كشف اللثام شرح عمدة الأحكام
تأليف
الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن سالم السفاريني النابلسي الحنبلي
المولود سنة (١١١٤ هـ) - والمتوفى سنة (١١٨٨ هـ) - رحمه الله تعالى -
اعتنى به تحقيقا وضبطا وتخريجا
نور الدين طالب
Bog aan la aqoon
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة / 2
كَشْفُ اللِّثَامِ شَرح عُمْدَةِ الأَحْكَامِ
مقدمة / 3
جَمِيعُ الحُقُوقِ مَحْفُوظَة
الطَّبْعَةُ الأُولَى
١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
رَقم الْإِيدَاع بمَكتَب الشؤون الفَنيَّة
٢٢/ ٢٠٠٧ م
قطَاع المسَاجْد - مَكتب الشؤون الفَنيَّة
الكويت - الرقعي - شَارِع مُحَمَّد بني الْقَاسِم
بدالة: ٤٨٩٢٧٨٥ - داخلي: (٤٠٤)
فاكس: ٥٣٧٨٤٤٧
موقعنا على الإنترنت
www.islam.gov.kw
قطَاع المسَاجْد - مَكتب الشؤون الفَنيَّة
قَامَت بعمليات التنضيد الضوئي والتصحيح العلمي والإخراج الفني والطباعة
دَار النَّوَادِر لصَاحِبهَا ومديرها الْعَام نور الدّين طَالب
سوريا - دمَشق - ص. ب: ٣٤٣٠٦
لبنان - بَيروت - ص. ب: ٥١٨٠/ ١٤
هَاتِف: ٢٢٢٧٠٠١ (٠٠٩٦٣١١) - فاكس: ٢٢٢٧٠١١ (٠٠٩٦٣١١)
www.daralnawader.com
مقدمة / 4
تصدير
الحمد لله الذي غمر العِبَاد بإنعامه، وعَمَر قلوب العُبّاد بأنوار الدّين وأحكامه، وتعهّدهم بما شرع لهم بلطيف حكمته وأحكامه، أحمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه يدوم بدوامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في إيجاده وإعدامه، وأشهد أن سيِّدنا محمّدًا عبدُه ورسولُه أفضل مبلّغٍ عنه لحلاله وحرامه، اللهم صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه العاملين بشرائع دينه وأحكامه.
أمّا بعد:
فمن أجلّ العلومِ وأرفعِها عند الله قدرًا، وأعزّها عند أهل العلم مكانةً وشرفًا: علمُ الفقه؛ إذ به يكون المسلم على بصيرةٍ من دينه، وثقةٍ من أفعاله وأقواله، وقد دَأَبَ علماءُ الأمّة منذ صدْرها الأول إلى يومنا هذا على التّأليف في هذا العلم المبارك، وتبيانه للنّاس، وتوضيح مسائله وتعليل أحكامه، فألّفُوا فيه الكتبَ والرّسائلَ طويلةً ومختصرة؛ مراعاةً لأحوالِ القارئين ومستوياتهم.
وقد ارتأى قطاع المساجد بوزارة الأوقاف والشّؤون الإِسلاميّة أن يُسهم في خدمة كتاب: "كشف اللِّثام بشرح عمدة الأحكام" للإمام السفّارينيّ، وهو من الكتب الفقهيّة المهمة النّافعة التي اعتنت بشرح أحاديث الأحكام، فجمعت بذلك بين الحديث وفِقْهِهِ.
مقدمة / 5
* إنّ قطاع المساجد -مُمثَّلًا بمكتب الشّؤون الفنّية- يحرص دائمًا على اقتناء كلّ مفيدٍ وجديدٍ من الكتب الشّرعيّة النّافعة، وتوزيعها على الدّعاة وطلبة العلم، وعلى الأئمّة والخطباء، تواصلًا معهم، وإثراءً لمعلوماتهم، وإعانةً لهم على ما تحمّلوا من أمانة الكلمة وإبلاع الرّسالة، وزادًا علميًّا لهم، لِما اشتملت عليه هذه المصنّفات من الفوائد العلميّة والآداب المرعيّة.
* وقطاع المساجد بوزارة الأوقاف والشّؤون الإِسلاميّة بإسهامه بهذا الكتاب يبقى متحفّزًا لنشْر غيره مِن الكتُب النّافعة المختارة مِن جميع الفنون، حرصًا على نشْر العلم وبثّ الخير وإصلاح النّاس.
نسأل الله تعالى التّوفيق والسّداد، والهداية والرَّشاد، هو حسبُنا ونعم الوكيل.
والله تعالى أعلم
الوكيل المساعد لشؤون المساجد
عبد الله محمد شهاب
١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
مقدمة / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
الحمدُ لله منزلِ الشرائع والأحكام، وجاعلِ سنةِ نبيِّهِ ﷺ مبينةً للحلال والحرام، والهادي من اتبعَ رضوانَه سبلَ السلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ تحقيق على الدوام، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسوله، أرسلَه رحمةً للأنام، وعلى آله وصحبه الكرام.
أما بعد:
فإن الله ﷿ قد أنزل كتابه الكريم، وتكفَّل لهذه الأمة بحفظه، فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
وندب رسولَه الأمين محمدًا ﷺ إلى الأخذ به، والتبليغ عنه، وبيانِ ما أشكلَ منه بقوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٤٤]، "والذكر: اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه ﷺ من قرآنٍ، أو من سُنَّةٍ وحيًا يبيِّنُ بها القرآن، فصحَّ أنه ﵊ مأمور ببيان القرآن للناس" (١).
وما قَبَضَ اللهُ رسولَه ﷺ حتى أكملَ له ولأمته الدين، قال تعالى:
_________
(١) "الإحكام" لابن حزم (١/ ١١٥).
مقدمة / 7
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣].
قال عمه العباس ﵁: "والله ما مات رسولُ الله ﷺ حتى ترك السبيلَ نهجًا واضحًا، وأحلَّ الحلال، وحرَّمَ الحرام، ونكح وطَلَّق، وحارب وسالَم، وما كان راعي غنم يتبع بها رؤوس الجبال، يخبط عليها العِضاه بمخبطته، ويَمْدُر حوضَها بيده، بأنصبَ ولا أدأبَ من رسول الله ﷺ كان فيكم" (١).
ولما كان طريقُ معرفة سنة النبي ﷺ النقلَ والرواية، وجب أن يكون السبيلُ إلى معرفة صحَّتهما محفوظًا أيضًا، ولهذا اختار الله ﷿ رجالًا جعلهم حَفَظَةَ الدينِ وخَزَنتَهُ، وأوعيةَ العلمِ وحَمَلَتَهُ، "أمعنوا في الحفظ، وأكثروا في الكتابة، وأفرطوا في الرحلة، وواظبوا على السنن والمذاكرة، والتصنيف والدراسة، حتى إن أحدهم لو سُئلَ عن عدد الأحرف في السنن لكل سُنَّةٍ منها، عدَّها عدًّا، ولو زيد فيها ألف أو واو، لأخرجها طوعًا، ولأظهرها ديانة" (٢)، "سلكوا محجَّةَ الصالحين، واتبعوا آثار السلف من الماضين، ودفعوا أهلَ البدع والمخالِفين بسنن رسول الله ﷺ وعلى آله أجمعين، آثروا قطعَ المفاوزِ والقِفار، على التنعُّم في الدِّمَنِ والأوطار، فعقولهم بلذاذة السنة غامرة، وقلوبهم بالرضاء في الأحوال عامرة، تعلُّمُ السنن سرورُهم، ومجالسُ العلم حُبورُهم" (٣). فلله
_________
(١) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (٢/ ٢٦٧)، والدارمي في "سننه" (٨٣)، من حديث عكرمة، مرسلًا.
(٢) "مقدمة المجروحين" لابن حبان (ص: ٥٧ - ٥٨).
(٣) "معرفة علوم الحديث" للحاكم (ص: ٢ - ٣).
مقدمة / 8
درُّهم، كم ذَبُّوا عن هذا الدين تحريفَ الجاهلين، وحفظوه من تأويل الغالين، ولولاهم لَدَرَسَتِ الآثار" واضمحلَّت الأخبار.
وقد اعتنوا ﵏ بحفظ أصولها، وجمع مفرداتها، وبيان حال رجالاتها، وشرحِ غريب مفرداتها، وقرَّبوا حفظها لكل مسلم، واختلفت مقاصدُهم في جمعها وتأليفها وترتيبها، فمنهم من اعتمد على ذكر أحاديث الترغيب والترهيب، ومنهم من قصد جمع أحاديث الأحكام، وغير ذلك.
وكان كتاب: "العمدة في الأحكام، في معالم الحلال والحرام، عن خير الأنام محمَّد ﵊ "، مما اتفق عليه الشيخان، للإمام الحافظِ الكبير تقيِّ الدين أبي محمدٍ عبدِ الغنيِّ بنِ عبدِ الواحدِ بنِ عليِّ بنِ سرورٍ المقدسيِّ ﵀ من بين تلك الكتب المعتمدة في الإِسلام، التي اشتملت على جملة من الأحاديث النبوية التي ترجع أصول الأحكام إليها، ويعتمد علماء أهل الإِسلام عليها، "وقد طار -كتابه- في الخافِقَين ذكرُه، وذاع بين الأئمة نشرُه، واعتنى الناس بحفظه وتفهمه، وأكبوا على تعليمه وتعلمه، لا جرم اعتنى الأئمة بشرحه، وانتدبوا لإبراز معانيه عن سهام قَدْحِه" (١).
وكان من أولئك العلماء الذي عكفوا على شرحه، وبيان أحكامه ومسائله: الإمامُ، العلامةُ، بقيةُ السلف، وقدوةُ الخلف، الشيخُ محمدُ بنُ أحمدَ السَّفارينيُّ الحنبليُّ، الذي يعتبر كتابه هو الأولَ من بين شروح العمدة الذي تناول فقه الحنابلة، والذي جاء كتاب "العمدة" لتقويته واعتماده، وهو الأول من بين شروح العمدة الذي اعتمد كلام محققي علماء الإِسلام
_________
(١) "النكت على العمدة" للزركشي (ص: ٢).
مقدمة / 9
الأماثل؛ كشيخ الإِسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم، والإمام ابن دقيق العيد، والحافظ ابن حجر العسقلاني، وغيرهم.
وقد بذل جهده ﵀ في تنقيح مسائله، وتوضيح دلائله، ولم يَأْلُ جهدًا في زيادة تبينيه وتمكينه، وجمعه وتأليفه، وتحريره وتصنيفه، وقد عزا -غالبًا- كلَّ قول لقائله، جامعًا مادةَ كتابه هذا من أكثر من مئة كتاب نقل منها، وبحسب مواد أصلها تزيد على الألوف.
ومن تأمل هذا الشرح بالإنصافِ، ظهر له أنه نسيجُ وحدِه في معناه، وفريدُ عِقْدِه في مبناه.
فإن شاء المُطالع، تناولَ منه أحاديثَ نبويةً، وآثارًا سلفيةً.
وإن شاء، اقتبس منه أحكاما فقهيةً وآدابًا شرعيةً.
وإن شاء معرفةَ أخبارِ الصحابةِ وغيرهم، ظفر فيه بشذرة عليَّة.
وإن شاء تقويم لغته، وجد فيه جمهرة من المواد اللغوية والنكاتِ الأدبية.
وإن شاء الوقوف على كلام العلماء المحققين وجده مجموعًا في حُلَّةٍ ذَهبية.
ولله درُّ الإِمام السفارينيِّ حيث يقول: [من الطويل]
جزى الله خيرًا مَنْ تأملَ تأليفي ... وقابلَ بالإغضاء وضَعْي وتصنيفي
فما ليَ شيء غيرَ أني جمعتُه ... وحَرَّرته من غير شَيْنٍ وتحريفِ
وضمَّنتُه علمًا نفيسًا وكنتُ في ... مناقشتي كشَّافًا عن كلِّ ذي زيفِ
وقمتُ على ساقِ التقشُّفِ ضارعًا ... إلى الله في الأسحار بالذل والخوفِ
مقدمة / 10
عسى خالقي يمحو ذنوبي بمنِّهِ ... ويمنحُني الرضوانَ من غيرِ تَعْنيف (١)
وقد تمَّ -بفضل الله وتوفيقه- التقديمُ لهذا السفر الجليل بفصلين هامين، تضمن الأول منهما ترجمةً حافلة للإمام السفاريني، وكان الآخر لدراسة الكتاب، وبيان ما فيه، وفي كل منهما مباحثُ متعددة، وبالله التأييد.
وفي الختام: لا بد لي من أن أتوجه بالشكر الجزيل والتقدير الأثيل لكل من ساهم في إخراج هذا الكتاب إلى حيز الوجود -بعد شكري وتذللي لله تعالى الذي أعان عليه، ويَسَّرَ أسباب العمل فيه-، وهم:
أولًا -وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية في دولة الكويت- قطاع المساجد: والتي قامت بتبني طبع هذا الكتاب وتوزيعِه على طلبة العلم مجانًا لوجه الله تعالى، فلكل من ساهم بذلك أجرُه وثوابُه عند الله تعالى.
ثانيًا: فضيلة الشيخ المحبوب: أبو الحارث فيصلُ بنُ يوسفَ العلي -حفظه الله تعالى-: والذي تفضل أولًا -كعادته- بإرسال النسخ الخطية للكتاب، حاثًّا ومشجعًا على تحقيقه، وذلك في أثناء زيارته لنا بالشام سنة ١٤٢٥ هـ، ثم لسعيه المبارك الحثيث لنشر هذا الكتاب لدى وزراة الأوقاف والشؤون الإِسلامية بدولة الكويت، ضمن إدارته المباركة في مكتب الشؤون الفنية بقطاع المساجد، فالله وحده يجزيه أجره.
ثالثًا: فضيلة الشيخ المبارك محمدُ بنُ ناصرٍ العجمي -حفظه الله تعالى-: الذي تابع وشجع تحقيق الكتاب، ووفر بعضَ مصادرِه ومراجِعِه، وحثَّ وأثنى على العمل، وزكّى نشرَه وتوزيعَه، فالله يجزيه خير الجزاء.
_________
(١) "البحور الزاخرة في علوم الآخرة" للسفاريني (٢/ ٦١٤).
مقدمة / 11
رابعًا: اللجنة العلمية التي شاركت معي في تحقيق هذا الكتاب، وهم من خيرة طلبة العلم وحملته في بلاد الشام، وأخص بالذكر منهم:
١ - أ. زكريا عبد العزيز الجاسم - من قسم الإدارة والتنفيذ.
٢ - أ. محمد خلوف العبد الله - من قسم التحقيق والدراسات.
٣ - أ. عبد الرحمن بن محمد الكشك - من قسم الضبط اللغوي.
كما أشكر جميع الإخوة الأفاضل، والأخوات الفاضلات من المتعاونين مع مكتب التحقيق والدراسات بدار النوادر الذين كان لهم دور موفَّق في مجال النسخ والمراقبة والمقابلة والتنضيد والتصحيح والفهرسة لهذا الكتاب.
خامسًا: كما أشكر آخرًا، وحقَّهم عليَّ أن يُذكروا أولًا:
* والديَّ الكريمين على رضاهما ودعائهما الدائم الذي لا ينقطع.
* وزوجتي الفاضلة، على تحمُّلها معي أعباءَ القيام بهذا العمل، وصبرِها، ورعايتها للمنزل والأسرة.
* وإخوتي وأخواتي الأفاضل على دعائهم وتشجيعهم الدائم.
هذا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
وكتبه
نور الدين طالب
مقدمة / 12
الفصل الأول
ترجمة الإمام السفاريني
مقدمة / 13
المبحث الأول
اسمه ونسبه وولادته، ونشأته وطلبه للعلم
* اسمه ونسبه وولادته:
هو الإمامُ، المحدِّثُ، المتعبِّدُ، الزاهدُ، الصالحُ، أبو العون (١) وأبو عبد الله (٢)، محمدُ بنُ أحمدَ بنِ سالمِ بنِ سليمانَ السفارينيُّ، النابلسيُّ، الدمشقيُّ (٣)، الحنبليُّ.
ولد -كما وُجد بخطه- سنة (١١١٤ هـ) بقرية سفَّارين من قرى نابُلُسَ في فلسطين (٤).
* نشأته وطلبه للعلم:
نشأ ﵀ بقريته سفارين، وقرأ القرآن سنة (١١٣١ هـ) في نابلس، واشتغل بالعلم قليلًا، ثم رحل منها بقصد الطلب إلى دمشق
_________
(١) انظر: "سلك الدرر" للمرادي (٤/ ٣١)، و"النعت الأكمل" للغزي (ص: ٣٠١).
(٢) انظر: "المعجم المختص" (ص: ٦٤٢)، وعنه الجبرتي في "عجائب الآثار" (١/ ٤٦٨).
(٣) قال السفاريني ﵀ في "إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: ٢٢٦): "فأقول، وأنا دمشقيٌّ استوطنت دمشق الشام في رحلتي زهاء عن خمس سنين، ومتى سكن الإنسان ببلد ثلاث سنين فصاعدًا، صحَّ أن يُنسب إليها".
(٤) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: ٦٤٢).
مقدمة / 15
سنة (١١٣٣ هـ)، ومكث بها قدر خمس سنين، وأخذ بها في طلب العلم مشمِّرًا عن ساق الاجتهاد، فقرأ على المتصدِّرين إذ ذاك بها من الأئمة، فقرأ بها على الشيخ عبدِ القادرِ التغلبى، وأخذ عنه الفقهَ الحنبليَّ، وكان الشيخُ يكرمه، ويقدمه على غيره، وقد ذاكره في عدة مباحث من شرحه على "الدليل"، وأجازه (١).
كما قرأ على الشيخ عبدِ الغنيِّ النابلسيِّ الحنفيِّ، وأخذ عنه فقهَ الحنفية.
وعلى الشيخ أبي المعالي بنِ زينِ الدين عبدِ الرحمنِ العمريِّ المعروفِ بابن الغَزِّيِّ، وأخذ عنه فقهَ الشافعية (٢).
كما لازم الشيخ إسماعيلَ العَجْلونيَّ خمس سنين في الثلاثة أشهر من كل سنة: رجب، وشعبان، ورمضان، بعد عصر كل يوم، مع مراجعة شروح البخاري (٣).
كما كان يحضر دروس الشيخ أحمد الغزي في "صحيح البخاري"، وكان يقدمه ويجلُّه (٤).
وقرأ أيضًا على الشيخ العلامة الشهاب المنينيِّ الحنفيِّ.
ثم حج سنة (١١٤٨ هـ)، فسمع بالمدينة على الشيخ محمد حياة السِّنْدِيِّ، وتفقه على عدة من المشايخ بها، وأدرك بالمدينة صهرَ الشيخِ محمد حياة الشيخَ محمدًا الدقاق (٥)، وقرأ عليه أشياء.
_________
(١) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: ٦٤٢).
(٢) انظر: "ثبت السفاريني" (ص: ٥٩، ٦٥، ٦٧).
(٣) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: ١٧٨).
(٤) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: ١٨٧).
(٥) انظر: "فهرس الفهارس" للكتاني (٢/ ١٠٠٣).
مقدمة / 16
واجتمع بالسيد مصطفى البكريِّ، فلازمه، وقرأ عليه مصنفاته، وقد أجازوه جميعا (١).
وقد حصل له ﵀ في طلبه للعلم ملاحظةٌ ربانية، حتى حصَّل في الزمن اليسير ما لم يحصِّلْه غيرُه في الزمن الكثير (٢).
وقد قضى ﵀ أربعين سنة في الإملاء والإفادة والتدريس (٣).
* * *
_________
(١) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: ٦٤٢).
(٢) انظر: "سلك الدرر" للمرادي (٤/ ٣١)، و"إجازة العقاد" (ص: ٢٩٦).
(٣) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: ٦٤٧).
مقدمة / 17
المبحث الثاني
أخلاقه وصفاته
قال تلميذه الزَّبيديُّ: وكان المترجمُ شيخًا ذا شيبة منورة، مهابًا، جميلَ الشكل، ناصرًا للسنة، قامعًا للبدعة، قوالًا بالحق، مقبلًا على شأنه، مداومًا على قيام الليل في المسجد، ملازمًا على نشر علوم الحديث، محبًا في أهله (١).
وكان يُدعى للملمَّات، ويُقصد لتفريج المهمَّات، ذا رأي صائب، وفهم ثاقب، جسورًا على ردع الظالمين، وزجر المغترين، إذا رأى منكرًا، أخذته رعدة، وعلا صوته من شدة الحدة، وإذا سكن غيظه، وبرد قيظه، يقطر رقَّةً ولطافة، وحلاوة وظَرافة (٢).
وقال الغزي: وكان ﵀ جليلًا جميلًا، صاحبَ سَمْتٍ ووقار، ومهابة واعتبار، وكان كثيرَ العبادة والأوراد، ملازمًا على قيام الليل، ودائمًا يحث الناس عليه، وكانت مجالسه لا تخلو من فائدة، ولا تعرو عن عائدة، وكان مُشْغِلًا جميعَ أوقاته بالإفادة والاستفادة، يطرح المسائل على الطلاب والأقران، ويدور بينه وبينهم المحاورةُ في التحرير والإتقان، وكان صادعًا بالحق، لا يماري فيه، ولا يهاب أحدًا، والجميع من أعيان بلده وأمرائها
_________
(١) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: ٦٤٦).
(٢) انظر: "سلك الدرر" للمرادي (ص: ٤/ ٣٢).
مقدمة / 18
يهابونه، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وكان خيرًا جوادًا، لا يقتني شيئًا من الأمتعة والأسباب الدنيوية سوى كتب العلم، فإنه كان حريصًا على جمعها، ويقول دائمًا: أنا فقير من الكتب العلمية، وكان كل ما يدخل إلى يده من الدنيا ينفقه، وعاش مدة عمره في بلده عزيزًا موقرًا محتشمًا (١).
ومن تواضعه ﵀ ما قاله عن نفسه لما استجازه الشيخُ عبدُ القادر بنُ خليل، فقال: "ولو رأى من استجازه وحقق حلاه، لقال: تسمعَ بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه، ولو استنصحني عن نفسي، واستفسرني عن رأيي وحدسي، لقلت له عن حالي: لقد استسمَنْتَ ذا ورم، ونَفَخْتْ من غير ذي ضَرَم ..، بضاعتي مُزجاة، وصناعتي مقلاة، ما حل من التضلع من معادن العلوم الدقيقة" (٢).
ومن عجيب ما جرى للإمام السفاريني ﵀ مما يدل على حسن أدبه وتواضعه، ما ساقه في "إجازته للزبيدي"، فقال: ومن مشايخي الذين أخذتُ عنهم: الشيخُ موسى المحاسني ...، ولكني لم أستجزه، لأمر حدث منه، وهو أن بعض الوُشاة أنهى إليه أني سُئلت: من أفضل: الشيخ المنيني، أو الشيخ المحاسني؟ فزعم الواشون أني فضَّلتُ المنيني عليه، فكتب لي بهذه الأبيات: [من الكامل]
لا تَزْدَرِ العلماءَ بالأشعارِ ... وتَحُطَّ قَدرًا من أُولي المِقْدارِ
أتظنُّ سَفَّارينَ تُخرجُ عالِمًا ... يُنْشِي القريضَ بدقَّةِ الأنظارِ
هلَّا أخذتَ على الشيوخ تَأَدُّبًا ... كي ترتَقي دَرَج العُلا بفَخارِ
واللِّينُ منك لاحَ في مرآتِه ... لا زِلْتَ تكشِفُ مُشْكِلَ الأخبارِ
_________
(١) انظر: "النعت الأكمل" للغزي (ص: ٣٠٢).
(٢) انظر: "إجازة عبد القادر بن خليل" (ص: ٢١٤).
مقدمة / 19
فأجبته:
قُلْ للإمامِ مهذِّبِ الأشعارِ ... مُنْشِي القَريضِ ومُسْنِدِ الأخبارِ
تفديكَ نفسي يا أديبَ زمانِنا ... يا ذا الحِجَى يا عالِيَ المقدارِ
مَنْ قال عَنِّي يا همامُ بأنني ... أُزْري بأهلِ الفضل والآثارِ
عَجَبًا لمن أضحى فريدًا في الورى ... يُصْغي لقولِ مُفَنِّدٍ مكَّار
مقصودُه وَشْيُ الحديثِ ووضعُهُ ... فقبِلْتَهُ من غيرِ ما إنكارِ
وغدوتَ مفتخرًا على صَبٍّ إذا ... جَنَّ الظلامُ بَكى منَ الأكدارِ
ورشقتَهُ بسهامِ نظمِك مُزْدَرٍ ... للناس بالتحقيرِ والإصغارِ
هَبْ أن سَفَّارينَ لم تُخْرِجْ فَتًى ... ذا فطنةٍ بنتائج الأفكارِ
أيُباحُ عُجْبُ المرءِ يا مولايَ في ... شرعِ النبيِّ المصطفى المُختارِ
لا زلتَ في أَوْجِ المكارِم راقيًا ... تُنشي القريضَ بهيبةٍ ووَقارِ
ما حَرَّكَ الشوقَ التليد صبابةً ... صَدْحُ الحَمام ونغمةُ الهَزَّارِ
فجاء واعتذر، ولكني لم أقبل عذره، فجاء يومًا بابنه، وقال له: قم قَبِّل يدَ عمك ليسمحَ لأبيك عما بدر منه، فقلت له: أنا أرجو منك السماح (١).
وبالجملة: فقد جمع هذا الإمامُ بين الأمانة والفقه، والديانة والصيانة، وفنون العلم والصدق، وحسن السَّمْتِ والخلق والتعبُّد، وطولِ الصمت عَمّا لا يعني، وكان محمودَ السيرة، نافذَ الكلمة، رفيعَ المنزلة عندَ الخاصِّ والعام، سخيَّ النفس، كريمًا بما يملك، مُهابًا مُعظمًا، عليه أنوارُ العلم بادية (٢).
* * *
_________
(١) انظر: "إجازة الزبيدي" (ص: ١٨٩ - ١٩٠).
(٢) انظر: "السحب الوابلة" لابن حميد (٢/ ٨٤١).
مقدمة / 20
المبحث الثالث
عقيدته ومذهبه
كان الإِمام السفاريني ﵀ ناصرًا للسنة، قامعًا للبدعة، قوالًا بالحق (١)، فكان حنبليَّ الأصول، يقرر عقيدته على طريقة أهل الحديث، باتباع المأثور، واقتفاء السلف الصالح في سائر الأمور (٢)، وهو القائل ﵀: [من الطويل]
عليكَ بآثارِ الرسول وصحبهِ ... ودع عنكَ آراءَ الرجالِ فتغلِبُ
وإنْ شئتَ أَنْ تخترْ لنفسِكَ مذهَبًا ... فقولُ ابنِ حنبلْ يا أخا العلمِ أصوَبُ (٣)
ويقول ﵀: اعلم أن مذهب الحنابلة هو مذهب السلف، فيصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسولُه، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل، فالله تعالى ذاث لا تشبه الذوات، متصفةٌ بصفات الكمال التي لا تشبه الصفات من المحدثات، فإذا ورد القرآن العظيم، وصحَّت سنةُ النبيِّ الكريم، عليه أفضلُ الصلاة والتسليم بوصف للباري جلَّ شأنه، تلقيناه بالقبول والتسليم، ووجب إثباتُه له على الوجه الذي ورد، ونَكِلُ معناه للعزيز الحكيم، ولا نعدل به عن حقيقة وصفه، ولا نُلْحِدُ في
_________
(١) انظر: "المعجم المختص" للزبيدي (ص: ٦٤٦).
(٢) انظر: "ثبت السفاريني" (ص: ٢٩).
(٣) انظر: "الذخائر لشرح منظومة الكبائر" للسفاريني (ص: ٣٨٢).
مقدمة / 21