نادت سوداء تجلى ... بحسنها الظلمات
كليلة الهجر تنسى ... بوصلها السيئات
ماذا يعيبون منها ... وكلها حسنات
أخذه من قول الشريف الرضي، وقد أسرف بعض حاضري في استحسان قول ابن الرومي في قصيدته القافية يصف فيها السوداء وهي مشهورة، فقال الشريف أبياتًا:
سواد يود البدر لو كان رقعة ... بجلدته أو شق في وجهه فما
سكنت سواد القلب إذا كنت شبهه ... فلم أدر من قد عرض القلب منكما
وما كان سهم الطرف لولا سواده ... ليبلغ حبات القلوب إذا رمى
إذا كنت تهوى الظبي ألمى فلا تعب ... جنوني على ظبي كله لمى
والمراد البيت الأخير، وأخذ الشريف هذا المعنى من قول إبراهيم بن سيابه، شاعر الأغاني، لأنه كان يهوى جارية سوداء، فلامه أهله فيها فأنشد وقد أبدع وأحسن:
يكون الخال في وجه قبيح ... فيكسوه الملاحة والجمالا
فكيف يلام مشغوف بخود ... يراها كلها في العين خالا
المقدمة الثانية
في حقيقة الخال معنى وسبب وجوده في الأبشار وما تدل عليه الفراسة في اختصاصه بمكان دون غيره.
يعتقد الحكماء أن الخيلان دم ينشق من بعض العروق ويحتبس في مكان يشف الجلد عنه فيرى هنالك شامة، كما يشاهد الخال في من حصل له في جسده رضة، فإن الدم يختنق تحت الجلد، ويرى أيامًا كالشامة إلى أن تقوى الطبيعة على دفعه فيتضاءل وتفنى مادته، وفي الشامات يرى أسود، فإن كان الدم محترقًا غلب السواد عليه، كما يحصل لمن لازم الشمس معترضًا لها من دون حائل والأشدية والأضعفية في السواد بحسب الاحتراق، كما في بلاد النوبة والزنج، وألوان أناسيهما لقربهما المفرط من الشمس، وكما في بلاد الهند، ولون أناسيه اعتدال اللون [لاعتدال القرب من الشمس] . ألا ترى بعض الصقالبة من بعدهم عن الشمس، كيف أن لونهم البياض الجصي، وفي الشامات ما يميل سواده إلى الحمرة، فإن كان الدم غير محترق وهو في حالة تشبه الغليان كان اللون مائلًا إلى الحمرة، لأن هذه الحالة قريبة من الاعتدال، فلا جرم [أن] يكون اللون في الجلد أبيض مشربًا بحمرة، وإن كان مخالطة مع الاحتراق رطوبة، كان اللون أخضر، والسواد من السوداء المحترقة، والحمرة من السوداء التي خالطتها الصفراء، والخضرة من السوداء التي خالطها البلغم.
فإن قلت: فما بال الخيلان يكون فيه الشعر وبعضها لا يكون فيه شعر؟ قلت: الجواب أنه إن كان في الدم الذي تكونت منه الخيلان أنجزه دخانية، وكان الجلد معتدل المزاج نبت الشعر في الخيلان، وإنما قلنا ذلك لأن البدن حار رطب، وإذا عملت الحرارة في الرطوبة أثرت أبخرة، والبخار من شأنه الصعود إلى سطح البدن، فإذا حاول البخار الانفصال عن البدن لابد أن يحدث منافذ وأثقابًا وإن كان البخار لطيفًا رطبًا انفصل من المسام وتبدد.
وإن كان البخار دخانيًا يابسًا غليظًا فالجلد إن كان ناعمًا مسترخيًا كجلود الصبيان لم يتولد فيه، لأنه إذا شق الجلد انفصل منه سريعًا، وعاد الجلد إلى اتصاله كما إذا طبخ النشاء تجد البخار يخرج من موضع الغليان، ثم ينسد الموضع بعد خروجه. وأبين من هذا إخراج السمك رأسه من الماء، شق سطحه، وإذا غاص رجع الماء إلى حاله، وإن كان الجلد يابسًا قشفًا كجلود الأشياخ لم يتولد شعر أيضًا، لأن الشعر إذا شق الجلد حفظ اليبس ذلك الثقب، وبقي مفتوحًا فتفرق أجزاء البخار، ولا يجتمع بعضها إلى بعض، وإن كان الجلد معتدلًا من النعومة واليبوسة كما في جلود الشبان، لأن الشعر إذا شق الجلد لا يعود متصلًا كما في النعومة ولا مفتوحًا كثيرًا كما في اليبس، فحينئذ يبقى ذلك البخار الدخاني الغليظ في ذلك الثقب ثم لا يزال بخار آخر يدفعه إلى خارج من غير أن ينقلع أصله فلا جرم يبقى بعضه مركوزًا في الجلد بمنزلة أصل النبات في الأرض وبعضه يظهر إلى خارج بمنزلة ساق النبات.
1 / 5