227

Jabinta Xuduudaha

كسر الحدود

Noocyada

ومن هنا عدم انفصال الأخلاق عن السياسة وعن الاقتصاد، وعن مشروع السلام الذي يمكن أن يتحقق على الأرض، وربما أشير هنا إلى فكرة توفيق الحكيم التي تفصل بين السلام والأخلاق والقيم والعواطف، أو التي تفصل بين ما هو علمي بحت وما هو اجتماعي وثقافي وأخلاقي، وهل هناك شيء اسمه علمي بحت بعيدا عن السياسة أو الأخلاق والقيم والعواطف؟ وهل يختلف الخيال العلمي عن الخيال الأدبي أو الفني؟ وهل يمكن فصل التفكير عن الإحساس والعاطفة؟ هل يمكن فصل العقل عن الجسد؟!

هنا وقع توفيق الحكيم في الثغرة الفكرية ذاتها التي وقع فيها أرسطو، وفصل بين الجسد والعقل، وجعل الأعمال الجسدية من نصيب الفقراء والنساء، وجعل الأعمال الفكرية من نصيب طبقة النبلاء الأسياد الرجال .

ربما لهذا السبب ظل مشروع توفيق الحكيم مشروعا خياليا غارقا في الوهم والتعميمات دون النزول إلى أرض الواقع.

ظل مشروعه مجرد رؤية أدبية مثل أعمال جول فرن وويلز وزيولكو فسكي وغيرها من الأعمال التي استشهد بها، وهي أعمال ريادية فعلا في عالم الأدب والفن، وربما ساهمت في تغيير مسيرة العالم الإنسان على نحو ما، إلا أنها عجزت عن تحقيق السلام المنشود الذي نحلم به، ويحلم به توفيق الحكيم.

وقد ظل توفيق الحكيم يتحدث عن مشروعه للسلام في لجنة القصة بالزمالك وفي مكتبه بجريدة الأهرام، كان يطلب لي فنجان القهوة (رغم ما أشيع عن بخله) ويتحدث معي الساعة وراء الساعة عن مشروعه الخيالي لتحقيق السلام في العالم. - ولكن يا أستاذ توفيق مشروعك ده غير قابل للتحقيق. - ليه يا دكتورة؟ (كان خجولا يتحرج من أن ينطق اسمي). - لأنك تفصل بين العلم والسياسة والأخلاق. - لازم نفصل، إنتي طبيبة درست الطب يمكنك عمل مشروع طبي علمي، لكن أنا لم أدرس الطب ولا يمكن أعمل مشروع طبي علمي، مش كده؟! - لأ مش كده يا أستاذ توفيق؛ لأن دراسة الطب وحده (كعلم منفصل عن المجتمع والسياسة والأخلاق) لا يمكن تؤهلني لعمل مشروع طبي علمي ناجح يقضي على الأمراض أبدا. - ليه أبدا؟ - لأن الأمراض هي ظواهر سياسية واجتماعية وأخلاقية، ولا يمكن أعرف الأسباب الحقيقية للأمراض الجسمية أو النفسية إلا بدراسة المجتمع والسياسة والاقتصاد، مثلا أغلب الأمراض في بلادنا بسبب الجوع والفقر. - برافو أنا معاكي الجوع أكبر مشكلة؛ ولذلك لا بد من القضاء على الجوع. - أيوه يا أستاذ توفيق، لكن كيف نقضي على الجوع بالعلم البحت المنفصل عن السياسة والأخلاق والعواطف؟ - أن قصدي لازم مشروع السلام يقوم على فروض علمية، ووضوح الهدف مثل هدف الصعود إلى القمر، ليه ما يكونش هدفنا «الطعام لكل فم»، كل الأفواه في العالم لو أكلت وامتلأت، فإن الحروب تنتهي ويتحقق السلام، مش كده؟ - لأ مش كده يا أستاذ توفيق؛ لأن المشكلة مش الطعام وخلاص، لأن الإنسان رجل أو امرأة لا يمكن يعيش على الأكل بس، ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان. - ده كلام نظري يا دكتورة. - لا يا أستاذ توفيق، ده كلام عملي. - عملي إزاي؟ - مثلا إنت عندك طعام مش كده؟ - طبعا، خصوصا صينية البطاطس أهم عندي من أرسطو!

وضحك توفيق الحكيم مقهقها، كنت أحب فكاهته كثيرا وأضحك معه، لكني أعود إلى المناقشة، وكان يرمقني بعينيه مندهشا قليلا كيف يمكن لامرأة أن تجادله على هذا النحو، وهي امرأة شابة جميلة كما يقول لي، وهذه المناقشة العقلية الجادة تفسد جمالها وأنوثتها، لكني رغم ذلك كنت أواصل النقاش، ومن أجل المعرفة أو الوصول إلى الحقيقة كنت مستعدة للتضحية بشبابي وجمالي وأنوثتي، وكل شيء بما فيها الدعوة إلى تناول الغذاء. - إيه رأيك تأكلي معايا صينية البطاطس بدل المناقشة دي؟ - يا أستاذ توفيق أنا شايفة إن المشكلة ليس فقط الطعام، صحيح الطعام ضروري، لا يمكن أفكر أو أكتب رواية على معدة فاضية، لكن ممكن أكل واملأ نفسي بالطعام ويظل عقلي خاويا وتظل عواطفي خاوية، وأظل أؤمن بالقيم الطبقية الأبوية التي تنظر إلي كامرأة شابة جميلة بلا عقل أو ناقصة العقل! - أنا قلت كده؟ أبدا والله ما قلت كده! - أنت يا أستاذ توفيق تفصل بين العلم والعاطفة، أو بين العقل والعاطفة، وده مستحيل لأن العاطفة جزء من العقل؛ لأن الخيال جزء من العاطفة، ولا يمكن فصل الخيال عن العقل عن العاطفة. - أنا عندي سؤال لك يا دكتورة؟ هل خيال الرجل مثل خيال المرأة؟ هل عاطفة الأم مثل عاطفة الأب؟ الأمومة كلها عواطف وإنسانية، لكن الرجل هو العقل. - وعدم الإنسانية؟! - أيوه المرأة أكثر إنسانية من الرجل وأكثر حنانا وعطفا. - على الفقراء والجوعى؟ - أيوه. - إذن المرأة أقدر من الرجل على عمل مشروع للقضاء على الجوع؛ لأن العاطفة أو الخيال لازم يسبق التفكير في المشروع زي ما أنت بتقول يا أستاذ توفيق؟ - أنا معاكي المرأة أقدر من الرجل إذا أصبح لها فرصة في الحرية أو التحرر من القيود، لكن النساء عندنا عندهم عشق للقيود، المرأة تفضل الرجل الحمش اللي يخمشها مش كده ؟ - لأ مش كده، فيه نساء مصريات عندهم وعي وكرامة، ويفضلوا الرجل الإنسان القادر على احترام المرأة ومعاملتها كإنسان أو إنسانة كاملة العقل والجسم. - يمكن الأقلية القليلة لكن الأغلبية. - أيوه الأغلبية خاضعة للقيم العبودية، لكن عدد النساء المتحررات في تزايد مستمر، ولازم نشجعهم لأن المجتمع نصفه نساء، وأي مشروع للسلام أو للتنمية لا يخاطب النساء ولا يتعرض لمشكلة القهر الأبوي والجنسي مثل ما يتعرض لمشكلة الفقر أو الجوع أو القهر الطبقي أو الاقتصادي لا يمكن لمثل هذا المشروع أن يكون واقعيا، وسيظل مشروعا خياليا وهميا لأنه يتجاهل نصف المجتمع الحقيقي وهن النساء. - فيه مجتمعات نسائية ومشروعات كثيرة للمرأة يا دكتورة. - أغلبها مشروعات خيرية أو اجتماعية لا تدخل ضمن القضايا السياسية الهامة مثل قضية الديمقراطية أو قضية الفقر أو الجوع أو قضية السلام أو الاشتراكية. - إنتي ناصرية يا دكتورة نوال؟ - لأ. - إنتي ماركسية؟ - لأ. - يا ترى إيه خلافك مع كارل ماركس؟ - كارل ماركس لم يشمل نصف المجتمع من النساء في نظريته الماركسية. - أنا معاكي، لكن فريدريك إنجلز كتب عن النساء في كتابه «أصل العائلة» مش كده؟ - أيوه، لكن إنجلز تصور أن خروج النساء للعمل في الصناعة سوف يحررهن، ولم يدرك أن النساء الفلاحات يخرجن للعمل في الحقول دون أن يتحررن، وأن الرجال يعملون في الصناعة دون أن يتحرروا، فالمسألة ليست مجرد خروج المرأة للعمل بأجر خارج البيت. - أمال إيه؟ الأجر يعني الطعام، وإذا أطعمت المرأة نفسها تحررت، مش كده؟ - أيوه، لكن الطعام لا يكفي للتحرر، المرأة إنسان لا يمكن أن تعيش بالطعام وحده، بالطبع يجب إشباع المعدة، لكن العقل أيضا في حاجة إلى إشباع عن طريق الوعي والمعرفة والفكر والثقافة. - الأول نملأ المعدة ونملأ الأفواه الجائعة، ثم بعد ذلك نملأ العقول، خطوة خطوة مش كده؟ - لأ مش كده يا أستاذ توفيق، في رأيي أن نقدم الغذاء للمعدة والعقل في آن واحد، هل هناك مانع أن نقدم مع رغيف الخبز فكرة جديدة تدخل المخ؟ - برافو يا دكتورة، أنا معاكي في عدم فصل الثقافة عن السياسة، وده يمكن يكون خلافي مع رجال الثورة. - لكن إنت تفصل أيضا في مشروعك لتحقيق السلام بين السياسة والثقافة والأخلاق والعواطف، مش كده؟ - أنا مؤمن بإلغاء الجوع والخوف والحدود الدولية، وكل شيء في حياتنا لازم يكون في وحدة كما لو كانت الأرض وحدة بلا فروق بين البشر على أساس الجنس أو الجنسية أو الطبقية أو الدين أو العرق أو أي شيء آخر، موافقة يا دكتورة؟ - أيوه يا أستاذ توفيق، لكن دي فكرة أخرى غير مشروعك للسلام.

كانت الساعة قد قاربت على الثانية والنصف بعد الظهر، وكان ثروت أباظة قد جاء ليأخذ توفيق الحكيم إلى بيته، وتذكر توفيق الحكيم صينية البطاطس فجأة. - أنا داعي الدكتورة نوال على صينية البطاطس.

واتسعت عينا ثروت أباظة قليلا وقال: أول مرة في حياتي أسمع توفيق بيه يعزم حد ع الغدا!

ولمعت عينا توفيق الحكيم بالبريق الطفولي وقال ضاحكا: أنا عزمتها لكن انت حاتدفع! - أنا مستعد يا توفيق بيه وعندنا صينية بطاطس معتبرة! - أيوه الصواني الأباظية والألماظية! - خلاص يا توفيق بيه الصواني دي كانت زمان من عشرين سنة قبل الثورة المباركة! - أصله رأسمالي يا دكتورة.

وضحك توفيق الحكيم وهو يمشي مع ثروت أباظة، الذي كان يسحبه من يده إلى الباب، وقبل أن يخرج توفيق الحكيم لوح لي بيده مودعا قائلا: أهو انتصر عليكي وأخذني منك.

Bog aan la aqoon