ونحن أيضا في حاجة إلى خطة يجب أن نتبعها في دراستنا كي نصل إلى الظفر المنشود، والظفر المنشود هنا هو أن ننمو بالثقافة، ونمتلك بأذهاننا أوسع وأكبر ما يمكننا من المعارف التي تربي بصيرتنا في الحياة، فإذا لم تحمل إلينا السعادة فلا أقل من أن تحمل إلينا الفهم، بل إن الفهم عند الرجل المثقف هو السعادة، بل أهم من السعادة.
والراغب في التثقيف الذاتي سيأخذ أولا في التعميم، ويتعرف إلى مختلف الفنون والعلوم، ولا غبار عليه في ذلك؛ فإنه سيمد مجساته الذهنية إلى مختلف الموضوعات، كأهداب الحشرة، حتى يقع على الغذاء الذي يحب، أي حتى يهبط على المادة التي تحملنا ظروفنا ومزاجنا ومعيشتنا ومشكلاتنا على تعمقها، وعندئذ لن يكون أمامه أربعة ملايين كتاب يجب عليه أن يقرأها، بل هو يكتفي بمئة كتاب أصلي، وسائر ما يقرأ يعد فرعيا في شرح هذه المئة أو في التعليق عليها.
والخطة في الثقافة هي أيضا كالخطة في الحرب عند نابليون، أي إننا نتعمق نقطة، ثم نتوسع من هذه النقطة، ونتفرع هنا وهناك في مختلف المعارف التي تصل بهذه النقطة أو المادة، وهذه الخطة هي الخطة الفسيولوجية التي تنهض على مقدار ما عندنا من كفايات وما لنا من ميول، ففي العالم الآن نحو 130 علما وفنا ومحال أن يكفي العمر البشري لدراستها، بل محال أن يقبل أحد الأذهان هذه الدراسة العامة؛ لأنه لا بد سيصد عن بعض ويقبل على بعض، فما يجب على الراغب في الثقافة إنما هو أن يرسل مجساته الذهنية حتى تهبط على المادة التي تحمله معيشته على التعرف إليها وتعمقها، ثم ينشر مجساته بعد ذلك إلى مختلف الفنون التي تتصل بها، فالمادة الأصلية التي يدرس هي النقطة البؤرية التي يحدث منها الإشعاع إلى المواد الأخرى، فالدراسة لا يمكن أن تجري جزافا، بل يجب أن تكون لها علاقة فسيولوجية بأذهاننا وما تتطلبه معيشتنا الفردية والاجتماعية.
والذهن المتوسط، ولا نذكر الذهن العالي، لا يقنع فيها الثقافة بأن يحسو من كل مورد جزافا وتسكعا، بل هو لا بد بعد فترة من الفوضى سيقع على المورد الوحيد الذي يعب منه، فعلى القارئ الذي يجد نفسه عازفا عن التعمق ألا ييأس؛ فإن الوقت لن يطول به حتى يجد شبكة المعارف التي تتصل بفسيولوجيته، كما لو كانت شبكة من الأعصاب تتداخل في أنحاء ذهنه؛ فإنه سيطلب هذه المعارف بالشهوة التي يطلب بها الطعام، بل أحيانا أحد وأقوى.
ولا يمكن إنسانا أن يسمي نفسه مثقفا ما لم يتعمق مادة معينة، وصحيح أن هناك علماء جهلاء تعمقوا مادة ثم لم يخرجوا منها إلى سائر المواد، ولكن لا أسمي هؤلاء متعمقين وإنما أسميهم «متخصصين».
وهم في الغالب لم يختاروا هذه المادة التي تخصصوا فيها وإنما حملوا على التخصص قبل أن يقضوا من حياتهم فترة التسكع والاختيار، ونجد أمثال هؤلاء في المتخصص مثلا في الكيمياء، لا يدري شيئا من الاقتصاديات أو الأديان، وهذا لأنه قد بدأ يتخصص منذ صباه تقريبا في المدرسة، فلم تتح له الفرصة كي يرعى في المروج الخصبة للثقافة ويختار منها ما يحب، فتثقيفه في الكيمياء لم يكن «ذاتيا»، وهذا الكتاب قد خصصناه للتثقيف الذاتي، أي لأولئك الذين يبغون تربية أنفسهم، وكل منهم معلم وتلميذ، وكلاهما حر في اختياره، وأولئك الذين اخترعوا القنبلة الذرية كانوا بلا شك متخصصين، وكانوا لتخصصهم هذا يجهلون الأدب والدين والفلسفة؛ لأنهم لو كانوا قد عرفوا هذه الدراسات لما اخترعوا هذه القنبلة.
على أن القارئ يجب أن يذكر - على الدوام - أنه لن يكون مثقفا حق الثقافة ما لم يتعمق علما معينا، يكسب منه التدريب العلمي والتميز بين الحقائق والبواطل، وهذا التعمق يجعله قادرا على النقد في سائر المواد التي يدرس حتى الدراسة السطحية، وعليه هو أن يختار؛ لأن اختياره ينبع من أعماق شخصيته، بحيث يلائم كفاياته ؛ أي يجب في لغة نابليون أن يتفوق في سلاح معين ولا يبالي أن يكون بعد ذلك عاديا في سائر الأسلحة، والخطة هنا للحياة كلها وليست للثقافة والحرب فقط.
والقارئ الذي تمضي عليه السنوات ونفسه جامدة لا تنزع إلى المادة التي يتعمقها إنما هو مريض يحتاج إلى العلاج، فعليه أن يسأل ويستشفي.
مئة كتاب
كثير من القراء يحتاج إلى تعيين الكتب «الأصلية» التي يحتاج المثقف إلى قراءتها، وهذه الكتب عامة لا يراد منها التخصص، أو هي تعد ضرورة كي نصل بقراءتها إلى الرقي البشري الذي يحملنا إلى مستوى الروح العالمي السامي.
Bog aan la aqoon