وهذه المبالغة في المباراة هي مثال واحد من أمثلة النظر الفلسفي السيئ، وهناك الغيرة عند النساء، بل هناك الرغبات الطفلية تبقى معنا إلى سن الشباب والكهولة، وتغمر سلوكنا النفسي بل سلوكنا الجسمي، وكل هذا يدل على أننا في حاجة إلى الصحة والسداد في النظر الفلسفي كي نعيش المعيشة الطيبة.
وقد أصبح معنى الفلسفة في عصرنا يخالف معناها التقليدي المعروف في أوروبا وفي العالم القديم كله، فقد كنا نفهم من الفلسفة أنها تأمل في الخلق والخالق، وتفسير لمعميات الكون، ودرس للمذاهب القديمة والحديثة في عهد الإغريق إلى العصر الحاضر، وموازنة بين مختلف النظريات، أو محاولة للتوفيق بينها بالزيادة هنا والحذف هناك، والفيلسوف في نظرنا هو الرجل الذي انصرف عن معترك الحياة، ووضع نظارتيه على أرنبة أنفه، وغرق في أكداس الكتب يقلب صفحاتها ويستوعب محتوياتها، فإذا رفع عينه عنها فذلك كي يجتر أفلاطون وأرسطو ويفكر في ديكارت وسبينوزا.
ولكن التفكير الجديد يتجه اتجاها آخر وينحو نحوا جديدا، من ذلك أن الأستاذ «ديوي» زعيم حركة التجديد في الفلسفة الحديثة يرى أن الفلسفة وسيلة من وسائل الكفاح والنجاح في الحياة، شأنها في ذلك كشأن جميع أنواع الثقافات، وأن همها ينبغي أن ينصرف كله إلى ترقية عيشة الإنسان والمجتمع الإنساني كله؛ ولذلك يجب أن يكون هذا المجتمع أساس النقد والتجديد في الفلسفة، ومن هنا نرى هذه الظاهرة الجديدة وهي أن الدراسات الفلسفية قد انطلقت من مخابئها في مكتبات العلماء المتزمتين إلى الحياة العامة، ونرى مثلا أن الحكومة الأمريكية تعين مستر «ماكيفر» أستاذا للفلسفة في كلية الزراعة في تكساس.
فلنتأمل هذا الخبر الصغير في مبناه، الكبير في معناه، هذه كلية تلقن الطلبة كيف يزرعون القطن ويعنون بالطماطم ويحلبون البقر، ولكن إلى جانب هذا يجب أن يتعلموا الفلسفة، وأن يعرفوا أثرها في حياتهم الزراعية المستقبلية، ويجب أن ينيروا بصائرهم في قيمة الحياة، وأن يستعينوا بالفلسفة كي يعينوا ويحددوا مطامعهم الفردية ومكانتهم الاجتماعية في الأمة.
فالفلسفة لم تعد من الكماليات التي يتذوقها المتحذلقون أو المتخصصون، وإنما أخذت تتصل بالزراعة والصناعة، فيجب أن يكون اتصالها وثيقا بالبيت والمصنع كما يجب على الشاب والفتاة أن يتساءل كلاهما في بداية أي مشروع: هل هذا العمل يتفق والنظر الفلسفي الحسن أم لا يتفق؟
وهذا يحملنا على القول بأن كل شاب في حاجة إلى تدريب فلسفي أي يجب أن نألف الفلاسفة وأن ندرب الذهن ونربي العاطفة على معالجة مشكلاتنا بالفلسفة، وإذا فعلنا ذلك فإننا نرفض الانسياق وراء غايات تستأثر بمجهودنا ووقتنا بلا طائل، مثل «المركز الاجتماعي» او التباهي باقتناء المال أو نحو ذلك.
والذهن المدرب بالفلسفة هو الذي يوازن بين شراء عقار بمئة جنيه أو شراء مكتبة بهذا المبلغ؛ لأنه هنا يقف بين التوسع الذهني أو الرقي الشخصي، وبين التوسع العقاري أو التكبير المركز الاجتماعي، وهو قيمة الحياة وغايتها.
والدين يكمن في الفلسفة، أو الفلسفة تكمن في الدين؛ لأن كليهما يرسم لنا الاتجاهات في السلوك ويعين لنا القيم في المعيشة والأخلاق، وقد ظهرت في اللغة العربية بعض الكتب التي لا تفي ولا تشبع، ولكن ليس هناك أفضل منها، ومنها كتاب الأستاذ أحمد أمين بك عن قصة الفلسفة، ومنها أيضا سلسلة موجزة للأستاذ عبد الرحمن بدوي، وكتاب الأخلاق لأرسطوطاليس (ترجمة أحمد لطفي السيد باشا) وكتاب الدكتور طه حسين بك المترجم عن أرسطوطاليس في نظم الحكم، كل هذه يمكن أن تقرأ مع الفائدة، ولكنها فائدة ضئيلة.
أما كتب الفلسفة القديمة في اللغة العربية فهي غيبيات عقيمة، وهي خلاصة التفكير الإغريقي بعد إخراجه مزيفا في خدمة المجادلات المذهبية المسيحية.
والفلسفة بطبيعتها بطيئة التجديد، ولكن يجب أن نعرف أنها تنحط بمقدار اتجاهها نحو الغيبيات، وترقى بمقدار اتجاهها نحو البشريات، وهي تبحث القيمة في حين يبحث العلم الماهية، أو هي بمثابة الدفة التي توجه في حين يؤدي العلم مهمة الشراع أي القوة، وعلم بلا فلسفة هو قوة بلا دفة، قد تسير بالسفينة نحو الصخرة، والفلسفة الراقية هي ديانة راقية، وربما نحتاج إلى تعبير جديد يحملنا على الانتفاع بدراسة الفلسفة والدين معا، وهو أن نقول «الفلسفة التطبيقية» و«الديانة التطبيقية». وعلى قدر استعداد الفلسفة والدين للتطبيق في خدمة البشر تكون قيمتهما، وإلا فهما غيبيات سخيفة أي تفكير وخبط في الخواء.
Bog aan la aqoon