كارثة فلسطين
وصيتي الأخيرة
كارثة فلسطين
وصيتي الأخيرة
كارثة فلسطين العظمى
كارثة فلسطين العظمى
تأليف
فخري البارودي
إلى أين المصير؟!
يا أمة العرب نحن اليوم في خطر
هذي فلسطين فيها الهود قد سادوا
إن اليهود بقدس القدس قد عبثوا
لا تغفلوا بعدها الفيحا وبغداد
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله أفتتح كلمتي، ومنه أطلب العون والرأفة بنا، إنه سميع مجيب.
إلى شباب العرب، إلى الشباب المثقف الواعي، الشباب المؤمن بعروبته، إلى أصحاء الأجسام والعقول من شباب العرب، أكتب كلمتي هذه، حرة صريحة لا لبس فيها ولا إبهام، طالبا إليهم تفهم ما كتبت، وعليهم وحدهم أعقد آمالي بتخليص العرب من الكارثة التي أصابتهم، والتي إذا غفلنا عنها سنين أخرى أودت بالشرق العربي إلى الهلاك.
إن الحركة الصهيونية قامت على أيدي الشبان، ولا يفل الحديد إلا الحديد، فإذا لم يعرف شبابنا طريق الخلاص ويسيروا بالعرب في هذه الطريق، فقل السلام على العرب والعروبة.
هذا بلاغ للناس ... وليذكر أولو الألباب .
فخري البارودي
كارثة فلسطين
(1) هول كارثة فلسطين وخطورتها
ألمت كارثة فلسطين بالأمة العربية فأصابتها في الصميم، وبلغت حدا أذهل الناس، فجعلتهم حيارى، لا يدرون تعليل هذه الهزيمة ولا السبب في هذا الخسران المخجل، فاندفعوا في حيرتهم يتخبطون، يحاولون أن يردوا النتائج إلى عللها، وتفرقوا في محاولتهم هذه شيعا وأحزابا، كل يرى الحق فيما ذهب إليه، والصواب كل الصواب فيما توصل إليه، فبعضهم عزا الهزيمة إلى مساعدة الدول الكبيرة للصهيونيين وتأييدها لهم، وآخرون رأوها فيما استطاع الصهيونيون أن يجمعوه من السلاح والذخيرة، والبعض رآها في التنظيم الصهيوني القائم على طرق علمية حديثة، وآخرون رأوها في استكانة منظمة الأمم وغيرها من الهيئات الدولية، وممالأتها لهم، وقوم آخرون يرون أن كل هذه الأسباب ما كانت لتؤدي إلى ما أدت إليه من الكوارث التي حاقت بالأمة العربية لولا ما أظهره بعض القائمين على شئونها من تخاذل وتنافر وخصام.
إن هذا الاختلاف في الوصول إلى أسباب الكارثة وعللها إن دل على شيء، فعلى عظم هذه الكارثة وهولها، وعلى أنها قد تخطت الظاهر من كيان الأمة وحلت في الصميم. وإنه لمن الخطأ أن نقارن هذه النكبة بغيرها من النكبات التي حلت بالقومية العربية في جهادها الطويل وحياتها المديدة؛ لأنها أعظم من كارثة الأندلس مع ما حفل به تاريخ الأندلس من مظاهر الحضارة البديعة ووجوهها الرائعة، كما أنه لا يمكن قياس قيام الدولة اليهودية في بلادنا بأية حركة استعمارية رأسمالية في التاريخ الحديث. فما أكثر ما قابلت الأمة العربية من عقبات في جهادها الطويل! وما أكثر ما اعترض سبيلها من الصعاب! فما كان طريق الجهاد في يوم من الأيام معبدا مأمونا، ولا كان السبيل إلى المجد مفروشا بالرياحين والورود، وإن من وطد العزم على السير بأمته نحو ما يصبو إليه الحر من عز وسؤدد لخليق به أن يهيئ النفس لمقارعة الخطوب ومجالدة العدى، واقتحام ما يقام أمامه من العراقيل، ولكن المحنة تشتد يوم تأتيك من حيث لا تحتسب، وإن الكارثة لتعظم ساعة تحل بك من حيث أمنت، وإن الهزيمة ليتضاعف نكرها إذا أوقعها بك من كنت لشأنه مستصغرا، ولقوته محتقرا، ممن كنت تعتقد أنه أضعف قوة وأقل عددا من أن يطاولك ويغالبك، فكيف به وقد طاولك وغلبك، ورحم الله من قال:
يا صلاح الدين قم وانظر إلى
حالة في القدس تستبكي العيون
أبدل العز الذي تعرفه
ذلة واستأسد المستضعفون
لقد كان ذلك شأن الأمة العربية مع الصهيونيين، كنا في غفلة من أمرنا، نمنا واستيقظ العدو، وركنا إلى الأوهام الكاذبة الخادعة، نبني عليها صرح آمالنا، وشمر العدو عن ساعده، وجد وعمل وعمد إلى الحقائق يقيم عليها صرح أطماعه، وينظر إليها بعين الخبرة والمعرفة، وسلط نور العقل على ما يعرض عليه من الشئون، ووزن الأمور بالموازين التي وضعت لها، لا يلهيه ما يرى من سند الدول الكبرى له وتأييدها إياه، فيركن إلى هذا السند وذاك التأييد ركونا مطلقا، ولا يفتنه ما يراه في نفسه من التقدم العلمي والازدهار المادي فيعتمد عليهما الاعتماد كله، بل يراهما فيقدرهما حق قدرهما، ولا يمنعه ذلك من أن يستثمر في عمله وأن يضاعف الجهد فيه. وبالرغم عن ذلك كله، كان زعماء اليهود يقولون: «إن المنظمات الصهيونية قد فهمت القول أكثر من فهمها العمل.» (2) نظرتنا إلى الصهيونية
وأما نحن، فقد كنا نساير هوانا في مكافحة هذا العدو ومقاومته، نستصغر من أمره ما أرضى استصغاره شهوتنا، ونحتقر من شأنه ما أقنع الاحتقار غرورنا، نحكم العاطفة حيث يجب أن يحكم العقل، ونعتمد على الأوهام حيث لا يجوز الاعتماد إلا على ما ثبت من الحقائق. نرى العدو يسعى جاهدا في إعلاء شأنه ودعم مركزه، فنعمد نحن إلى كتب التاريخ نقلب صفحاتها ونتخذ من ماضينا ما نخدر به أعصابنا، ألم نكن كلما حزبنا الأمر وتجسم لنا الهول نعيد الطمأنينة إلى نفوسنا، والسكينة إلى قلوبنا، بأن نذكر أن الله جلت حكمته كتب عليهم التشرد والتفكك والانحلال؟ كنا نفعل كل ذلك ونتناسى أمرا لا يجوز تناسيه في معرض هذه الذكرى، ألا وهو أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، كنا ننسى أن الله جلت قدرته لن يدفع عنا الضر إلا إذا اتحدنا وتضافرنا في دفعه، وأنه سبحانه وتعالى لا يحب من عباده المتواكلين المتخاذلين الذين تفرق شملهم وذهبت ريحهم، فلا يهبون هبة رجل واحد ليدفعوا عن أنفسهم خطرا حاق بهم، وداهية تعصف بكيانهم، لقد كنا إذا ادلهم الخطب ورأينا النوائب تتجمع لتعصف بنا ننسى كل شيء إلا أننا أبناء الغطارفة الألى حملوا نبراس الحضارة عاليا، فتحوا الفتوح وأقاموا الممالك وهزموا الجيوش، وأسسوا لهم في التاريخ اسما لن تمحوه العصور، في وقت كان الجهل فيه فاشيا والتخاذل سائدا، فأما هؤلاء المشردون الذين ما سطر التاريخ لهم صفحة مجد، والذين أصبح اسمهم في العالم مرادفا للذلة والمسكنة، فهل كان هؤلاء إذا قيسوا بنا ذوي خطر وشأن يذكر؟ وماذا تستطيع هذه الحفنة الصغيرة من شذاذ الآفاق أن تفعل في خضم العالم العربي الذي لا ينقصه المجد التليد ولا السؤدد الماضي ولا العز القديم؛ إن من يرى في هذا النفر خطرا يهدد كياننا كان أحد رجلين، إما متشائم قد أغرق في التشاؤم حيث لا مجال لذلك، أو خائن قد اشتراه العدو ليشيع الوهن في صفوفنا ويبعث الشك في قلوبنا، ويجعلنا نكفر بأمجاد الماضي.
هكذا سرنا في غفلتنا وأمعنا في سباتنا، فصرنا كلما ارتفع فينا صوت يدعو إلى العمل نخمده ونكبته، أو نضيعه وسط صراخ المهوشين المشعوذين، حتى جاء وقت سكت فيه الكثيرون من عقلاء الأمة عن الجهر بالحقائق، خوفا من مهاجمة الجهال، وكم ذهبت نداءات المصلحين منا، ودعوات المخلصين من رجالنا صيحة في واد، فكأنما جعلنا تاريخنا مخدرا يسكن آلام الجرح ولا يبرئه، ويبعث فينا التخاذل والاستكانة، حتى إذا أيقظنا ضجيج الحوادث من غفلتنا فاستفقنا من سباتنا، وجدنا أن ما كنا نركن إليه وهم من الأوهام، وأننا كنا نبني في الهواء قصورا، بينما كان العدو يقيم بنيانه على رواسي الجبال بالأسس العلمية الصحيحة، فقد اتخذ من مآسيه وآلامه الماضية، ومما كابد من شظف العيش وذل الاضطهاد سببا يدعوه إلى التآخي والتكاتف وتوحيد الكلمة، والائتلاف والسير على المناهج القومية بالطرق الفنية الحديثة.
إن القضية الصهيونية قضية تقوم على العلم وتشاد على المعرفة، وهي حركة عالمية يؤيدها المال اليهودي الضخم في العالم أجمع، كما أنها تعتبر بالدرجة الأولى حركة رأسمالية استعمارية؛ لهذا نجدها قد تضافرت مع جميع القوى الاستعمارية كافة في الدنيا، وما زالت أكبر دول العالم تمالئها وتسير في ركابها، أيام كنا نائمين نحلم بالمجد الغابر ونفخر بالعز القديم. ومهما كانت المتناقضات في النظام الرأسمالي قريبة الوقوع، بحيث تتراءى لنا كأنها على وشك أن تفصم العرى وتبعد الشقة بين الأمم المستعمرة، فلا يغررنا مثل تلك الخلافات، فنطمئن إليها، آملين ألا نكتفي بإيقاع الشقاق بين الأمم وزرع البغضاء في صفوفها؛ لأن هذه المتناقضات مخدرات يستعملها المستعمرون لاقتسام الفريسة وتوزيع الغنائم. سأبقى على صراحتي هذه مهما كانت مؤلمة، وإني لأرجو أن يكون هذا الألم دافعا لشبابنا للقيام بواجبهم إزاء هذه الكارثة التي حاقت بالأمة العربية جمعاء، وباعثا لنشاط أولئك الشباب الذين عليهم وحدهم يقوم اعتماد الأمة وأملها. إني أقول لهم إننا قد دخلنا حرب فلسطين وليس لدينا أية معلومات عن حقيقة العدو، في حين كان العدو يعلم عنا ما كنا نحن نجهله عن أنفسنا، وقد كان أكثر المراقبين الدوليين الذين وفدوا إلى بلادنا من مختلف الجهات والميادين جواسيس علينا، ولقد ذهب بنا الغباء أن كنا نقدم إليهم أجل الخدمات وأرفعها، فكنا نسمح لهم بالتجوال في أنحاء البلاد حتى في خطوطنا الأولى، وإني لأخجل من القول إنه علاوة عما اتسمت به أعمالنا من الفوضى والاضطراب، لم يكن للأمة العربية في مكافحة الصهيونية هدف معين متفق عليه، ولا اتخذت لتحقيق أمانيها وسائل محددة مرسومة المعالم، بل كانت في جميع أعمالها تخبط خبط عشواء، ولكن العاقل من اتعظ بأخطاء الماضي، فحاول أن يجتنبها في مستقبله، فماذا ترانا فاعلين الآن وقد أصبح للصهيونيين في قلب البلاد العربية كيان إذا لم نعترف به نحن فقد اعترف به العالم بالرغم عنا، وكيف نقاوم هذه الدولة الجديدة التي تتاخم حدود أربع من الدول العربية السبع، وتجد من العالم الخارجي كل تأييد وتقدير بواسطة دعايتها المنظمة، وأموالها التي أغدقتها على من فسدت ضمائرهم، فاشترتها وسخرتها لمآربها، تصنع بها ما تشاء. إن هذا الخطر المميت الجاثم فوق صدورنا ليتطلب منا تغييرا أساسيا في سياستنا، وتعديلا جوهريا في المنهج الذي نسير عليه. (3) أطماع الصهيونية
يجرم في حق أمته وبلاده من يقول إن الصهيونيين قد نالوا - فيما أقاموه لأنفسهم من كيان في فلسطين - الغاية النهائية التي يسعون إلى تحقيقها، وإنهم لن يلجئوا بعد ذلك إلى الفتح والغزو، وإنه لن يصيب الأمة العربية في بقية أقطارها شر إذا تركت الصهيونيين وشأنهم فيما اغتصبوه من فلسطين. إن الواجب وحقيقة الحال يدعواننا إلى اعتبار ما حل بفلسطين جولة أولى، ستتلوها جولات في الصراع مع الصهيونية، وعلى موقفنا من هذه الجولات وشدة مراسنا وقوة بأسنا وحسن استعدادنا يتوقف مصير هذا الجزء من العالم، ويتقرر مستقبله بأوسع ما تعني هذه الكلمات من معان، فقد جاء في خطاب بن غوريون في 7 حزيران 1949 ما يلي (والخطاب منشور بكامله فيما بعد):
نحن لم نحرر من بلادنا غير قسم واحد فقط، وأما الأقسام التالية فسيكون مصيرها مصير القسم الذي تسيطر عليه قواتنا الباسلة الآن.
وليس بعد هذا من مجال للشك في مطامع الصهيونية الواسعة. إن صفحة التاريخ المشرقة التي ابتدأت بعهد ابن الخطاب، وما تلا ذلك من مجد، مهددة بالفناء الأبدي، أقول الأبدي غير وجل من مواجهة الحقيقة المرة التي سنصير إليها إذا لم نتعظ بالماضي، ولم ندرك الخطر، ولم نهيئ العدة لمواجهة المستقبل المملوء بالمفاجآت المرعبة والخطوب المريرة الداهية، ولم نتخذ أهبتنا لهذا الواقع القريب. إن ما تعنيه كلمة العروبة بنظر الملايين من سكان هذه الأقطار ما تثيره في نفوسهم من صور وذكريات، وما تمثله من تراث خالد ومجد أثيل. كل ذلك سيصبح أثرا بعد عين، وسينكمش على نفسه ويتضاءل، فلا تربطه بسكان هذه الأقطار أية رابطة ما لم نوحد كلمتنا ونهب لندرأ عن أوطاننا هذا الخطر المحقق.
فلا تضيع أعمال مئات الألوف من الأبطال الغر الميامين الذين بذلوا أرواحهم في الذود عن هذه البلاد ودفع الضرر عنها، وجعلها نبراسا يرسل النور في وقت غمرت فيه حلكة الظلام سائر العالم.
لقد فتح العرب الأندلس بحد سيوفهم وقوة إيمانهم، فاستقروا في بعض أجزائها وأقاموا فيها دولة عربية زاهرة، ثم دب الفساد بينهم، فشغلوا بأنفسهم عن وطنهم الجديد، وأعماهم حب اللذات عن رؤية العدوان المحدق بهم، وألهاهم ما كانوا فيه من فتنة الدنيا ومباهج الحياة عن التبصر بالعواقب، ففتك العدو بهم، وأبادهم وأخرجهم من ديارهم لا يلوون على شيء، وأزال في بضع سنين ما بذلوا في إقامته من الجهد عصورا طويلة، فعفت آثارهم وامحت معالمهم، وذهبوا مثلا في التخاذل وتفرق الكلمة، وليست الأندلس بالنسبة إليهم كبلادنا التي يجب أن ندافع عنها؛ لأنهم دخلوا بلاد الأندلس فاتحين، وأقاموا فيها حاكمين، فأين ذلك من بلاد ورثناها عن الآباء والجدود، ارتوت أرضها بدمائهم، وكانت مسرحا لأعمالهم، وما عرفنا غيرها في يوم من الأيام وطنا، ولا اتخذنا سواها في عصر من العصور بلدا ، فكيف تكون الحال إذا سقطت في يد العدو المتربص بها، فشتت شمل أهليها، وأزال عنها صبغتها التي اتسمت بها منذ آلاف السنين؟ فمن الواجب علينا أن نحارب أعداءنا بمثل ما يحاربوننا به، بل وبأكثر عدة وأبعد حيلة، نستوحي مفاهيمنا من العقل والعلم، ونجعل عدتنا الخلق المتين والعقيدة الراسخة التي لم يعد لعديدنا وحده الرأي النهائي فيها؛ لأن للعلم والتنظيم الكلمة الحاسمة في كل مضمار وميدان، ولا تغرننا كثرة عددنا إذا لم نعن بتهذيب هذا العدد وإحسان تكوينه وتوجيهه.
وإني لأعجب من أن «1500» مليون مسيحي، و«500» مليون مسلم في العالم يهنون ويخذلون أمام حفنة من اليهود لا يزيد عددها عن بضعة عشر مليونا من الناس، استطاعت بما اختلقته من أكاذيب الدعاية وأضاليلها أن تخدر هذه الملايين من حماة قبر المسيح ومهده، ورعاة الصخرة المباركة في القبلة الأولى. (4) خطورة مسألة فلسطين على ضوء أقوال المسئولين اليهود
أيها العرب! أفيقوا من غفلتكم، وارفعوا عن أعينكم الغشاوة، واعلموا أن هذه الأوطان في أعناقكم أمانة، واذكروا أن على عاتقكم مهمة المحافظة على تراث محمد وعيسى، وأنكم إن وهنت قواكم وتخاذلتم ذهبت ريحكم وقضيتم على هذا التراث إلى أبد الآبدين. واعلموا أن الأجيال تطل عليكم في محنتكم الحاضرة تراقب سلوككم وتتبع أعمالكم، فكونوا عند حسن الظن بكم، وابذلوا الرخيص والغالي في سبيل الذود عن بلادكم وحفظ عروبتها؛ وأن ما أصاب إخواننا الفلسطينيين الذين نزحوا عن بلادهم سيصيبنا نحن إن ظللنا نائمين، وأنا إن بخلنا بالقليل من أموالنا اليوم، فسنبكي على هذه الأموال عندما نغادر هذه البلاد. وإذا وجد اللاجئون الفلسطينيون اليوم في هذه البلاد بعض المأوى والمأكل، فإنا غير واجدين ذلك إذا اضطررنا إلى ترك بلادنا غدا. ولو أن أبناء فلسطين ومن ورائهم العرب بذلوا ولو جزءا قليلا مما بذله اليهود، لما حل بهم ما حل من مصائب وويلات وضياع أموال وأنفس.
ليس فيما صورته من الأخطار، وما بينته من ضروب الغدر التي بيتها العدو للأمة العربية أية مبالغة من التصوير أو الإغراق في التشاؤم. لا ، بل إنها لمجمل سريع لما بيته العدو من خطط محكمة، وقد أحسن وضعها ورتب تفاصيلها منذ سنين بعيدة، فكان يظهرها للملأ حينا ويهمس بها القائمون على أموره أحيانا أخرى، حتى إذا واتاهم النصر الأخير، أصبح المهموس جهرا، وما كان سرا من الأسرار يعلن من أعواد المنابر وعلى رءوس الأشهاد، فلم تكن فلسطين كلها بوضعها الجغرافي الحاضر غاية آمالهم، فلا البلاد تتسع لملايينهم، ولا مواردها الطبيعية من الوفرة والغنى لتسد حاجتهم مهما أجري فيها من التحسين، وإنما هم يصبون إلى البلاد الممتدة من الفرات شرقا حتى النيل غربا، فذلك مجالهم الحيوي كما يدعون، وملك أرض آبائهم وأجدادهم كما يهتفون، وقد وضعوا الخطط لغزوها بأموالهم أولا، وبنفوذهم السياسي ثانيا، وبدهائهم ودناءتهم ثالثا، ثم يغزونها بجيوشهم وجحافلهم أخيرا كما يأملون، ما لم ندرك مدى خطرهم ونقف سدا منيعا دون تنفيذ ما يهيئون.
لقد أرسل دافيد بن غوريون رئيس الوزارة في إسرائيل حاليا من لندن إلى اللجنة المركزية لحزب المباي في تل أبيب - وهو حزب العمال ذو الأكثرية - كتابا مطولا عام 1938، نشره حزب العمال بصورة تقرير استعرض فيه الوضع السياسي الذي أحاط بالصهيونية في ذلك الوقت من جراء الثورة العربية التي اشتد أوارها في ذلك الحين، ثم عرض ما يبذله اليهود من ضغط على أعوانهم من النواب البريطانيين، وذوي المقام من الموظفين وأصحاب النفوذ من الصحفيين في بريطانيا والولايات المتحدة وغيرهما من البلدان الأوروبية، للضغط على الحكومتين البريطانية والأمريكية، وحملها على إخراج اليهود من المأزق الذي وقعوا فيه. وإليكم كتاب بن غوريون، وقد نشره المكتب العربي عام 1939، وإذا قرأنا هذا التقرير بإمعان ودقة فإنه يظهر لنا الحالة السيئة التي كانت تحيط باليهود في ذلك الوقت في البلاد العربية. (5) تقرير اللجنة المركزية للمباي «حزب العمال الفلسطينيين»
العنوان: حزب العمال الفلسطينيين
تل أبيب 24 أكتوبر 1938
المركز: تل أبيب، ص.ب 36
رقم 131
رقم التليفون: 3022
سري (5-1) في الحالة السياسية (من كتاب لرفيقنا د. بن غوريون)
الحالة السيئة
في كتابي الأخير حاولت أن أعطي تحليلا للحالة على ضوء الوضعية السياسية للعالم واليهودية، هذا التحليل يغلب عليه التشاؤم، ولكنه باعتقادي تحليل حقيقي صادق، يجب أن نرى الأشياء كما هي، حتى ولو كانت مرة كالموت، فإن أسوأ ما يمكننا عمله أن نفعل كالنعامة؛ إذ تدفن رأسها بين جناحيها، فندفن رءوسنا في التراب، فنمنع أنفسنا من رؤية الخطر. ذلك لا يمنع الخطر، ولكنه يقفل طريق الخلاص، الحقائق هي الحقائق، وإذا كانت سيئة فيجب أن نراها تامة العري، والجبن الأدبي والعقلي ليس بأحسن من الجبن الجسدي. إن الحالة الحاضرة ليست مرضية، ومن الممكن أن تزداد سوءا، ولا يجب أن نموه هذا.
جنود اليهود
قد لا تتحقق تنبؤاتي التي ذكرتها في كتابي، وقد تظهر نظرتي السوداء الخاطئة، وآمل أن تكون كذلك. ويجب أن نعمل كل ما بوسعنا حتى لا تتحقق اليوم، تكلمنا تليفونيا مع بلاد ثلاثة: جنوب أفريقيا، وشمال أمريكا، وأوروبا الشرقية، مع «جوهانسبرج ونيويورك ووارسو»، وحذرناهم من الخطر، وطلبنا مساعدتهم الجدية، «وهنا في إنكلترا جندنا وحشدنا كل أصدقائنا السياسيين في البرلمان والصحافة والحكومة»، لقد جندنا أعضاء البرلمان، وهم يحاولون بالطبع أن يؤثروا في أعضاء الحكومة، وبالإضافة إلى مجهودنا هنا في إنكلترا نحاول أن «نجند كل المساعدين لنا في خارج إنكلترا، وخصوصا رئيس الولايات المتحدة». البارحة أرسلنا تلغرافا إلى أمريكا والنشاط ابتدأ هناك. إن زعماء العمال اليهود في أمريكا اتصلوا تليفونيا مع زعماء الحركة العمالية في إنكلترا. اليوم تكلمنا تليفونيا مع قواد الصهيونية الأميركية «لبنسكي، ووايز، وبن كوهين»، وقد أخبرونا أنهم اتصلوا مع أصدقاء لهم، منهم أحد الأربعة الأحياء الذين رتبوا تصريح بلفور، ووقفوا إلى جانبنا كل هذه السنين، ومن الممكن لهذه المحاولات وغيرها التي لم تنته بعد أن تحول هذا الوضع السيئ، ولكن ذلك ليس مؤكدا.
لمن الغلبة؟
إن ضغط العرب يزداد قوة، ومن المحتمل أن يكون في حكومة لندن من يشجع الحركة العربية ضدنا. إنه من المعلوم لدينا ولدى الحكومة أن وكلاء النازي يعملون بنشاط في مصر والعراق وفلسطين وسوريا وغيرها من البلاد العربية، ولكن العرب يعملون أيضا بوحي أنفسهم، مع أنني لا أعتقد بأن الجماهير في العراق ومصر تهتم بما يجري في فلسطين، ولكن صلات الدين والثقافة واللغة تلعب دورا في الحركة، وكل شخصية من شخصيات العرب تريد أن تبني لنفسها مركزا، فمن مصلحتها أن تظهر مدافعة وحامية لعرب فلسطين. ومن يدري من الذي سيكون أقوى؛ الوعود التي أعطتها إنكلترا لنا والعدالة ونور ما نقوم به في فلسطين والاضطهاد الواقع على اليهود في العالم ورغبتهم في إنشاء وطنهم القديم، أم قنابل وألغام العصابات العربية وضغط وتأثير البلاد العربية مستندا إلى كراهة إسرائيل التي تتقوى يوما عن يوم في العالم؟!»
صهيونية لجنة بيل
هنا يبحث الكاتب في تقرير لجنة التقسيم، والأوضاع التي يحتمل أن تنجم عنه، ويطنب في الثناء على لجنة بيل الملكية قائلا: إن مشروعها جيد، ولا سيما إذا انتقلت الأودية إلى الدولة اليهودية، وأن «ليس ما يدعو إلى الاعتقاد بأن «لجنة التقسيم أكثر صهيونية من لجنة بيل».»
ثم يستأنف قائلا: «إن الحكومة لا ترغب في بناء دولة يهودية في الوقت الحاضر.»
مخاوف اليهود
هنالك خطران: (1) أن الحكومة لن تقبل أن تستمر الحالة الحاضرة. وب «الحالة الحاضرة» لا أعني الاضطرابات، أنا لا أخاف الاضطرابات، وخوفي أن تلغي الحكومة بندين أو ثلاثة من صك الانتداب أو تدخل تحويرا عليه؛ وبهذا تقف الهجرة وتزداد الحالة الاقتصادية سوءا، ويزيد اليأس في معسكرنا، وتتأثر الحركة الصهيونية والسكان اليهود في البلاد تأثرا سيئا. إن حالة كهذه لا يمكن أن تدوم طويلا؛ لأن العرب أيضا لا يبقون هادئين، وما يريدون هو الحكم الذاتي وحكومة عربية.
وهنا أتقدم إلى الخطر الثاني؛ (2) المحادثات بين إنكلترا والعرب على أساس «الحكومة العربية»، ومن باب اللباقة لن يدعوها «المملكة العربية»، ولكن «فلسطين المستقلة»، ولا فرق بين الاثنتين. إن الحكومة المستقلة في الوقت الحاضر تعني «دولة عربية»؛ لأن العرب أكثر من ثلثي السكان.
هذا أكبر خطر؛ لأنه يعني إيقاف الهجرة وركود وجمود التوطن اليهودي، وتسليم السكان اليهود لأيدي العرب.
أرى أن هذا الخطر ليس عظيما إلى هذا الحد، رغم أنه ليس خياليا في الوقت الحاضر، ورغم أن كثيرين من الإنكليز، وربما بعض أعضاء الحكومة الإنكليزية، يعتقدون هذه الفكرة ويأخذون بها.
عود إلى التقسيم
إذا فرضنا أن الحكومة الإنكليزية ستحاول أن تحقق الدولة العربية في فلسطين الآن، فلا بد من ظهور مشروع التقسيم ثانية إذا لم يستسلم السكان اليهود.
لو كانوا مليونا
مضى وقت كانت فيه قوة الصهيونية في الدرجة الأولى بين يدي الشعب اليهودي في العالم؛ إذ لم يكن السكان اليهود في فلسطين قد أصبحوا بعد قوة سياسية. إن الصهيونية لم ترتكز على قوتنا في فلسطين، بل على إرادة اليهود في العالم، ولو كانت هذه الإرادة أقوى وأكثر نشاطا وتمركزا في السنين الماضية، لكانت حالتنا في فلسطين مختلفة تمام الاختلاف عن حالتنا الآن.
فبدلا من 400 ألف يهودي في فلسطين، كان يمكن أن يكونوا مليونا، وإذ ذاك كان من المحتمل أن تشب الثورة في البلاد، ولكنها لا تكون بقوتها الحاضرة، فالثورة الحاضرة لا تذكيها معارضة العرب لازديادنا فقط، بل تتأثر بعوامل خارجية أيضا: إيطاليا وألمانيا، وقرب نشوب الحرب العالمية ... إلخ.
في أيدي العمال
إن التنظيمات الصهيونية أساسا لم يكن لها برنامج قوي واضح قبل السنوات السبع الأخيرة؛ أي قبل أن يصبح فيه توجيه السياسة في أيدينا؛ أي في أيدي طلائع الحركة العمالية، «فإن أكثر من نصف اليهود في فلسطين قد هاجروا إليها خلال هذه المدة»، وطبيعي أن هناك عوامل خارجية قد ساعدت على هذا النمو، مثلا اضطهادات هتلر وطرده لليهود، ولكن هذه العوامل الخارجية لا يمكن أن تكون مجدية إذا لم تكن عندنا الإرادة للاستفادة منها واستغلالها.
ولكن حتى في هذه المدة لم نعمل كل ما كان يمكننا عمله. إن «مستعمراتنا الزراعية قد توقف نموها» بالنسبة إلى نمو المدن اليهودية، «وأهمل البحر الأبيض المتوسط» بصورة كلية، ولم يقدم الشعب الوسائل لتقوية هذا النمو والازدهار، «وقد فهمت المنظمات الصهيونية القول أكثر من فهمها للعمل».
قوة الصهيونية وخطرها
ولكن قوة الصهيونية الأساسية الآن هي في يد السكان اليهود في فلسطين. إن 400 ألف من السكان (ومن الممكن أن تزيد عليها 50 ألفا) هم قوة عظيمة في بلاد صغيرة كهذه، «ولا يجب أن نعتبر الكمية فقط، بل النوع أيضا، لنا الأكثرية في القدس وحيفا وتل أبيب»، وقوة الزراعة الحمضية في أيدينا، وكل الصناعة عمليا في أيدينا، ولنا ميناء، «وميناء حيفا يصبح يهوديا يوما بعد يوم، ونمتلك معظم الأراضي الزراعية في البلاد، السهول ومحطات القوة الكهربائية والبحر الميت في أيدي اليهود، وتنمو قوتنا العسكرية، وقد جندنا 10 آلاف بمساعدة الحكومة»،
1
ولا يزال هناك بعض الاختلافات في الآراء بيننا مما يضعف قوتنا، ولكننا نتغلب على هذه الاختلافات بالقيادة النشيطة المدركة.
إن قوتنا لا شيء بالنسبة إلى قوى العالم، ولكننا أقوياء بالنسبة إلى القوى العاملة في البلاد، وأنا معتقد أنه لا يمكن إجراء أي تغيير أساسي في البلاد ضد إرادتنا، وهناك سؤال واحد، وهو إذا كانت لنا هذه الإرادة، «فهل سنعرف كيف نحشد ونجند كل قوانا في الساعة الحاسمة» للقرار، ونستعمل كل هذه القوى لتخليص مستقبلنا القريب بدون تخوف من أي خسارة ممكنة الوقوع؟
التحريض على العنف
إذا حاول أحد أن يغير فلسطين إلى دولة عربية، فأنا لا أعتبر أن كفاح العرب لتأسيس هذه الدولة هو الخطر الأساسي، كما أنني لا أعتبر الإنكليز إذا حاولوا غدرنا الخطر الأساسي أيضا، إن أكبر ضعفنا في أن يستسلم السكان اليهود في فلسطين، وإذا عرف اليهود في فلسطين كيف يثابرون، وكيف يقاومون هذه الخطط السيئة، «ليس بالكلام والمظاهرات»، أعتقد أن مثل هذه الخطط المسيئة لنا لا يمكن عندئذ تنفيذها، «وعاجلا أو آجلا، تبنى الدولة اليهودية، وسنبنيها بقوتنا، وعندها تضطر إنكلترا إلى الموافقة».
2
وإن عملا كهذا ممكن رغم أن الطريق طويل، وما دامت الولايات المتحدة بلادا حرة، فأنا لا أعتقد أن إنكلترا ستضطرنا إلى الخضوع إلى حكومة عربية. إن الرأي العام في إنكلترا والولايات المتحدة سيقف ثابتا في وجه كل محاولة لوضعنا تحت رحمة العرب، وكلما وضح غدر الحكومة لنا، سهل علينا الوقوف في وجهه ومحوه إذا تمكنا من الثبات وعدم التسليم. إنه لسابق لأوانه أن نتكلم عن عزم الحكومة على وضعنا تحت رحمة العرب، وليس من السهل أن تضع الحكومة هذا موضع التنفيذ، وأعني بذلك تأسيس حكومة عربية في فلسطين (الرأي العام في إنكلترا والصحافة والبرلمان لا يوافقون بهذه السرعة على غدر كهذا للشعب اليهودي)، ولكن خطرا كهذا موجود؛ ولهذا أعتبر أن «واجبنا الأساسي الثابت» في الوقت الحاضر هو «أن نهيئ منظمات» السكان اليهود في فلسطين «لإظهار مقاومتهم الفعالة بكل الوسائل» لهذا الاتجاه.
دعوة للكفاح
نجابه الآن بكفاح حاسم، ومن الممكن أن يكون الأخير. لا يوجد في التاريخ كفاح أخير، ويجب أن نهيئ أنفسنا روحيا وماديا. إن الواجب الأساسي لتخليص آمالنا يقع على كاهل شبابنا في فلسطين، وفي هذا الوقت يجب أن نذكر الحقيقة العميقة البسيطة «في العالم، الآخرون يقررون مصيرنا، أما «في هذه البلاد، فنحن نقرر مصير أنفسنا» ونكون تاريخنا»، وليخط الآخرون أية خطوة يريدونها، وليفعل الأجانب ما يريدون، ولكن إذا عرفنا كيف نصنع التاريخ في هذه الظروف غير المرضية لا يغلبنا أحد.
ولهذا السبب أنا لست واحدا من أولئك الذين يعتقدون أنه إذا كان قرار الحكومة يحول دون إنشاء دولة يهودية، يعني ذلك أن مسألة إنشاء هذه الدولة قد انتهت نهائيا.
لن نتخلى عن هذه المسألة ما دمنا مهيئين وقادرين على الكفاح في سبيل تحقيق رغباتنا. إن الإنكليز والعرب لا يتمكنون من حل قضية فلسطين بينهم. أنا لا أقلل من قيمة قوتهم، ولا أحط من قيمة قوة الحركة العربية ومقاومتها لنا، وليس من الضروري أن أذكر أنني لا أستبعد احتمال غدر إنكلترا بنا، أو الحط من قوة الإمبراطورية البريطانية.
لو كان الأمر بين إقامة الدولة اليهودية أو وجود الأسطول البريطاني لفاز الأسطول، ولكن لحسن الحظ أنه في مستقبل هذه البلاد القريب لا يتعارض وجود الأسطول مع وجودنا. إن مصالح إنكلترا في هذه البلاد ليست مصالح حياة أو موت، ونمونا في هذه البلاد لا يعني تحطيم الإمبراطورية، بل المحتمل عكس ذلك بالرغم من رأي خصومنا في إنكلترا. «لا يتمكن الإنكليز أو العرب من الوقوف ضدنا» إذا وقفنا حراسا لقضيتنا؛ إذ بالإضافة إلى قوتنا «لنا أصدقاء وأنصار في دوائر هامة واسعة في إنكلترا»، ومن الممكن في داخل الحكومة أيضا، ولا يخضعنا غير استسلامنا وخوفنا، وإذا استسلم كبارنا وأغنياؤنا ورجالنا العمليون والأذكياء، فعندئذ ينهض شبابنا، شبابنا في الروح والعمر، فيكافحون. وبهذا الشباب أنا واثق وإليه مطمئن، ولهذا السبب لست متشائما رغم نظرتي السوداء للوضع الحالي؛ ولهذا السبب أخاف «اللاحل» أكثر من الحل السيئ. حقيقة إن الصحافة الإنكليزية تكتب عن خطر عدم حل القضية، ولكن لا يمكننا أن نتصور أن الإنكليز لن يقرروا شيئا. وعلى كل حال، فإن الأسابيع القليلة القادمة تكشف لنا الأمر.
لا تفاهم
تكلمت عن خطرين، وهناك خطر ثالث ممكن وقوعه، وهو محاولة إخضاعنا لتفاهم يهودي-عربي. إن التفاهم اليهودي العربي هو في الحقيقة حل مثالي ومرغوب فيه جدا. وفي كل المدة التي قضيتها عضوا في اللجنة التنفيذية الصهيونية حاولت أن أصل إلى مثل هذا التفاهم، ونظرت إلى كل الطرق والوسائل لتحقيقه. في وقت الازدهار عندما كانت الهجرة واسعة وعظيمة، وقوتنا في البلاد تسير إلى الأمام بخطوات سريعة، وفي أوقات الاضطرابات جربت أن أتفاوض مع زعماء العرب، وفتشت عن طريق للوصول إلى اتفاق مشترك، ولكن في الوقت الحاضر، وبعد عشرين شهرا من التقتيل والاضطرابات، وفي الوقت الذي سقط فيه من الضحايا مئات منا وآلاف
3
من العرب، ومنيت مزارعنا بالخسائر الفادحة، وتحطمت اقتصاديات العرب في البلاد إلى درجة تكاد تكون كلية، وفي الوقت الذي نمت فيه كراهية العرب - في هذا الوقت وبعد كل هذا - من الصعب علي أن أتصور أن العرب يقبلون الشروط التي توافقنا.
فلسطين لا تكفيهم
في هذه الأحوال الحاضرة أرى أن التفاهم غير ممكن إلا بعد خلق الدولة اليهودية، عندما يدرك العرب أننا أصبحنا قوة، وأنهم - أي العرب - لا يتمكنون من الاستهانة بوجودنا وقوتنا ونشاطنا، وأن عندنا شيئا نقترحه عليهم، وعندئذ فقط يمكن وضع الأسس لخلق تفاهم يهودي عربي.
وهذا سبب من الأسباب التي تجعلني أدعو إلى خلق دولة يهودية في قسم من هذه البلاد ؛ لأنني لا أرى في هذه الدولة الهدف النهائي للصهيونية، ولكن الواسطة لتحقيق الصهيونية، فعندما تكون لنا دولة نكون قادرين على التفاوض مع العرب حول إنشاء اتحاد عربي يضم فلسطين في الشروط التي تضمن لنا الحرية في التوطن في كل أجزاء البلاد.
4
أما دولتنا فيكون لنا فيها حكم ذاتي في كل الاتجاهات الهامة لنا.
بدون الدولة لا أفترض - ومن الصعب حقيقة أن نفترض - أن العرب يقبلون بهجرة واسعة إلى فلسطين؛ لأنهم يعرفون أن هجرة كهذه ستجعلنا أكثرية في البلاد في بضع سنين، وإذا وافقوا هم على هجرة محدودة تضمن لهم بقاء الأكثرية العربية في البلاد؛ أي هجرة تضطرنا إلى البقاء أقلية دائمية، فنحن لن نوافق على حل كهذا، وقد صرحت بهذا البارحة بنشرة أصدرتها الوكالة اليهودية.
هناك يهود من الممكن أن يوافقوا على واحد من هذين الحلين، ولكن إذا قاوم السكان اليهود في فلسطين بمساعدة الجمعية الصهيونية، لا أعتقد أن الحكومة البريطانية تتمكن من إجبارنا على أن نكون أقلية في البلاد تستطيع الحكومة من تحديد الهجرة، ولن نكون قادرين على استخدام القوة لإجبارها على إطلاق الهجرة، وأعظم خطر يجابهنا ليس الدولة العربية في قسم من البلاد، ولكنه استمرار الانتداب وتحديد الهجرة، وهذا بالطبع أسهل الحلول للحكومة البريطانية ولكنه أسوأها لنا، وفي هذه الحالة أضع ثقتي وأملي في مساعدة العرب ...!
مساعدة العرب
يمكنكم أن تستغربوا هذا الكلمات: كيف ولماذا يأتي العرب لمساعدتنا؟ على كل حال هناك أشياء غريبة في التاريخ، وفي بعض الأوقات يساعد الخصم خصمه بدون قصد. وهكذا ساعد الإصلاحيون عصابات المفتي مرات قليلة، ليس لأنهم قصدوا مساعدتهم، بل بالعكس لأنهم فكروا في مقاتلتهم، فضاعف أولئك (العرب) إرهابهم وقووا جبهتهم. وهكذا المفتي وجماعاته سيساعدوننا بأعمال يقصدون بها معاكستنا، ولكن حقيقتها تساعدنا «بمساعدة» المفتي (بواسطة الإضراب في يافا) أنشأنا مرفأنا في تل أبيب، «بمساعدة» المفتي وسعنا العمل اليهودي في المستعمرات (في الوقت الحاضر)، «بمساعدة» العصابات أجبرت الحكومة على تسليح شبابنا، وهكذا فإنني أظن أننا سنقضي «بمساعدة» المفتي على فكرة تحديد الهجرة.
كيف ذلك؟
هذا صحيح
إن العرب لن يكتفوا بتحديد الهجرة فقط، فما يحاربون من أجله وما يرمون إليه هو الحكم الذاتي، ولن يوقف العرب كفاحهم في سبيل هذا الحكم، حتى ولا بعد إعلان الحكومة إلغاء مشروع التقسيم كما أعتقد. إن العرب سيكافحون ضد الانتداب؛ أي ضد استمرار الحكم البريطاني في البلاد؛ لأن الانتداب ذو شقين؛ عندما نقول «الانتداب» نفكر بالهجرة اليهودية والاستعمار، نشك في أن انتدابا كهذا يمكن أن يستمر وجوده، وإذا استمر انتداب كهذا فلأنه يتمشى مع وجهة نظرنا.
ولكن أولئك الذين يعتقدون أن استمرار الانتداب من الضروري أن يرافقه هجرة واسعة واستعمار هم مخطئون جدا. يمكن استمرار الانتداب بدون هجرة وبدون استعمار، ولكن العرب لا يكتفون حتى بهذا الانتداب؛ لأن الانتداب من وجهة نظر العرب يعني «الحكم البريطاني».
كانت العراق تحت الانتداب البريطاني، ولم تكن هناك قضية هجرة يهودية، وبالرغم من هذا فالعراقيون حاربوا الانتداب؛ لأنهم يريدون الحكم الذاتي.
سيستمر العرب في كفاحهم ضد الانتداب في فلسطين، حتى ولو لم يكن مرفقا بهجرة يهودية واسعة، ولن تكون بريطانيا في موقف يمكنها من مناهضة مثل هذا النضال أمدا طويلا. وسيثار من جديد موضوع الحكم في هذه البلاد إن عاجلا أو آجلا، وبالطبع إن كل ما يقصد بالحكومة المستقلة - طالما ظللنا أقلية في البلاد - إنما يعني «دولة عربية». وإذا منحت إنكلترا هذه البلاد الحكم الذاتي فإن جميع النتائج التي تترتب على هذا الإجراء إنما تعتمد على موقفنا نحن تجاهه، فإذا لم نوافق عليه أصبح معناه أنه لن تقوم حكومة عربية، وعندها يترتب أن يلجأ مرة أخرى إلى مشروع التقسيم. وهذه النقطة بالذات هي ما أقصده بطلب مساعدة العرب لنا؛ ولهذا السبب فإنني أقول إنه إذا ما نبذ مشروع التقسيم خلال الأسابيع القادمة، فإنه سيعود مرة ثانية بعد مدة من الزمن، وسيصبح أمرا لازما خلق دولة يهودية في قسم من هذه البلاد، وهذا كله يتوقف على مدى تفهم اليهود وإصرارهم على ألا يستسلموا مهما كانت الظروف لحكم عربي في فلسطين.
دافيد بن غوريون
لندن 17 أكتوبر 1938
هذا هو الكتاب، فارجعوا إلى قوله. (6) لا تفاهم «إني أرى أن التفاهم مع العرب في هذه الأحوال الحاضرة غير ممكن إلا بعد خلق الدولة اليهودية، عندما يدرك العرب أننا أصبحنا قوة، وأنهم لا يتمكنون من الاستهانة بوجودنا وقوتنا ونشاطنا، وأن لدينا شيئا نقترحه عليهم، حينئذ فقط يمكن وضع الأسس لخلق تفاهم يهودي عربي. وإن هذا الرأي لهو أحد الأسباب التي تجعلني أدعو إلى خلق دولة يهودية في قسم من هذه البلاد. إني لا أرى في هذه الدولة الهدف النهائي للصهيونية، وإنما هي الوسيلة لتحقيق أهداف الصهيونية، فعندما تكون لنا دولة نكون قادرين على التفاوض مع العرب حول إنشاء اتحاد عربي يضم فلسطين بشروط تضمن لنا حرية التوطن في جميع أجزاء البلاد. أما دولتنا فسنتخذ فيها لنا حكما ذاتيا في كل الاتجاهات المهمة لنا.»
فهل بعد هذه الصراحة من ريب أو غموض يمكن أن يكون مجالا للشك في أهداف الصهيونية، وهل يخامر أحدا ما ريب في حقيقة نيات هؤلاء القوم بعد أن يقرأ هذا الكلام الذي لا لبس فيه ولا إبهام، والذي يقوله بن غوريون سريا لجماعة من ذوي الشأن في الحركة الصهيونية الأثيمة، لا يبتغي من ورائه تهويلا أو كسبا رخيصا، وفي ساعة من أحلك الساعات التي مرت بالصهيونية، وكانت فيه مهددة بالفناء الأبدي والحرب العالمية الثانية على الأبواب. وهل ثمة عذر لمن يتهاون في دفع الخطر أو يقلل من شأنه، في ذلك الوقت الذي كان كيانهم في فلسطين مهددا بالزوال، ويضعون الخطط لإقامة دولة يهودية في جزء من فلسطين، ثم يجدون بعد ذلك عروضا يتقدمون بها للعرب لتأليف اتحاد عربي يكون وسيلة لتغلغلهم في الشرق العربي.
وها هو ذا بن غوريون نفسه بعد أن مضى على تقريره السري أحد عشر عاما يجد نفسه رئيسا للوزارة الإسرائيلية التي كان يحلم بها، يقوم خطيبا في الضباط اليهود المتخرجين من المدرسة الحربية بتاريخ 7 حزيران 1949 فيقول:
لما نصل بعد إلى غايتنا؛ أي إلى النصر النهائي، فنحن لم نحرر حتى الآن تحريرا كاملا سوى جزء واحد منها، وأما الأجزاء الأخرى فسيكون مصيرها مصير هذا الجزء الذي تسيطر عليه قواتنا الباسلة. إن الدسائس والمؤامرات ما تزال تحاك هنا وهناك ضدنا، ومما لا شك فيه أن الصعوبات الكثيرة ستكتنف طريقنا، إلا أن استقلالنا وحريتنا وإمكانيات الهجرة والاستعمار وتقرير المصير في دولتنا الكبرى؛ وكل ذلك رهن بقوة جيشنا؛ فلا يجوز لنا أن نركن إلى الراحة وأن نكتفي بانتصاراتنا التي نالها جيشنا. إن هذا الجيش لم ينته من أداء رسالته بعد، وما زلنا ننتظر يوما بعد يوم ذلك الوقت الذي يتم فيه إنقاذ أرض الآباء والأجداد. إن مستقبلنا ومستقبل الشعب الإسرائيلي بأسره سيكون اعتماده الأول على انتصاراتنا العسكرية في الحروب القائمة، فسنجعل الحرب حرفة يهودية حتى يتم تحرير بلادنا بأجمعها، وسنقاتل ما لاح لناظرنا خطر يمنعنا من تحرير تلك البلاد، بلاد الآباء والأجداد. أجل، سنحقق رؤيا أنبياء إسرائيل، ولن تتحقق تلك الرؤيا إلا إذا عملنا بهذه الكلمات: أحب لأخيك ما تحب لنفسك، وهيئ له الاستيطان في المكان اللائق به. وأما السيف الذي أعدناه لغمده، فإنه لم يعد إلا مؤقتا، وسنستله حينما تهدد حريتنا في بلادنا، وحينما تتحقق رؤى أنبياء التوراة، فالشعب اليهودي بأسره سيعود إلى الاستيطان في أراضي الآباء والأجداد الممتدة من الفرات شرقا حتى النيل غربا.
أرأيتم إلى تصريح هذا الرجل المسئول الذي لا يلقي الكلام جزافا، وإنه يعي كل كلمة يقولها، ويرى كل ما يهدف إليه ويصرح علنا أن أرض آبائه وأجداده ليست فلسطين، إنما هي تلك البلاد التي يحدها من الشرق نهر الفرات ومن الغرب النيل، وأن شعبه مصمم على استيطان هذه الأرض مهما كلف الثمن، أو هل يحوجنا الدليل بعد كل ما تقدم للتدليل على مدى أطماع الصهيونية؟ وهل يجوز لعربي يغار على وطنه، ويهتم بأهله وأقاربه أن لا يفكر بهذا الخطر المحدق، وما يجب عمله لدفع هذه النازلة الخطيرة وهذا البلاء الداهم وهو في مهده قبل أن يستشري ويستفحل أمره، فيكون نصيبنا من الحياة نصيب اللاجئين؟ إن من يلقي نظرة عابرة على ما أقيم من المشروعات الاقتصادية الصهيونية في فلسطين زمن الانتداب لتروعه ضخامتها، ويدهشه اتساعها، ويعلم أنها ما أقيمت لفلسطين وحدها، وإنما وضعت والهدف منها احتلال العالم العربي بأسره من أقصاه إلى أقصاه. إن مشروع روتمبرغ للكهرباء قد أعدت له من الأجهزة والأدوات ما يمكن مد فلسطين وشرق الأردن وسورية ولبنان بما تحتاجه من القوى الكهربائية الضرورية دون أن يدخل عليه تعديل يذكر لتحقيق جميع الأهداف الصناعية الصهيونية على ما يقال. (7) من الفرات إلى النيل
والذي يلفت النظر ولا يحتاج لشرح وتفسير الخبر الذي نقلته جريدة «جمهوريت» التركية عن جريدة الأهرام المنشور في جريدة ألف باء، بتاريخ 31 / 1 / 1950، وهذا نصه بالحرف:
إن اليهود كتبوا على واجهة دار البرلمان اليهودي في تل أبيب العبارة التالية:
من الفرات إلى النيل، هذا هو وطنكم يا بني إسرائيل.
وأردفت الجريدة ذلك بقولها:
إن الدوائر التركية تتساءل: كيف تطمئن الدول العربية إزاء هذه المطامع الاستعمارية الجريئة؟ وكيف لا تخشى الخطط الصهيونية التي ترمي إلى توسيع رقعة دولة إسرائيل في المستقبل. ا.ه.
أنقل هذا الخبر إلى الشباب العربي دون تعليق، فهل يسمع العرب؟ (8) ماذا جندنا نحن؟
يجند الصهيونيون رجال السياسة في العالم بطرقهم المختلفة، وقد تمكنوا من تجنيد الكثيرين من رجال المجالس النيابية في أوربا وإنكلترا وأميركا، حتى رئيس جمهوريتها، فماذا فعلنا نحن؟
يقول بن غوريون ... وهنا في إنكلترا جندنا وحشدنا أصدقاءنا السياسيين في البرلمان والصحافة. نعم، لقد جندنا أعضاء البرلمان، وهم يحاولون أن يؤثروا في أعضاء الحكومة، وبالإضافة إلى مجهودنا في إنكلترا نحاول أن نجند كل المساعدين لنا في خارجها، وخصوصا رئيس الولايات المتحدة. والبارحة أرسلنا تلغرافا إلى أمريكا والنشاط ابتدأ هناك، إن زعماء عمال اليهود في أمريكا اتصلوا تلغرافيا مع زعماء الحركة العمالية في إنكلترا إلخ ...
هذا ما قاله بن غوريون عام 1938 حينما كان الرئيس روزفلت في قيد الحياة. توفي روزفلت، فجندوا الرئيس ترومان، ولا حاجة للتدليل على تجنيده ومساعدته لليهود علنا في كل نواحي كفاحهم، وهذا دليل عظيم على قدرة الصهيونيين على تجنيد كبار السياسيين في العالم.
أما نحن، فأين جهودنا في أميركا؟ وأين أعمال الذين هاجروا إلى الأميركتين منذ عشرات السنين؟! إننا لم نسمع لهم إلا أصواتا خافتة تظهر بين حين وآخر، تظهر ثم تختفي بسرعة ولم تستفد فلسطين من مجموع جالياتنا في أمريكا الشمالية والجنوبية، وفي أوربا وآسيا، إلا بعض المال الذي يجمع اليهود أمثال أمثاله في حملة واحدة، نظرا لعمل اليهود الموحد وتفرق كلمة العرب، فهل يكون لنا من ذلك عبرة للمستقبل. لقد توصلوا إلى هذا كله عن طريق الدعاية التي حرمنا منها نحن العرب، فلا حول ولا قوة إلا بالله. (9) قوة الصهيونية
يقول بن غوريون عن قوة الصهيونية في فلسطين عندما كانت عبارة عن 400 ألف شخص: «إنها قوة عظيمة في بلاد صغيرة كفلسطين.» ولا يجب أن نعتبر الكمية فقط، بل أن نعتبر النوع أيضا، ثم يقول إن قوتهم لا شيء بالنسبة إلى قوى العالم، ولكنهم أقوياء بالنسبة إلى القوى العاملة في البلاد إذا عرف اليهود كيف يحشدون جنودهم في الساعة الحاسمة، وقد ظفروا في الواقعة الأولى وهم يعملون الآن بسرعة ويجندون كل إمكانياتهم لتحقيق ما يهدفون إليه بسرعة في الوثبة الثانية.
وإليك كلمة جاءت في خطاب بن غوريون الذي أذاعته محطة إسرائيل بتاريخ 8 / 11 / 1949، الساعة 7:45، قال: لقد بلغ عدد سكان إسرائيل الآن 1000000، مليون يهودي، وسنعمل على جمع العشرة الملايين الآخرين من جميع أنحاء العالم ليقطنوا معنا في إسرائيل، وهذا هو الهدف الرئيسي الذي تعمل له حكومة إسرائيل.» ا.ه. فهل يحتاج العرب بعد هذا الكلام إلى أدلة جديدة على نية الصهيونية نحو بلادنا؟
وهنا يجب علينا أن ننظر إلى هذا الوضع من الناحية العملية، فهل يتمكن اليهود من المحافظة على الأراضي التي اغتصبوها؟ وهل تغطي موارد دولة إسرائيل من فلسطين فقط موازنة حكومتها وجيشها؟ إن اليهود بدون مساعدة العرب لا يمكنهم أن يحيوا في بقعة محصورة بين أربع دول عربية، وإن الإعانات التي تجمعها الحكومة الإسرائيلية من العالم اليهودي لا يمكن أن تدوم، ولم يسمع في يوم من الأيام أن دولة من الدول تأسست بالأموال المجموعة من الاستجداء إلا دولة إسرائيل. فهل تقدر هذه الدولة على الحياة من أموال الاستجداء وحدها يا ترى؟
ولا أدري هل يقدر الشعب اليهودي أن يداوم على جمع الأموال لتسليح الجيش الصهيوني مدة طويلة؟ كل هذا مثير للتفكير. إن بعض الأحزاب اليهودية تظن أن الصهيونيين قادرون على ذلك، والبعض من هذه الأحزاب يعلقون آمالهم على إقامة أواصر التعاون بين اليهود والعرب، ويرون أن الاعتصام بالقوة أمر لا يمكن أن يدوم طويلا، وعلى الحالين فإن بقاء اليهود في فلسطين أو إخراجهم منها إنما يتوقف تقريره علينا نحن العرب، فإذا عرفنا كيف نحزم أمورنا ونحكم خطانا ونوحد أعمالنا، وكيف نقاوم الخطط اليهودية بخطط أكثر إحكاما وأشد ضبطا، فإن جميع الآمال الصهيونية ستخيب، وأحلامهم ستتبدد، وجميع الصروح التي بنوا عليها أوهامهم ستنهار، وسيجلون عن فلسطين عاجلا أو آجلا كما جلوا قبل ألفي عام.
إن هذا سيتحقق إذا قاوم العرب الخطط الصهيونية بالفعل، لا بالقول والاحتجاجات والمظاهرات. (9-1) الخطاب الأول
الذي ألقاه بن غوريون رئيس الوزارة أمام الضباط الذين تخرجوا من المدرسة الحربية بتاريخ 7 حزيران 1949: «ستخرجون من هنا لتصبحوا ضباطا في الجيش الإسرائيلي، وفي هذا شرف عظيم، ولكنه ينطوي على المسئولية الكبرى أيضا؛ إذ إنكم ستكونون قوادا لذلك الجيش الذي خرج إلى النور منذ سنة بعد أن نفض عنه ثوب المقاومة السرية. إن جيشنا بشكله الحالي لم يتم تدريبه ولم يجمع أسلحته إلا بعد الخامس عشر من أيار؛ أي بعد قيام الدولة، ولكن هذا لا يخجلنا أمام الجيوش العربية السبعة المدربة. جيشنا جند ونظم خلال إعصار الحرب معهم، واجتاز اختبار الدم والحديد بتفوق مشرف، فالعمليات الحربية أمثال «تخشون» والأيام العشرة، ومعارك النقب والساعات الستون في الجليل دلائل واضحة على قوتنا. لقد أصبحت انتصاراتنا جزءا من تاريخنا، ولكنا لم نصل بعد إلى غايتنا، أي إلى النصر النهائي؛ فنحن لم نحرر حتى الآن من بلادنا تحريرا كاملا غير قسم واحد فقط، وأما الأقسام الباقية فسيكون مصيرها مصير القسم الذي تسيطر قواتنا الباسلة عليه الآن.
ولا تنسوا أيها الضباط أن الدسائس والمؤامرات السياسية ما تزال تحاك هنا وهناك ضدنا، مما لا شك فيه أن الصعوبات الكثيرة ستكتنف طريقنا، إلا أن استقلالنا وحريتنا وإمكانيات الهجرة والاستعمار وتقرير مصير دولتنا الكبرى؛ هذا كله رهين بقوة جيشنا؛ فلا يجوز أن نركن إلى الراحة، وأن نكتفي باحتلالاتنا وانتصاراتنا التي انتزعها جيشنا. إنه لم ينته بعد من إبلاغ رسالته، وما زلنا ننتظر يوما بعد يوم استخدام قوة هذا السلاح ومضاء عزيمته في إنقاذ أراضي الآباء والأجداد.
إن الجيش الإسرائيلي سيتحسن كثيرا من الناحية العسكرية، وإن العمل الذي يتم لخيرنا في جيل كامل علينا أن ننجزه في سنة كاملة لا غير.
إن واجب القائد أن يعرف أن مؤهلات الجيش وكفاءته ليست رهينة باستعداده لخوض المعارك وحماسته لها فحسب، بل هي رهينة أيضا بالإدارة الحازمة والتنظيمات المستقيمة وصيانة الأمتعة، فالنصر لا يكتب ببذل النفس فقط، والتنظيم الجيد الدقيق حتى في أبسط تفصيلاته هو ثلاثة أرباع سر الانتصار.
وأمامنا الآن مشكلة عسكرية فريدة في بابها، فنحن الآن أقلية، وحولنا أعداء ألداء هم الأكثرية، يسعون الآن لضرب كماشة خانقة علينا، ولكن تفوقنا بالقوة ساعدنا على الوقوف في وجههم حتى الآن، وسيساعدنا على الوقوف كذلك في المستقبل، إنهم يستعدون الآن للجولة الثانية بعد أن خسروا الأولى، ولكننا سنفوز عليهم بفضل تفوقنا في القوة والخلق والعقل، بالإضافة إلى النظريات العملية التي يجب أن نقتبسها عن الجيوش الأخرى، وأن نحسنها برقينا العقلي وإبداعنا الفكري ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. إن جيشنا الذي شاءت الظروف الماضية أن يكون جيشا صغيرا سيكون في المستقبل في طليعة الجيوش الممتازة، سواء من الناحية التقليدية الروحية أو الصناعية الفنية.
فموقفنا الراهن يطوق أعناقنا بهذه المسئولية، ثم إن من واجبنا الاهتمام بالتدريب الجسماني، وإعدادنا لتحمل المشاق وإرهاف حواسنا وتهذيب طاقتنا الميكانيكية، والتدريب على جميع آلات القتال الفتاكة الحديثة، والتمرن على نظام الحركة الفذة في إدارة المعارك واستغلال كل جديد في ميادين العلم والفن والتطبيق وتنظيم المواصلات لإمداد المؤن والذخائر ... وهذه الأمور مع أهميتها لا تفي بالمراد، فكل ما يجيء به العلم الحديث لا يكفي وحده، ولن تكون الكلمة الأخيرة للدبابة ولا للمدفع أو الطائرة المقاتلة لكسب الحرب، إنما تكون للإنسان الذي يسخر هذه الوسائل لإرادته، فيسخرها كيفما شاء وأينما أراد.
ولن يتفوق المحارب اليهودي على خصمه العربي لمتانة عضلاته أو تفوقه الفني، فهذه الخصائص مع أهميتها الفائقة ليست شيئا مذكورا، فقوى المحارب اليهودي العقلية والنفسية، وفهمه وإدراكه ومضاء عزيمته ومثابرته وإخلاصه وثباته أمام المصاعب والأخطار وسعة حيلته، وغيرها من الخصائص هي التي تلزم له للتفوق في معارك الحرب الطاحنة مع العرب. وهناك سلاحنا السري، الذي هو بالحقيقة الروح العالية التي يتمتع بها محاربنا، وبهذا السلاح السري نقف في وجه الأخطار التي تسوقها الحرب، والتي لا بد منها.
إن مستقبلنا مستقبل الشعب اليهودي بأسره، وسيكون اعتماده الأول على انتصاراتنا العسكرية في الحرب القادمة. نعم، سنجعل الحرب حرفة يهودية حتى يتم تحرير بلادنا بأجمعها، وسنقاتل ما لاح لنا خطر يمنعنا من تحرير تلك البلاد، بلاد الآباء والأجداد. أجل، سنحقق رؤيا أبناء إسرائيل، ولن تتحقق تلك الرؤيا إلا إذا عملنا بهذه الكلمات: «أحب لأخيك ما تحب لنفسك، وهيئ له الاستيطان في المكان اللائق به.» هذه هي شعاراتنا التي يجب أن نعمل بها، ونحميها من العدوان. «أما السيف الذي أعدناه لغمده، فإنه لم يعد إلا مؤقتا، إننا سنستله حين تتهدد حريتنا في وطننا، وحينما تهدد رؤيا أنبياء التوراة ... فالشعب اليهودي بأسره سيعود إلى الاستيطان في أرض الآباء والأجداد الممتدة من الفرات حتى النيل.»
انتهى الخطاب الأول. (9-2) نبذة من الخطاب الثاني
الذي خاطب به بن غوريون شبان إسرائيل في العرض العسكري الذي أقيم يوم الأحد، في 7 تموز 1949 في تل أبيب احتفالا بيوم الجيش الصهيوني، والذي حضره حاييم وايزمن وأعضاء حكومته وممثلو السلك السياسي الأجنبي. «إن هذا اليوم هو يوم عيد مزدوج لإسرائيل، فهو يصادف ذكرى وفاة «تيودور هرتزل» مؤسس الحركة الصهيونية، وذكرى إنشاء «الجيش الصهيوني مؤسس الدولة الصهيونية»، وأضاف: «وإلى هرتزل يرجع الفضل في تأسيس الحركة الصهيونية، وللجيش الصهيوني يرجع الفضل في تأسيس الدولة الصهيونية.»
واستطرد بن غوريون يقول: «لم يعد لإسرائيل حتى الآن أكثر من 10 بالمائة من أبنائها، ولم تتمكن من استثمار عشرة بالمائة من أراضيها، وعلى هذا فإنه يتوجب علينا العمل للإسراع في جمع أبنائنا الذين ما زالوا مشتتين، والإسراع في تنفيذ مشاريعنا العمرانية والزراعية والصناعية.»
وختم خطابه بقوله: «إن إسرائيل ترغب رغبة حقيقية في الوصول إلى سلم حقيقي مع جاراتها العربية، وهي ترى أن هذا السلم هو في مصلحتها ومصلحة الدول العربية على السواء، غير أن إسرائيل ما دامت لم تتوصل إلى هذا السلم بعد، فإنها ستظل مقيمة على إبقاء جيشها، وستواصل تقوية هذا الجيش لحماية كيانها.» (10) دعوة اليهود للكفاح
ولنستمع إلى بن غوريون يقول في تقرير سنة 1938:
نجابه الآن بكفاح حاسم، ومن الممكن أن يكون الأخير، ولكن لا يوجد في التاريخ كفاح أخير. يجب أن نهيئ أنفسنا روحيا وماديا. إن الواجب الأساسي لتخليص آمالنا يقع على كاهل شبابنا في فلسطين. وفي هذا الوقت يجب أن نذكر هذه الحقيقة العميقة البسيطة: «في العالم يقرر الآخرون مصيرنا. أما في هذه البلاد (أعني فلسطين) فنحن نقرر مصير أنفسنا، ونكون تاريخنا، وليأخذ الآخرون أية خطوة يريدونها، وليفعل الأجانب ما يريدون، لأننا إذا عرفنا كيف نصنع التاريخ في هذه الظروف غير المرضية فلا يغلبنا أحد.»
هذه الحفنة من شذاذ الآفاق اتحدت، وعرفت كيف تؤسس دولة من هذا الخليط، وهي تسعى لتصنع تاريخها بقوة شبانها الذين لا يزيدون عن مليون نسمة، ولو تمكنت من جمع كل شاب يهودي في العالم. إن إسرائيل ستهزأ بما تقرره الدول وتقرر مصيرها بنفسها، ونحن العرب أصحاب التاريخ البراق الزاهي نخذل، ولدينا من الشبان القادرين على حمل السلاح أضعاف أضعاف اليهود بمجموعهم، اللهم إن هذا كثير، اللهم إن هذا مخجل.
ولنتمعن فيما قاله للشباب اليهودي: «إن الواجب الأساسي لتخليص آمالنا يقع على كاهل شبابنا في فلسطين.»
إلى قوتنا لنا أصدقاء وأنصار في دوائر مهمة واسعة في إنكلترا، بل في داخل الحكومة أيضا.» ثم يقول: «ولا يخضعنا غير استسلامنا وخوفنا، وإذا استسلم كبارنا وأغنياؤنا ورجالنا العمليون والأذكياء، عندئذ ينهض شبابنا، شبابنا في الروح والعمر ويكافحون، وبهذا الشباب أنا واثق وإليه مطمئن.» (11) عنصر الشباب
هذا بعض ما ينادي به بن غوريون، منوها بأهمية عنصر الشباب في الاستقلال، صارفا النظر عن أي عنصر آخر؛ فهو لا يكترث لأهمية عقول الشيوخ ولا لأهمية ثروة الأغنياء ولا لأهمية تأييد هذه الدولة أو تلك من الدول العظمى، على رغم ما لهذه العناصر من شأن عظيم في خلق إسرائيل، لكن الأمر العظيم الذي شغل باله وأولاه كل عنايته من التربية والتهذيب والتوجيه هو عنصر الشباب، عنصر القوة والاندفاع نحو العظمة والسؤدد والفخار. ولقد تحققت أكثر نبوءته في أهمية ذلك العنصر الذي أولاه ثقته ووضع فيه آماله وخالص أمانيه.
وإني الآن إذ أسمع رئيس حكومة إسرائيل ينادي بما نادى به، لأتوجه أنا أيضا إلى هذا العنصر الفعال في أمتنا، عنصر الشباب العربي المملوء بالحياة الجامحة، المترعة بالكرامة، وحب البذل والتضحية، قائلا: إنه على عاتق الشباب يقع أمر خلاص بلاد فلسطين المقدسة وحماية بقية بلاد العرب، وإنه مهما عتمت الظروف واسودت الأيام وأظلمت الليالي، وأحدق بنا الأعداء، فلن يكتب لهذه البلاد خلاص، ولن تعاودها أيامها المشرقة ولياليها المقمرة، إلا إذا تعهد الشباب العربي هذه الغاية السامية، فعلى سواعدهم الصلدة وقلوبهم القوية وصدورهم العامرة وعقولهم المفكرة؛ يتوقف إنقاذ الوطن وخلاص الأجيال القادمة من الرق والعبودية. (12) هل هذا الرأي صحيح؟
ويقول في التقرير: «إن وكلاء النازي يعملون بنشاط في مصر والعراق وفلسطين وسوريا وغيرها من البلاد العربية، ولكن العرب يعملون أيضا بوحي أنفسهم، ومع أنني لا أعتقد بأن الجماهير في العراق ومصر تهتم بما يجري في فلسطين، ولكن صلات الدين والثقافة واللغة تلعب دورا في الحركة، وكل شخصية من شخصيات العرب تريد أن تبني لنفسها مركزا، فمن مصلحتها أن تظهر مدافعة وحامية لعرب فلسطين.»
فهل هذا الرأي صحيح يا ترى؟ وهل الشعب العربي غير مهتم بما جرى في فلسطين؟ وهل الزعماء يظهرون مدافعين وحامين لعرب فلسطين عن غير عقيدة كما قال؟ هذا ما سيظهره الزمن! فإما أن يكون العرب كما قال فنخسر قضيتنا ... وإما أن نكون مؤمنين بهذه القضية فنخيب ظنه فينا!
وإليكم آخر خبر جاء في الجرائد بتاريخ 6 / 1 / 1950:
القدس في 5 كانون الثاني 1950، و ص ف
أعلن بن غوريون أثناء مناقشة الشئون الخارجية في البرلمان اليهودي أن القدس أصبحت منذ تاريخ يوم أمس عاصمة إسرائيل القانونية والواقعية. (13) الصهيونية ترتكز على إرادة اليهود
ويقول في التقرير: «إن الصهيونية لم ترتكز على قوتنا في فلسطين، بل على إرادة اليهود في العالم، ولو كانت هذه الإرادة أقوى وأكثر نشاطا وتمركزا في السنين الماضية لكانت حالتنا مختلفة تمام الاختلاف عن حالتنا الآن.»
إني لا أرى لزوما للفلسفة في هذا الموضوع، فهو موضوع ظاهر جلي يظهر لنا أن اليهود جميعهم متفقون على تأسيس هذه الدولة، فهل يحس العرب بهذا أولا، ثم العالمان المسيحي والإسلامي ثانيا؟
إني أرجو من علمائنا الاجتماعيين أن يدققوا بهذا التقرير ويمعنوا فيه النظر، فهذا تقرير عالم اجتماعي خبير، وهو مرتكز على العلم الحقيقي والإحصاءات الثابتة الدقيقة، وأرجو أن تكون كتابات علمائنا عن الحركة الصهيونية صريحة مرتكزة على أساس متين من العلم والخبرة؛ لفتح عيون العرب وإرشادهم سواء السبيل. (14) واجب العرب
وإني لأذكر كل فرد من أفراد العرب في أي قطر من الأقطار، أو بلد من البلدان، كبير الشأن كان أم صغيره، ملك شعب أم رئيس جمهورية، شيخ مقاطعة أم أمير قبيلة، أنه من الممكن أن تحدث مشادات عظيمة ومنازعات خطيرة بين فرد عربي مسئول وآخر، أو بين دولة عربية وأخرى، وقد ينقسم العرب إزاء هذا الموضوع إلى فرق كبيرة وشيع مختلفة المآرب والغايات، بعضها يناصر هذا الفريق، والبعض الآخر يناصر ذاك، وقد تحتدم هذه المشادة ويشتد أوارها، وقد تنتهي سريعا وقد لا تنتهي إلا بعد زمن طويل تهرق فيها الدماء وتبذر الأموال وتشرد الأطفال، غير أن هذا النزاع مهما تمادى به الزمن، فإن المتنازعين لا بد أن يلتقيا ويتعانقا. ومن أكثر الأمور بداهة وأشدها وضوحا لدى كل عربي أنه يجب أن لا يغتفر لعربي مهما كبر مركزه وعظم، ضؤل شأنه أو حقرت مرتبته، إذا ما صانع اليهود ومالأهم مهما كان ظل هذه الممالأة خفيفا وأثرها زائلا، ويمكننا أن نقول على وجه التأكيد إنه ما من شيء يجب أن يتفق العرب عليه، وتجتمع كلمتهم حوله أكثر من اتفاقهم على معاداة الصهيونية ومقاومتها، وزرع الحقد في نفوس العرب، والنشء منهم خاصة، ويجب أن لا نتهاون في القضاء على كل فرد يحاول الاتصال بالصهيونيين ويعاملهم بالأخذ والعطاء مهما عظم شأنه وارتفعت مكانته.
والدولة التي تعارض بهذا العمل، فالرجال الذين يسوقونها إليه إما أن يكونوا مأجورين أو بلهاء، فإن كانوا مأجورين لدولة أجنبية أو للصهيونيين، فهؤلاء يجب أن يقاومهم العرب ويزال وجودهم من الدنيا، وإن كانوا أغبياء لا يعرفون ما لهم وما عليهم، وقد تسنموا الحكم صدفة، فهؤلاء يجب دفعهم عن مواقع الاقتدار واستبدالهم برجال عقلاء وطنيين يخافون الله في أوطانهم ويسعون للذود عنها بمالهم ودمائهم.
وإنه من العار على الدول العربية أن يضمها سقف مع إسرائيل إن كانت الدولة منفردة أو مجتمعة مع بقية الدول العربية مهما كانت الأسباب الداعية إلى ذلك، كما أني أحسب أنه من الواجب الوطني أن تقاطع الدول العربية دعوة أي دولة كانت لأي اجتماع كان إذا كانت حكومة إسرائيل مدعوة إليه.
وأي عار أعظم من اشتراك الشباب العربي في مباريات الألعاب الرياضية الدولية مع شباب إسرائيل.
أما أدنياء النفوس من العصابات السافلة التي تهرب البضائع والسلاح وشباب اليهود إلى فلسطين، فعليهم لعنة الله والناس، ومن الواجب المفروض على كل عربي وعربية عرف بهم أن يقاطعهم، ويخبر الحكومات العربية عنهم ويشهرهم ويدعو إلى مقاطعتهم علنا.
وعلى الشباب وحده يقوم أمر تأديب أمثال هؤلاء الخائنين. (15) الدعاية
إننا بحاجة شديدة للدعاية، وحاجتنا إليها في هذه الأيام لا تقل عن حاجتنا إلى الخبز، وقد كان المكتب العربي القومي الذي أسسته عام 1934 تحت اسم «مكتب فخري البارودي»، وبدل بعد تشكيل الحكومة الوطنية عام 1937 باسم «المكتب العربي القومي» نشر في نظامه الأساسي بحثا أنقل منه هنا بعض ما جاء عن الدعاية:
وإذا راجعنا تاريخ نهضات الأمم التي استطاعت أن تبني لنفسها الكيان القومي الذي أرادته بعد الحرب الكبرى (أي حرب 1914)، نرى أن من الوسائل الفعالة التي استخدمتها تلك الأمم الفتية في جهادها هي الدعاية. ولا نعني بالدعاية الدعاية الخارجية فقط، بل الدعاية التي تشمل الناحيتين الداخلية والخارجية. فكما استطاع رجال النهضات في تلك الأمم بتأثير الدعاية القوية بمختلف عواصم العالم أن يجعلوا قضايا أممهم دولية عالمية، هكذا يجب على العرب أن يسعوا لجعل قضيتهم القومية أيضا قضية دولية عالمية ذات وزن وتأثير فعال في السياسة الدولية العامة، وذلك لا يتيسر إلا بالدعاية المنظمة النشيطة المستمرة.
يقول المسيو أوجين يونغ في كتابه «الثورة العربية»
La révolte Arabe :
إن السبب الرئيسي لفشل العرب في مؤتمر السلام، وما تبعه من النكبات التي حلت بهم، كان إهمالهم الدعاية لأنفسهم خلافا لما عمل البولونيون والتشيكوسلوفاكيون واليوغوسلافيون وغيرهم. (16) اهتمام الرأي العام الإنكليزي
وعندما زار فلسطين اللورد نورثكليف صاحب جريدة التايمس، قال لجمع من أبنائها الذين زاروه: «إنكم تبكون هنا ولا يسمعكم أحد في بلاد الإنكليز؛ إذ لا دعاية لكم فيها، وقد يهتم الرأي العام الإنجليزي بنتائج لعبة فوتبول أكثر من اهتمامه بقضية فلسطين.»
ولقد برهن الرأي العام العالمي الحر في الماضي في مواقف متعددة على نصرة الضعيف والمجاهرة بالحق. فما أراه يتردد عن إنصاف الأمم الفتية الناشئة ومعاونتها إذا تمكنت تلك الأمة من إسماعه صوتها وإفهامه حقيقة حالها، وإن إيماننا لوطيد بأن الرأي العام الحر في العالم عامة لا يتخلف لحظة عن معاضدتنا في نهضتنا إذا وفقنا إلى إفهامه الحقيقة ناصعة غير مشوهة.
ومما يجب علينا الأخذ به الآن الدعاية للقضية الفلسطينية بإظهار حق العرب الواضح فيها للشعوب العربية نفسها من جهة، وللأمم الأخرى على اختلاف مواقفها من هذه القضية من جهة أخرى، وذلك لما أصبح للرأي العام العالمي من أهمية كبرى وخطر جسيم في كل قضية من قضايا العالم. (17) عامل الدعاية الخارجية
إن الدعاية اليهودية في العالم قد احتلت الدرجة الأولى بين غيرها من الدعايات، فالإعلانات في الصحف تسعون بالمائة منها في أيدي اليهود يشترون بها صحف العالم، والسينما تسعون بالمائة من أموال شركاتها أموال يهودية ... مدراؤها ورجال الفن فيها كلهم يهود، والإذاعات في جميع الدول تسعون بالمائة منها تتأثر بالدعاية اليهودية، وأكثر من نصفها تدار بموظفين يهود ... ولهم طرق شيطانية إذا قدر الله وسمح لي الوقت سأضع عنها كتابا خاصا لأظهر للعالم كل الطرق التي اتبعها اليهود في دعايتهم التي بني أكثرها على الكذب والخداع، وكيف يعملون لإطفاء الدعايات الموجهة ضدهم.
وأخيرا، لا بد لنا من الدعاية الخارجية؛ فالصهيونية تجند قواها لتأليب الرأي العام العالمي علينا، وقد أصابت في ذلك الكثير من النجاح، ولقد قمنا بمحاولات بدائية ساذجة في هذا السبيل منيت بالإخفاق الشديد، ولم تعد علينا بشيء مما بذلناه في سبيلها من الجهد والمال، والسبب في ذلك أن أقوالنا كانت أكثر بكثير من أفعالنا؛ لأننا كنا نتكلم كثيرا ولا نفعل شيئا يذكر، أو أن ما نفعله يكذب كل ما نقوله، فلم يعد أحد يصدقنا، وصرنا إذا قلنا الحقيقة حملها المستمعون محمل التهويش والكذب، وهم بذلك معذورون، فلا بد للدعاية الناجحة من أساس هو العمل الذي لا سبيل إلى نكرانه، فاليهود مثلا كانوا يتخذون كل عمل صغير نجحوا في إقامته سببا لبث الدعاية لأعمال وهمية ليس في طوقهم تنفيذها، وكذلك نحن إن قمنا بشيء من الإصلاح الداخلي الذي ألمحت إليه، لفتنا أنظار العالم الخارجي إلينا، وإذ ذاك نستطيع أن نكسب الرأي العام العالمي لجانبنا، إذا عرفنا كيف نستغل هذا الميل بإقامة المكاتب في أمهات العواصم الأوروبية، وإنشاء وسائل الدعاية الحديثة من صحف ونشرات وأحاديث، فلن يساعد العالم الخارجي إنسانا لا يساعد نفسه. وإذا عرف العرب أن أكثر الشركات السينمائية في العالم بأيدي اليهود، وعرفوا قيمة السينما في الدعاية، أصبح من الواجب عليهم اتخاذ هذه الأداة الخطيرة المهمة وأمثالها سبيلا لإيصال دعوتهم الحقة إلى أذهان الشعوب.
ليس تنفيذ هذه الخطة بالأمر الهين اليسير، فهو يستلزم منا أفرادا وجماعات كل الجهود، ولكن هذه الجهود تهون إذا ما قيست بعظم الغاية التي نسعى إليها، فمن كان همه المحافظة على تراث الآباء والأجداد والإبقاء على أمجاد بلاده، استهان بكل تضحية في هذا السبيل، ومن ورد البحر استقل السواقيا. (18) معركة الحياة والموت
لذلك مما يجب الأخذ به هو أن نعنى عناية خاصة بعنصر الدعاية الواسعة، وذلك يكون بتأسيس دوائر خاصة للقضية الفلسطينية، يقوم عليها شبان قوميون مثقفون مخلصون، يعملون لهذه القضية في الشرق والغرب.
وإني لأعجب من ممالأتنا للحكومات التي أعانت الصهيونية منذ أمد طويل، والتي كانت من أقوى العوامل في تثبيت أقدام الصهيونية في الأراضي المقدسة، وكان لها الفضل الأكبر بتنشئة ربيبتها، فيجب أن نفهم ذلك. الشعب العربي أولا، ثم العالم أجمع ثانيا، ولا شك في أن الأحرار الحقيقيين في الأمم سيكونون ظهيرين لنا إذا عرفنا كيف ننظم دعايتنا ونوصلها إليهم، ونفهمهم قضيتنا على صحتها، ثم تتلوها المرحلة الثانية الحاسمة التي سيكون هدفها القضاء النهائي على الصهيونية في مهدها، واستخلاص ما استولت عليه من البلاد. إن هذا الداء كالسرطان أو أشد وبالا منه، فالواجب يدعونا أولا لحصر الداء في العضو المصاب، وأن لا يسمح له بالانتشار في بقية أنحاء الجسم، ثم نعمد إلى ذلك العضو بالعلاج اللازم حتى نشفيه. ولا تقل المرحلة الأولى عن الثانية أهمية وصعوبة في التنفيذ، فالعدو الذي نقاتله قد أوتي من العلم والدهاء الشيء الكثير، وهو يعرف أنها معركة الحياة والموت معا؛ لذلك فسيلجأ بكل ما أوتي من الخبث والدهاء إلى تحقيق أهدافه بمختلف الطرق وشتى الوسائل، وسيفتن في ابتكار الخطط والأساليب ليأتينا من مأمننا وينفث بين صفوفنا سمومه، فعلينا أن نقابل مكره بمكر أدهى، ودهاءه بدهاء أشد، وأن نجند في سبيل هذه الغاية كل إمكانياتنا وجهودنا، ولن نكون في هذا السبيل مسرفين، فعلى نجاحنا في هذه المرحلة يتوقف نجاحنا النهائي، وعلى نجاحنا النهائي يعتمد بقاؤنا سادة في أوطاننا أحرارا في بلادنا. (19) بعض طرق اليهود في مقاومة الدعاية
قال الأستاذ أحمد أمين بك، رئيس لجنة النشر والتأليف والترجمة، إنه لما ذهب إلى لندن مع أعضاء الوفود العربية في مؤتمر فلسطين، رأى في إحدى المكتبات مؤلفا بعنوان «فلسطين اليوم» لمؤلفه «المستر نيفل ميل باربر» مدير القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية، فاشترى نسخة منه، وراقه عطف المؤلف على العرب. وفي اليوم التالي صحب معالي السنهوري باشا إلى هذه المكتبة لابتياع نسخة أخرى للسنهوري باشا، فوجد أن النسخ قد نفدت، فمضيا إلى مكتبة ثانية فثالثة فرابعة، فلم يجدا فيها نسخة واحدة، مع أنه لم يمض على صدور الكتاب أكثر من ثلاثة أيام فقط، وأخيرا اتضح لهما أن الصهيونيين في إنكلترا ابتاعوا جميع النسخ الموجودة.
ومن هذا القبيل ما جاء في جريدة النصر بتاريخ 20 / 1 / 1950 الخبر الآتي:
أبلغت المفوضية اللبنانية في لندن وزارة الخارجية اللبنانية أن الجمعية المسيحية البريطانية للطباعة في لندن أصدرت أخيرا ستة ملايين نسخة من كتاب ضد اليهود، لتصريفها في الولايات المتحدة، فاشترت الوكالة اليهودية النسخ كلها من المتعهد بمبلغ ستة ملايين دولار، وأحرقتها في لندن، إلا أن نسخة من الكتاب المذكور وصلت إلى المفوضية اللبنانية، فأرسلت هذه النسخة إلى بيروت بالبريد الجوي، وأمن عليها وزير لبنان المفوض لدى شركات التأمين بمبلغ 35 ألف دولار، ولا أرى من حاجة للتعليق على هذا الخبر. (20) الاتحاد العربي القومي والتضامن المخلص
لا بد دون إتمام رسالتنا من أمور لا غنى عنها للنجاح النهائي، وقد أقام الحجة عليها فشلنا الأخير، فلا بد أولا من أن تتحد كلمة الأمة العربية، وأن تنتظم صفا واحدا تبطش شعوبها بكل من تسول له نفسه العبث بها، وكل من يظهر منه ما يدل على استعداده لتضحية مصالح الأمة في سبيل مصالحه الخاصة، فلن تصيب الأمة خيرا إذا تفرقت بها الأهواء وتضاربت المصالح، وقام على أمر بعض شعوبها من أعمته مصلحته الخاصة فباع نفسه رخيصا في سبيل الشيطان، فمثل هؤلاء يفتحون في صفوف الأمة العربية ثغرات سرعان ما ينفذ منها العدو المتربص ليعصف بنا ويقضي علينا، فإذا لم يكن من المتيسر أن تجمع الأمة العربية كلها دولة واحدة، وهو أقصى أماني كل مخلص لأمته وبلاده، فلا أقل من أن يقوم بين دولها اتحاد عام يوحد جهودها وينسق خططها في سبيل القضاء على العدو المشترك، ولا يسمح لأحد أصحاب الأطماع من الحكام أن يتخذوا الحكم وسيلة لإرضاء أطماع شخصية رخيصة، أو أن يكونوا ألعوبة بيد الأجانب ذوي المصالح. ومما لا شك فيه أن خطوة العدو الآتية هي أن يستغل التفرق في الصفوف العربية للإغراء بالمال والوعود ليتخذ من ذلك قاعدة لشن هجومه الثاني. وإذا وجد بين الدول العربية دولة تفتح أبوابها للصهيونيين، فعلى كل عربي مقاطعتها ومعاملتها معاملة العدو جزاء خيانتها. (21) العامل العسكري
وهناك القوة المادية العسكرية التي لا غنى عنها لتنفيذ غايتنا النهائية، فما استولى العدو عليه بالسيف لا يمكن استرجاعه إلا بالسيف؛ ولذا يجب على العرب أن يعدوا أنفسهم للجندية، وإذا لم نجند نساء ورجالا من ابن السادسة عشرة إلى ابن الستين، وإن لم نكن جميعا متهيئين للدفاع، فبلادنا ستصبح بأيدي اليهود، ومصيرنا سيكون كمصير فلسطين، وقد علمتنا التجارب وحرب اليهود أن الجيش الذي يتولى أمره قائد أجنبي مستعمر لا يسمن ولا يغني من جوع، كما علمتنا أن الدولة التي ليس لها معامل سلاح مغلوبة على أمرها مهما يكن لها من حلفاء. (22) ماذا أعددنا بعد الحرب؟
إننا نرى اليهود واستعدادهم الظاهر، سواء كان في جلب الأسلحة والعتاد من أوروبا وأميركا أو صنعه في فلسطين من جهة، أم إقامة الحصون والآطام على الحدود بينهم وبين الدول العربية، فماذا فعل العرب يا ترى؟!
إنه لا شك أن الدول العربية تعمل الآن على شراء الأسلحة والعتاد وتحضير ذلك لليوم اللازم، ولكن ماذا فعلت في الحدود مقابل ما يفعله الصهيونيون اليوم؟
إن كل بيت يبنيه اليهود على الحدود هو بمثابة معقل لهم، فهل نعتبر بذلك أم لا؟! (23) التربية الخلقية المبنية على الحقيقة والواقع
ويجب أن لا ينسينا الاهتمام بالناحية العسكرية أهمية الاستعداد المعنوي فيما نحن مقدمون عليه، فالإيمان المطلق الذي لا يتطرق إليه الشك في عدالة قضيتنا، هذا الإيمان الذي يستولي على النفوس فيدفعها إلى العمل المجدي ويجعلها تستهين بكل ما تلاقي من صعاب، وتستصغر كل ما تقدم من تضحية، لا يقل أهمية عن الاستعداد العسكري إن لم يفقه، فقد أثبتت الحرب الأخيرة أن الذين يربحون المعارك ليسوا دائما أولئك الذين يتفوقون على عدوهم باستعدادهم العسكري، وأن إيمان الجندي بأن ما يحارب لأجله هو قضية حياة أو موت له ولأمته، وأنه إنما يحارب للمحافظة على مبدأ قد ملك عليه نفسه، إن هذا الإيمان كثيرا ما يعمل العجائب ويقلب خطط رجال المادة رأسا على عقب، وكذلك الأمر معنا، فواجب القائمين على أمور الشعب العربي أن يفهموه حقيقة أمره وأن يطلعوه على ما يحيق به من الأخطار، وأن يستحثوا همته لدفع هذه الأخطار بالفعل لا بالقول، كما كان شأن العرب في السابق، ولكن بالإقناع المتتابع الذي لا يترك فرصة إلا اغتنمها لإثبات ما يسعى لإثباته، ويجب أن نبدأ في هذه العملية منذ الصغر، فنرضع أطفالنا لبان هذه الفكرة، ونعلمهم أن هناك خطرا يجثم بالقرب منهم يهددهم ويهدد أوطانهم بالفناء الأبدي، وأن عليهم أن لا يهنوا أو يستكينوا حتى يقضوا على هذا الخطر، فالقضاء عليه هو مهمتهم الأولى في الحياة، وهو الذي يبعث في نفوسهم معنى يجعل لهذه الحياة قيمة، وأنه هو الرباط الذي يجمع أفراد الشعب العربي، ويؤلف بين قلوبهم على بعد الدار واختلاف المشارب والأهواء، وإن على كل فرد أن يعتبر نفسه منذ نعومة أظفاره وحتى الرمق الأخير من حياته جنديا، عليه أن يقوم بواجبه مهما اختلف هذا الواجب، عندئذ يتكون رأي عام قوي تدعمه روح معنوية قاهرة تتغلب على كل ما يعترضها من صعاب.
وللوصول إلى هذه الغاية لا بد من تهيئة السبيل لها بأن ينعم أفراد الشعب بفوائد الاستقلال ومزاياه، وأن نترجم لهم هذه المزايا إلى فوائد حسية يستطيعون أن يلمسوها أينما اتجهوا، فقد بذلت الأمة العربية الجهود الجبارة في سبيل نيل الاستقلال، فلما نالته في بعض أقطارها كان الواجب أن يتخذ الاستقلال شكل منافع حية لا يمكن دفعها، كأن يمحى ما بين طبقات الأمة من فروق اجتماعية كبيرة، وأن ينتشر التعليم بين الأفراد لئلا يكون وقفا لفئة دون أخرى، وأن تعم العناية الصحية والتأمين الاجتماعي أفراد الشعب على اختلاف منزلتهم، وأن تستغل موارد الثروة في البلاد أحسن استغلال. والخلاصة أن نضمن لأفراد الشعب جميعا حياة اجتماعية توفر لهم كل متطلبات الحياة الحديثة، حينئذ يهب الأفراد لبذل النفس والنفيس لدفع كل خطر يتهدد هذه الحياة أو قد يودي ببعض ما نالوه من المزايا، فليست أية أمة بذات خطر متى انقسمت على نفسها، شيعا تتضارب مصالحها، أو عاش أفرادها حياة تافهة لا قيمة لها. (24) العلاج السريع لهذه القضية
لقد أكثر الكتاب البحث في قضية فلسطين، وأكثروا من وصف العلاجات لها، ومن هذه العلاجات ما هو مفيد ومنها ما هو غير مقبول، ومنها ما هو بطيء المفعول، والذي أراه من العلاجات المؤقتة السريعة، وقد يكون ما أراه أقرب شيء إلى الصحة، والحقيقة بنظري هو أن ننصرف بتفكيرنا وجميع كياننا العقلي والجسمي لتحقيق بعض الأمور:
أولها:
التشديد في مقاطعة إسرائيل الاقتصادية الشاملة، وحصارها حصارا اقتصاديا شاملا، بحيث تشترك بهذا العمل كافة الدول العربية مع شعوبها، وأن يؤيد ذلك تشاريع صارمة وعقوبات شديدة. فالمقاطعة الاقتصادية الشاملة هي أولى واجباتنا، فلا يجوز أن نشتري من منتوجات العدو شيئا مهما قلت قيمته، ولا أن نبيعه شيئا مهما بدا لأعيننا تافها لا قيمة له ولا غنى فيه، وواجب المقاطعة مزدوج يقع جله على عاتق الحكومات العربية، فهي بما أوتيت من خبرة واطلاع وسلطة واسعة يتوجب عليها أن تسن القوانين، وأن تفرض الأنظمة بحيث لا تسمح للأعداء مهما بذلوا من الجهد أن تغزو منتوجاتهم أسواقنا رغم ما قد يتخذون من الحيل في هذا السبيل، والواجب الآخر يقع على عاتق الشعب، فيجب أن يكون يقظا حذرا يؤمن أن المقاطعة هي سلاحه الأول للمحافظة على كيانه، فيكون على استعداد لأن يتحمل شيئا من شظف العيش إن تطلبت المقاطعة ذلك، وأن ينبذ من بين صفوفه كل من تسول له نفسه أن يستغل محنة أمته ليثرى من ورائها ويجمع الأموال. ولا أراني محتاجا لذكر الحجج لدعم هذا الرأي، فالأمر على غاية من الوضوح، وغاية الصهيونيين الأولى في فلسطين أن يمكنوا فيها أقدامهم أولا بتصنيع البلاد لتتسع فيما بعد لملايينهم، ولقد ابتدءوا السير فعلا في هذا السبيل، ولا بد للتصنيع من أمرين: أولهما إيجاد مورد ثابت للمواد الخام، وثانيهما تأمين أسواق لتصريف المصنوعات، ولتحقيق هذين الأمرين ينظر اليهود بعيون شرهة إلى العالم العربي المترامي الأطراف، فقد وهبته الطبيعة الكثير من خيراتها ونعمها، وهي لا تزال في حالة بدائية لم تستغل كل الاستغلال، ثم إن سكانه يتزايدون على مر الأيام عددا، وتتزايد بذلك مطاليبهم في الحياة، فأية بلاد أخرى في العالم توافق أهواء الصهيونيين وتنيلهم مآربهم على هذا الشكل؟ فإذا استمرت الأمة في ما هي عليه من غفلة وجدت نفسها لا حول لها ولا قوة، يغزوها العدو باقتصادياته في عقر دارها، فتعيش على ما يتصدق به عليها أعداؤها من خيرات بلادها، وإن شاءوا أمسكوه عنها فأصابوه في الصميم من كيانها. أما إذا انتبهنا لأمرنا، وحلنا دون أن يتسرب شيء إلى عدونا مما هو بحاجة إليه من المواد الخام، وحلنا دون استيراد ما يصدره من المصنوعات أصبنا اقتصادياته بضربة في الصميم تسهل علينا أن نجهز عليه في المستقبل، ولن يكبدنا ذلك كثيرا من التضحية، فشظفنا لن يبلغ شيئا مما يتحمله الإنكليز اليوم من شظف العيش والتقشف، بينما تغمر مصنوعاتهم أنحاء مختلفة من العالم في سبيل غاية أقل خطرا من الغاية التي نسعى إليها.
ثانيها:
أن تسرع الدول العربية في تهيئة شئونها العسكرية، فتقيم حلفا عسكريا يربط فيما بينها، تتوحد بموجبه قيادة جيوشها ويؤمن تحقيق برنامج كبير واسع للتسلح نستطيع بفضله رد العدوان ودفع كيد الغزاة وإيقاف تيارهم الجارف.
ثالثها:
تجنيد جميع قوى الأمة العربية وإعداد شبيبتها للحرب من سن «16 إلى 60»، وتنظيم القسم النهائي وتدريبه بإعداد نفسه لتحمل الحرب الطويلة التي ستقوم بيننا وبين إسرائيل إلى أن نحوز النصر النهائي.
رابعها:
تجنيد قوى المهاجرين العرب في أمريكا وغيرها، والاستفادة من قواهم الكافية مثلما يفعل أخصامنا في القارات الخمس.
والمهاجرون العرب في أمريكا وأفريقيا وأستراليا يعرفون مقدار تعاون اليهود في تلك القارات، فعليهم يتوقف النجاح إلى درجة عظيمة؛ لأنهم باحتكاكهم باليهود عرفوا قيمة العمل المشترك بين أبناء الأمة الواحدة، وعرفوا معنى الوطنية الحقيقية. ومتى وحد العرب كلمتهم ووحدوا قيادتهم وجيوشهم أمكنهم الوقوف أمام الخطر الجارف.
بهذا تكون الأمة العربية قادرة في كل وقت على كيل الصاع صاعين، ورد الضربة ضربات، والقضاء في النهاية على العدو الغاشم المغتصب من غير رحمة ولا لين. وبعد هذا كله نعود فنفكر بحياة مستقرة هانئة نسير على ضوئها مع الأمم الراقية وفي قافلتها العظيمة، رائدنا السلام، وهدفنا السعادة الدائمة للإنسان مما يتفق وما أراده الصديق الكريم الأستاذ قسطنطين زريق في كتابه «معنى النكبة» وتطبيقه على مدى الأيام حسبما تقتضيه سنة الرقي.
بهذا العمل يقدر العرب على حفظ كيانهم، وبغير ذلك فنحن سائرون إلى الزوال! (25) وأخيرا
بعد أن أطلنا البحث في وصف الداء وذكرنا لمحة بسيطة عن الدواء السريع، سأخاطب العرب بالصراحة التي خاطب فيها بن غوريون اليهود.
والحقائق هي حقائق، وليس بعد اليوم من خطر أدهى مما نحن فيه الآن، ولم يعد لنا إلا أنفسنا نتكل عليها ونؤمن بعروبتها. وقد علمتنا التجارب أن الاتكال على الغير مضيعة للوقت، وأن الاعتماد على من نسميهم بالأصدقاء والحلفاء مذهبة للكرامة والعزة. وها هي مفوضيات بعض الحلفاء مملوءة بالموظفين اليهود، وكثير منهم من يشغل مراكز هامة في تلك المفوضيات، فكيف يتلاءم ذلك مع الاعتماد على هؤلاء الأصدقاء الحلفاء؟!
فعلى العرب أن يفتحوا أعينهم، وأن يعرفوا واجبهم نحو أوطانهم، كما يجب عليهم معرفة عدوهم من صديقهم، وأن يقفوا وقفة رجل واحد في وجه الأخطار، وإلا قل السلام على العرب والعروبة.
اشهد اللهم إني حذرت، اشهد اللهم إني نبهت. والسلام على من سمع فوعى.
وصيتي الأخيرة
إلى شباب العرب من ضباط ومدنيين، شباب العمر والروح، من سواد العراق إلى بحر الظلمات، أضع هذا الميثاق راجيا منهم استظهاره والعمل به، والله الموفق إلى ما فيه خير العرب والسلام. (1) الميثاق الوطني للبارودي
كان شبان البلاد دائما
عمدة الأوطان عند المحن
فعلى شبابنا دفع الأذى
عن بلاد العرب طول الزمن
إن ميثاقي إذا قامت به
أمتي فيه حياة الوطن
قاطعوا صهيون في كل الورى
من أقاصي الغرب حتى اليمن
حاصروهم لا تبيعوهم ولو
قمحة أو درة من لبن
وكذا لا تشتروا من صنعهم
ماسة أو فتلة من قطن
لا ولو باعوكمو منتوجهم
في فلسطين بعشر الثمن
طمع الأفراد يفني أمة
إن تنحوا عن سوي السنن
واقتلوا بالفعل من عاملهم
في مجال الجد أو في الددن
1
إن شعبا لا يجازي خائنا
هو شعب لائق بالكفن
قلدوا الألمان في تنظيمهم
وخذوا بالثأر مثل الأرمن
Bog aan la aqoon