بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الَّذِي أحسن إِلَيْنَا إِذْ أنزل علينا أحسن الحَدِيث، ووسم أَئِمَّة أمتنَا: أهل الْفِقْه والْحَدِيث، وَجعل نقاد الروَاة يعْرفُونَ وضع الغواة ويميزون الطّيب من الْخَبيث. أَحْمَده على رجولية الْفَهم، وَأَعُوذ بِهِ من التخبيث، وأشكره على وراثة الْعلم، وأسأله حفظ الْمَوَارِيث، وأستغيث بِزِيَادَة إنعامه وَإِن كنت لَا أستبطئه وَلَا أستريث. وَصلى الله على رَسُوله مُحَمَّد أفضل الْأَنْبِيَاء من لدن آدم وشيث، وَصلى على أَصْحَابه وَأَتْبَاعه مَا أُجِيب مطر أَو غيث.
أما بعد: فَإِن الله تَعَالَى حفظ كتَابنَا بِمَا لم يحفظ كتابا قبله، فَقَالَ ﷿ فِي الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة: ﴿بِمَا استحفظوا من كتاب الله﴾ [الْمَائِدَة: ٤٤] وَقَالَ فِي كتَابنَا: ﴿وَإِنَّا لَهُ لحافظون﴾ [الْحجر: ٩] . ثمَّ أنعم علينا بِحِفْظ المنقولات عَن نَبيا ﷺ، فألهم الْعلمَاء جمع ذَلِك، والطلاب الْجد فِي طلبه، حَتَّى سافروا الْبلدَانِ، وهجروا الأوطان، وأنفقوا فِي حفظ ذَلِك قوى الْأَبدَان، وَأقَام جهابذتهم يفتقدون وينتقدون، فيرفعون التحريف ويدفعون التخريف. فَمضى على ذَلِك كثير من الزَّمن، إِلَى أَن لحق ساعي الرغبات الزَّمن، وشيد فتور الهمم فِي طلب الْعلم إِلَى أَن درس، وَصَارَت صبابته الْبَاقِيَة فِي آخر نفس، فَأَما الطَّالِب لَهُ فِي زَمَاننَا فقد فُقِد، والمتصدر يَقُول وَلَا يعْتَقد.
1 / 5
وَأعظم الْعُلُوم اضمحلالا علم الْأَثر. على أَن الشَّرْع عَنهُ صدر. فَإِن رَأَيْت طَالبا لَهُ فهمته فِي الْغَالِب السماع، لَا الْفَهم وَلَا الِانْتِفَاع. وَأكْثر الْفُقَهَاء عَنهُ معرضون، وَإِن كَانُوا للْحكم على الحَدِيث يبنون. فواعجبا من وَاضع أسا لم ينظر فِي أرضه، ثمَّ أَخذ يهتم بِطُولِهِ وَعرضه، أَلا يخَاف أَن تكون الأَرْض رملا فينهار، فكم من بَان على شفا جرف هار، وَكم من فَقِيه أفتى بِغَيْر الْمَشْرُوع، وَكم من متعبد تَعب بِحَدِيث مَوْضُوع.
وَلما قد أحسن بفتور الهمم الَّذِي قد صَار فِي زَمَاننَا، تلقى أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي نصر الْحميدِي لحظ متون الصَّحِيحَيْنِ، تسهيلا لاقتباس الْفَوَائِد على المتقاعد، لِأَن اخْتِصَار اللَّفْظ صديق الْحِفْظ. فَصَارَ كِتَابه لقدره فِي نَفسه مقدما على جَمِيع جنسه، فَتعلق بِهِ من قد بَقِي عِنْده من الرَّغْبَة فِي النَّقْل رَمق. وَمَعْلُوم أَن الصَّحِيح بِالْإِضَافَة إِلَى سَائِر الْمَنْقُول كعين الْإِنْسَان، بل كإنسان الْعين. وَكَانَ قد سَأَلَني من أثر سُؤَاله أَمارَة همتي شرح مشكله، فأنعمت لَهُ وظننت الْأَمر سهلا، فَإِذا نيل سُهَيْل أسهل، لما قد حوت أَحَادِيث من فنون المشكلات ودقائق المعضلات. وَكَانَ الْحميدِي قد جمع كتابا أَشَارَ فِيهِ إِلَى تَفْسِير الْحُرُوف الغريبة فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَيْثُ اللُّغَة. وَمَعْلُوم أَن شرح الْمَعْنى أمس، وكشف الْإِشْكَال الْمَعْنَوِيّ أَجْدَر بِالْبَيَانِ وأحق. فَلَمَّا رَأَيْت طرق شَرحه شاسعة، شمرت عَن سَاق الْجد، مستعينا بِاللَّه ﷿ رَجَاء الثَّوَاب فِي إسعاف الطَّالِب. وَإِلَى الله سُبْحَانَهُ أَرغب فِي تلقيح الْفَهم، وَتَصْحِيح الْقَصْد، وتعجيل النَّفْع، إِنَّه ولي ذَلِك والقادر عَلَيْهِ.
1 / 6
(مُقَدّمَة قبل الشَّرْح)
من الْمَعْلُوم أَنه قد يَأْتِي الحَدِيث وَأَكْثَره ظَاهر لَا يحْتَاج إِلَى شرح، وَإِنَّمَا يشْرَح مَا يشكل. وَقد يَقع على الحَدِيث اعْتِرَاض فيفتقر إِلَى جَوَاب، وَذكر ذَلِك مُتَعَيّن. وَقد يتَرَدَّد الحَدِيث فِي مسانيد، فَنحْن نفسره فِي أول مَا يَلْقَانَا ثمَّ نحيل عَلَيْهِ مَا يَأْتِي بعد ذَلِك، مثل قَوْله: نهى عَن المحاقلة.
وَقد أجرينا إِلَى الِاخْتِصَار مَعَ تَحْصِيل الْمَقْصُود. وَنحن نرجو أَن يَسْتَغْنِي النَّاظر فِي كتَابنَا هَذَا - بِحل مُشكل المشروح - عَن النّظر فِي كتاب، أَو سُؤال عَالم.
وَهَذَا حِين شروعنا فِيمَا انتدبنا لَهُ. وَالله الْمُوفق
قَالَ أَبُو عبد الله الْحميدِي فِي خطْبَة الْكتاب: لما خيف اخْتِلَاط الصَّحِيح بالسقيم انتدب جمَاعَة إِلَى التَّأْلِيف كمالك بن أنس وَابْن جريج وسُفْيَان. قلت: وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الْمُبْتَدِئ بتصانيف الْكتب على ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا: أَنه عبد الْملك بن جريج. وَالثَّانِي: سعيد ابْن أبي عرُوبَة، ذكر الْقَوْلَيْنِ أَبُو بكر الْخَطِيب. وَالثَّالِث: الرّبيع بن
1 / 7
صبيح، قَالَه أَبُو مُحَمَّد الرامَهُرْمُزِي. وَمن قدماء المصنفين: سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة بِمَكَّة، وَمَالك بن أنس بِالْمَدِينَةِ، وَعبد الله بن وهب بِمصْر، وَمعمر وَعبد الرَّزَّاق بِالْيمن، وسُفْيَان الثَّوْريّ وَمُحَمّد بن فُضَيْل ابْن غَزوَان بِالْكُوفَةِ، وَحَمَّاد بن سَلمَة وروح بن عبَادَة بِالْبَصْرَةِ، وهشيم بواسط، وَعبد الله بن الْمُبَارك بخراسان.
1 / 8
وَأول من صنف الْمسند على تراجم الرِّجَال عبيد الله بن مُوسَى الْعَبْسِي، وَأَبُو دَاوُد سُلَيْمَان بن دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، ثمَّ بعدهمَا أَحْمد ابْن حَنْبَل، وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأَبُو خَيْثَمَة، وَعبيد الله بن عمر القواريري.
ثمَّ كثر من جمع المسانيد، واتسعت التصانيف، إِلَّا أَنه لم يفصح أحد بِتَسْمِيَة كِتَابه بِالصَّحِيحِ، وَلَا شدد فِي انتقاء الحَدِيث الْمَجْمُوع فِيهِ قبل البُخَارِيّ. ثمَّ تبعه مُسلم فِي ذَلِك.
قَالَ الْحميدِي وَقد جمعت أَحَادِيث الصَّحَابَة، ورتبتهم على خمس مَرَاتِب: فبدأنا بِالْعشرَةِ، ثمَّ بالمقدمين بعد الْعشْرَة، ثمَّ بالمكثرين، ثمَّ
1 / 9
بالمقلين، ثمَّ بِالنسَاء.
قلت: اعْلَم أَن هَذَا التَّرْتِيب مَا وفى فِيهِ بِالشّرطِ: فَإِنَّهُ ذكر فِي المقدمين خلقا من المؤخرين، وَبَيَانه: أَنه لما ذكر بعد الْعشْرَة ابْن مَسْعُود، وَعمَّارًا - وَكِلَاهُمَا شهد بَدْرًا - كَانَ هَذَا ترتيبا حسنا، فَلَمَّا ذكر بعدهمَا حَارِثَة بن وهب، وَأَبا ذَر، وَحُذَيْفَة، وَأَبا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَجَرِير بن عبد الله، لم يحسن تَقْدِيم هَؤُلَاءِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فيهم من شهد بَدْرًا، وَجَرِير إِنَّمَا أسلم فِي سنة عشر قبل موت رَسُول الله ﷺ بِخَمْسَة أشهر، ثمَّ ذكر بعد جرير جمَاعَة فيهم سُلَيْمَان ابْن صرد، وَهُوَ من الْمُتَأَخِّرين جدا، ثمَّ جَاءَ بعده بِجَمَاعَة، ثمَّ بمعاذ ابْن جبل وَهُوَ من أهل بدر، فِي تَخْلِيط من هَذَا الْجِنْس يعجب مِنْهُ عُلَمَاء الحَدِيث إِذا تأملوه.
ثمَّ إِنَّه ذكر فِي المقلين جمَاعَة لَهُم حَدِيث كثير مِنْهُم عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، فَإِنَّهُ ذكره فِي المقلين، وَذكر لَهُ خَمْسَة وَأَرْبَعين حَدِيثا. وَقد ذكر فِي المقدمين جمَاعَة لكل وَاحِد مِنْهُم حَدِيث أَو حديثان، وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي مَنعه من جعلهم فِي المقلين وَلَيْسوا من المقدمين على مَا بيّنت لَك. وَقد ذكر فِي المقلين خلقا كَانَ يصلح ذكرهم فِي المقدمين: مثل بِلَال، وخباب، والمقداد، وَخلق كثير.
فالترتيب فِي نِهَايَة الْخَطَأ، غير أَنه لَا بُد من الجري على رسمه، فَإِن الْمَقْصُود إِنَّمَا هُوَ الحَدِيث.
1 / 10
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله الَّذِي أحسن إِلَيْنَا إِذْ أنزل علينا أحسن الحَدِيث، ووسم أَئِمَّة أمتنَا: أهل الْفِقْه والْحَدِيث، وَجعل نقاد الروَاة يعْرفُونَ وضع الغواة ويميزون الطّيب من الْخَبيث. أَحْمَده على رجولية الْفَهم، وَأَعُوذ بِهِ من التخبيث، وأشكره على وراثة الْعلم، وأسأله حفظ الْمَوَارِيث، وأستغيث بِزِيَادَة إنعامه وَإِن كنت لَا أستبطئه وَلَا أستريث. وَصلى الله على رَسُوله مُحَمَّد أفضل الْأَنْبِيَاء من لدن آدم وشيث، وَصلى على أَصْحَابه وَأَتْبَاعه مَا أُجِيب مطر أَو غيث. أما بعد. فَإِن الله تَعَالَى حفظ كتَابنَا بِمَا لم يحفظ كتابا قبله، فَقَالَ ﷿ فِي الْأُمَم الْمُتَقَدّمَة: ﴿بِمَا استحفظوا من كتاب الله﴾ [الْمَائِدَة: ٤٤] وَقَالَ فِي كتَابنَا: ﴿وَإِنَّا لَهُ لحافظون﴾ [الْحجر: ٩] . ثمَّ أنعم علينا بِحِفْظ المنقولات عَن نَبينَا ﷺ، فألهم الْعلمَاء جمع ذَلِك، والطلاب الْجد فِي طلبه، حَتَّى سافروا الْبلدَانِ، وهجروا الأوطان، وأنفقوا فِي حفظ ذَلِك قوى الْأَبدَان، وَأقَام جهابذتهم يفتقدون وينتقدون، فيرفعون التحريف ويدفعون التخريف. فَمضى على ذَلِك كثير من الزَّمن، إِلَى أَن لحق ساعي الرغبات الزَّمن، وشيد فتور الهمم فِي طلب الْعلم إِلَى أَن درس، وَصَارَت صبابته الْبَاقِيَة فِي آخر نفس، فَأَما الطَّالِب لَهُ فِي زَمَاننَا فقد فُقد، والمتصدر يَقُول وَلَا يعْتَقد.
1 / 5
وَأعظم الْعُلُوم اضمحلالا علم الْأَثر. على أَن الشَّرْع عَنهُ صدر. فَإِن رَأَيْت طَالبا لَهُ فهمته فِي الْغَالِب السماع، لَا الْفَهم وَلَا الِانْتِفَاع. وَأكْثر الْفُقَهَاء عَنهُ معرضون، وَإِن كَانُوا للْحكم على الحَدِيث يبنون. فواعجبا من وَاضع أسا لم ينظر فِي أرضه، ثمَّ أَخذ يهتم بِطُولِهِ وَعرضه، أَلا يخَاف أَن تكون الأَرْض رملا فينهار، فكم من بَان على شفا جرف هار، وَكم من فَقِيه أفتى بِغَيْر الْمَشْرُوع، وَكم من متعبد تَعب بِحَدِيث مَوْضُوع. وَلما قد أحس بفتور الهمم الَّذِي قد صَار فِي زَمَاننَا، تلقى أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أبي نصر الْحميدِي لحظ متون الصَّحِيحَيْنِ، تسهيلا لاقتباس الْفَوَائِد على المتقاعد، لِأَن اخْتِصَار اللَّفْظ صديق الْحِفْظ. فَصَارَ كِتَابه لقدره فِي نَفسه مقدما على جَمِيع جنسه، فَتعلق بِهِ من قد بَقِي عِنْده من الرَّغْبَة فِي النَّقْل رَمق. وَمَعْلُوم أَن الصَّحِيح بِالْإِضَافَة إِلَى سَائِر الْمَنْقُول كعين الْإِنْسَان، بل كإنسان الْعين. وَكَانَ قد سَأَلَني من أثر سُؤَاله أَمارَة همتي شرح مشكله، فأنعمت لَهُ وظننت الْأَمر سهلا، فَإِذا نيل سُهَيْل أسهل، لما قد حوت أَحَادِيثه من فنون المشكلات ودقائق المعضلات. وَكَانَ الْحميدِي قد جمع كتابا أَشَارَ فِيهِ إِلَى تَفْسِير الْحُرُوف الغربية فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَيْثُ اللُّغَة. وَمَعْلُوم أَن شرح الْمَعْنى أمس، وكشف الْإِشْكَال الْمَعْنَوِيّ أَجْدَر بِالْبَيَانِ وأحق. فَلَمَّا رَأَيْت طرق شَرحه شاسعة، شمرت عَن سَاق الْجد، مستعينا بِاللَّه ﷿ رَجَاء الثَّوَاب فِي إسعاف الطَّالِب. وَإِلَى الله سُبْحَانَهُ أَرغب فِي تلقيح الْفَهم، وَتَصْحِيح الْقَصْد، وتعجيل النَّفْع، إِنَّه ولي ذَلِك والقادر عَلَيْهِ.
1 / 6
مُقَدّمَة قبل الشَّرْح: من الْمَعْلُوم أَنه قد يَأْتِي الحَدِيث وَأَكْثَره ظَاهر لَا يحْتَاج إِلَى شرح، وَإِنَّمَا يشْرَح مَا يشكل. وَقد يَقع على الحَدِيث فِي مسانيد، فَنحْن نفسره فِي أول مَا يَلْقَانَا ثمَّ نحيل عَلَيْهِ مَا يَأْتِي بعد ذَلِك، مثل قَوْله: نهى عَن المحاقلة. وَقد أجرينا إِلَى الِاخْتِصَار مَعَ تَحْصِيل الْمَقْصُود. وَنحن نرجو أَن يَسْتَغْنِي النَّاظر فِي كتَابنَا هَذَا - بِحل مُشكل المشروح - عَن النّظر فِي كتاب، أَو سُؤال عَالم. وَهَذَا حِين شروعنا فِيمَا انتدبنا لَهُ. وَالله الْمُوفق. قَالَ أَبُو عبد الله الْحميدِي فِي خطْبَة الْكتاب: لما خيف اخْتِلَاط الصَّحِيح بالسقيم انتدب جمَاعَة إِلَى التَّأْلِيف كمالك بن أنس وَابْن جريج وسُفْيَان. قلت: وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي الْمُبْتَدِئ بتصانيف الْكتب على ثَلَاثَة أَقْوَال أَحدهَا: أَنه عبد الْملك بن جريج. وَالثَّانِي: سعيد ابْن أبي عرُوبَة، ذكر الْقَوْلَيْنِ أَبُو بكر الْخَطِيب. وَالثَّالِث: الرّبيع بن
1 / 7
صبيح، قَالَه أَبُو مُحَمَّد الرامَهُرْمُزِي. وَمن قدماء المصنفين: سُفْيَان ابْن عُيَيْنَة بِمَكَّة، وَمَالك بن أنس بِالْمَدِينَةِ، وَعبد الله بن وهب بِمصْر، وَمعمر وَعبد الرَّزَّاق بِالْيمن، وسُفْيَان الثَّوْريّ وَمُحَمّد بن فُضَيْل ابْن غَزوَان بِالْكُوفَةِ، وَحَمَّاد بن سَلمَة وروح بن عبَادَة بِالْبَصْرَةِ، وهشيم بواسط، وَعبد الله بن الْمُبَارك بخراسان.
1 / 8
وَأول من صنف الْمسند على تراجم الرِّجَال عبيد الله بن مُوسَى الْعَبْسِي، وَأَبُو دَاوُد سُلَيْمَان بن دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، ثمَّ بعدهمَا أَحْمد ابْن حَنْبَل، وَإِسْحَق بن رَاهَوَيْه وَأَبُو خَيْثَمَة، وَعبيد الله بن عمر القواريري. ثمَّ كثر من جمع المسانيد، واتسعت التصانيف، إِلَّا أَنه لم يفصح أحد بِتَسْمِيَة كِتَابه بِالصَّحِيحِ، وَلَا شدد فِي انتقاء الحَدِيث الْمَجْمُوع فِيهِ قبل البُخَارِيّ. ثمَّ تبعه مُسلم فِي ذَلِك. قَالَ الْحميدِي وَقد جمعت أَحَادِيث الصَّحَابَة، ورتبتهم على خمس مَرَاتِب: فبدأنا بِالْعشرَةِ، ثمَّ بالمقدمين بعد الْعشْرَة، ثمَّ بالمكثرين، ثمَّ
1 / 9
بالمقلين، ثمَّ بِالنسَاء. قلت: اعْلَم أَن هَذَا التَّرْتِيب مَا وفى فِيهِ بِالشّرطِ: فَإِنَّهُ ذكر فِي المقديمن خلقا من المؤخرين، وَبَيَانه: أَنه لما ذكر بعد الْعشْرَة ابْن مَسْعُود، وَعمَّارًا - وَكِلَاهُمَا شهد بَدْرًا - كَانَ هَذَا ترتيبا حسنا، فَلَمَّا ذكر بعدهمَا حَارِثَة بن وهب، وَأَبا ذَر، وَحُذَيْفَة، وَأَبا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَجَرِير بن عبد الله، لم يحسن تَقْدِيم هَؤُلَاءِ، لأنهل يس فيهم من شهد بَدْرًا، وَجَرِير إِنَّمَا أسلم فِي سنة عشر قبل موت رَسُول الله ﷺ بِخَمْسَة أشهر، ثمَّ ذكر بعد جرير جمَاعَة فيهم سُلَيْمَان ابْن صرد، وَهُوَ من الْمُتَأَخِّرين جدا، ثمَّ جَاءَ بعده بِجَمَاعَة، ثمَّ بمعاذ ابْن جبل وَهُوَ من أهل بدر، فِي تَخْلِيط من هَذَا الْجِنْس يعجب مِنْهُ عُلَمَاء الحَدِيث إِذا تأملوه. ثمَّ إِنَّه ذكر فِي المقلين جمَاعَة لَهُم حَدِيث كثير مِنْهُم عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، فَإِنَّهُ ذكره فِي المقلين، وَذكر لَهُ خَمْسَة وَأَرْبَعين حَدِيثا. وَقد ذكر فِي المقدمين جمَاعَة لكل وَاحِد مِنْهُم حَدِيث أَو حديثان، وَلَا أَدْرِي مَا الَّذِي مَنعه من جعلهم فِي المقلين وَلَيْسوا من المقدمين على مَا بيّنت لَك. وَقد ذكر فِي المقلين خلفا كَانَ يصلح ذكرهم فِي المقدمين: مثل بِلَال، وخباب، والمقداد، وَخلق كثير. فالترتيب فِي نِهَايَة الْخَطَأ، غير أَنه لَا بُد من الجري على رسمه، فَإِن الْمَقْصُود إِنَّمَا هُوَ الحَدِيث.
1 / 10
كشف الْمُشكل من مُسْند أبي بكر الصّديق
واسْمه عبد الله بن عُثْمَان. وَفِي تَسْمِيَته بعتيق ثَلَاثَة أَقْوَال:
أَحدهَا: أَن النَّبِي ﷺ قَالَ: " من أَرَادَ أَن ينظر إِلَى عَتيق من النَّار فَلْينْظر إِلَى أبي بكر " روته عَائِشَة.
وَالثَّانِي: أَنه اسْم سمته بِهِ أمه. قَالَه مُوسَى بن طَلْحَة.
وَالثَّالِث: أَنه سمي بذلك لجمال وَجهه، قَالَه اللَّيْث بن سعد. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: لقبه النَّبِي ﷺ بذلك لجمال وَجهه.
وَهُوَ أول رجل أسلم، وَقد أسلم على يَده من الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ خَمْسَة: عُثْمَان، وَطَلْحَة، وَالزُّبَيْر، وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَسعد بن أبي وَقاص.
وَجُمْلَة مَا حفظ لَهُ من الحَدِيث عَن رَسُول الله ﷺ مائَة وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، أخرج لَهُ مِنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ثَمَانِيَة عشر.
١ - / ١ - الحَدِيث الأول: أَنه قَالَ لرَسُول الله ﷺ عَلمنِي دُعَاء
1 / 11
أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتي. قَالَ: " قل اللَّهُمَّ إِنِّي ظلمت نَفسِي ظلما كثيرا، وَلَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت، فَاغْفِر لي مغْفرَة من عنْدك ".
قَوْله " اللَّهُمَّ " قَالَ الزّجاج: قَالَ الْخَلِيل وسيبويه وَجَمِيع النَّحْوِيين الموثوق بعلمهم: اللَّهُمَّ بِمَعْنى يَا الله، وَالْمِيم الْمُشَدّدَة زيدت عوضا من " يَا " لأَنهم لم يَجدوا الْيَاء مَعَ هَذِه الْمِيم فِي كلمة وَاحِدَة، ووجدوا اسْم الله ﷿ مُسْتَعْملا ب " يَا " إِذا لم يذكرُوا الْمِيم، فَعَلمُوا أَن الْمِيم فِي آخر الْكَلِمَة بِمَنْزِلَة " يَا " فِي أَولهَا، والضمة الَّتِي فِي الْهَاء ضمة الِاسْم المنادى الْمُفْرد.
وَقَوله: " ظلمت نَفسِي " الظُّلم: وضع الشَّيْء فِي غير مَوْضِعه، وَقيل: التَّصَرُّف فِيمَا لَا يملك. والحدان مستمران على العَاصِي. وَالظُّلم للنَّفس مُوَافقَة الْهوى فِيمَا يُوجب عقوبتها، وَقد يكون فِيمَا ينقص أجرهَا، أَو يفوتها فَضِيلَة.
وَقَوله: " فَاغْفِر لي " الغفران: تَغْطِيَة الذَّنب بِالْعَفو عَنهُ. والغفر: السّتْر. وَغفر الْخَزّ وَالصُّوف: مَا علا فَوق الثَّوْب مِنْهَا كالزئبر، سمي غفرا لِأَنَّهُ يستر الثَّوْب. وَيُقَال: اصبغ ثَوْبك، فَهُوَ أَغفر للوسخ. وَيُقَال لجنة الرَّأْس مغفر، لِأَنَّهَا تستر الرَّأْس. وَقَالَ بعض
1 / 12
اللغويين: الْمَغْفِرَة مَأْخُوذَة من الغفر، وَهُوَ نبت تداوى بِهِ الْجراح، إِذا ذَر عَلَيْهَا دملها وأبرأها.
فَإِن قَالَ قَائِل: مَا معنى قَوْله: " مغْفرَة من عنْدك "؟ وَهل تكون الْمَغْفِرَة إِلَّا من عِنْده؟ فَالْجَوَاب أَن الْمَعْنى: هَب لي الغفران بِفَضْلِك وَإِن لم أكن أَهلا لَهُ بعملي.
وَهَذَا الحَدِيث من أحسن الْأَدْعِيَة؛ لِأَنَّهُ إِقْرَار بظُلْم النَّفس، واعتراف بالذنب والذنُوب كالمانع من الإنعام، وَالِاعْتِرَاف بهَا يمحوها، فيرتفع الحاجز.
وَهَذَا الدُّعَاء مِمَّا يسْتَحبّ أَن يدعى بِهِ فِي الصَّلَاة قبل التَّسْلِيم، لصِحَّته، وللإنسان أَن يَدْعُو فِي صلَاته بِمَا فِي الْقُرْآن من الدُّعَاء، وَبِمَا صَحَّ فِي النَّقْل عَن النَّبِي ﷺ، وَلَيْسَ لَهُ أَن يَدْعُو بِمَا سوى ذَلِك من كَلَام النَّاس.
٢ - / ٢ - الحَدِيث الثَّانِي: قَالَ أَبُو بكر: نظرت إِلَى أَقْدَام الْمُشْركين وَنحن فِي الْغَار وهم على رؤوسنا، فَقلت: يَا رَسُول الله، لَو أَن أحدهم نظر إِلَى قَدَمَيْهِ أبصرنا تَحت قَدَمَيْهِ. فَقَالَ: " يَا أَبَا بكر، مَا ظَنك بِاثْنَيْنِ، الله ثالثهما ".
الْغَار: النقب فِي الْجَبَل، وَكَانَ هَذَا الْغَار فِي جبل يُقَال لَهُ ثَوْر، وَهُوَ مَعْرُوف بِمَكَّة، أَقَامَا فِيهِ ثَلَاثَة أَيَّام، وَكَانَ طلب الْمُشْركين لَهما لَا
1 / 13
يفتر، فَبعث الله ﷿ حَمَامَتَيْنِ فباضتا، وألهم العنكبوت فَنسجَتْ عِنْد بَاب الْغَار، فَلَمَّا وصل الْمُشْركُونَ إِلَى قريب من الْغَار، قَالُوا: ارْجعُوا، فَلَو كَانَ هَاهُنَا أحد لم تكن هَذِه الْحَمَامَة، وَلَا العنكبوت.
وَفِي هَذَا الحَدِيث مَا يدل على جَوَاز الْهَرَب من الْخَوْف، والتمسك بالأسباب. خلافًا للجهال من المتزهدين الَّذين يَزْعمُونَ أَن التَّوَكُّل رفض الْأَسْبَاب، وَإِنَّمَا التَّوَكُّل فعل الْقلب لإنزال السَّبَب، وَقد قَالَ ﷿: ﴿خُذُوا حذركُمْ﴾ [النِّسَاء: ٧١] فَلَو كَانَ التَّوَكُّل ترك السَّبَب لما قَالَ: ﴿خُذُوا حذركُمْ﴾ .
وَقَوله: " مَا ظَنك بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما " أَي بالنصرة والإعانة، أفتظن أَن يخذلهما، فَرده من النّظر إِلَى الْأَسْبَاب إِلَى الْمُسَبّب.
وَقَالَ بعض الرافضة لبَعض أهل السّنة: من يكون أشرف من خَمْسَة تَحت عباءة سادسهم جِبْرِيل؟ فَقَالَ السّني: اثْنَان فِي الْغَار، ثالثهما الله.
٣ - / ٣ - وَفِي الحَدِيث الثَّالِث: قَالَ الْبَراء بن عَازِب: اشْترى أَبُو بكر من عَازِب رحلا، وَقَالَ: ابْعَثْ معي ابْنك فَحَملته. وَفِي لفظ: فَقَالَ
1 / 14
عَازِب: لَا، حَتَّى تحدثنا كَيفَ فعلت لَيْلَة سريت مَعَ رَسُول الله ﷺ؟ فَقَالَ أَبُو بكر: أسرينا ليلتنا ... .
الرحل للبعير كالسرج للدابة.
وَقَوله: لَا، حَتَّى تحدثنا. كَانَ بعض الْمُتَأَخِّرين من شُيُوخ الْمُحدثين الَّذين لم يَذُوقُوا طعم الْعلم، فَلم يُبَارك لَهُم فِيمَا سَمِعُوهُ لسوء مقاصدهم يحْتَج بِهَذَا فِي جَوَاز أَخذ الْأُجْرَة على التحديث. وَلَا يبعد من ناقل لَا يفهم مَا ينْقل أَن يكون مبلغ علمه الِاحْتِجَاج بِمثل هَذَا، فَأَما من اطلع على سير الْقَوْم بفهم، فَإِنَّهُ يعلم أَنه مَا كَانَ هَذَا بَينهم على وَجه الْأُجْرَة، فَإِن أَبَا بكر لم يكن ليبخل على عَازِب بِالْحَدِيثِ، وَلَا هُوَ مِمَّن يبخل عَلَيْهِ بِحمْل الرحل، وَإِنَّمَا هُوَ انبساط الصّديق إِلَى صديقه، فَإِنَّهُ رُبمَا قَالَ لَهُ: لَا أَقْْضِي حَاجَتك حَتَّى تَأْكُل معي. يُحَقّق هَذَا أَن عازبا من الْأَنْصَار، وهم قد آثروا الْمُهَاجِرين بِأَمْوَالِهِمْ، وأسكنوهم فِي دِيَارهمْ، طلبا لثواب الله ﷿ فَكيف يبخل على أبي بكر بِقَضَاء حَاجَة!
والمهم من الْكَلَام فِي هَذَا أَن نقُول: قد علم أَن حرص الطّلبَة للْعلم قد فتر، لَا بل قد بَطل، فَيَنْبَغِي للْعُلَمَاء أَن يحببوا إِلَيْهِم الْعلم. فَإِذا رأى طَالب الْأَثر أَن الْأُسْتَاذ يُبَاع، وَالْغَالِب على الطّلبَة الْفقر، ترك الطّلب، فَكَانَ هَذَا سَببا لمَوْت السّنة، وَيدخل هَؤُلَاءِ فِي معنى ﴿الَّذين يصدون عَن سَبِيل الله﴾ . وَقد رَأينَا من كَانَ على قانون السّلف فِي نشر الْعلم، فبورك لَهُ فِي حَيَاته وَبعد مماته، ورأينا من كَانَ على السِّيرَة الَّتِي
1 / 15
ذممناها، فَلم يُبَارك لَهُ على غزارة علمه، فنسأل الله ﷿ أَن يرزقنا الْإِخْلَاص فِي الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال، إِنَّه قريب مُجيب.
وَقَوله: أسرينا ليلتنا. يُقَال: سريت وأسريت، فقد جمع فِي هَذَا الحَدِيث بَين اللغتين، حِين قَالَ عَازِب لأبي بكر: كَيفَ صنعت حِين سريت؟ فَقَالَ أَبُو بكر: أسرينا. أخبرنَا مُحَمَّد بن أبي مَنْصُور قَالَ: أخبرنَا ثَابت بن بنْدَار قَالَ: أخبرنَا على بن مُحَمَّد بن قشيش قَالَ: أخبرنَا الْحسن بن عبد الْغفار قَالَ: قرئَ على أبي إِسْحَق الزّجاج وَأَنا أسمع: قَالَ: يُقَال سريت وأسريت: إِذا سرت لَيْلًا ... كَمَا يُقَال: بشرت الرجل بِخَير وأبشرته. وبل من مَرضه وأبل. وَبَدَأَ الله الْخلق وأبدأهم. وَتمّ الله النِّعْمَة وأتمها. وتعسه الله وأتعسه. وثوى الرجل فِي الْمَكَان وأثوى. وَجَاز الرجل الْوَادي وَأَجَازَهُ. وخم اللَّحْم وأخم. وخدجت النَّاقة وأخدجت. ودجى اللَّيْل وأدجى. ودبر وَأدبر. وداد الطَّعَام وأداد. وراع الطَّعَام وأراع. ورث الشَّيْء وأرث: إِذا أخلق. ورعدت السَّمَاء وأرعدت. وزهرت الأَرْض وأزهرت: كثر زهرها. وسنفت النَّاقة وأسنفتها: إِذا كففتها بزمامها. وشكل الْأَمر عَليّ وأشكل. وشجاني الْأَمر وأشجاني. وصل اللَّحْم وأصل:
1 / 16
إِذا تغير. وصفقت الْبَاب وأصفقته. وضاء الْقَمَر وأضاء. وطشت السَّمَاء وأطشت. وعرشت الْكَرم وأعرشته: إِذا جعلت لَهُ عَرِيشًا. وعصفت الرّيح وأعصفت: إِذا اشْتَدَّ هبوبها. وعتم اللَّيْل وأعتم. وغل الرجل فِي الْغَنِيمَة وأغل. وغمدت السَّيْف وأغمدته. وغبس اللَّيْل وأغبس. وغبش وأغبش. وغسق وأغسق. وغطش وأغطش. وغامت السَّمَاء وأغامت. وفتيت الرجل وأفتيته. وَقلت الرجل البيع وأقلته. متع الله بك وأمتع بك. ومطرت السَّمَاء وأمطرت. ومح الثَّوْب وأمح: إِذا خلق. ومرأني الطَّعَام وأمرأني. ومهرت الْمَرْأَة وأمهرتها ومكر الرجل وأمكر. ومذى وأمذى. وَمنى وأمنى. ومحضته الود وأمحضته. ونكرت الشَّيْء وأنكرته. ونويت الصَّوْم وأنويته. ووفيت بالعهد وأوفيت. ووتدت الوتد وأوتدته. وهديت الْمَرْأَة إِلَى زَوجهَا وأهديتها.
وَقَوله: أسرينا ليلتنا: يَعْنِي بعد خُرُوجهمْ من الْغَار.
وَقَوله: حَتَّى قَامَ قَائِم الظهيرة: يُرِيد بِهِ ظُهُور الْحر واشتداده.
وَمعنى رفعت لنا صَخْرَة: بَانَتْ وَظَهَرت.
وَقَوله: وَأَنا أنفض مَا حولك: يُرِيد أنظر: هَل أرى عدوا. والنفضة: قوم يبعثون فِي الأَرْض ينظرُونَ هَل بهَا خوف أَو عَدو، وَكَذَلِكَ النفيضة. وَالْعرب تَقول: " إِذا تَكَلَّمت لَيْلًا فاخفض، وَإِذا تَكَلَّمت نَهَارا فانفض " أَي الْتفت، هَل ترى من تكره.
وَقَوله لِلرَّاعِي: لمن أَنْت؟ فَقَالَ: لرجل من أهل الْمَدِينَة. وَرُبمَا
1 / 17
ظن ظان أَن المُرَاد بِالْمَدِينَةِ دَار الْهِجْرَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، إِنَّمَا أَرَادَ بهَا مَكَّة، وكل بلد يُسمى مَدِينَة.
وَفِي اشتقاق الْمَدِينَة قَولَانِ:
أَحدهمَا: أَنَّهَا من الدّين، وَالدّين: الطَّاعَة، فسميت بِمَدِينَة لِأَنَّهَا تقوم فِيهَا الطَّاعَة وَالشَّهَادَة.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا من دنت الْقَوْم: أَي ملكتهم، فسميت مَدِينَة لِأَن أَهلهَا دينوا: أَي ملكوا. يُقَال: دَان فلَان بني فلَان: أَي ملكهم، قَالَ النَّابِغَة:
(بعثت على الْمَدِينَة خير رَاع ... فَأَنت إمامها وَالنَّاس دين)
وَيُقَال للْأمة مَدِينَة، لِأَنَّهَا مَمْلُوكَة. قَالَ الأخطل:
(ربت وَربا فِي حجرها ابْن مَدِينَة ... يظل على مسحاته يتركل)
يُرِيد: ابْن أمة فَإِن قَالَ قَائِل: لم صرفت الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة، وَهَذَا الِاسْم إِذا أطلق أُرِيد بِهِ دَار الْهِجْرَة؟
فَالْجَوَاب: أَن الْقَوْم إِنَّمَا سَارُوا يَوْمًا وَلَيْلَة، ثمَّ لقوا الرَّاعِي، وَقد علم أَن راعي الْمَدِينَة لَا يرْعَى بِقرب مَكَّة لبعد الْمسَافَة. وَفِي بعض
1 / 18