هذا الإيمان بالتطور هو الإيمان بالارتقاء وبالتفاؤل، وبأن الدنيا سوف تكون بعد عشر سنوات، أو مئة سنة، قريتنا الكبرى، حين نؤمن بأننا جميعا إخوة متضامنون، ليس فينا من يسأل قابيل: هل أنا حارس لأخي؟
والسمة الرابعة للرجل العصري أنه على الرغم من حبسه للطبيعة وإحساسه بأن كنوزها من نبات وحيوان يجب أن تصان، هذا الرجل العصري يعيش في وسط صناعي يستخدم فيه الحديد والنار وسائر القوة المادية للإنتاج الوفير الذي يلغي الفقير ويعمم الرفاهية.
هذه هي السمات الأربع للرجل العصري، وهي تميزه من غيره كما يتميز أي إنسان من غيره بأنف كبير أو عينين سوداوين أو قامة عالية أو ذكاء أو شجاعة. •••
فهل المكتبة العربية - بما أصدرت من مؤلفات في النصف الأول من هذا القرن - قد استطاعت تخريج الرجل العصري؟
الجواب هو قطعا «لا».
والتبعة تقع على أولئك الغافلين الذين يذكرون المتنبي ولا يذكرون داروين، ويؤلفون عن معاوية أو الرشيد وينسون العبرة في حياة بيكون الأول أو بيكون الثاني.
ويجهلون أن الأدب حياة وكفاح، وأسلوب للعيش، وتطور وثورة، ويجهلون إلى جانب هذا طبيعة الحضارة العصرية، حضارة العلم والصناعة؛ ولذلك لا يكادون يلتفتون إلى المشكلات البشرية والاجتماعية، وكثيرا ما أقع مع هؤلاء في نقاش فيفحمني جهلهم؛ لأني أجد أنهم يتحدثون عن المرأة مثلا كما يتحدث طفل عن حصانه الخشبي، كأنها لعبته الخاصة التي يعين لها الأكل والشرب والنوم والحياة والسلوك، وليست إنسانا لها حق تقرير المصير لنفسها.
ولكن التبعة تقع أكثر على الاستعمار والاستبداد اللذين تحالفا على أن يمنعا نهوض الصناعة، ولو أن المصانع كانت قد تفشت في بلادنا لتغيرت جميع مشكلاتنا، وكان يكون تغيرها إلى أعلى، فكان الأدب ينحاز إلى الشعب، وينطق بلهجته في بلاغة شعبية ، وكانت المرأة تجد الكرامة الاقتصادية التي تلقي الرعب في قلوب أولئك الذين يريدونها أنثى فقط، وكان الزعماء يحسون الديمقراطية ولا يتصنعونها، وكان العامل يحس كرامة الإنتاج، فلا يجرؤ سياسي على أن يشتري صوته أو يضربه للحصول عليه.
لا، لسنا نحن العرب شعوبا عصرية. لا، إن المستعمرين والمستبدين منعونا من حضارة الصناعة، ومنعونا بالتالي من ثقافة العلم التي تعتمد على المعارف والتجارب، ثم انساق مع المستعمرين والمستبدين «أدباء» قرويون في مزاجهم، فلاحون في عقائدهم، يؤلفون القصائد في مدح الملك فؤاد أو فاروق، أو يكتبون لنا عن الرشيد أو المأمون، بل إن واحدا من هؤلاء المؤلفين ارتضى لقلمه الدفاع عن تعطيل الدستور ثلاث سنوات تقبل التجديد إلى مئة سنة، ثم بعد ذلك صار يخرج لنا الكتاب تلو الآخر عن رجال الحق والعدل الذين عاشوا قبل 1300 سنة مثل معاوية وعثمان وأبي بكر، وكأنه نفى عن نفسه وجدان عصره، وفصل بينه وبينه بأكثر من ألف سنة.
إن هؤلاء الجهلة يفحمونني بجهلهم لأنهم يعيشون قابعين من حيث الحياة الفكرية في زقاق بال مظلم رطب، وهم لم يجرءوا قط على أن يرافقوا كولمبوس إلى مجاهل الموت والحياة، ولم يتذوقوا تلك المعارف الخطرة التي تجعل الفكر يتقزز ويتأمل ويقتحم، ولم يحسوا طربا عندما سمعوا عن سمكة السيلا كانت أو إنسان النيندرتال، ولم يأرقوا ليلة لعجزهم عن التوفيق بين تنازع البقاء وبين ما يستلهمون من الرحمة والشرف في الطبيعة.
Bog aan la aqoon