يحفزه إلى الرياضة العملية، والى التجرد عن الدنيا.
وقد صور دواعي هذه الأزمة في رسالته إلى الغني بالله سلطان الأندلس حين فارقه، وفي رسالة إلى ابن خاتمة حين عذله على اعتزام الهجرة، وفي كتابة أعمال الأعلام، وفي مقدمة الكتيبة الكامنة، فتحدث عن رغبته في الراحة والذهاب إلى مكة وإيثاره للآخرة على الدنيا فقال في رسالته لابن خاتمة: " أني إلى الله تعالى مهاجر، وللعرض الأدنى هاجر، ولأضعان السرى زاجر، لنجد - إن شاء الله تعالى - وحاجر " (١) وفي رسالته للغني بالله يقول: " طرقته الأفكار وزعزعت صبره الرياح الخواطر وتذكر أشراف العمر على التمام وعواقب الاستغراق وسيرة الفضلاء عند شمول البياض فغلبته حال شديدة هزمت التعشق بالشمل الجميع والوطن المليح والجاه الكبير والسلطان القليل النظير وعمل بمقتضى قوله: موتوا قبل أن تموتوا " (٢) .
وكان الذي أيأسه من حياة السياسة تغير النفوس عليه لما بلغه من مكانة واستقلال في النظر وبسطة في النفوذ، فكثرت السعايات وتنكر له من كان هو سببا في تقريبهم ورفع جاههم، وسيطر الحسد على بعض النفوس، ولم يكن هو غافلا عما يجري من حوله، فهو يقول في وصف هذه الظاهرة: " وصرت انظر إلى الوجوه فالمح الشر في نظراتها، واعتبر الكلمات فأتبين الحسائف في لغاتها، والضغينة في كل يوم تستحكم والشر يتضاعف، ونعمة الولد تطلق لسان الحسود، وشبح الكلاب المطيفة تهيج حسائف النمور الجائعة والأسود، والأصحاب الذين تجمعهم المائدة كل يوم وليلة يفتنون في الإطراء والمديح وتحسين القبيح والمحاولات في الغي
_________
(١) النفح ٨: ١٤٣.
(٢) التعريف بابن خلدون: ١٤٨ - ١٤٩.
1 / 4