس الفكري لإنشاء الحسابات القومية. وكان لنمو الإحصائيات الاقتصادية السريع، الناتج عن ذلك، بالغ الأثر في تطور علم الاقتصاد القياسي الذي قدم بدوره (كما يمكن أن يكون قد قيل حينها) أساسا آمنا للتنبؤ في سياسات الاقتصاد الكلي. ثالثا: أعاد كينز الإيمان بالنظام الرأسمالي؛ فالاقتصاد الكينزي ساهم في إخراج الفاشية والشيوعية وبعض صور الاشتراكية من تاريخ العالم المتقدم.
كما ساهمت النظرية الكينزية في ظهور علم اقتصاد التنمية المعني بدراسة النمو الاقتصادي في الدول الفقيرة. ووسع روي هارود بالتحديد تفسير كينز للبطالة قصيرة الأجل ليجعل منه نموذجا للنمو الذاتي، مع التأكيد على الدور المحوري للاستثمار المادي. وشهد منتصف ستينيات القرن العشرين زيادة الإيمان بقدرة سياسات الاقتصاد الكلي على الوصول إلى مستوى التوظيف الكامل، بل وتحقيق معدلات نمو عالية، وغيرها الكثير من الأهداف الاجتماعية المرغوبة.
بعدها بعشر سنوات وصلت الثورة المضادة لنظرية كينز إلى أوجها؛ إذ ظهر أهم أبحاث الاقتصاد الكلي في سنوات ما بعد الحرب عام 1968 على يد ميلتون فريدمان، وذلك بعد أن أعاد الحياة لنظرية كمية النقود في عام 1956. وزعم ميلتون في هذا البحث أن محاولات الحكومات لتقليل معدل البطالة لأقل من «المعدل الطبيعي» الذي تحدده مؤسسات السوق، أدت فقط إلى تسريع وتيرة التضخم. وفي 1976 أعلنت نهاية الثورة الكينزية في السياسة الاقتصادية في المكان الذي ظهرت فيه، عندما أعلن رئيس الوزراء البريطاني العمالي، جيمس كالاهان، أن خيار «الإنفاق للخروج من الركود لم يعد مطروحا»، وأن هذا الخيار لم ينجح في الماضي إلا من خلال ضخ «المزيد والمزيد من التضخم في الاقتصاد». وأصبح استقرار الأسعار بدلا من التوظيف الكامل هو الهدف المعلن لسياسات الاقتصاد الكلي في جميع أنحاء العالم.
كذلك، شككت الثورة المضادة، المتمثلة في النظرية النقدية، في معظم الجوانب الأساسية من ميراث كينز؛ فإذا كانت التغيرات الاسمية (التغيرات في النقود) تؤثر في الأسعار، لا الناتج، على المدى الطويل - كما زعم فريدمان - فإننا لسنا بحاجة إلى الاقتصاد الكلي، بل إلى نسخة محدثة من نظرية كمية النقود. وإذا كان الاقتصاد - كما زعم فريدمان - «بطبيعته أكثر استقرارا في دوراته» مما افترض كينز، بينما تعد تدخلات الاقتصاد الكلي عرضة «لتأخيرات مطولة ومتغيرة»، فإننا لسنا بحاجة لسياسات مضادة لدورات الاقتصاد وحسب، بل سيؤدي ذلك لاختلال الاستقرار. وإن كنا في غنى عن تلك السياسات، فإننا لسنا بحاجة لنماذج مفصلة للتنبؤ بالاقتصاد الكلي. وأخيرا، لم تحم سياسات كينز للاقتصاد الكلي الرأسمالية من الاشتراكية، لكنها أدت إليها بافتراضها للحاجة لزيادة التدخل السياسي في الاقتصاد الجزئي لإنجاح سياسات الاقتصاد الكلي. فبدلا من محاولة تحفيز الاقتصاد من خلال مزيج من الإنفاق والتخطيط العامين، ينبغي على الحكومات أن تركز على السيطرة على التضخم وتحسين عمل نظام السوق.
لقد حددت الأحداث مصير الثورة الكينزية، سواء وافق بعض الناس على ذلك أم اعترضوا؛ حيث أدى الكساد في ثلاثينيات القرن العشرين إلى ظهورها، ويبدو أن فترتي الخمسينيات والستينيات قد عززتها، بينما قضى عليها «الركود التضخمي» في السبعينيات (وهي حالة تجمع بين ارتفاع مستويي البطالة والتضخم). أما ميراث الثمانينيات فهو ملتبس، وينبغي ألا يشار إليه إلا في نطاق ضيق.
كانت فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين هي العصر الذهبي للرأسمالية؛ فوفق المعايير التاريخية انخفضت البطالة إلى مستويات استثنائية، وتسارع النمو في الدخول الحقيقية على نحو استثنائي، واستقرت الأنظمة الاقتصادية بشكل غير مسبوق؛ كل ذلك على حساب تكلفة تضخمية متواضعة. وأرجع كثيرون تلك النجاحات إلى السياسات الكينزية التي استوحيت من نظرية كينز.
ثم أخذ الرخاء في التراجع؛ فمن أواخر الستينيات بدأ التضخم والبطالة في الازدياد ، وأخذ النمو في التباطؤ. وفي الدول الأعضاء بمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ارتفعت أسعار المستهلك بنسبة 10,5٪ في المتوسط سنويا في المدة بين عامي 1973 و1979، بعد أن كانت ترتفع بنسبة 3,1٪ سنويا فيما بين عامي 1960 و1968. أما البطالة فقد زادت بنسبة 5,1٪ بعد أن كانت تزيد بنسبة 3,1٪ لنفس الفترتين. وانخفض النمو في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي من 3,9٪ فيما بين عامي 1960 و1968 إلى 1,9٪ فيما بين عامي 1973 و1979. وفي عام 1971 أدى الخلل المتزايد في التوازن في الاقتصاد الكلي (بما فيها ذلك الخاص بالمدفوعات الخارجية) إلى انهيار نظام أسعار الصرف الثابتة، والقابلة للتعديل الذي أقر في اتفاقية بريتون وودز عام 1944، وذلك حتى قبل وقوع الصدمة الأولى في أسعار النفط فيما بين عامي 1973 و1974.
وبعد أن نسب الفضل إلى السياسات الكينزية في النجاح المتحقق، نسب إليها الفشل الذي يليه. وكلا الاستنتاجين يحتملان الشك. فهل كان للأفكار الاقتصادية - الكينزية أو غيرها - تأثير على ما فعلته الحكومات؟ وهل كان لسياسات الحكومات تأثير على ما حدث؟ والإجابة على هذين السؤالين هي بالإيجاب بشكل شبه مؤكد، لكن التفاعلات بين العوالم الثلاثة للأفكار والسياسات والأحداث على الأرض معقدة، لدرجة أنه من غير المرجح أن يحظى أي تفسير للعلاقات بينها بالإجماع العام. لكن يمكننا على الأقل أن نميز بين الاستخدامات البلاغية والفنية للأفكار الاقتصادية، وألا ننسب التمدد العام في نشاط الدولة بعد الحرب إلى كينز، وألا نحمل السياسات الكينزية كل التبعات - الإيجابية والسلبية - لهذا التمدد. وكما كتب كريستوفر ألسوب: «إن بناء دول الرفاهية والتدخل الصناعي وتنفيذ برامج الإنفاق العام ... لا علاقة لها كثيرا ... بأفكار كينز الاقتصادية ... فمن الضروري ... ألا ننسى نقطة أساسية؛ وهي أن رسالته الأصلية كانت وسطية في جوهرها.» وبعد ما سبق، من المهم أن نذكر أن كينز كان ضد التضخم والتأميم والتخطيط والمساواة في الدخول وغير ذلك، حتى وإن لم يوجد سبب آخر سوى أن الكثيرين ممن روجوا لتلك الأفكار فعلوا ذلك باسمه.
عند محاولة تقييم تأثير السياسة الكينزية على أحداث ما بعد الحرب، تظهر مشكلة أولية تتمثل في فهم المقصود بالسياسة الكينزية؛ ففي فرنسا وإيطاليا - على سبيل المثال - ما يطلق عليه الآن سياسات نشطة معنية بالطلب كان ينسب لكينز بالخطأ. ولتمييز السياسة الكينزية على نحو أفضل، يمكن النظر إلى مدى الالتزام بالوصول إلى مستوى التوظيف الكامل والحفاظ عليه؛ حيث لم يكن هذا الالتزام إلا في بريطانيا والولايات المتحدة، وقد كان ملتبسا؛ فقد تعهدت الورقة البيضاء بشأن التوظيف في بريطانيا، التي ظهرت في عام 1944، بأن تلتزم الحكومة بمستوى «مرتفع ومستقر» للتوظيف. فما المقصود بالمرتفع؟ وما المقصود بالمستقر؟
واقترح جيم توملينسون طريقة أخرى أكثر صرامة لتمييز السياسات الكينزية؛ قائلا إن الثورة الكينزية «ينبغي أن تعرف في ضوء محاولة إضفاء الشرعية على عجز الميزانية باعتباره أداة يمكن استخدامها لتحفيز الارتفاع في مستوى الطلب الإجمالي.» ويمكن عند ذلك القول إن السياسة الكينزية هي عملية يحدث فيها عجز الميزانية بشكل متعمد من أجل رفع مستوى الناتج. وفي ضوء هذه الطريقة، لم توضع أي سياسة كينزية في أثناء ذروة «العصر الذهبي»؛ لأن «الحكومة البريطانية، وهي بعيدة كل البعد عن ضخ الطلب في الاقتصاد، طالما تمتعت بفائض كبير في الحساب الجاري»، وذلك بحسب تأكيد آر سي أو ماثيوز في عام 1968. وكان ذلك هو الحال أيضا في الولايات المتحدة حتى عام 1964. وكذلك لم توضع أي سياسات للإدارة النشطة للطلب في أنجح اقتصاديات «العصر الذهبي»؛ وهما الاقتصاد الألماني والاقتصاد الياباني. والشاهد هو أن عالم ما بعد الحرب لم يكن في حاجة لثورة كينزية في السياسة الاقتصادية ولم يقم بها من الأساس.
تحدث كينز في كتاب «النظرية العامة» عن «حالة» سعيدة في القرن التاسع عشر سمحت بالوصول إلى مستوى معقول من التوظيف الكامل دون تدخل الحكومة. وربما ينبغي النظر إلى «العصر الذهبي» باعتباره نتيجة لحالة مشابهة. فكما أوضح كل من كرافتس ووودوارد، فقد أتيح في جميع أنحاء العالم المتقدم «فرص كثيرة لتقليد التكنولوجيا الأمريكية وتقليل الزراعات ذات الإنتاجية المنخفضة واستغلال الطاقة الرخيصة.» وأدت فرص المجاراة التكنولوجية لرفع الإنتاجية الحدية لرأس المال؛ وهو ما أدى إلى زيادة الطلب على الاستثمار الخاص. وسمح ارتفاع نسبة نمو الإنتاجية بزيادة كافية في الدخول الحقيقية في سبيل إرضاء تطلعات العمال مع الحفاظ على الاستقرار النسبي لتكاليف الوحدات. كما أنفقت الحكومات نسبة من الدخل القومي أعلى بكثير من النسبة التي أنفقتها منه قبل الحرب. وكما قال جون هيكس في عام 1977: «إن اقتران التقدم التقني السريع (وهي حقيقة مؤكدة) بالنزعات الاشتراكية التي زادت الطلب على السلع العامة (وهي حقيقة أخرى مؤكدة) كان من شأنه أن يؤدي إلى هذا الانتعاش الاقتصادي دون التحفيز الإضافي للسياسات الكينزية.»
وفي تلك الحالة السعيدة لعبت الولايات المتحدة دورا محوريا؛ فمن الناحية العملية كانت الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تمتعت برفاهية «استقلال» سياسات الاقتصاد الكلي لديها؛ ففي ظل نظام معيار صرف الذهب الذي أقر في اتفاقية بريتون وودز، كانت الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي كانت تستخدم معيار الذهب، أما باقي الدول فاحتفظت بمعظم احتياطياتها بالدولار. ووضعت الشروط النقدية لهذا النظام ككل حسب السياسة المالية الأمريكية، بينما انحصرت سياسات الاقتصاد الكلي في الدول الأخرى في الحفاظ على سعر صرف عملاتها أمام الدولار. وفي فترة حكم ترومان وآيزنهاور، اتسمت سياسة الميزانية الأمريكية بالتحفظ، وكانت أسعار الفائدة منخفضة، وتحقق فائض في الميزان التجاري. ومثلت الولايات المتحدة حتى منتصف ستينيات القرن العشرين مرتكزا آمنا لمعظم الدول ضد التضخم، وقدمت لها في ذات الوقت سيولة كافية لمنع الآثار الانكماشية المرتبطة بمعيار الذهب المنفرد. وسمح الاستقرار في النظام النقدي بالتحرير التدريجي للمدفوعات وللنظام التجاري؛ وهو ما صب في صالح ارتفاع الدخول الحقيقية، كما كان يمكن أن يتوقع آدم سميث. وأخيرا كانت ثمة عمليات ضخ موجهة للطلب من جانب الولايات المتحدة - من خلال خطة مارشال وخلال الحرب الكورية - وهو ما كان له نفس الأثر التحفيزي الذي خلفته اكتشافات الذهب في كاليفورنيا و«الحروب الصغيرة» في منتصف القرن التاسع عشر. باختصار كانت حقبة السلام الأمريكية هي التي أمنت توازنا تقريبيا في الاقتصاد الكلي في جميع أنحاء «العالم الحر» في أثناء العصر الذهبي، والتي كانت شبيهة جدا بحقبة السلام البريطانية في القرن التاسع عشر؛ فقد جعل ازدهار الاقتصاد الدولي (على عكس ثلاثينيات القرن العشرين) مشكلات الاقتصاد الوطنية أكثر قابلية للحل.
لكن إن عجزت السياسة الكينزية الموجهة عن تفسير العصر الذهبي، فإن الالتزام الصريح أو الضمني بتفادي الانخفاض الشديد في الطلب - وكذلك الاعتقاد بنجاح السياسة الكينزية عند الحاجة - ربما من شأنه أن يضمن تحقيق التوقعات (أي: «حالة الثقة») الضرورية للحفاظ على انتعاش الاستثمار الخاص لمدة طويلة. وبدا أن المدرسة الكينزية في الخمسينيات على وجه التحديد قد وضعت حاجزا قويا أمام تقدم الاشتراكية، سواء كان ذلك من خلال الملكية العامة أو التخطيط القومي. وكان ربط السياسة الكينزية اللاحق بنمو القطاع العام غير المتناسب المقترن بزيادة النضال العمالي عاملا حاسما في تدمير الشق النفسي أو التوقعي للثورة الكينزية؛ وهو الاعتقاد أنها ستوفر عالما أكثر أمنا للرأسمالية والرأسماليين.
من المهم أن نأخذ المقارنة مع القرن التاسع عشر إلى مدى أبعد قليلا؛ فالانتعاش الذي حدث في الخمسينيات والستينيات من القرن التاسع عشر تبعه ركود من السبعينيات وحتى التسعينيات من نفس القرن، وهو ما لم يكن كسادا بنفس صورة كساد ثلاثينيات القرن العشرين كما يقال عادة؛ بل كان عبارة عن فترة جمعت بين الرخاء والركود، جرت فيها عملية إعادة هيكلة تكنولوجية كبيرة مصحوبة بانتقال الدينامية التنافسية من بريطانيا إلى ألمانيا والولايات المتحدة. ولا يختلف ذلك تماما عما حدث في سبعينيات القرن العشرين وما تلاها؛ حيث انتقلت الميزة التنافسية هذه المرة إلى الدول المطلة على المحيط الهادئ. لكن الظاهرة التي غابت عن الحقبة الأولى هي «الركود التضخمي»؛ فقد زادت البطالة بشدة في أغلب فترات ثمانينيات القرن التاسع عشر لكن الأسعار انخفضت. وفي المقابل، هل أطالت السياسات الكينزية الانتعاش الاقتصادي الذي حدث في خمسينيات وستينيات القرن العشرين على نحو «مصطنع»؟
طبقا للنظرية الكينزية الأصلية، فقد انتهت فترة الانتعاش الاقتصادي الطويلة بوقوع صدمة أسعار النفط في عامي 1973 و1974، رغم أنه جرى الإقرار بأن هذه الأزمة هي حصاد لأخطاء السياسة الاقتصادية والأحداث «الاجتماعية» غير المبررة، مثل القفزة التي حدثت في الأجور عام 1968. لكن انهيار أداء الاقتصاد الكلي اتضح من منتصف ستينيات القرن العشرين على الأقل. وتزامن ذلك مع التحول إلى سياسات كينز النشطة.
عممت المدرسة الكينزية في الستينيات على مستوى العالم، وقد لاقت رواجا وتقديرا من ناحيتين؛ إذ امتد استخدام السياسة المالية لموازنة الأنظمة الاقتصادية إلى فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإلى اليابان بدرجة أقل، وزاد نشاط السياسة المالية وطموحها مع عودة المخاوف من حدوث ركود. بوجه عام، بينما انصب اهتمام كينز في البداية على ضمان الاستغلال الكامل للموارد القائمة، حاولت المدرسة الكينزية في ستينيات القرن العشرين أن تضمن الاستغلال الكامل للموارد المحتملة؛ أي نمو القدرة الإنتاجية للاقتصاد بهدف منع حدوث التضخم الناتج عن ارتفاع التكاليف ومواجهة «المطالب الاجتماعية» المتزايدة المعلقة على الاقتصاد. وقد ارتبط ما سماه ديفيد ماركواند، في كتابه الشهير الذي ظهر في عام 1988، الحقبة الديمقراطية الاجتماعية في المدرسة الكينزية؛ باتجاه السياسة إلى التيار اليساري وبالاستخدام الجاد لسياسات الميزانية للمرة الأولى من أجل نقل الطلب من القطاع الخاص إلى القطاع العام. وأصبحت الميزانية أداة لإدارة الطلب ولتحقيق النمو والرخاء. وبداية من ستينيات القرن العشرين بدأ نصيب الإنفاق العام في الناتج المحلي الإجمالي يزداد في كل مكان. وكانت المرحلة الأهم في الاقتصاد الكلي، من وجهة النظر العالمية، هي مرحلة تخفيض الضرائب في عهدي كينيدي وجونسون وإقرار برامج إنفاق «المجتمع الكبير» فيما بين عامي 1964 و1966. وبالنظر الآن إلى تلك المرحلة - رغم أن ذلك لم يتضح وقتها - نجد أن ما سبق بجانب التمويل التضخمي لحرب فيتنام تسبب في إنهاء دور الولايات المتحدة بوصفها المرتكز العالمي ضد التضخم.
ويمكننا أن نحدد عدة أسباب منطقية للتحول من هدف التوظيف الكامل إلى النمو؛ ففي الولايات المتحدة أدت النزعة الملحوظة لزيادة نسبة البطالة على نحو طفيف في ذروة كل دورة اقتصادية في الخمسينيات (رغم أن متوسط نسبة البطالة في الخمسينيات الذي زاد بالكاد على 5٪ كان قريبا على نحو كاف من النسبة المستهدفة وهي 4٪) إلى إثارة المخاوف الكينزية القديمة من حدوث «ركود مزمن» في الاقتصاديات الناضجة؛ إذ أوحى هذا بوجود فجوة متزايدة في الناتج؛ أي فجوة بين معدل نمو الناتج السنوي الفعلي والمتوقع. ورأى مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس - مع رفضهم لفكرة أن عوامل التقدم التكنولوجي قد تكون السبب في ارتفاع نسبة البطالة - أن التوسع في الطلب يمكن أن يقلل البطالة إلى 4٪ دون حدوث تضخم «غير مقبول» في الأسعار؛ حيث حاج جيمس توبين بأن أضرار «الارتفاعات الطفيفة في الأسعار» مبالغ فيها على نحو كبير. وقد عزز الوعد الكينزي بأن التوسع في الطلب يمكنه تحقيق معدل نمو أسرع رغبة السياسيين في دعم معدل النمو الأمريكي لتجنب خسارة الحرب الأيديولوجية (وكذلك سباق التسلح) مع الاتحاد السوفييتي الذي كان يروج في خمسينيات القرن العشرين لمعدلات نمو هائلة وإنجازات تكنولوجية مذهلة مثل القمر الصناعي سبوتنيك.
أما في دول أوروبا فكان اللجوء إلى تقليل التمويل سببه الخوف من أن يؤدي نقص العمالة إلى تباطؤ النمو (فقد منع سور برلين الذي بني عام 1961 تدفق العمالة الرخيصة من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية)؛ وكذلك الخوف من أن يؤدي فتح الاقتصاديات المحلية أمام التجارة الحرة وتدفقات رءوس الأموال، على المستوى العالمي ونتيجة لإنشاء السوق الأوروبية المشتركة في عام 1958، إلى جعلها عرضة أكثر للصدمات الخارجية؛ وكذلك الخوف من عودة الأحزاب اليسارية التي ابتعدت عن السلطة كثيرا، مع تبنيها لأيديولوجيات حديثة (أي غير ماركسية). لقد بدا أن سياسة النمو الكينزية هي الخيار الوحيد في ظل اختفاء العرض الوافر وسياسات الحماية الاقتصادية والأيديولوجيات البالية من الصورة. وفي بريطانيا ذات معدل النمو البطيء، أقرت سياسة النمو لتمكنها من «اللحاق» بالمنافسين الصناعيين مثل ألمانيا وفرنسا. ولجأت اليابان إلى تقليل التمويل عام 1965 عندما بدأت تخسر أدوات جوهرية بعد الحرب، مثل الجمارك والسيطرة على حركة رءوس الأموال. وانتشر في جميع الدول الاعتقاد بأن النمو السريع ضروري لرفع سقف الأجور الحقيقية المتاح وللحصول على دعم الاتحادات العمالية لتحديد الأجور بتوسيع نطاق برامج الرعاية الاجتماعية.
وفي ستينيات القرن العشرين اتجهت الدول النامية - التي كان قد تحرر بعضها لتوه من الاستعمار - إلى التصنيع الحكومي لتتمكن من اللحاق بالدول الغنية؛ إذ أمكنها تسريع وتيرة النمو بتوجيه العمالة الريفية غير المستغلة جيدا إلى الصناعات الثقيلة. وطرح الاقتصادي الأرجنتيني راءول بريبيش، المتأثر بشدة بفكر كينز، فرضية خاصة ب «معدل التبادل التجاري» للاستثمار العام في الصناعات البديلة للاستيراد. وكانت النتيجة سلسلة من حالات الانتعاش في مجال الاستثمار العام في إطار ملكية الدولة والتخطيط التوجيهي، والتي يمولها على نحو كبير الاقتراض من الخارج.
وكان توقع حدوث انخفاض في معدل تراكم رأس المال منطقيا، بعد أن بدأت إعادة الإعمار بعد الحرب وخطط «اللحاق» بالدول المنافسة. وكان الأقل منطقية هو توسيع نطاق الفكر الكينزي من المشكلة قصيرة الأجل الخاصة بضمان التوظيف الكامل للموارد المتاحة إلى مشكلة زيادة نمو تلك الموارد. وبالنسبة لأنصار النمو من أتباع المدرسة الكينزية كانت إدارة الطلب النشطة (بما في ذلك تقليل التمويل) غير ضرورية لمنع حالات الركود أو معاوضتها فحسب، وإنما أيضا لتفعيل احتمالات النمو على المدى الطويل في الاقتصاد، وهي فكرة محيرة في مجملها. كان كينز نفسه سيقول في هذا الشأن - بل قال بالفعل - إن أي ضخ خارجي للطلب في ظل مستوى التوظيف الكامل سيؤدي إلى التضخم. وتلك هي «الحالة الخاصة» التي تنطبق عليها مبادئ المذهب الكلاسيكي في علم الاقتصاد؛ حيث لا يمكن تحقيق نمو سريع في الناتج إلا من خلال زيادة الإنتاجية وتحسين وسائل الإنتاج؛ وهما من الأمور التي لم يكن لدى كينز أي جديد ليقوله عنها. لكن أنصار النمو من أتباع المدرسة الكينزية في المقابل قالوا إن زيادة الإنتاجية تنتج عن عملية النمو نفسها؛ إذ يعتمد معدل نمو الناتج على معدل نمو الاستثمار؛ فكلما زادت سرعة دفع الاستثمار من أجل النمو، زادت المكاسب من ناحية الإنتاجية نتيجة لأثر اقتصاديات الحجم الضخمة الديناميكية؛ مما يؤدي إلى «دائرة مفرغة» من الزيادة في الإنتاجية والتنافسية وسرعة النمو. وبافتراض توفر طلب إجمالي كاف، يمكن دائما دفع الناتج للزيادة على نحو أكبر من مدخلات العمل؛ لذا فإن نسب التوظيف العالية لم تكن عقبة أمام التوسع الناتج عن زيادة الطلب؛ أي إن النمو (بلغة الاقتصاد) كان رهنا بالطلب لا بالعرض.
سار التوسع في الطلب جنبا إلى جنب مع التخطيط التوجيهي؛ فقد تضمنت الخطة القومية البريطانية لعام 1965 معدلات النمو المتوقعة لمدة خمس سنوات في كل قطاع لتحسين توقعات رجال الأعمال. لكن المؤشر الأهم كان النمو المتوقع للإنفاق العام؛ فقد كان يبين للقطاعات الصناعية حجم التمويل المطلوب لزيادة قدراتها الإنتاجية، ويضمن، في الوقت نفسه، شراء الزيادة في الناتج؛ لذا برز الإنفاق العام باعتباره المحرك الحقيقي للنمو، وكانت تلك أزمة مصيرية للاقتصاد السياسي الكينزي؛ فقد شجعت الحكومات كذلك اندماج الشركات للوصول إلى حد أدنى من الكفاءة. وأضيف تخفيض قيمة العملة باعتباره أداة أخرى لمساعدة الأنظمة الاقتصادية في تحقيق معدلات نمو أعلى بدلا من مجرد التغلب على حالات اختلال التوزان في ميزان المدفوعات في إطار اتفاقية بريتون وودز.
وبالنظر الآن، سنجد أن كل الافتراضات المسبقة التي أكدت على الاتجاه إلى النمو - في الدول المتقدمة والنامية على السواء - اتضح أنها غير مضمونة من الناحيتين الفكرية والسياسية. ولم يتوصل أحد في واقع الأمر إلى وسيلة لتسريع وتيرة النمو الاقتصادي عبر الوقت أكثر من المعدل الفعلي. السؤال الآن: هل كان نمو الإنتاجية سببا لنمو المخرجات أم العكس؟ اختلف الاقتصاديون بهذا الشأن. مرة أخرى، كان الكينزيون متفائلين جدا بشأن آثار نمو القطاع العام على نمو الإنتاجية وسلوك الأجور وتوقعات رجال الأعمال؛ فقد ظنوا أن القليل من التضخم (الذي لم يحددوا مقداره) كان محفزا، ولم يلمحوا قط إلى وجود توقعات خاصة بالتضخم. وأخيرا بالغوا بشدة في مدى البطالة الريفية «المقنعة» في الدول النامية؛ ومن ثم في العائد بالنسبة للنمو الناتج عن تحويل هذه الموارد غير المكلفة ظاهرا إلى الإنتاج الصناعي. وإن كانت هناك فكرة مشتركة تربط بين تلك الافتراضات المسبقة، فهي أن الدولة حكيمة والسوق حمقاء.
يقر أتباع المدرسة الكينزية أنفسهم الآن أن الأهداف الاقتصادية والاجتماعية في ستينيات القرن العشرين كانت مبالغا فيها؛ فالأرقام واضحة؛ إذ تضاعف معدل التضخم في بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في ذلك العقد من 3٪ إلى 6٪ دون حدوث أي تحسن في المتغيرات الحقيقية . لقد حدد التضخم المتزايد، الذي كان الناتج الحقيقي للأفكار الكينزية الخاصة بالنمو في ستينيات القرن العشرين، مهمة مستحيلة لسياسات الاقتصاد الكلي الكينزية في العقد التالي. وبمجرد خروج التضخم عن الحد، أضرت التدخلات الحكومية بالاستقرار بصورة كبيرة؛ إذ تضمنت إما قبول نسب أعلى من البطالة لوقف ارتفاع الأسعار، أو قبول نسب أعلى من التضخم لوقف ارتفاع معدلات البطالة. وأدى تذبذب السياسة الاقتصادية بين هذين الخيارين إلى ارتفاع مؤشر التضخم والبطالة لمعظم فترة السبعينيات. واكتسبت النظرية النقدية مزيدا من التأييد لقدرتها على تفسير الركود التضخمي المتزايد في ضوء التفاعل بين سياسة الاقتصاد الكلي الكينزية «القائمة على السيطرة على الدورة الاقتصادية» وسلوك الأجور الذي تكيف على نحو أسرع مع توقعات التضخم.
ومن الناحية الأعم، فقد أدى الضغط الشديد للطلب إلى ما قد يتوقعه أي اقتصادي كلاسيكي: وهو الارتفاع الشديد في التكاليف بسبب نقص العرض. وقابلت القفزة التي حدثت في الأجور في الغرب - التي بدأت في عام 1968 - زيادة في أسعار المواد الخام والطاقة، والتي بدأت في عام 1972 ووصلت إلى زيادة لأربعة أضعاف في أسعار النفط فيما بين عامي 1973 و1974؛ وهو ما أدى إلى خفض سقف الأجور الحقيقية الذي يمكن تحقيقه في ظل التوظيف الكامل في الدول الصناعية. وانهارت الضوابط المباشرة على الأجور (أي: «سياسات الدخول») مع اقتراب نهاية العقد؛ مما أدى إلى تقييد الأرباح، وهو ما لا يمكن تعويضه إلا بضخ مزيد من النقود في القطاع العام. وأصبحت الدول الغربية، بتعبير ذلك الوقت، «خارجة عن السيطرة».
وفي النهاية تراجعت الحكومات؛ إذ شددت الحكومات الغربية السياسة المالية والنقدية لمواجهة الموجة الثانية لارتفاع أسعار النفط فيما بين عامي 1979 و1980؛ وهو ما أدى لأشد كساد منذ ثلاثينيات القرن العشرين. أما الدول النامية التي حققت حالات انتعاش في الاستثمارات العامة خاصتها في السبعينيات من خلال اقتراض أموال النفط بأسعار فائدة حقيقية سالبة، فقد واجهت أعباء الديون الأجنبية المنهكة في ظل انهيار عوائد صادراتها، وارتفاع أسعار الفائدة الحقيقية إلى مستويات عقابية وانكماش الاستثمار الأجنبي. فرض صندوق النقد الدولي، في مقابل إعادة جدولة الديون وتقديم قروض جديدة، حزم إجراءات قاسية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي. وكان لسياسات النمو التي تقودها الدولة على مستوى العالم عكس ما كان مرجوا منها تماما؛ فقد رفعت تكلفة إنتاج السلع والخدمات بدلا من أن تقللها، وقللت قدرة الاقتصاديات على تحقيق ناتج قابل للتسويق بدلا من أن تزيدها. وكانت تلك هي نهاية الحقبة الكينزية.
ورغم هذا، من الصعب تحميل السياسات الكينزية المسئولية عن هذه الكوارث دون الوضع في الاعتبار المناخ الفكري العام والضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي دفعت الحكومات والاقتصاديات لأن تسير في الطريق الذي سلكته. لقد كانت المبالغة في تقدير قدرات أدوات الاقتصاد الكلي مهمة بالتأكيد؛ لكن من المهم بالقدر نفسه القبول القدري من قبل اليمينيين واليساريين بمستقبل جماعي وتشاركي فرضته - هكذا بدا - الزيادة في نطاق تنظيم الأعمال ونمو جماعات الضغط وظهور الطلب على نطاق متزايد من الالتزامات الاجتماعية والاقتصادية. وبعد الفترة الممتدة عبر عامي 1974 و1975، عندما فقدت الحكومات قدرتها على «إدارة» اقتصادياتها، كان أسوأ ما يمكن أن يقال عن المذهب الكينزي هو أنه مثل حاجزا أمام الأفكار الجديدة وأمام وضع استراتيجيات سياسية بديلة. كل ذلك لأنه في تلك المرحلة لم تكن الثورة الكينزية قادرة عن تجديد نفسها؛ فقد سببت مشكلات لا تتأثر بما لديها من حلول، ولم تعد لديها الموارد الفكرية ولا السياسية لفهم تلك المشكلات أو التعامل معها. ولا يمكن إلقاء اللوم على كينز في حدوث هذا. غير أن بعض جوانب ميراثه الفكري ثبت أنها تسبب مشكلات؛ حيث بدا أنها منعت أي نقد من داخل المعسكر الكينزي لأي محاولات لتوسيع نظريته وتطبيقها على مشكلات ومواقف لم توضع من أجل التعامل معها.
أولا: فتحت عبارتان غير دقيقتين في كتاب «النظرية العامة» السبيل أمام الاعتقاد أن الإنفاق العام أفضل من الإنفاق الخاص؛ فقد أدرك كينز أن الوصول إلى مستوى التوظيف الكامل والإبقاء عليه ربما يتطلب «إضفاء شاملا نوعا ما للطابع الاشتراكي على الاستثمار»، كما قال إنه إن استأجرت وزارة الخزانة الناس لحفر حفر ثم ردمها من جديد، فستقل البطالة و«من المرجح أن يزيد الدخل الحقيقي للمجتمع وثروته الرأسمالية على نحو كبير عما هو عليه.» ومع ذلك كان كينز منتبها دائما لأثر السياسة الاقتصادية في سيكولوجية الأعمال؛ إذ أدرك أن إنفاق الدولة المفرط سيهدم الثقة في توجه السياسة الاقتصادية، وسيؤدي لمشكلات في التمويل لدى الحكومة، وهو ما سيفسد مهمة الإبقاء على سعر فائدة حقيقي منخفض لفترة طويلة. ولم يستطع أحد أن يلخص آلية «ضريبة التضخم» بطريقة أبلغ ولا أقصر من كينز الذي قال عنها في عام 1923: «يمكن للحكومة أن تعتمد على هذه الآلية إن لم يتيسر لها أي بديل؛ فهي أصعب ضريبة يمكن للناس التهرب منها، ويمكن حتى لأضعف الحكومات أن تفرضها عندما لا يمكنها أن تفرض غيرها.» لقد أدرك أنه إن حكم على التمويل العام بأنه غير حكيم، فلن يتمكن من تحقيق غايته الكينزية الفريدة؛ لأن العناصر الفاعلة الاقتصادية المستشرفة للمستقبل ستتخذ خطوات لحماية نفسها من مخاطر تنصل الحكومة من ديونها أو تسييلها. لكنه لم يناقش صراحة حجم الإنفاق العام الآمن أو الفعال الذي يمكن السماح به للدولة في مجتمع حر.
ثانيا: لم يتضمن كتاب «النظرية العامة» أي إرشادات واضحة لما قصده كينز بالتوظيف الكامل، لا مفاهيميا ولا إحصائيا. وإن وضعت أي «نظرية عامة» للتوظيف تغذي الاعتقاد بأن مستوى التشغيل يتحدد بالكامل في سوق السلع لا في سوق العمل، فإن تسميتها مضللة. لقد فرق بالفعل كينز في إحدى فقرات كتابه بين البطالة الاختيارية والقسرية، أو كما أطلق عليهما لاحقا: البطالة «الكلاسيكية» والبطالة «الكينزية»، لكن هدفه البياني كان إنكار التفسيرات الكلاسيكية للبطالة، وهو ما تجاهله أتباع كينز أيضا. وأقر ريتشارد كان بأن «مفهوم البطالة الاختيارية لم يثر اهتمامي»، وأن التفرقة بين نوعي البطالة «لم تكن لها أي أهمية عملية». والسبب أن كتاب «النظرية العامة» يمكن أن يفهم منه أنه إن سيطرت الحكومة على تمويل الأجور وتخصيص العمالة، فسيمكن دائما تحويل البطالة الاختيارية إلى بطالة قسرية وتقليل نسبة البطالة إلى الصفر، كما حدث بالفعل بالاتحاد السوفييتي. لم يفكر كينز في الأمر بهذه الطريقة؛ بل كان ذلك فكر أتباعه الأكثر جماعية الذين تأثروا بالتخطيط وقت الحرب، وليس هناك في كتاب «النظرية العامة» ما ينص صراحة على أن البطالة الاختيارية هي خيار يمكن أو ينبغي التعامل معه في المجتمعات الحرة فقط عن طريق تغيير حوافز سوق العمل.
لذا يجب أن نخرج من نطاق كتاب «النظرية العامة» لنكتشف رؤية كينز لطبيعة البطالة؛ فقد اقتبس في كتاب «النظرية العامة» وصاغ باستخدام مصطلحات جديدة المقارنة القديمة بين البطالة «الطبيعية» التي ترتبط بمؤسسات سوق العمل البطيئة التغير والبطالة «غير الطبيعية» التي تنتج عن انكماش دوري. ورأى أن حجم البطالة «الطبيعية» في بريطانيا تغير كما يلي: فقد كان حوالي 5٪ في المتوسط فيما قبل عام 1914، وأعلى بقليل من 5٪ في عشرينيات القرن العشرين، واقترب من 10٪ في الثلاثينيات؛ ومن هنا تحولت البطالة الطبيعية إلى بطالة «غير طبيعية». لذا بحلول 16 ديسمبر 1944 كتب كينز إلى بيفريدج يقول إنه «لا ضرر من استهداف أن تكون نسبة البطالة 3٪، لكني سأفاجأ إن نجحنا في تحقيق هذا.» ويبدو أن كينز كان ينظر للبطالة «الطبيعية» باعتبارها مستوى البطالة الذي تستقر عنده الأجور النقدية (والأسعار). فعندما تزيد البطالة عن المعدل الطبيعي تقل الأجور النقدية، وحينما تقل عن المعدل الطبيعي تزداد الأجور النقدية. ويشبه هذا الفكرة الكينزية الجديدة الخاصة بمعدل التضخم غير المتسارع للبطالة؛ أي مستوى البطالة الذي يمكنه احتواء التضخم. لكن تلك الفكرة أتاحت لغير الكينزيين أن يتوصلوا لاستنتاج أن الوسيلة الوحيدة الممكنة لخفض مستوى البطالة «الطبيعية» (أو معدل التضخم غير المتسارع للبطالة) في مجتمع حر هي عمل إصلاحات في سوق العمل؛ فقد ترك الهوس الكينزي بسياسات الدخول مسألة الدفاع عن الحرية التعاقدية لأصحاب النظرية النقدية.
ثالثا: لم يترك كينز أي نظرية ملائمة للأسعار. لا يمكن اتهام كينز نفسه بالتساهل في مسألة التضخم؛ إذ لم يحلل كينز بيانيا الآثار السلبية للتضخم على النظام الاجتماعي للرأسمالية فحسب، بل إنه أيضا في 1920 - في ظل ارتفاع أسعار المستهلك في بريطانيا بنسبة 20٪ في العام (وهي النسبة نفسها التي كانت موجودة في عام 1975) - طالب بتطبيق شديد لسياسة «النقود العزيزة» وتخفيض النفقات الحكومية على نحو كبير جدا باعتبارهما البديلين الوحيدين لاشتراكية الدولة؛ حيث قال: «إنني أقترح هذا لأني أقدر الخطر الكبير في استمرار العلل القائمة دون علاج حاسم ومر. وسأفعل هذا رغم معرفتي أني أخاطر بحدوث كساد وربما أزمة.» كما كتب في عام 1940: «باستبعاد جميع وسائل السيطرة غير التقليدية (أي الاشتراكية) ... أشعر بأنه ينبغي علي أن أعطي اليوم النصيحة نفسها التي أعطيتها وقتها.» فالتأخير في فرض سياسة «النقود العزيزة» والالتزام بها في منتصف سبعينيات القرن العشرين زاد الوضع سوءا عما كان من المفترض أن يكون عليه.
ويمكن تعميم تلك النقطة؛ ففي الحقبة السابقة على الحقبة الكينزية، انخفض مستوى الأسعار في أثناء الكساد، وارتفع وقت الانتعاش الاقتصادي، وبقي على هذا الحال في المتوسط؛ لذا كان من السهل على كينز أن يكون توسعيا وداعيا لاستقرار الأسعار؛ ففي الواقع يمكن إثبات أن استقرار مستوى الأسعار تطلب زيادة الإنفاق عندما كانت الأسعار تنخفض. أما في الحقبة الكينزية فقد استمرت الأسعار في الارتفاع وقت الكساد والانتعاش على حد سواء، حتى وإن كان بمعدلات مختلفة. وكان إنجاز السياسة الكينزية في السبعينيات هو تغيير المفهوم الشائع أن البطالة كانت تكلفة غير مقبولة للاقتصاد الحر، إلى إدراك أنها كانت تكلفة مقبولة لتقليل التضخم. ولم يكن ذلك مجرد تحيز أيديولوجي؛ فالسياسة الكينزية للتوسع في التوظيف «لا يمكن تطبيقها» إلا عند تبدد توقعات التضخم من النظام الاقتصادي؛ حيث إنه في حالة توقع ارتفاع مستوى التضخم، فإن العمال ببساطة سيطالبون بأجور أعلى.
ولكن كيف حدث هذا الموقف الغريب؟ فرغم سمعة كينز في مواجهة التضخم، فإن النماذج المستنبطة من «النظرية العامة» كانت نماذج أسعار ثابتة؛ إذ ركزت على الطلب غير الملائم بدلا من الزائد. لكن «النظرية العامة» للنقود يجب أن تتضمن كلا الاحتمالين والمواقف الوسط، ومن الصحيح أن كتاب «النظرية العامة» قبل بصحة نظرية كمية للنقود لكن عند الوصول لمستوى التوظيف الكامل؛ حيث قال فيه: «إذا ما وجدت البطالة، فإن «التوظيف» سيتغير بنفس نسبة التغير في كمية النقود ؛ وعند التوظيف الكامل ستتغير «الأسعار» بنفس تغير كمية النقود.» وعلى نحو أكثر واقعية، أقر كينز بأن التضخم يمكن أن يبدأ قبل الوصول إلى مستوى التوظيف الكامل - أشار إلى ما سماه «حالات شبه التضخم» عندما يواصل الناتج ارتفاعه مع ارتفاع أكبر في الأسعار - وذلك بسبب الجمود الهيكلي (عدم التوافق المهاري والجغرافي) وقدرة «الاتحادات العمالية» في ظل تضييق الخناق على سوق العمل على رفع الأجور على نحو أعلى من الإنتاجية. وفي مثل هذا الوضع هل يعتبر إجمالي الطلب غير كاف؟ لم يجب كينز على هذا السؤال. فهل على إدارة الطلب أن تستهدف الوصول إلى ما سماه أبا ليرنر «التوظيف الكامل المنخفض» وتحقيق استقرار الأسعار، أم الوصول إلى «التوظيف الكامل المرتفع» ووضع ضوابط على الأجور والأسعار؟ ولم يجب كينز على ذلك أيضا؛ فقد اقتصر على الإشارة إلى أن مهمة تقييد رفع الأجور كانت «مشكلة سياسية وليست اقتصادية»؛ وكان «يميل إلى غض الطرف عن مشكلة الأجور في اقتصاد به مستوى توظيف كامل.»
وبدلا من وضع نظرية للتضخم، ظهرت ملاحظة تجريبية تعود إلى عام 1958؛ وهي «منحنى فيليبس» الذي يوضح أن هناك علاقة مستقرة عبر الزمن بين مستوى البطالة ونسبة التغير في الأجور النقدية وكذلك الأسعار من خلال استنباط لاحق. تحولت منطقة كينز الرمادية الخاصة ب «شبه التضخم» إلى «المنطقة الآمنة» لمنحنى فيليبس، التي قيل إنه تتوافر للحكومات فيها «قائمة اختيار» بين درجات التضخم والبطالة. وأراد الكينزيون المحافظون إدارة الاقتصاد في ظل «هامش طاقة غير مستغلة» أكبر قليلا من أجل تقليل التضخم. كانت هذه سياسة يمكن استنباطها من نموذج كتاب «النظرية العامة»، لكنها تعرضت للانتقاد باعتبارها غير أخلاقية من قبل أنصار النمو من الكينزيين، الذين أرادوا زيادة الطلب حتى يتم توظيف آخر عاطل يبحث عن عمل في أي وقت باستخدام سياسة الدخول للسيطرة على التكاليف، إما بالاتفاق مع الاتحادات العمالية أو من خلال التشريعات. لكن آلان كودنجتون لاحظ أن التقليد الكينزي في اعتبار مركزية السلطة ناتجة عن حل مشكلات الإدارة الاقتصادية يغفل السؤال بشأن حجم السلطة التي تمتلكها الحكومة بالفعل، أو التي ينبغي لها أن تمتلكها في مجتمع حر. ولم يؤد عجز الكينزيين عن التقدير الجدي للقيود على العرض - وهو نتيجة لرؤية كتاب «النظرية العامة» للكساد - إلى الإخلال فقط بالتوازن الفكري الذي حاول كينز نفسه الحفاظ عليه، وإنما أيضا بالتوازن السياسي للثورة الكينزية. وبنهاية سبعينيات القرن العشرين بدأ محبو الحرية وهؤلاء الذين يقدرون الكفاءة في مغادرة المعسكر الكينزي بأعداد كبيرة.
لم يكن كينز بهذا القدر من السذاجة السياسية الذي نعته به بعض خصومه - فقد ذكر ذات مرة أن السياسيين يسمعون فقط ولا يرون - لكنه لم ينتبه كثيرا للعملية السياسية التي توضع السياسة الاقتصادية في إطارها؛ ومن ثم أعطى في أغلب الأحيان انطباعا بأنه إن كان جهاز الدولة مسلحا بالنظريات السليمة ويدار على يد مسئولين نزهاء، فإنه من الممكن ائتمانه على سلطات تفويضية أكبر على السياسة الاقتصادية مما قد يعتبره الفيكتوريون حكيما أو مرغوبا فيه. ومن السهل الاعتقاد أن كينز نفسه كان سيتصف بعقلانية وحذر أكبر في الاستشارات والخطوات الخاصة بالسياسة الاقتصادية من الاقتصاديين والسياسيين الكينزيين اللاحقين، لكن من الصعب أن نجد في كتاب «النظرية العامة» أو في أي من كتاباته الأخرى أي مناقشة صريحة للحدود الضرورية الواجب وضعها للتفويض باتخاذ القرارات الاقتصادية؛ وذلك إما لأن الأمراء كانوا فاسدين بالفطرة كما رأى الفيكتوريون، وإما من أجل الحفاظ على مصداقية السياسات المتبعة أو الالتزامات المحددة. ولاحظ بعض الكينزيين، مثل كريستوفر دو، أن تدخلات الحكومات البريطانية لضبط السياسة المالية والنقدية في خمسينيات القرن العشرين أدت إلى اختلال الاستقرار الاقتصادي، لكنه أرجع ذلك لعدم الكفاءة، رغم أن بعض المراقبين الأكثر استقلالا فكريا، مثل تيرينس هاتشيسون، رأوا أن الحكومات كانت تسعى إلى استغلال الاقتصاد للفوز بالانتخابات (ونجحت أحيانا في ذلك).
الأكثر أهمية أن الكينزيين لم يشكوا في أن العملية السياسية ربما تكون سببا في التضخم؛ إذ أرجعوا العواقب السيئة لفترة السبعينيات إلى انخفاضات أو ارتفاعات شديدة عشوائية في الأسعار أو أخطاء يمكن تجنبها أو أنانية قيادات الاتحادات العمالية وغير ذلك. وترك لمدرسة الاختيار العام الاقتصادية المعارضة للفكر الكينزي مهمة إثبات أن السياسيين كانوا يسعون لتحقيق منفعة سياسية بدلا من تحقيق الرخاء الاجتماعي، وكانوا يسعون للقيام بمحاولات لإخضاع صنع القرار الاقتصادي لقواعد دستورية أو غيرها. وسواء كان منظرو مدرسة الاختيار العام الاقتصادية على صواب أم على خطأ في تحديدهم لدوافع السياسيين والبيروقراطيين، فإن قضية المصداقية يجب أن تواجه في ظل عصر الأسواق المالية العالمية. ولسوء الحظ أفقدت تجربة الإدارة الكينزية في السبعينيات الأسواق ثقتها في أي حكومة لا تقيد نفسها بتعهدات حديدية لتخفيض معدل التضخم.
لم يكن النقد الأساسي الموجه لكينز هو أن نظريته عن الناتج ككل كانت «عامة» جدا لدرجة أنه لم يكن من الممكن تطبيقها على أي نوع من المجتمعات، والتي تتراوح بين الديمقراطية والشمولية - وهي مسألة أقر بها كينز صراحة في المقدمة الألمانية لكتاب «النظرية العامة» - وإنما هو أنه لم يحدد قط أي أنماط التطبيق مناسبة للمجتمعات الحرة وأيها غير مناسب. فمن الصعب معرفة هذا من كتاباته الاقتصادية والسياسية. ومن المرجح أنه لم ير أنه من الضروري القيام بهذا، اعتمادا - بالطريقة الإنجليزية - على القيود التلقائية لمجتمع «يفكر ويشعر على نحو سليم» من أجل أن يمنع الحكام من ارتكاب أشياء مروعة باسمه.
في ضوء هذه الخلفية التي عرضت كل النقاط فيها على نحو مختصر جدا، يمكن معرفة أسباب تعليق العمل بالسياسة الكينزية منذ نهاية السبعينيات، رغم البطالة الشديدة والدائمة. لقد شاع فقدان عام للثقة في الأنشطة التي تقوم بها الدولة في مجال التنظيم والإدارة والإنفاق. كما انحسرت الثورة الكينزية في «خطاب رد الفعل»، ووجهت بشكل غير شرعي تجاه جميع أشكال سيطرة الدولة على الاقتصاد. كان المشروع السياسي الأساسي في الفترة القريبة الماضية هو القضاء على التضخم في الاقتصاديات، واستعادة الأموال العامة، وتحرير العلاقات الصناعية، وتقليل الإنفاق العام (إن أمكن)، وخصخصة الصناعات الحكومية. ونظرت الحكومات الموجودة في السلطة للبطالة باعتبارها إما تكلفة حتمية لإتمام هذه الإصلاحات أو باعتبارها مشكلة مؤجلة إلى ما بعد الانتهاء من تلك الإصلاحات. إن مثل هذه السياسات تعكس التوقعات التي أفرزتها التجربة الكينزية.
لكن تبقى بعض الأسئلة المحيرة: هل كان من الممكن لنسخة أكثر تواضعا من السياسة الكينزية في ستينيات القرن العشرين أن تمنع تكون التوقعات التي جعلتها غير ذات جدوى؟ وهل كان كينز نفسه سيجرب طريق سياسات الدخول؟ لا سبيل لمعرفة الجواب. لكن من المهم تذكر أن كينز لم يكن ليقبل بالاستمرار في السير في طريق بعد أن علم أنه خطأ، حتى لو كان هو الذي اختاره. بل كان سيحاول تصحيح الجوانب الخاطئة في هذا الطريق مع الإبقاء على الجوانب الصحيحة منه.
واليوم لا يمكن تبني السياسة الكينزية على نحو صريح، رغم أن الضغوط السياسية ربما تؤدي إلى تبنيها على نحو خفي. فسياسات الاقتصاد الكلي نفعية وغير نظرية، وليس من الواضح كيف تتطور، لكن هناك ملاحظتين تبدوان مرجحتين؛ فمع عولمة الأسواق، وخاصة الأسواق المالية، انتهى عصر الإدارة الاقتصادية الوطنية الذي بدأ عام 1914. فالسياسات الكينزية - إن تم تبنيها - عليها أن تكون عالمية أو على أقل تقدير إقليمية. كذلك فقد ولت حقبة إدارة الطلب التفويضية. وأيا كان الإطار النهائي للسياسة الاقتصادية، فسيكون محكوما بالقواعد أكثر مما كان عليه الحال في ستينيات أو سبعينيات القرن العشرين. ونظرة النظرية الكينزية للحكومات باعتبارها جهات تسعى لتعظيم الرفاهية الاجتماعية صعبة التصديق بحيث لا يمكن قبولها في الوقت الحالي. ومع ذلك لن تمكن الثقة في قواعد عرض النقود أو توازن الميزانية إذا توقعت السوق أن الضغوط السياسية ستضطرها لكسرها.
والسؤال الأصعب في الإجابة عليه هو: ما مدى الحاجة للنظرية الكينزية للحفاظ على استقرار الاقتصاد العالمي ورخائه في السنوات المقبلة؟ تعتمد الإجابة جزئيا على نتيجة التحول من الشيوعية إلى الرأسمالية في الاتحاد السوفييتي السابق وفي الصين. فهل سيؤذن هذا التحول ببداية عصر جديد من السياسة المضطربة، أم أنه سيعيد فتح الحدود التي ظلت مغلقة لوقت طويل أمام التجارة ويعيد الثقة في التقدم والرخاء التي اختفت باندلاع الحرب العالمية الأولى؟ إن طبيعة الموقف هي التي ستحدد الأفكار الحاكمة التي ستحتاجها الاقتصاديات الرأسمالية، كما أن الأفكار ستحدد هي الأخرى طبيعة الموقف. ولا يمكن لنا التخلي عن هذا الاعتماد المتبادل في الحياة الاجتماعية. وليس بجديد أن نعرف أن عقل كينز الخصب دائما كان مصدرا غنيا للأفكار المرتبطة على نحو مباشر بمشكلات الاقتصاديات في فترات التحول.
السؤال الآن: ما الذي بقي من كينز؟ لقد أصر كينز دائما على أن النماذج الاقتصادية يجب أن «تكون مرتبطة بالعالم المعاصر»، وقال عن حلوله التي طرحها إنها «على مستوى مختلف عن تشخيصي للمشكلات ... ولم يقصد منها أن تكون نهائية، بل تخضع لجميع أنواع الفرضيات الخاصة وترتبط بالضرورة بالظروف الخاصة بوقتها.»
واليوم لا يحظى أي نموذج بقبول عام، سواء للاقتصاد الكلي أو الاقتصاد الجزئي أو العلاقة بينهما. فمن ناحية نجد نظرية ميلتون فريدمان النقدية المعارضة لمذهب كينز، والاقتصاد الكلي «الكلاسيكي الجديد» الذي ارتبط اسمه بكل من روبرت لوكاس وتوماس سارجنت - وهو «الجناح المتطرف من النظرية النقدية» - اللذين أنكرا صحة النماذج الكينزية وقوة تأثير السياسات الكينزية (ربما باستثناء تأثيرها السلبي). ويتفق علماء الاقتصاد الكلي «الكلاسيكي الجديد» مع أتباع النظرية النقدية في أن سياسات الاقتصاد الكلي تؤثر في المتغيرات الاسمية لا الحقيقية، وأن البطالة ستميل دائما باتجاه «المعدل الطبيعي» الخاص بها. كما يرى مثل أتباع النظرية النقدية أن «المعدل الطبيعي» للبطالة يمكن تقليله عن طريق السياسات المعنية بالعرض المصممة لتعزيز محفزات الاقتصاد، وتحرير أسواق السلع وأسواق العمل، وخصخصة الصناعات المملوكة للدولة. ويتمثل الإسهام التحليلي الأساسي لعلماء الاقتصاد الكلي الكلاسيكي الجديد في فرضية التوقعات العقلانية؛ إذ تستغل العناصر الفاعلة العقلانية كل المعلومات المتاحة ذات الصلة في اتخاذ قراراتها، وتتوصل إلى تنبؤات صحيحة بشأن تأثيرات سياسات الاقتصاد الكلي الحكومية المعلنة، وتبنى تلك التنبؤات (في معظم نماذج التوقعات العقلانية) على نظرية كمية النقود. فسياسة الاقتصاد الكلي التوسعية (أو الانكماشية) ليس لها تأثيرات حقيقية حتى على المدى القصير (منحنى فيليبس يكون رأسيا دائما)؛ حيث إن الأسعار تتغير فورا حسب الظروف النقدية المتوقعة. والاستنتاج المتناقض هو أن الإجراءات الكينزية لخفض البطالة إلى أدنى من «المعدل الطبيعي» لها لا يمكنها تحقيق نتائجها المرجوة إلا اعتمادا على المفاجأة، وهو ما لا يصلح أن يكون أساسا لأي سياسة قابلة للتطبيق. وهذا يعزز الخلاف مع النظرية النقدية بشأن وجوب اتباع سياسة الاقتصاد الكلي لقواعد ثابتة لتقليل الخطأ في التوقعات.
من الناحية الأخرى، يرى الكينزيون أن الطلب مهم، وأنه لا يزال هناك دور مهم للسياسات الحكومية الهادفة لخفض البطالة. لقد أثبتت التجربة الأوروبية في ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين صحة فكرة كينز أن الارتفاعات أو الانخفاضات الشديدة في الطلب - سواء جاءت من القطاع الخاص أو الحكومة - يمكن أن تؤدي إلى بطالة دائمة. لكن ليس من الواضح سبب هذا. فإن كان الأفراد يتخذون قراراتهم بصورة عقلانية، فكيف يمكن أن تستمر البطالة غير المرغوبة عندما تتوافر فرص التجارة المربحة للجميع؟ لقد أدى هذا اللغز في وقت لاحق لوضع برنامج بحثي كينزي نشط. وحاول «الكينزيون الجدد» فهم أسباب جمود الأجور والأسعار الذي افترضه الكينزيون في الخمسينيات بوصفه من المسلمات. فوضعوا نماذج لتفسير التعديل غير التام للأجور والأسعار للتوافق مع الارتفاعات والانخفاضات الشديدة في الطلب، والتي تقوم على تكاليف المعلومات وأخطاء التنسيق وتكاليف تغيير الأسعار وفرضيات كفاءة الأجور، والتوازنات الاقتصادية التي يعتمد فيها الناتج على متغيرات عشوائية خارجية، وارتفاع البطالة على نحو دائم وغيرها. فقد وضعت هذه النماذج لتبين أنه حتى في حالة وجود التوقعات العقلانية ربما لا يتضح وضع أسواق العمل. واستمرت مدرسة ما بعد الكينزية في التأكيد على ما ركز عليه كينز من أهمية الوقت وعدم اليقين واستخدام النقود باعتبارها مخزنا للقيمة ونظرية «الغرائز الحيوانية» في الاستثمار. ويعد السلوك التقليدي للرأسماليين أو العمال الذي يؤدي لنتائج سلبية على الاقتصاد ككل نتيجة منطقية لعدم اليقين أو - طبقا لنسخة سرافا وكاليتسكي من مدرسة ما بعد الكينزية - نتيجة لصراع الطبقات .
ورغم الاختلافات الموجودة بينها حول دور سياسات الاقتصاد الكلي، فإن هناك اتفاقا متزايدا بين جميع المدارس - المؤيدة للنظرية الكينزية والمعارضة لها - على أن الإجراءات المعنية بالعرض يمكنها خفض البطالة القائمة، إما بإزالة العقبات التي تواجه المعاملات في السوق أو بإعادة بناء القدرات الإنتاجية أو كلتيهما.
إن السؤال المطروح بخصوص ما ينبغي للحكومة فعله «باستمرار» من أجل إبقاء النشاط الاقتصادي في مستوى عال والمقدار الملائم منه لن يختفي. والإجابة تعتمد من جانب على رؤية صاحبها للاقتصاد، ومن جانب آخر على رؤيته للحكومة. فإذا كان الاقتصاد غير المدار «بطبيعته أكثر استقرارا في دوراته» مما ظن كينز، فإن الإجابة ستكون أن الحكومات ليس عليها أن تفعل الكثير. وأقل ما يجب على الحكومات عمله هو ألا تزيد الأوضاع سوءا. ويرى فريدمان أن الصدمات الأشد سياسية المنشأ؛ فالحكومات يغريها التلاعب بالمعاملات النقدية من أجل ضمان الأهداف التي تخدمها في المدى القصير؛ لذا فإن صلاحياتها ينبغي أن تقيد وفق قواعد معينة. فلقد آمن كينز أن الاقتصاديات غير المدارة متقلبة بذاتها، مع ميلها تجاه مستوى نشاط أقل من الطبيعي، بحيث يمكن للسياسة الاقتصادية أن تلعب دورا كبيرا في استقرار أدائها وزيادة كفاءته. كما رأى أن الحكومات يمكن ائتمانها على تنفيذ سياسة معاكسة للدورات الاقتصادية بكفاءة ونزاهة.
من الصعب حل هذا السؤال على نحو تجريبي؛ إذ يمكن القول إن السياسة الكينزية (بكل ما يشوبها من شوائب سياسية) قد زادت الأمور سوءا عما كان يتوقع أن تكون عليه بدءا من منتصف ستينيات القرن العشرين. لكن التاريخ أثبت أن نشاط القطاع الخاص يمكن أن يكون متقلبا بشدة. وعلاوة على ذلك، عجزت النظرية النقدية عن التنبؤ بمستويات البطالة العالية الدائمة في أوروبا، والتي تبعت تطبيق السياسات المضادة للتضخم في أوائل الثمانينيات، كما عجزت عن وضع أي قاعدة مالية قابلة للتطبيق.
يقودنا ما سبق إلى استنتاج أن علم الاقتصاد طالما روج لنفسه، باعتباره «دليلا للفعل» بدلا من مجرد وسيلة منظمة لتأمل حالات الاقتصاد المختلفة وتقديم رؤى لبناء مؤسسات قادرة على تحقيق الرفاهية بشكل يتجاوز أفعال حكومة معينة في مكان معين في زمن معين. لكن لم يكن الاقتصاديون - كما قال كينز - مفيدين ولو بقدر أطباء الأسنان. ولا يمكن ألا نفكر في أن عقد الستينيات من القرن العشرين - حينما كانت سياسة الاقتصاد الكلي ذات الأسس النظرية مطبقة - كان بداية تحول الأمور إلى الأسوأ، وأن عوامل التحيز والمؤسسات التي قيدت الاستخدام التفويضي للأدوات الكينزية في الخمسينيات هي ما أبقت السياسة الاقتصادية متحفظة نسبيا. فكينزية آيزنهاور قدمت ما هو أفضل من كينزية كينيدي.
وإذا أردنا أن نستخلص درسا من التجربة التاريخية بعد الحرب، فهو أن المذهب الكينزي سينجح إذا اعتبر موردا تقديريا في إطار مبني على القواعد، يضع قيودا قوية على سلطات الحكومات ويعزز رفاهية الشعوب من خلال أوسع إجراءات التجارة الحرة الممكنة. ومن المرجح أن ينبهر الباحثون عن الإلهام عند كينز في يومنا هذا بمدى الاهتمام والتفكير الذي أولاه لتصميم نظام بريتون وودز، والذي كان أكبر مما أولاه للوصفات الكينزية لعلاج الأمراض المحددة للاقتصاديات الفردية. إننا نسعى - سواء عن وعي أم عن غير وعي - لاستعادة الحالة السعيدة التي أفرزت «العصر الذهبي» التي هذبتها كثيرا تجارب الفترة البينية. وسيعتمد نجاحنا، على نحو جزئي، على مدى حسن الإدارة الاقتصادية.
خاتمة
النظرة من عام 2010
عندما كتبت عن كينز منذ 15 عاما، كان نجمه آفلا. وهناك إجماع على أن العصر الكينزي انهار بسبب الفوضى النظرية واضطراب السياسات، وكان ضحية تزامن التضخم والبطالة اللذين عجز الاقتصاديون الكينزيون عن تفسيرهما وصناع السياسات الكينزيون عن السيطرة عليهما. وكان هذا هو الوضع الذي عاد فيه بقوة علم الاقتصاد الكلاسيكي - وهو الذي بدا أن كينز قد قوض أسسه - ورجعت الحكومات إلى السياسات التي كانت تتبناها قبل العصر الكينزي مع إجراء بعض التعديل عليها. اعتبرت الأسواق ذاتية التنظيم على نحو مثالي، واقتصرت مهمة الحكومة في الاقتصاد الكلي على الحفاظ على «النقود القوية»؛ أي كانت مهمتها بشأن الاقتصاد الجزئي هي تحرير الأسواق من أجل خفض «المعدل الطبيعي للبطالة». وعزز على نحو كبير إحياء الاقتصاد الكلاسيكي ونظريته في السياسة الاقتصادية انهيار الشيوعية في عام 1990. وأتاح هذا للمرة الأولى منذ عام 1914 عودة اقتصاد العالم الواحد المبني على توزان الميزانيات والتجارة الحرة وحركة رءوس الأموال غير المقيدة؛ والتي كانت وصفة النجاح الاقتصادي فيما قبل عام 1914. وأطلق مصطلح «العولمة» على هذا الامتداد العالمي لنظام السوق.
لقد تأثر حديثي عام 1995 عن إسهام كينز في الاقتصاد بهذه التطورات النظرية والأحداث التي وقعت في عالم الواقع، لكن كان هناك بالنسبة لي الكثير الذي بقي من كينز؛ فقد كتبت أقول: «إن السياسات الانكماشية المتبعة على مدار الخمسة عشر عاما الأخيرة خلفت مستويات عالية من البطالة الدائمة، وذلك كما توقع كينز.» بعبارة أخرى، لم ترتد الأنظمة الاقتصادية سريعا إلى مستويات التوظيف الكامل والنمو السريع بعد الصدمة. وقد أعادت الأحداث التي تلت ذلك فكر كينز إلى الحياة. ومن المنظور المعاصر، فإن ما يسمى ب «فترة الاعتدال الكبير» فيما بعد عامي 1997 و1998، التي بدت أنها حافظت على النظام الجديد الذي تكون الأسواق فيه غير منظمة أو موجهة من قبل الحكومات، استمرت لأقل من عشرة أعوام، وهي تشبه كثيرا «فترة العشرينيات الهادرة» التي سبقت الكساد الكبير فيما بين عامي 1929 و1932. ومع انهيار الأوضاع المالية في عامي 2007 و2008، ثبت أن المدرسة الكلاسيكية الجديدة أخطأت عندما اعتقدت - شأنها في ذلك شأن المدرسة الكلاسيكية القديمة - بصحة فكرة أن الأسواق ذاتية التنظيم.
لقد تغيرت أفكاري عما ميز كينز وميراثه، ومن بين أسباب ذلك تغير العالم. وسأشير فيما يلي إلى خمسة موضوعات متعلقة بكينز حظيت بأهمية كبرى لدي منذ نشر الطبعة الأولى من الكتاب.
دور عدم اليقين
سأعطي الآن اهتماما بعدم اليقين في فكر كينز أكبر من اهتمامي به في 1995. ليس السبب أنني لم أكن على دراية بأهمية هذا الأمر. في واقع الأمر، فإنني لن أغير كلمة واحدة من الفقرة الأولى من الفصل الأول، لكني لن أجعل تلك الفقرة في قلب حديثي عن نظرية كينز. ففي هذا الجانب، اتبعت الطريقة التقليدية للمعالجة؛ إذ كان الهدف من كتاب «النظرية العامة» هو تفسير كيف يمكن للاقتصاد أن يخرج من فخ انخفاض نسبة التوظيف، لا كيف وقع فيه. بعبارة أخرى، كانت النظرية هي نظرية توازن.
لقد بدا هذا النموذج الأمثل لعصره؛ لأن العالم أراد أن يعرف وسيلة للخروج من الفخ. لقد بينت نظرية المضاعف حجم الطلب الإضافي المطلوب ضخه في اقتصاد يعاني من الكساد لإعادته إلى مستوى التوظيف الكامل؛ لذا كان نموذج الدخل/الإنفاق أنسب ما قدمه كينز لصانع السياسة، وقد كان هذا النموذج هو الصيغة الذي وردت بها النظرية في كتابه المميز.
في كتاب «النظرية العامة» كانت التوقعات تعامل معاملة أمور مسلم بها؛ فلم يكن إجمالي الطلب سوى دخل متوقع. ولم يفسر سبب توقع مستوى معين من الدخل بدلا من غيره. إلا أن أي نظرية تسعى لتفسير «حركة» اقتصاد ما عبر الزمن تتطلب نظرية للتوقعات.
وهنا يأتي دور نظرية كينز للتوقعات غير المؤكدة. فالسبب الذي يؤدي إلى انهيار الاقتصاديات هو وجود توقعات «غير مؤكدة». يلعب عدم اليقين دورا ثانويا في القصة الرئيسية لكتاب «النظرية العامة»؛ إذ لا يظهر إلا بعد عرض الجزء الإيجابي من نظريته، الذي يفترض عمل توقعات. لكنه من الواضح، على ما أظن، أنه من دون التوقعات غير المؤكدة ستنهار القصة بالكامل؛ إذ لن يحدث انهيار الاستثمار الذي يدفع الاقتصاد نحو الكساد، ولن توازن أسعار الفائدة تلقائيا أي خلل بين الادخار والاستثمار المتوقعين، وستصبح النظرية الكلاسيكية هي النظرية الوحيدة القابلة للتطبيق في كل الظروف. لكن ما كان مجرد «استطراد» في كتاب «النظرية العامة» أصبح رسالته الجوهرية بعدما أعاد كينز صياغة «الأفكار الأساسية البسيطة» التي أسست لنظريته في مقال بعنوان «النظرية العامة للتوظيف»، الذي نشر في دورية «ذا كوارترلي جورنال أوف إيكونوميكس» في فبراير عام 1937. وبنى اقتصاديون مثل شاكل (1967) ومينسكي (1975) وتشيك (1992) وديفيدسون (1972 و2007) شروحهم لكينز على ذلك المقال.
قال كثير من المعلقين إن كينز لم يكن لديه سوى القليل ليقوله، أو لم يكن لديه ما يقوله على الإطلاق عن عدم الاستقرار المالي. لكن هذا لم يكن صحيحا؛ فاضطراب الاستثمار باعتباره سببا للأزمات فكرة مستمرة عبر كتاباته (انظر مثلا كتابه «بحث في النقود»)؛ وكان سبب هذا الاضطراب - وهو عدم اليقين الحتمي بشأن المستقبل - محددا فيها بوضوح. وبنفس القدر من الوضوح اعتبر كينز المعرفة بالمستقبل القابلة للتنبؤ بها افتراضا ضمنيا ينبع من النظرية الكلاسيكية للسوق الذاتية التنظيم. فإن كنا نعلم ما سيأتي به الغد، فلن تقع أبدا أي أزمات مالية أو اقتصادية؛ وذلك بافتراض منطقية السلوك.
ربما يتعارض رأي كينز أن التوقعات غير المؤكدة هي السبب الأساسي للأزمات المالية مع الرأي الشائع اليوم أن انهيار القطاع المصرفي فيما بين عامي 2008 و2009 نتج عن «الخطأ في تقدير ثمن المخاطر». ويتضمن هذا فكرة أخرى؛ وهي أن المخاطر يمكن تقدير ثمنها بدقة، لكن الذي يمنع الأسواق من تقدير الثمن الصحيح هو الخلل في المعلومات أو الحوافز؛ لذا فإن السبيل إلى منع وقوع مزيد من الأزمات هو تحسين «إدارة المخاطر» من قبل المصارف والسلطات النقدية؛ من خلال زيادة الشفافية ووضع نماذج مخاطرة أفضل، وقبل كل شيء تحسين الحوافز للقيام بالتقييم الصحيح للمخاطر. ويبدو أن الجدل ينحصر بين من يرون أن المخاطر تقدر ثمنها بدقة دائما - فرضية السوق الفعالة - ومن يسلمون بأن المعلومات غير الدقيقة و/أو الحوافز غير المناسبة يمكنها أن تدفع أسعار السوق إلى الانحراف عن الأسعار الصحيحة التي تحددها «الأساسيات».
وفي المقابل، فرق كينز بين المخاطرة وعدم اليقين؛ فالمخاطرة تكون عندما يمكن معرفة الاحتمالات (أو قياسها)، أما عدم اليقين فهو عندما لا يمكن معرفة الاحتمالات (أو قياسها). وكانت فكرته الأساسية هي أن النظرية الكلاسيكية للأسواق الذاتية التنظيم قامت على الافتراض المعرفي بأن المشاركين في السوق لديهم معلومات كاملة؛ وهو افتراض أعيد إحياؤه في نظرية التوقعات العقلانية. إذا سلمنا بذلك فستترتب فرضية التوظيف الكامل، وإن لم نسلم به فستنهار؛ فاقتصاد كينز هو اقتصاد تكون فيه معرفتنا بالمستقبل «محدودة وضئيلة جدا عادة»، وتخيب فيه التوقعات باستمرار. ويجعل هذا تراكم الثروة «موضوعا غير مناسب بالمرة لمناهج النظرية الاقتصادية الكلاسيكية»؛ فالنماذج التي تفترض أن لدينا احتمالات قابلة للحساب لكل ما قد يطرأ في المستقبل من ظروف هي نماذج احتيالية بالأساس.
ما الذي جعل قدرا كبيرا من المستقبل عصيا على الحساب الاحتمالي؟ لقد ضرب كينز مثل التفاحة التي منحت صفات «بشرية»؛ إذ تقول نظرية نيوتن في الفيزياء إنها ستسقط دائما على الأرض، بسرعة تحددها القوة المبذولة عليها مقسومة على كتلتها. لكن لا يمكن التنبؤ بهذا في حالة التفاحة «البشرية»:
فسيكون الوضع كما لو أن سقوط التفاحة على الأرض يعتمد على دوافع التفاحة، وعلى جدوى وقوعها، وعلى ما إذا أرادت الأرض أن تسقط التفاحة عليها، وعلى الحسابات الخاطئة للتفاحة ذاتها بشأن بعدها عن مركز الأرض.
ويمكن أن يرجع جزء من عدم اليقين بشأن سرعة سقوط التفاحة إلى أخطاء من جانب التفاحة (أي: «حسابات خاطئة») يمكن تصحيحها من حيث المبدأ. لكن الصفات «البشرية» الرئيسية التي يفترضها كينز في تفاحته هي «الدوافع» و«النوايا». فهذه الصفات هي ما يمثل الحد الفاصل بين علم الاقتصاد وعلم الفيزياء، وهو ما يجعل الاقتصاد علما «أخلاقيا» والفيزياء علما «طبيعيا». فما قصده كينز هو أن علم الاقتصاد «يهتم بالتأمل الذاتي والقيم ... بالدوافع والتوقعات والشكوك النفسية.» ولا يمكن التنبؤ بالمستقبل لأنه عرضة للتغير على نحو خارج عن التوقعات، وهذا يرجع في الغالب إلى أننا اخترنا أن يكون كذلك. وتعني هذه الرؤية ضمنا وجود قيود كبيرة على قابلية علم الاقتصاد القياسي للتطبيق؛ إذ اعتقد كينز أنه لا يمكن تطبيقه بشكل أساسي إلا في تلك المجالات التي يمكن فيها قياس المخاطرة. ويستبعد ذلك كثيرا من مخاطر أسواق الاستثمار.
إن الوسيلة الأساسية التي نعتمد عليها للتأقلم مع عالم يسوده عدم اليقين هي قياس المخاطرة بالأرقام، وهذا ما تقدمه نماذج التنبؤ الرياضية باستخدام نسخة ما من نظرية بايز لتحويل الاحتمالات السابقة إلى احتمالات لاحقة. ويوفر هذا الاطمئنان الضروري للاستثمار، لكنه اطمئنان زائف؛ فبينما يسمح تكرار الرهان على الأحصنة بتحديث «الاحتمالات السابقة» خاصتك لتتفق مع المستويات «الحقيقية» للأحصنة، ليس ثمة قدر من معلومات عن الأحداث الاقتصادية في الماضي يقرب صاحبه من الاحتمالية الحقيقية لحدوث تلك الأحداث في المستقبل ؛ لأن المستقبل يختلف حتما عن الماضي، وما نفعله هو أننا نستخدم الرياضيات كي «نخترع» عالما من الاحتمالات القابلة للحساب، ثم نعتمد عليه بصفته انعكاسا للعالم الواقعي.
ليس من الحماقة اعتبار المستقبل قابلا للقياس، بل إنه في الواقع هو الأساس المنطقي الوحيد للتصرفات الفردية، كما أنه يتضمن - كما قال كينز - قدرا كبيرا من الاستقرار؛ فالتنبؤات الرياضية يمكنها أن ترسم المستقبل الذي تزعم توقعه من خلال تشكيل توقعاتنا؛ فهي قد تنتج ما يطلق الاقتصاديون عليه التوازنات «المتكررة»، وهي المسارات التي تتشكل، ليس بسبب ما في العالم بالفعل ولكن بسبب تصوراتنا عنه؛ فالتنبؤات تعطي صورة للمستقبل تبعث على الثقة، وذلك ما دام لم يحدث شيء يهز الثقة في الصورة.
لماذا ينهار الاستثمار؟ أجاب كينز بأن آلية تحويل عدم اليقين إلى مخاطرة يمكن حسابها تقوم على الاعتقاد الشائع بأن «الأوضاع الحالية ستستمر إلى ما لا نهاية، إلا إذا توافرت أسباب محددة لتوقع حدوث تغيير في المستقبل القريب ... ومن ثم فإننا نفترض أن التقييم الحالي للسوق - مهما كان - صحيح تماما بالتناسب مع معرفتنا الحالية، وأنه لن يتغير إلا بالتناسب مع وجود تغيرات في تلك المعرفة.» وهذا الاعتقاد باطل من الناحية الفلسفية؛ «إذ لا تمثل معرفتنا الحالية أي أساس كاف للتوقعات الرياضية المحسوبة.» إلا أنه بتبني هذا الاعتقاد فإن المستثمر يمكنه «أن يشجع نفسه بفكرة أن المخاطرة الوحيدة التي يتعرض لها تتمثل في حدوث تغير حقيقي في الأخبار «في المستقبل القريب»»، وهو أمر من غير المحتمل أن يكون كبيرا؛ لذا «فإن الاستثمار يصبح «آمنا» بدرجة معقولة بالنسبة للمستثمرين الفرديين في الفترات القصيرة، ويصبح آمنا بالتبعية في سلسلة متتابعة من الفترات القصيرة ... إذا استطاعوا الاطمئنان، إلى حد ما، إلى أنه لا يوجد تحول في الأمر.» لقد رأى كينز أن «أكبر أسواقنا الاستثمارية ... بنيت على مثل هذه العملية.»
يكمن عيب الطريقة السابقة في أنها تتجرد من عدم اليقين عن طريق افتراض أن المستقبل يتكون من سلسلة متتابعة من الفترات القصيرة جدا التي من المتوقع أن يكون لدينا عن كل منها معلومات موثوق فيها. ومن الناحية العملية، فإن العائد المنتظر (التدفق النقدي المستقبلي المخصوم) لأي استثمار عبر عدد معين من السنوات عرضة لجميع أنواع المجهول؛ فيما يتعلق بأسعار الفائدة المستقبلية، ومعدلات التضخم، وأسعار الصرف، واختيار أسعار الفائدة للخصم وغيرها. إن فرضية السوق الفعالة القائلة إن كل المعلومات ذات الصلة عن أسعار الأوراق المالية المستقبلية كامنة بالفعل في أسعارها الحالية؛ هي فرضية خاطئة تماما مثل الاعتقاد أن التحليل الاقتصادي القياسي سيمدنا بمعلومات موثوق بها عن المسار المستقبلي لمتغيرات الاقتصادين الكلي والجزئي؛ فالأولى تعجز عن تفسير كيف يمكن للأسعار الحالية أن تختلف عما يسمى «القيم الحقيقية»، أما الثانية فتفترض معرفة أشياء لا يمكن حساب احتمالاتها على أساس علمي. وعلى عكس الاعتقاد السائد بأن التوقعات تتحقق في المتوسط، رأى كينز أنها تخيب في المتوسط؛ حيث تندر حالات تحققها. كما رأى أن عدم اليقين أجبر الاستثمار المحترف على المضاربة؛ إذ إن سرعة التبادلات مهمة لتفادي الخسارة.
إن التوقعات غير المعتمدة على أساس ثابت عرضة للزوال؛ لأنه - كما قال كينز - «ليس ثمة سبب ثابت يدفع للإبقاء عليها»؛ أي التمييز بين المعلومات الجديدة ذات الصلة وغير ذات الصلة. ويبدأ الجميع فجأة في إعادة النظر في حساباتهم. وأضاف موضحا:
إن التزام الهدوء والثبات النابعين من اليقين والأمان يختفي فجأة؛ فالمخاوف والآمال الجديدة ستسيطر على السلوك البشري دون سابق إنذار، وقد تفرض قوى التحرر من الوهم فجأة أساسا تقليديا جديدا للتقييم، وكل الآليات المنمقة المهذبة التي وضعت لأجل سوق منظمة على نحو جيد وغرفة تحديد أسعار مختارة بعناية ستصبح عرضة للانهيار.
وهذا بحسب ما أعرف تفسير نظري جيد للانهيار الاقتصادي الذي وقع في خريف عام 2008.
لكن هذا هو نصف القصة فقط؛ فالاستثمار يعتمد على ما أطلق عليه كينز الكفاءة الحدية لرأس المال - أي معدل العائد المتوقع إلى التكلفة - في مقابل سعر الفائدة. فإذا كانت الكفاءة الحدية لرأس المال أكبر من سعر الفائدة فسيحدث استثمار، وإذا قلت عنه فلن يحدث. وفي ظل النظرية الكلاسيكية، يتم ضبط سعر الفائدة ، وهو السعر الذي يوازن بين الادخار والاستثمار، على نحو تلقائي وفق أي تغيير في الكفاءة الحدية لرأس المال. وافق كينز على أن حجم الاستثمار يعتمد على سعر الفائدة، لكنه رفض أن يتم تحديد سعر الفائدة في السوق من أجل الادخار والاستثمار؛ فهو يرى أن سعر الفائدة هو السعر الذي من أجله يتخلى الناس عن النقود التي يدخرونها. تلك هي نظريته الخاصة بتفضيل السيولة المتعلقة بسعر الفائدة. فتلعب النقود جزءا مهما في رؤية كينز لانهيار الاستثمار؛ فالاحتفاظ بالنقود بديل لشراء الاستثمارات، وكان كينز أول اقتصادي يحدد على نحو واضح دور النقود باعتبارها «مخزنا للقيمة»، وينشأ ما أطلق عليه «تفضيل السيولة» عندما ينهار الاعتقاد المدعم للاستثمار. ويمكن أن يؤخر حدوث زيادة في تفضيل السيولة خفض سعر الفائدة الضروري لاستعادة الاستثمار في مواجهة انخفاض الربحية المتوقعة. في واقع الأمر، إن انخفاض الربحية المتوقعة للاستثمار والتحول للاحتفاظ بالنقود وجهان لعملة واحدة، وهذا ما حدث بالفعل في عامي 2007 و2008؛ فقد انخفضت السيولة على نحو مفاجئ مع زيادة البنوك لأرصدتها النقدية وإيقافها للإقراض. وقد لعبت الاستدانة دورا أكبر في حالة الكساد مما فعلت في وقت الكساد الكبير، لكن الدافع الأساسي للتحول للاحتفاظ بالنقود - وهو فقدان الثقة في المستقبل - كان واحدا. إن الزيادة في تفضيل السيولة عند انخفاض الكفاءة الحدية للاستثمار هو التفسير الأساسي الذي قدمه كينز لعدم امتلاك السوق لآلية تصحيح تلقائية.
إن طريقة التوازن التي قدمها كينز جعلته أيضا لا يقدم تفسيرا نظريا لكيفية حدوث البطالة القسرية، والتي تعرف بأنها الحالة التي يكون فيها عدد أكبر من الناس مستعدين للعمل بأجر حقيقي أقل لكنهم مع ذلك غير موظفين. السؤال هو: لماذا قللت المنافسة بين العمال الأجور الحقيقية على نحو كاف بحيث لا يمكنهم جميعا إيجاد وظائف لهم؟ أو لنضع السؤال بطريقة أخرى: كيف يمكن لطريقة كينز الخاصة بالتوازن في حالة نقص التوظيف أن تمثل توازنا حقيقيا إذا كانت تحتوي على أسعار تؤدي لاختلال التوازن؟ هناك خلل نظري كبير في النظريات الكينزية فيما بعد الحرب، والذي يتمثل في عدم قدرتها على تفسير سبب حدوث البطالة الدائمة إلا فيما يتعلق بالأجور «المتماسكة»، والتي لم تستطع أيضا تحديد سبب حدوثها. حاول أكسل ليونهوفود أن يملأ تلك الفجوة النظرية من خلال نظرية (غير كينزية) للتوظيف الكامل على مدى فترة طويلة. فكما أشار، إن الأمر المبتكر الأساسي في كتاب «النظرية العامة» كان إنشاء نموذج يتفاعل فيه النظام مع أي اضطراب من خلال إدخال ضبط الناتج، لا الأسعار. وبعد حدوث صدمة، يتم ضبط كل من الناتج والأسعار. لكن يتم ضبط الأسعار على نحو أبطأ من الناتج؛ لأن الناس لا يعرفون سعر التوازن الجديد؛ لذا فهم يتعاملون بأسعار تؤدي لاختلال التوازن. فلا يوجد خبير مثمن لوضع «متجه لأسعار المقاصة للسوق» قبل أن تبدأ عملية المبادلة. علاوة على ذلك، وعلى المدى الطويل جدا فقط تحتاج أسعار الفائدة طويلة الأجل أن تتوافق مع الاحتمالات التحويلية المادية الأساسية والتفضيلات الشخصية الزمنية. وهكذا، يمكن لعدم اليقين أن يجعل الأجور الحقيقية وأسعار الفائدة طويلة الأجل لعدة أعوام أعلى من الأسعار المطلوبة للتوظيف الكامل.
الجدل حول الحافز
عندما انهار النظام المالي في عام 2008، آخذا معه الاقتصاد الحقيقي، تدخلت الحكومات في كل مكان ب «حزم تحفيزية» مكونة من مزيج من طباعة النقود، وتخفيض الضرائب أو تقديم دعم للإنفاق الخاص، وزيادات كبيرة في الإنفاق العام الممول من خلال القروض. تم كل هذا وفق الوصفة الكينزية. وحتى روبرت لوكاس، أحد رواد مدرسة شيكاجو الاقتصادية، أقر قائلا: «إننا جميعنا كينزيون فكريا.» لكن علامات الانتعاش الاقتصادي سرعان ما أدت إلى استعادة للجانب الفكري الطبيعي. فمعظم الاقتصاديين والعديد من صناع السياسات يدعون لسحب سريع للحافز على أساس أنه سيؤدي إلى إفلاس الحكومات أو التضخم أو كليهما. ما أظهره هذا التحول السريع هو أن نموذج الاقتصاد الذي حاول أن يخرجه كينز من عقول الاقتصاديين في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين ما زال مستقرا في مكانه. إنه يترنح فقط في لحظات الفزع، لكنه سرعان ما يثبت نفسه ثانية. في واقع الأمر، إن الجدل الحالي حول الحافز هو إعادة للجدل الذي دار بين كينز ومنتقديه في وقت الكساد الكبير.
في عام 1929، ومع وصول نسبة البطالة في بريطانيا إلى 10٪ من العمالة المؤمن عليها، كتب كينز وهوبرت هيندرسون كتيبا بعنوان «هل يمكن للويد جورج أن ينجح؟» في هذا الكتيب، اقترحا برنامجا كبيرا للمشروعات العامة، والتي سيتم تمويلها من خلال القروض لإحداث «موجة رخاء تراكمية». وحاولت وزارة الخزانة البريطانية دحض بنود الاقتراح باستخدام حجة طورها اقتصاديها الوحيد في ذلك الوقت؛ آر جي هوتري. ادعى هوتري أنه، في ظل ثبات عرض النقود، «سيزاحم» أي قرض حكومي للمشروعات العامة قدرا مكافئا من الإنفاق الخاص. ويمكن زيادة نسبة التوظيف فقط عن طريق التوسع في الائتمان، أو ما أطلق عليه حينها التضخم. وأملي رئيس الوزراء، ستانلي بولدوين، هذه الكلمات: «يجب علينا أن نأخذ النقود الحالية أو نصدر نقودا جديدة.»
رد عليه كينز على نحو لاذع قائلا: «لقد ابتكر السيد بولدوين الحجة الغريبة القائلة بأنه يجب عليك ألا تقوم بأي شيء؛ لأن هذا يعني أنك لن تقدر على القيام بشيء آخر.» غير أن حجة وزارة الخزانة في عام 1929 أعيد بيانها في عام 2009 بنفس الطريقة تقريبا من قبل جون كوكرين، الأستاذ بجامعة شيكاجو:
إذا كانت النقود لن تطبع، فيجب أن تأتي من مكان ما. فإذا اقترضت الحكومة دولارا منك، فهذا دولار لم تنفقه أو لم تقرضه لشركة لتنفقه على استثمار جديد. فكل زيادة دولار واحد في الإنفاق الحكومي يجب أن يقابله نقص دولار واحد في الإنفاق الخاص. والوظائف التي توجد من خلال الإنفاق المحفز تقابلها وظائف فقدت بسبب انخفاض الإنفاق الخاص. فيمكننا بناء طرق بدلا من المصانع، لكن الحافز المالي لا يساعدنا على بناء الاثنتين معا.
إن مردود تلك الحجة بالنسبة للسياسة هو أن الحافز المالي خطأ ويجب إيقافه بأسرع وقت ممكن لإفساح المجال أمام الإنفاق الخاص. وتلك هي الدعوة التي يكاد يكون قد أجمع عليها السياسيون والمعلقون المحافظون، والتي ستكون صحيحة إذا كان الاقتصاد في مستوى التوظيف الكامل. لكن عندما يكون الوضع أن ينخفض الإنتاج والتوظيف بنسبة 5٪، فقد كان من الواضح أن تلك الدعوة لا معنى لها؛ فالإنفاق الحكومي بتوظيفه للعمال الذين لا يعملون لا يأخذ التوظيف من هؤلاء الذين يعملون بالفعل؛ فهو يضيف لحجم التوظيف. ومن الواضح على نحو متساو أن الإنفاق الحكومي الإضافي سيتم تمويله في البداية بطباعة النقود؛ لأن أي انخفاض في إجمالي الإنفاق سيؤدي إلى انهيار في عرض النقود. لكن مع إنفاق النقود الجديدة، ستكون هناك دولارات إضافية كي تقترضها الحكومة دون أن تأخذها من مالكي الدولارات الحالية. فسر كينز كل هذا على نحو واضح في عام 1937 عندما أشار إلى أن القرار الخاص بالاستثمار يجب أن يتضمن «طلبا مؤقتا على النقود ... قبل أن يحدث الادخار المقابل»؛ لذا، على الرغم من أن الاستثمار الإضافي (سواء العام أم الخاص) لا يمكن تقليله بسبب «نقص الادخار»، فإنه يمكن أن يزيد عن عرض التسهيلات التمويلية «إذا كان النظام المصرفي غير مستعد لزيادة عرض النقود والعرض من المالكين الحاليين للأرصدة الراكدة غير مرن.» في تلك الحالة، يمكن للبنك المركزي أن يقوم على نحو دائم بإنشاء التمويل اللازم للاستثمار الإضافي، سواء العام أم الخاص، من خلال طباعة المزيد من النقود. وإذا حدث الاستثمار، فإن «المستوى الملائم من الدخول سيتم إنتاجه بحيث يكون هناك قدر كاف من الادخار للقيام بالاستثمار الجديد.»
يرى أتباع هوتري المعاصرون أن طباعة النقود شرط ضروري وكاف لإحياء الإنفاق الخاص. فلا توجد حاجة لإنفاق حكومي إضافي على المشروعات العامة ... إلخ. فعندما يشتري البنك المركزي سندات الدين الحكومية والخاصة بالشركات، فإنه يضيف للاحتياطيات النقدية للبنوك والشركات. وتمكن عمليات الشراء هذه البنوك من توسيع الودائع (القروض) والشركات من توسيع استثماراتها. وهكذا، فإن «عمليات السوق المفتوحة»، التي يتم القيام بها لأي مدى ضروري، ستكون كافية لإحداث انتعاش حتى من كساد شديد.
كان كينز يؤمن بالتأكيد بشيء مشابه لهذا عندما ألف كتابه «بحث في النقود» فيما بين عامي 1929 و1930؛ فهو كان يرى أن السياسة النقدية ستكون كافية لإنقاذ أي اقتصاد من الكساد، إلا في الوضع الاستثنائي الذي يقل فيه توقع الربحية عن الحد الأدنى لأسعار الفائدة التي تكون البنوك على استعداد للإقراض بناء عليها. وبحلول عام 1932، اعتقد أن هذا الوضع كان موجودا؛ فقد قال في محاضرة له في 4 فبراير من عام 1932:
ربما يستمر المقرض، الذي ستفقده التجربة ثقته، في طلب أسعار فائدة جديدة للشركات، والتي لا يمكن للمقترض أن يتوقع الحصول عليها ... إذا كان هذا هو الوضع، فلن يكون هناك سبيل للخروج من كساد طويل، وربما لا ينتهي إلا من خلال التدخل المباشر للدولة لتحفيز الاستثمارات الجديدة وتمويلها.
أدى الركود الياباني الطويل في تسعينيات القرن العشرين إلى بروز فكرة «فخ السيولة». سأل كينز: لماذا يجب على شخص ما الاحتفاظ بالنقود لأي غرض غير الدوافع التحوطية والمبادلات، في حين أنه يمكن أن يحصل على دخل باستثمار تلك النقود في سندات الدين؟ وجد كينز أن الشرط الضروري لهذا الادخار القائم على المضاربة هو «وجود «عدم يقين» فيما يتعلق بسعر الفائدة المستقبلي». فإذا كان بالإمكان توقع أسعار الفائدة التي ستسود في المستقبل على نحو يقيني، «فسيكون من الأفضل دائما شراء سندات دين عن الاحتفاظ بالنقود باعتبارها مخزنا للثروة.» لكن إذا كان هناك نوع من عدم اليقين بشأن أسعار الفائدة المستقبلية، فقد تكون النتيجة مختلفة تماما. فإذا ارتفعت أسعار الفائدة، فسيكون هناك فقد لرءوس الأموال، والذي سيزيد كلما زاد طول أجل سند الدين. حذر كينز من أنه، بالنسبة لمستثمر يفكر في امتلاك سند دين أجله عدد معين من السنوات، «... إذا احتاج لنقود سائلة قبل انقضاء تلك السنوات، فهناك خطر التعرض للخسارة في حالة شراء سند دين طويل الأجل ثم تحويله إلى سيولة نقدية، مقارنة بالاحتفاظ بالنقود.» وخلص كينز إلى أنه عندما يكون هناك عدد كاف من المستثمرين الذين يتوقعون أن الحركة التالية في أسعار الفائدة ستكون باتجاه الصعود، سيدخرون على الأقل جزءا من ثروتهم في شكل نقود سائلة، لا سندات دين. إنهم سيقومون بهذا حتى لو كانوا سيتخلون عن دخل يمكنهم الحصول عليه في المستقبل القريب. على الجانب الآخر، عندما تنخفض عوائد سندات الدين على نحو كبير بحيث يكون التوقع العقلاني الوحيد هو حدوث ارتفاع مستقبلي في عائد السندات (أي يكون التوقع العقلاني الوحيد هو خسارة رءوس الأموال)، سيحتفظ المستثمرون بأي أرصدة نقدية إضافية، والتي كان بإمكانهم ضخها في استثماراتهم. وسيقع الاقتصاد حينها في فخ السيولة؛ حيث سيراكم الناس أرصدتهم النقدية دون حدود. ولن تستطيع عمليات السوق المفتوحة إنقاذه. فقط السياسة المالية هي التي تستطيع إنقاذه. لا يعتقد كينز أن فخ السيولة المجرد - بمعنى أن منحنى تفضيل السيولة وعرض النقود يكون مسطحا - قد حدث من قبل، على الرغم من أن الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن العشرين قد اقتربت من الوقوع فيه. لكن من الواضح أن أي تسطيح لهذا المنحنى، حتى لو كان بحيث لا يبلغ الوقوع في الفخ، يقلل فاعلية السياسة النقدية. ولم يكن كينز قلقا بشدة بشأن الفخ؛ حيث إنه إذا حدث بينما يتم تعطيل السياسة النقدية، فستكون الحكومة قادرة على اقتراض مبالغ غير محدودة بسعر فائدة اسمي لإنفاقها الخاص.
إن مناقشة كينز لفخ السيولة تعرضت لنقد عنيف لكونها غير مكتملة من الناحية التحليلية؛ فقد افترضت بديلين فقط؛ الاحتفاظ بالنقود وشراء سندات الدين. لكن المدخرين قد يعبروا عن رغبتهم في ادخار السيولة بزيادة طلبهم على الأصول السائلة الأخرى مثل الأوراق المالية. وإذا كان لدى المستثمرين الاختيار بين النقود وسندات الدين والأوراق المالية، ويسمح بالزيادة في كمية النقود لتغيير توقعات التضخم، فإن فخ السيولة الخاص بكينز سيتفكك. لكن يتراءى لي أن هذا لا ينقذ اعتقاد كينز بأن السياسة النقدية علاج كاف للكساد؛ فالإنعاش الكمي لا شك أن له تأثيرا إيجابيا على الأسعار في سوق الأوراق المالية. لكن أغلب هذا الإنعاش لم يتغلغل بعد (حتى تاريخ تأليف هذا الكتاب، في فبراير عام 2010) إلى الاقتصاد الحقيقي. كما أن هذا يرفع فقط أسعار الأصول الحالية، لكنه لا يشجع على أي استثمار جديد؛ لأن المقرضين لا يزالون يطلبون من المقترضين أكثر مما يمكن أن يتوقعوا الحصول عليه. فالافتراض العام هو أن ظهور فقاعات الأصول، تماما مثل التحول نحو الاحتفاظ بالنقود، يمكن أن يشير إلى قلة فرص الاستثمار. ويجب عدم الخلط بين «الدافع القائم على المضاربة» عند كينز للاحتفاظ بالنقود، والرغبة في الاحتفاظ بالسيولة نفسها.
حالات اختلال التوازن العالمي
تم تصميم خطة كينز التي وضعها في عام 1941 لإنشاء اتحاد مقاصة دولي للتغلب على حالات اختلال التوازن العالمية في عصره؛ أي منع ضبط ميزان المدفوعات بسبب اتجاه الولايات المتحدة لمراكمة احتياطيات الذهب؛ الأمر الذي أدى إلى حدوث انكماش في باقي دول العالم. وقد شهدت السنوات الأخيرة بدء دول شرق آسيا ومنطقة الشرق الأوسط لهذه العملية الخاصة بمراكمة الاحتياطيات.
لقد تكونت رؤية كينز لحالات اختلال التوازن العالمية، ليس فقط من خلال الاضطرابات التي حدثت في فترة ما بين الحربين، وإنما أيضا بقراءته للتاريخ النقدي؛ فقد اعتقد أنه على مدار التاريخ كانت الرغبة في اكتناز المدخرات أقوى من الرغبة في استثمارها؛ لأنه في كل الأوقات كانت هناك مخاوف غامضة تقبع تحت السطح، تحد من تفاؤلنا وتخلق تحيزا دائما باتجاه الإبقاء على القيمة الحالية بدلا من إنشاء قيمة جديدة. كان هذا هو تفسيره لسبب بقاء العالم فقيرا لفترة طويلة؛ فقد اعتقد أن الاستثمار يحدث بسبب نوبات التفاؤل، والتي سماها «الغرائز الحيوانية». ويمكننا تتبع حالات الارتفاع الشديد في الاستثمار هذه عبر التاريخ؛ بدءا من ازدهار قطاع السكك الحديدية في القرن التاسع عشر، وحتى ازدهار قطاع شركات تكنولوجيا المعلومات الذي انتهى في عام 2000. لكن الناس في الغالب يفضلون اكتناز نقودهم بدلا من استثمارها؛ أي إن هناك دائما مستوى أعلى من تفضيل السيولة، والذي يفرض ضغطا دائما على أسعار الفائدة ويجعلها تتجه للزيادة. وهنا يظهر السبب في دفاع كينز عن قوانين العصور الوسطى الربوية التي رآها باعتبارها محاولة لمنع الناس من تكوين ثروات من خلال اكتناز النقود.
تأثرت نظرية التاريخ الاقتصادي عند كينز بوصف جيفنز الشهير للهند بأنها «مخزن المعادن الثمينة»؛ فقد كتب كينز في كتابه «النظرية العامة» يقول:
لقد قدم تاريخ الهند في كل الأوقات مثالا لدولة فقيرة بسبب تفضيل للسيولة تحول إلى رغبة شديدة جدا، لدرجة أنه حتى التدفق الدائم والكبير للمعادن الثمينة لديها ليس كافيا لتخفيض سعر الفائدة لمستوى يتوافق مع نمو الثروة الحقيقية.
اعتقد كينز أنه منذ العصور القديمة وحتى الآن، أدى ميل الشرق لاكتناز التدفقات الخاصة بالمعادن الثمينة إلى وقوع الغرب في مشكلة انكماشية دائمة؛ فمشكلة نقص الذهب في الغرب كانت تنفرج من وقت لآخر من خلال اكتشافات الذهب والفضة في العالم الجديد ومن خلال استيلاء الغرب على أماكن وجود المعادن الثمينة في الشرق.
لذا كان كينز سيرى حالات اختلال التوزان العالمية في الوقت الحاضر باعتبارها إعادة ظهور لنمط قديم، وإن كان بشكل حديث.
ففي نظام تكون فيه أسعار الصرف عائمة، يكون ضبط ميزان المدفوعات، من الناحية النظرية، تلقائيا؛ فالحركات في أسعار صرف العملات تصحح أي حالة اختلال توازن في تدفقات التبادلات. إن هذا صحيح بشأن معيار الذهب (حيث تكون العملات المحلية قابلة للتحويل للذهب) كما هو الحال بالنسبة للمعيار الائتماني. يكون الوضع أكثر تعقيدا عندما تلتزم الدول بالسماح لعملاتها بأن يتم تحويلها على نحو حر إلى الذهب بسعر ثابت. في تلك الحالة، لا يمكن لدولة تعاني من عجز في الحساب الجاري أن تقلل من قيمة عملتها في مقابل الذهب؛ فيكون عليها تخفيض أسعارها المحلية. في المقابل، يكون للدولة التي يتدفق إليها الذهب الاختيار ما بين زيادة أسعارها المحلية و«اكتناز» (تعقيم) احتياطي ذهبها وإقراض قروض أجنبية. هذا ما دفع كينز لأن يقول في عام 1941:
إن عملية الضبط تكون «إجبارية» بالنسبة للمدين و«اختيارية» بالنسبة للدائن. فإذا لم يرد، أو يسمح، الدائن بأن يكون له دور في تلك العملية، فلن يعاني من أي مشكلة؛ ففي حين أن احتياطي أي دولة لا يمكن أن ينخفض عن الصفر، فلا يوجد سقف يمكن أن يحدد الحد الأقصى. ينطبق هذا أيضا حين تكون القروض الدولية وسيلة للضبط. فيجب للمدين أن يقترض، أما الدائن لا يوجد ما يفرض عليه ... الإقراض.
تخفض الدولة التي لديها عجز في الحساب الجاري من الأسعار المحلية (أو تكاليف الإنتاج) خاصتها برفع أسعار الفائدة؛ مما يؤدي، كما يرى كينز، إلى البطالة؛ حيث إن سياسة تقييد الائتمان لأسعار أقل، كما كتب في عام 1925، يمكن أن تحقق فقط الغاية منها «من خلال الزيادة المتعمدة للبطالة». فالدولة الكانزة الكبرى في سنوات ما بين الحربين كانت الولايات المتحدة، والتي أتاحت لها مكانتها التنافسية القوية، المدعمة بسعر صرف أقل من قيمته، سحب الذهب من باقي الدول في النظام، بما في ذلك بريطانيا.
تم تصميم خطة كينز الخاصة باتحاد المقاصة التي وضعها في عام 1941 للاحتفاظ (بحسب رؤيته) بمزايا نظام سعر صرف ثابت، مع تجنب التكاليف المقابلة لعملية الضبط. وكما أوضحت من قبل في الفصل الخامس، كانت السمة الجوهرية في تلك الخطة تتمثل في أن الدول الدائنة لن يسمح لها بادخار فائضها أو فرض أسعار فائدة عقابية على إقراضه، بل يتاح الفائض تلقائيا على هيئة تسهيلات ائتمانية رخيصة على المكشوف للدول المدينة من خلال آلية عمل بنك اتحاد مقاصة دولي مودعوه هم البنوك المركزية لأعضاء الاتحاد. لكن اعترضت الولايات المتحدة على الخطة، والتي لم تكن لتسمح بجعل فائضها «المكتسب بصعوبة» على نحو تلقائي تحت تصرف الدول المدينة «التي تصرف دون حساب». بدلا من ذلك، أدت اتفاقية بريتون وودز، التي أبرمت في عام 1944، إلى إنشاء صندوق النقد الدولي، والذي كان الهدف منه تقديم المعاونة المالية القصيرة الأجل، بشروط، للدول التي تمر بأزمات مؤقتة فيما يتعلق بميزان المدفوعات لديها. لكن العبء كان ما زال ملقى على عاتق الدولة المدينة فيما يتعلق بتخفيض أجورها وأسعارها لاستعادة توازن ميزان المدفوعات.
إن عدم إعادة إنتاج نظام سعر الصرف الثابت لنظام بريتون وودز، والذي استمر من عام 1949 وحتى عام 1971، للطابع الانكماشي للنظام فيما بين الحربين؛ كان يرجع بالكامل للسياسات «المضادة للاكتناز» من جانب الولايات المتحدة، والتي أغرقت العالم «الحر» بالدولارات، لدرجة أنها بحلول ستينيات القرن العشرين بدأت في المعاناة من عجز في الميزان التجاري. لقد انعكس الوضع الآن، لكن فكرة أن على الدولة التي لديها عجز تخفيض أسعارها المحلية تم الاحتيال عليها من خلال حقيقة أن الدولار أصبح الأصل الاحتياطي الرئيسي في العالم. في كتاب «العملة والمالية في الهند» (1913)، اعتبر كينز معيار صرف الذهب في طليعة عملية التطور النقدي. فعلى نحو عام، تطلع الكتاب إلى اليوم الذي تستمر فيه دولة أو دولتان فقط في الاعتماد على معيار الذهب، مع احتفاظ باقي دول العالم باحتياطياتها من عملاتها، والتي ستكون «جيدة تماما مثل الذهب» نظرا لإمكانية تحويلها إلى ذهب. ومع أفول عصر الجنيه الاسترليني، أصبح الدولار العملة «الرئيسية» الوحيدة على مستوى العالم. ومع اتساع العجز التجاري، طبعت الولايات المتحدة كمية متزايدة من الدولارات لتغطية وارداتها غير المتبادلة. وقد راكمت الدول التي لديها فائض التزاماتها بالدولار الأمريكي، والتي استثمرتها في سندات الخزانة الأمريكية. لم يكن على الولايات المتحدة تقييد الائتمان المحلي برفع أسعار الفائدة؛ حيث إن الدولارات التي طبعتها رجعت إليها. وفي غياب ما كانت ستكون قوة انكماشية كبيرة، ازدهر الاقتصاد العالمي لمدة عشرين عاما.
إن المشكلة في هذا النظام، كما أوضحها تريفين الأستاذ بجامعة ييل، هي أن الزيادة في التزامات الدولة صاحبة العملة الرئيسية أثارت الشكوك بشأن قدرتها على رد قيمة تلك الالتزامات ذهبا؛ أدى هذا إلى الانهيار المتوقع لمعيار صرف الذهب، والذي حدث في عام 1971. أصبح الدولار غير قابل للتحويل، وتم إنشاء عملة احتياطي دولية جديدة، وهي حقوق السحب الخاصة التابعة لصندوق النقد الدولي. لكن على الرغم من وجود إمكانية لتحويل الأرصدة الدولارية إلى تلك العملة الجديدة، فقد استمر الدولار في كونه عملة الاحتياطي الرئيسية في العالم، في عالم به مزيج من أسعار الصرف العائمة والثابتة والمدارة.
في تسعينيات القرن العشرين، ظهرت ثانية على نحو غير متوقع الحاجة لوجود احتياطيات، بشكل أساسي للوقاية ضد حدوث حركات قائمة على المضاربة للنقود الساخنة التي يمكن أن تدفع أسعار الصرف بعيدا عن قيم التوازن الخاصة بها. وبدءا من تلك الفترة، أنشأت حكومات دول شرق آسيا مجتمعة «نظام بريتون وودز الثاني»، رابطة عملاتها بالدولار، وجاعلة احتياطياتها النقدية بالدولار. أعاد هذا إنتاج المزايا التوسعية لنظام بريتون وودز الأول، لكن على حساب وضع غير متوازن على نحو متزايد للاحتياطي، مع حدوث مبالغة في تقدير قيمة الدولار على نحو تدريجي في مقابل المنافس الأكبر له؛ وهي العملة الصينية الرنمينبي.
إن أي تحليل كينزي سيضع حالات اختلال التوزان العالمية في قلب الانهيار الاقتصادي الحالي؛ فالبطالة بالنسبة لكينز تبدأ عند وجود اختلال في التوازن بين الادخار والاستثمار، والذي يتم تسييله من خلال تخفيض الناتج. إن اختلال التوازن يمكن أن يبدأ من خلال رغبة متزايدة في الادخار أو رغبة متناقصة في الاستثمار أو من مزيج من الاثنتين. افترض أن الاقتصاد مغلق، كما فعل كينز في كتابه «النظرية العامة»، ثم افترض الآتي: وجود رغبة متزايدة في الادخار (من قبل الصينيين) لا تقابلها رغبة متزايدة من قبل الولايات المتحدة في الاستثمار يعرض الاقتصاد الأمريكي لضغط انكماشي. تمت معاوضة هذا من خلال تدفق الدولارات المستثمرة في سندات الخزانة الأمريكية، والتي مكنت آلان جرينسبان من الحفاظ على سعر فائدة أموال الاحتياطي الفيدرالي عند مستوى منخفض على نحو غير طبيعي. لكن ما نتج من توسع في الائتمان لم يؤد إلى حدوث ارتفاع كبير في معدل الاستثمار، وإنما أدى إلى إنشاء أصل خاص معتمد على الديون وزيادة كبيرة في الاستهلاك. إن الموقف كان صعبا للغاية؛ لأنه لم يتم إنشاء أي موارد جديدة لسداد القروض المحلية أو الأجنبية. وفيما بين يونيو 2004 ويوليو 2006، رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، من أجل وقف التضخم وإعادة أسعار الفائدة القصيرة الأجل لمستوى طبيعي أكثر، سعر فائدة أموال الاحتياطي الفيدرالي من 1٪ إلى 5,25٪، وأبقاها عند هذا المستوى حتى أغسطس من عام 2007. أدى هذا إلى انهيار الازدهار الذي كان موجودا في القطاع العقاري، وأدت تبعات ذلك على الميزانية العمومية للبنوك التي قامت بتقديم الرهونات العقارية أو توريقها إلى انهيار النظام المصرفي. وكما أوضح كينز في تناوله للأزمة البنكية في بريطانيا في عام 1914: «إذا كان «أ» يدين ل «ب» بنقود و«ب» ل «ج»، و«ج» ل «د» ... إلخ؛ فإن فشل «أ» في السداد قد يعني أيضا فشل المجموعة كلها.»
يشبه هذا ما حدث في نهاية عشرينيات القرن العشرين؛ فبالحكم على أسعار السلع، وجد أنه لم يكن هناك خطر حدوث التضخم في الولايات المتحدة في عام 1927؛ ومن ثم، برفع سعر فائدة أموال الاحتياطي الفيدرالي الخاص بها من 3,5٪ إلى 5٪ في يوليو من عام 1928، كان بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يفرض الانكماش على الاقتصاد الأمريكي. وفي هذا الشأن، كتب كينز يقول في أكتوبر من عام 1928:
لا أستطيع منع نفسي من الاعتقاد أن هناك خطرا الآن يتمثل في حدوث انكماش وكساد في الأعمال ... وإذا تمت محاولة أطول مما ينبغي لوقف وضع المضاربة من خلال النقود العزيزة، فربما تؤدي تلك النقود، بوقفها للاستثمارات الجديدة، إلى إحداث كساد عام في الأعمال.
هذا ما أعتقد أنه حدث في عامي 2007 و2008.
الاقتصاد السياسي عند كينز
في الوقت الحالي، تركز أجندة الإصلاح لتجنب الأزمات المستقبلية بالكامل على إصلاح النظام المصرفي أو إعادة بنائه لمنع الإقراض غير الحكيم. وهذه الإصلاحات ضرورية جدا. لكن هناك افتراضا شائعا وهو أنه بمجرد انتهاء الأزمة، يمكن أن تستمر السياسة الخاصة بالاقتصاد الكلي كما كانت؛ أي بهدف واحد، وهو معدل التضخم. لكن ستستمر العديد من المخاطر في الوجود، والتي لا يمكن التعامل معها على نحو ملائم لأنها غير قابلة للقياس؛ لذا فإن جانبا من المهمة الخاصة بتقليل المخاطر يجب أن تضطلع به الحكومة. وهذا يعني توسيع المهام الخاصة بالاقتصاد الكلي للحكومة.
تتمثل الوصفة الكينزية لاقتصاد تقل فيه نسبة عدم اليقين في ثلاثة عناصر أساسية؛ وهي: اتخاذ إجراءات لتحفيز الاستثمار وأخرى لتحفيز الاستهلاك، هذا إلى جانب إصلاح النظام النقدي الدولي لمنع انتقال البطالة من دولة لأخرى.
إن الواجب الأول للدولة هو ضمان وجود استثمار كاف في الاقتصاد للحفاظ على مستوى التوظيف الكامل المستمر. وعلى الرغم من أن تخفيض الضرائب قد يعطي انتعاشا مؤقتا للاستثمار، فسيكون له فقط تأثير ضعيف وغير مؤكد على توقعات الربحية. للسبب نفسه، شك كينز في نجاح سياسة نقدية خالصة في الحفاظ على مستوى استثمار ذي نسبة توظيف كاملة. لقد عرض من قبل أساس تلك الشكوك؛ فمحاولة السلطة النقدية تخفيض أسعار الفائدة الطويلة الأجل لتكون أقل من السعر الذي تعتبره السوق (من خلال التجربة التاريخية) سعرا «آمنا» أو «طبيعيا»، بحث الناس على بيع السندات في مقابل السيولة، «ربما تعد العائق الأساسي أمام حدوث هبوط في سعر الفائدة لمستوى منخفض جدا.» من ثم ، فإن مشكلة الحفاظ على مستوى التوظيف الكامل تنشأ من «الارتباط بين سعر فائدة طويل الأجل مستقر نوعا ما ومعتاد، وكفاءة رأسمالية حدية غير مستقرة على نحو كبير ومتقلبة.» يتمثل حل كينز للمشكلة في استخدام السياسة النقدية في فرض سعر فائدة طويل الأجل منخفض على نحو دائم؛ فقد قال في هذا الشأن: «إن «أي» مستوى من الفائدة يعتقد بدرجة كافية من الاقتناع أن من المرجح بقاءه لمدة طويلة «سيبقى» لمدة طويلة ...» لهذا السبب، لم يرد استخدام أسعار الفائدة لإدارة الدورة الاقتصادية؛ وهو الشيء المعاكس تماما للممارسة الحالية. لكنه اعتقد أنه «يبدو من المحتمل أن التقلبات في ... الكفاءة الحدية لرأس المال ... ستكون كبيرة جدا، بحيث لا يمكن معاوضتها بإدخال أي تغييرات عملية على سعر الفائدة.» ومن هنا، وبعيدا عن الإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة دائما، فيجب «إضفاء الطابع الاشتراكي» على الاستثمار. كتب كينز يقول: «أتوقع أن أرى الدولة ... تتحمل مسئولية أكبر فيما يتعلق بالتنظيم المباشر للاستثمار»، و«لذلك أرى أن إضفاء شاملا بعض الشيء للطابع الاشتراكي على الاستثمار سيثبت أنه الوسيلة الوحيدة لضمان الاقتراب من مستوى التوظيف الكامل.»
لم يكن كينز يقصد ب «إضفاء الطابع الاشتراكي على الاستثمار» التأميم؛ فتلك العملية لا تحتاج لاستبعاد «كل طرق التسوية والأدوات التي من خلالها ستتعاون السلطة العامة مع القطاع الخاص.» تعكس تلك العبارة غير القاطعة في كتاب «النظرية العامة» تفكير كينز بشأن «الشراكات بين القطاعين العام والخاص»، والذي نتج عن انخراطه في السياسات الخاصة بالحزب الليبرالي في عشرينيات القرن العشرين. في واقع الأمر، سعى كينز لتوسيع مكون المرافق العامة في الاستثمار لإعطاء استقرار أكبر للاستثمار. أما اليوم، فكان سيرى المؤسسات الاستثمارية الكبرى مثل صناديق التقاعد باعتبارها داعما كبيرا للاستقرار. ويمكن لتدفق منتظم من الاستثمار المدعم من الحكومة تقليل التقلبات لمستويات متواضعة، الأمر الذي يمكن التحكم فيه بسهولة، إذا كانت هناك رغبة، وذلك بتسريع أو إبطاء عناصر في برنامج الاستثمار. إن مثل هذا الاستثمار ليس من المفترض أن يحقق بالضرورة أرباحا كبيرة. لكن في حالة تحقيقه لعوائد إيجابية، سيكون هذا مكسبا. وإذا كانت لدى الأسواق معلومات كاملة، فسيكون الاستثمار العام غير فعال. لكن مع وجود عدم يقين، سيكون هناك مكسب مقارنة بعدم وجود استثمار عام على الإطلاق، بسبب الخسائر الناتجة عن عدم اليقين.
إن الاقتصاد السياسي عند كينز كان سيستخدم أيضا نظام الضرائب لتحفيز الاستهلاك الخاص؛ حيث إن أي «زيادة في الميل المعتاد للاستهلاك ستعمل بوجه عام إلا في حالات التوظيف الكامل على زيادة الحافز للاستثمار.» إن الأساس المنطقي لهذا هو أن الفقراء ينفقون نسبة أعلى من دخولهم مقارنة بالأغنياء. فسر مارنر إيكلز، رئيس مجلس محافظي بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، فيما بين عامي 1934 و1948 هذا الوضع أفضل مما فعل كينز، وذلك على النحو التالي:
يجب أن يصاحب الإنتاج الواسع النطاق في أي اقتصاد استهلاك واسع النطاق. ويتضمن هذا النوع من الاستهلاك بدوره توزيعا للثروة لإعطاء الناس القدرة الشرائية. وبدلا من القيام بهذا النوع من التوزيع، قامت آلية سحب كبرى بحلول عام 1929 بوضع نسبة متزايدة من الثروة المنتجة في ذلك الوقت في يد أشخاص قليلين؛ أدى هذا إلى تراكم رأس المال. لكن بأخذ القدرة الشرائية من يد المستهلكين على نطاق واسع، حرم المدخرون أنفسهم من الطلب الفعال على منتجاتهم، والذي كان سيبرر إعادة استثمار رءوس أموالهم المتراكمة في مصانع جديدة. نتيجة لذلك، وكما هو الحال في أي لعبة قمار، عندما تتركز الفيشات في يد عدد قليل جدا من اللاعبين، فإن اللاعبين الآخرين لا يمكنهم الاستمرار في اللعبة إلا من خلال الاقتراض. وعندما تتوقف قدرتهم على الاقتراض، تتوقف اللعبة.
إن «آلية السحب» نفسها كانت عاملة في بريطانيا والولايات المتحدة في الفترة السابقة على الأزمة التي حدثت في عام 2007؛ حيث تم اللجوء للاقتراض لتعويض عدم المساواة المتزايدة بين الناس في الثروة والدخول.
وأخيرا، كان كينز سيريد القيام بإصلاح كبير في النظام النقدي الدولي. وستتمثل الحاجة الأساسية في تقليل حجم الاحتياطيات العالمية. ففيما بين عامي 2003 و2009، زادت الاحتياطيات العالمية القابلة للقياس من 2,6 إلى 6,8 تريليونات دولار، بنسبة زيادة سنوية متوسطة تبلغ حوالي 15٪ في وقت كان فيه الناتج المحلي الإجمالي العالمي ينمو بمعدل سنوي قدره 4,4٪. وفي عام 2003، وصل حجم احتياطيات الذهب العالمية لحوالي 7٪ من إجمالي الاحتياطيات، وزاد هذا الرقم في عام 2009 إلى 12٪.
إن هذا التحول باتجاه السيولة يؤدي إلى زيادة كبيرة في الضغط الانكماشي؛ فالاحتياطيات طريقة للتأمين ضد عدم اليقين، والمطلوب هو تقليل تكلفة هذا التأمين بتقليل نسبة عدم اليقين، وستحتاج أي حزمة من الإجراءات منوط بها تحقيق هذا أن تتضمن تدويل الاحتياطيات ووضع ضوابط على تدفقات الأموال الساخنة والاتفاق على أسعار الصرف.
اقترحت الصين إنشاء «عملة احتياطي فوق سيادية»، لكن دون إبداء أي تفاصيل. تتمثل الخطوة الأولى في سبيل ذلك في إصدار حقوق السحب الخاصة لتمويل الأرصدة الدولارية الحالية. وهناك سابقة في هذا الإطار، والتي تتمثل في اقتراح صندوق النقد الدولي تمويل الأرصدة التي بالجنيه الاسترليني، وهو الاقتراح الذي رفضته بريطانيا في عام 1944، ثم عادت لتقبله في عام 1978 في خطوة أدت إلى القضاء بالكامل على منطقة الاسترليني. وستكون هناك حاجة للاتفاق على سعر للإنشاء المستقبلي لموارد صندوق النقد الدولي والشروط التي على أساسها سيتم إقراضها. وإلى جانب فرض ضريبة «توبين» أو وضع ضوابط كمية على المبادلات المالية القصيرة الأجل، فإن تلك الإجراءات ستقلل على نحو كبير الحاجة للاحتفاظ بمثل هذه الاحتياطيات الكبيرة. لكن هناك حاجة أيضا للاتفاق على أسعار الصرف. فتعد التقلبات الكبيرة في قيم العملات غير المبررة على نحو كبير بحدوث تغيرات في الظروف التنافسية، السبب الرئيسي لعدم اليقين في عالمنا اليوم. باختصار، نحتاج للعودة لعناصر خطة كينز التي تم رفضها في عام 1941. كان كينز سيقول إنه ما لم يكن النظام النقدي العالمي ثابتا، فستكون هناك عودة للحماية وستنحسر العولمة.
نحو علم اقتصاد جديد
ادعى كينز أن نظريته كانت «عامة» أكثر من الاقتصاد الكلاسيكي؛ لأنها تضمنت مجموعة متنوعة من الأوضاع الاقتصادية التي تقدم حالات مختلفة من المعرفة. السؤال الآن: ما مدى محورية نظرية كينز؟ فإذا كان محرك النمو الرأسمالي معرضا لعدم اليقين الوجودي الأصيل، فإن أداءه المتواضع وانهياراته المتكررة أمر مفهوم. أما ، على الجانب الآخر، إذا كان عدم اليقين يمكن صياغته على نحو معقول باعتباره مشكلة خاصة بالمعلومات يمكن التغلب عليها من خلال التعلم والمعالجة الأكثر فاعلية للبيانات، فنظرية كينز سيتم تهميشها وستعود النظرية الكلاسيكية لتكون هي النظرية المحورية. وستتطلب عودة الاقتصاد الكلاسيكي تهميش نظرية كينز وإعادة التأكيد على رؤيتها الخاصة بالسوق الذاتية التنظيم، القائمة على «المعلومات الكاملة» باعتبارها النظرية العامة. إن انهيار فكرة السوق الذاتية التنظيم فيما بين عامي 2007 و2008 يوحي لي بأن نظرية كينز هي النظرية «العامة». لكن كيف سيبدو اقتصاد يأخذ عدم اليقين بمحمل الجد؟
يتمثل الجانب الأساسي في دور الرياضيات في علم الاقتصاد؛ فقد استخدم الجيل الأقدم من الاقتصاديين الرياضيات لغرض محدود جدا؛ وهو جعل بديهياتهم عن العالم الحقيقي أكثر دقة، وليست إنشاء نظام بديهي تكمن ميزته في عدم واقعيته. لا بد أن تكون هناك عودة لاقتصاد يترك مساحة للملاحظات المهمة للسلوك الاقتصادي الذي لا يمكن التعبير عنه من خلال الرياضيات. كان كينز نفسه ضد الدقة المبالغ فيها؛ فسواء كان صاحب عبارة «من الأفضل أن تكون قريبا من الصواب عن أن تكون مخطئا على نحو جازم»، فإن تلك العبارة تلخص منهجه في هذا الشأن. وبقي صياغة تدريس الاقتصاد وإنتاج المراجع الاقتصادية ووضع المعايير المهنية للدوريات الاقتصادية بحيث تعكس تلك المبادئ.
الخلاصة
تبرز نتيجة واحدة واضحة من تلك الخاتمة الموجزة؛ وهي الحاجة لدور أكبر من جانب الحكومة في إدارة الاقتصاد. ويتطلب هذا بدوره إعادة التأهيل الفكري للدولة، بحيث تصبح عنصرا فاعلا اقتصاديا عقلانيا في الغالب، بدلا من مجرد ساع وراء الأصوات الانتخابية. مرت عقود عديدة دون أن يتحدث أحد، مثلما فعل كينز في عام 1936، عن كون الدولة «في وضع يسمح لها بحساب الكفاءة الحدية للسلع الرأسمالية على المدى الطويل وعلى أساس المنفعة الاجتماعية العامة.» نحتاج للتفكير في هيكل للدولة يسمح لها بالفصل بين دورها الاستثماري والدوافع السياسية التي تحرك السياسيين.
نحن لسنا بحاجة لكينز جديد؛ بل بحاجة لكينز القديم، لكن معدلا على نحو ملائم، والذي لن يكون مرشدنا الوحيد للمستقبل الاقتصادي، لكنه سيظل مرشدا مهما لا غنى عنه.
المراجع
الاختصارات المستخدمة في المراجع
Keynes’s economic writings, including all his books, many of his published essays and articles, and a large proportion of his hitherto unpublished correspondence, have been published in thirty volumes by Macmillan in conjunction with the Royal Economic Society as
The Collected Writings of John Maynard Keynes (1971-89), ed. Elizabeth Johnson and Donald Moggridge. Most of his private papers remain unpublished and, together with the originals of the published materials in the
Collected Writings , are deposited at King’s College, Cambridge. The following abbreviations are used for Keynes’s work:
CW: The Collected Writings of John Maynard Keynes.
GT: The General Theory of Employment, Interest, and Money.
KP:
Keynes
Rymes: Keynes’s Lectures, 1932-35:
notes of a representative student, transcribed, edited, and constructed by Thomas K. Rymes (1989).
مقدمة
CW
vii. 235.
CW
xxi. 244.
KP, PP/57, JMK to Sterling P. Lamprecht, 19 June 1940.
CW
x. 447.
CW
x. 173-4.
CW
xx. 83-4.
CW
x. 108.
CW
xiv. 296-7.
CW
x. 365.
CW
xvii. 392-3.
CW
xxix. 166-7.
The Diary of Beatrice Webb,
ed. N. and J. McKenzie, iv (1985), 19 June 1936, 371.
Russell Leffingwell: Lamont Papers, Harvard University, File 103-15, Russell Leffingwell to Thomas Lamont, 29 August 1931.
J. Meade: in D. Worswick and J. Trevithick (eds.),
Keynes and the Modern World (1983), 266.
D. Bensusan-Butt,
On Economic Knowledge (1980), 35.
L. Tarshis, 'The Keynesian Revolution: What it Meant in the 1930s’, unpublished.
O. T. Falk, 'The Tuesday Club’, 23 May 1950, unpublished.
The Diary of Virginia Woolf,
ed. A. O. Bell, iv (1982), 19 April 1934, 208.
B. Russell,
Autobiography (1967), i. 72.
K. Clark,
The Other Half: A Self-Portrait (1977), 27.
K. Martin, in
New Statesman and Nation (28 October 1933).
K. Singer, 'Recollections of Keynes’,
Australian Quarterly (June 1949), 50-1.
Diary of Virginia Woolf,
ed. Bell, iv, 12 August 1934, 236-7; iii, 21 April 1928, 181.
Walter Stewart: Clay Papers, Nuffield College, Oxford, Box 62, W. Stewart to J. Marshall, 16 May 1949.
H. Stein,
The Fiscal Revolution in America (1969), 147-8.
Singer, 'Recollections of Keynes’, 50.
N. Davenport,
Memoirs of a City Radical (1974), 50.
John Maynard Keynes: Critical Assessments,
ii (1983), 22, 125, respectively.
A. Marshall,
Economics (8th edn. 1920), 85.
Singer, 'Recollections of Keynes’, 55-6.
الفصل الأول
CW
ii. 6.
CW
x. 436-7.
CW
ii. 186.
CW
ix. 267.
CW
xxi. 233-46.
CW
xxi. 384-95.
KP, W/1, JMK to Sheppard, 14 August 1940.
Singer, 'Recollections of Keynes’, 52.
H. M. Robertson, 'J. M. Keynes and Cambridge in the 1920s’,
South African Journal of Economics (September 1983), 407.
F. A. Hayek, 'A Rejoinder’,
Economica (November 1931), 401.
Letter from A. C. Gilpin to author, 22 May 1993.
الفصل الثاني
KP, UA/26, 'Egoism’, 1906.
KP, UA/21, 'Miscellanea Ethica’, 1905.
KP, UA/35, 'On the Principle of Organic Unity’, 1910, 1921.
CW
xxi. 242.
CW
x. 445.
KP, UA/19, 'Ethics in Relation to Conduct’, 1904.
CW
viii. 32.
CW
viii. 356.
CW
viii. 348.
CW
x. 338-9.
KP, UA/20, 'The Political Doctrines of Edmund Burke’.
KP, PS/6, 1925/6.
CW
ix. 272-94.
CW
ix. 296-7.
KP, PS/4.
CW
ix. 297.
KP, PS/4.
CW
ix. 295-6.
CW
ix. 321-32.
G. E. Moore,
Ethica (1903; paperback edn. 1959), 188. Ibid. 189.
Keynes’s paper read to the Apostles, 23 January 1904: date supplied from the record of meetings of the Apostles by Geoffrey Lloyd, then Fellow and Tutor of King’s College, Cambridge; subsequently confirmed by Dr Roderick O’Donnell.
See R. M. O’Donnell,
Keynes:
(1989); A. M. Carabelli,
On Keynes’s Method (1988). A. Fitzgibbons,
Keynes’s Vision (1988).
in M. Bentley and J. Stevenson (eds.),
High and Low Politics in Modern Britain (1983), 177-9.
M. Freeden,
Liberalism Divided (1986), 166-71.
Keynes on Baldwin:
The Diary of Beatrice Webb,
ed. N. and J. McKenzie (1985), 19 June 1936, 370-1; see also.
A. L. Rowse,
Mr Keynes and the Labour Movement (1936).
Cannan Papers, London School of Economics, Box 20c.
Bank of England spokesman: Macmillan Committee on Finance and Industry, Minutes of Evidence, Cmd. 2897, vol. 2, Qs. 7690-7847.
Ibid. Qs. 5565, 5650, 5654, 5684-6, 6500-24.
الفصل الثالث
CW
xii. 701-2, 730-1.
CW
xii. 760.
CW
xii. 696.
CW
xii. 715-7, 730-1, 761.
CW
xi. 377.
CW
xii. 706-7.
CW
xii. 764.
CW
i. 71, 51.
CW
xiii. 2-14.
CW
ii. 148.
CW
iv. 36.
CW
iv. 126.
CW
iv. 139-40.
CW
iv. 147.
CW
iv. 158-60.
CW
iv. 146, 148.
CW
iv. 65.
CW
iv. 68.
CW
iv. 144.
CW
iv. 69.
CW
xix. 762.
CW
xiii. 273.
CW
ix. 115-25.
CW
vi. 132.
CW
v. 121.
CW
v, ch. 18.
CW
vi, 'Historical Illustrations’.
CW
v. 158-60.
CW
vi. 299.
CW
vi. 304.
CW
xx. 99-132.
CW
xiii. 178.
Hawtrey Papers, Churchill College, Cambridge, 11/3, para. 22.
D. H. Robertson,
Economic Journal (September 1931), 407.
الفصل الرابع
CW
vii. 30.
CW
vi, p. xxii.
CW
xxi. 59-60.
CW
xiii. 146.
CW
xiii. 275-6.
CW
xxix. 40.
Rymes, 50-3, 85-93.
Rymes, 126.
Rymes, 66-7, 70.
CW
xiii. 405.
Rymes, 123-7.
Rymes, 78.
Rymes, 122.
Rymes, 112-13.
CW
xxix. 57, 395-6.
CW
ix. 347.
Rymes, 102.
CW
xxix. 82; Rymes, 92.
CW
vii. 27.
CW
vii. 210.
CW
vii. 149.
CW
vii. 150, 161-3.
CW
vii. 163-4.
CW
xiv. 116.
CW
vii. 168, 201.
CW
vii. 202, 203, 207-8.
CW
vii. 268.
CW
vii. 15.
CW
vii. 300.
CW
vii. 394-412.
CW
vii. 180.
CW
vii. 181.
CW
vii. 263.
CW
xxix. 179, 180.
CW
vii. 307.
CW
xxix. 87.
Jens Warming: N. Cain, 'Cambridge and its Revolution’,
Economic Record (1979), 113.
D. Champernowne, in R. Lekachman (ed.),
Keynes’s General Theory: A Report of Three Decades (1964), 55-60.
D. H. Robertson, 'Some Notes on Mr. Keynes’ General Theory of Employment’,
Quarterly Journal of Economics (November 1936); reprinted in J. Cunningham Wood (ed.),
John Maynard Keynes: Critical Assessments (1983), 99-111.
J. R. Hicks, 'Mr. Keynes and the “Classics”: A Suggested Interpretation’,
Econometrica (April 1937); reprinted in Cunningham Wood (ed.),
Keynes: Critical Assessments,
162-72.
الفصل الخامس
CW
ix. 379-80.
CW
xxii. 218.
CW
xxii. 122-3.
CW
xxii. 155.
CW
xxi. 17.
CW
xxi. 236.
KP, L/36.
CW
xxv. 2.
CW
xxv. 15.
CW
xxv. 17.
CW
xxv. 21-40.
CW
xxv. 55-7.
CW
xxv. 156.
CW
xxvi. 9-21.
CW
xxv. 69-70.
CW
xxiv. 330.
CW
xxiv. 620, 624.
D. Moggridge,
Maynard Keynes: An Economist’s Biography (1992), 631.
J. Tomlinson,
Employment Policy: The Crucial Years 1939-1955 (1987), 24.
C. H. Rolph,
Kingsley: The Life, Letters, and Diaries of Kingsley Martin (1973), 203.
Frankfurter Papers, Library of Congress, Reel 66.
W. Carr, 'Keynes and the Treaty of Versailles’, in A. P. Thirlwall (ed.),
Keynes as a Policy Adviser (1982), 103-6.
For details of Walther Funk, see A. van Dormael,
Bretton Woods: The Birth of a Monetary System (1978), 6-7.
Keynes’s visit to USA: see E. Playfair to S. G. Waley, 16 May 1941, in Moggridge,
Keynes,
657.
James Meade: S. Howson and D. Moggridge (eds.),
The Wartime Diaries of Leonel Robbins and James Meade 1943-1945 (1990), 106, 159, 133.
H. Dalton,
High Tide and After (1960), 73-4.
الفصل السادس
CW
xxvii. 384.
CW
vii. 307.
CW
ix. 350.
CW
vii. 378.
CW
vii. 129.
CW
iv. 37.
CW
vii. 6.
CW
xxvii. 3.
CW
ii. 235-6.
CW
xvii. 184-5.
CW
vii. 296.
CW
vii. 302.
CW
xxvi. 38.
CW
xxvii. 385.
CW
vii, p. xxvi.
CW
xxvii. 387-8.
CW
xviii. 394.
CW
xiv. 296.
CW
xiv. 122. 'Students in the 1960s’; D. Worswick and J. Trevithick (eds.),
Keynes and the Modern World (1983), 127.
Callaghan at the Labour Party Conference: see W. Grant and S. Nath,
The Politics of Economic Policy Making (1984), 144.
Christopher Allsopp: in D. Helm (ed.),
The Economic Borders of the State (1989), 182.
Tomlinson,
Employment
108.
R. C. O. Matthews, 'Why Has Britain Had Full Employment since the War?’,
Economic Journal (September 1968); reprinted in Charles Feinstein (ed.),
The Managed Economy (1983), 119.
N. F. R. Crafts and N. Woodward (eds.),
The British Economy since 1945 (1991), 7-8.
J. R. Hicks,
The Crisis in Keynesian Economics (1974), 3.
J. Tobin, 'The Intellectual Revolution in US Economic
(1966).
Richard Kahn: in D. Worswick (ed.),
The Concept and Measurement of Involuntary Unemployment (1976), 23, 27.
A. Coddington,
Keynesian Economics: The Search for First Principles (1983), 42.
J. C. R. Dow,
The Management of the British Economy 1945-1960 (1970), 384.
T. Hutchison,
Economics and Economics
(1968), 121-2.
خاتمة
CW
xiv. 109-23.
CW
vi. 322-4.
CW
xiv. 112.
CW
vii. 293.
CW
vii. 194, 293-4.
CW
xiv. 113.
CW
xiv. 300.
CW
vii. 152-3.
CW
xiv. 114-15.
CW
vii. 15.
CW
xiv. 207-10.
CW
vi. 332-5.
CW
vii. 167-9.
CW
vii. 201.
CW
vii. 207-8.
CW
vii. 337.
CW
xxv. 28.
CW
ix. 220.
CW
xi. 241.
CW
xiii. 71-2.
CW
vii. 164.
CW
vii. 202.
CW
vii. 204.
CW
vii. 203.
CW
vii. 164.
CW
vii. 378.
CW
vii. 378.
CW
vii. 373.
CW
vii. 164.
CW
xxi. 60.
Axel Leijonhufvud,
Keynes and the Classics (1969).
John Cochrane, 'Fiscal Stimulus, Fiscal Inflation, or Fiscal Fallacies?’, 27 February 2009: (
http//:faculty.chicagobooth.edu/john.cochrane/research/Papers/fiscal2.htm ), accessed 20 April 2010.
Robert Skidelsky,
The Economist as Saviour (1992, chapters 7 and 8).
Marriner Eccles, quoted in Sam Whister (ed.),
Reforming the City (2009), p. 98.
قراءات إضافية
السيرة الذاتية
There have been five biographers of Keynes: Roy Harrod,
The Life of John Maynard Keynes (1951); Charles Hession,
John Maynard Keynes (1984); D. Moggridge,
Maynard Keynes: An Economist’s Biography (1992); Paul Davidson,
John Maynard Keynes (2007); and R. Skidelsky,
John Maynard Keynes: Hopes Betrayed 1883-1920 (1983), and
John Maynard Keynes: The Economist as Saviour 1920-1937 (1992), and
John Maynard Keynes, Fighting for Britain 1937-1946 (2001). A single-volume abridgment,
John Maynard Keynes: Economist, Philosopher Statesman 1883-1946 , was published in 2003. Skidelsky’s
Keynes: The Return of the Master (2009) was a plea for his relevance to understand, and prescribe for, the slump of 2008-9. Anand Chandavarkar,
The Unexplored Keynes and Other Essays (2009) offers an engaging account of Keynes’s many-sided genius. Justyn Walsh,
Keynes and the Market (2008) shows how Keynes’s varied experience as an investor influenced his economic theories.
النظرية
Only a tiny sample of a vast secondary literature can be given here. Paul Krugman,
Introduction to Keynes’s The General Theory of Employment, Interest and Money (2006) is a scintillating account of Keynes’s central theory from a 'new Keynesian’ standpoint. Michael Stewart,
Keynes and After (3rd edn. 1986), is the most accessible introductory text. E. Eshag,
From Marshall to Keynes: An Essay on the Monetary Theory of the Cambridge School (1963), the classic account, needs to be supplemented by R. J. Bigg,
Cambridge and the Monetary Theory of Production (1990). D. Patinkin,
Keynes’s Monetary Thought: A Study of its Development (1977), as well as his essay on Keynes in the
New Palgrave Dictionary of Economics , ed. J. Eatwell, M. Milgate, and P. Newman (1987), are standard technical accounts. J. R. Hicks’s
Critical Essays in Monetary Theory (1967) has an illuminating 'Note on the Treatise (on Money)’. Richard Kahn,
The Making of Keynes’s General Theory (1984), is important first-hand testimony; G. L. S. Shackle,
The Years of High Theory: Invention and Tradition in Economic Thought 1926-39 (1967), is an excellent account of the 'double revolution’ in Cambridge. Four stimulating interpretations of Keynes’s theory are Tim Congdon,
Keynes, the Keynesians, and Monetarism (2007); Gilles Dostaler,
Keynes and His Battles (2007); A. H. Meltzer,
Keynes’s Monetary Theory: A Different Interpretation (1988); and Murray Milgate,
Capital and Employment: A Study of Keynes’s Economics (1982). Victoria Chick,
On Money, Method and Keynes: Selected Essays , ed. Philip Arestis and Sheila Dow (1992), and Hyman P. Minsky,
John Maynard Keynes (1975) are important interpretations from the post-Keynesian standpoint. P. Clarke,
The Keynesian Revolution in the Making 1924-1936 (1988) is essential reading; R. W. Dimand,
The Origins of the Keynesian Revolution (1988) covers some of the same ground from a technical standpoint. P. V. Mini,
Keynes, Bloomsbury and The General Theory (1991) is a stimulating, off-beat essay. John Williamson’s essay, 'Keynes and the International Economic Order’, in D. Worswick and J. Trevithik (eds.),
Keynes and the Modern World (1983) is exemplary. Indispensable introductions to Keynes’s epistemology are Anna M. Carabelli,
On Keynes’s Method (1988) and R. M. O’Donnell,
Keynes: Philosophy, Economics and Politics (1989). Terence Hutchison,
On the Methodology of Economics and the Formalist Revolution (2000) is an excellent account of how economics came to be 'mathematicized’. Taleb Nassim,
The Black Swan: The Impact of the Highly Improbable (2007) shows up the fraudulence of most mathematical forecasting models.
ميراث كينز
D. Patinkin,
Money, Interest and Prices: An Integration of Monetary and Value Theory (1956), and the Hicks-Patinkin exchange which followed it in the
Economic Journal (June 1957 and September 1959), were key to establishing the 'synthesis’ between the neo-classical theorists and the policy Keynesians; an accommodation challenged by A. Leijonhufvud,
On Keynesian Economics and the Economics of Keynes (1966). (See also Leijonhufvud’s essay,
Keynes and the Classics (Institute of Economic Affairs, 1969).) David Marquand,
The Unprincipled Society (1988) offers a lively interpretation of 'Keynesian social democracy’ in Britain; for the impact of Keynesian ideas in the United States, H. Stein,
The Fiscal Revolution in America (1969) is the key text; for Keynes’s influence on other countries, see Peter A. Hall (ed.),
The Political Power of Economic Ideas: Keynesianism Across Nations (1989). Eric Roll,
The World After Keynes: An Examination of the Economic Order (1968) is a standard offering from the 'golden age’. The crucial monetarist text is Milton Friedman’s Presidential address to the American Economic Association, 29 December 1967, on 'The Role of Monetary
American Economic Review (March 1968), 1-17. The main text of 'new Keynesianism’ is N. G. Mankiw and D. Romer (eds.),
New Keynesian Economics (1991). Paul Davidson’s
Money and the Real World (2002 edition) is the statement of one of the leading 'post-Keynesians’. Henry Hazlitt (ed.),
The Critics of Keynesian Economics (1960, 1977) is a collection of anti-Keynesian and sceptical essays. Arjo Klamer,
The New Classical Macroeconomics: Conversations with New Classical Economists and Their Opponents (1984) is an indispensable window into the mindset of the Chicago School. Brian Snowdon and Howard R. Vane,
Modern Macroeconomics: Its Origins, Development and Current State (2005) charts the 'decline and fall’ of the original Keynesian revolution, and the rise of 'new Keynesianism’ and the 'new classical economics’, with interviews with some of the leading participants.
Bog aan la aqoon