الحقيقي غير أمها وغير الله، من هنا تعذبت لأن حياتها قد خلت من الرجل؛ الرجل الزوج، والرجل الآخر الذي حال بينها وبينه سياج من العفاف والطهر، في بيئة كم امتحنت صمودها بألوان من المغريات. لقد عاشت كل أيامها في أسر الحرمان؛ حرمان الروح والجسد.
هذا المعنى الأخير، استطاع جيرار الفنان أن يتذوقه وأن يستشفه، وأن يصبه صبا في نظرة العينين الحالمتين. إنه كما قلنا لم يكن «يفهم» الكثير من قصة تلك الحياة، ومع ذلك فقد استطاع أن ينفذ شعوره الملهم إلى ما وراء المجهول، وأن «يتذوق» الحياة في قصة، وأن يصورها في نظرة، وأن يتحدث بها إلى الناس في ألوان وظلال.
هذا التذوق الشعوري الكامل هو أساس الأداء النفسي، أو هو الطريق إليه في مختلف الفنون. لقد كان طريق شوبان إلى هذا الأداء الذي نعنيه في مقطوعة «البريلود»، وكان طريق مورياك إلى هذا الأداء نفسه في قصة «أم»، وقل مثل ذلك بالنسبة إلى جيرار في لوحة «مدام ريكامييه».
ونحن بعد هذا لا ننكر أثر «الفهم» كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان، ولكن الذي نريد أن نقوله وقد سبق أن قلناه، هو أن الفن في جوهره ليس فهما للحياة، يقف بنا عند حد الرؤية المادية والإثارة العقلية، وإنما هو - إلى جانب هذا - حركة في الوجود الخارجي تعقبها هزة في الوجود الداخلي يعقبها انفعال؛ وكل هذه النقلات المترابطة تكون في مجموعها عملية التذوق، التي تمهد الطريق للأداء النفسي. ولو قدر للفنان أن يملك هذه الموهبة، فلا بد له من أن يملك القدرة على التعبير الصادق ليبلغ الهدف الأخير من ذلك الأداء.
إن الأداء النفسي لا يكمل معناه، إلا وهو قائم على دعامتين، هما: الصدق الشعوري والصدق الفني؛ متحدين في مجال صورة تعبيرية. أما الصدق الشعوري فهو ذلك التجاوب بين التجربة الحية وبين مصدر الإثارة، أو هو تلك الشرارة المشعة التي تندلع في الوجود الداخلي من التقاء تيارين: أحدهما نفسي متدفق من أعماق الشعور، والآخر حسي منطلق من آفاق الحياة؛ هذا هو الصدق الشعوري وميدانه الإحساس، أما الصدق الفني فميدانه التعبير، التعبير عن دوافع هذا الإحساس بحيث يستطيع الفنان أن يلبس تجاربه ذلك الثوب الملائم من فنية التعبير، أو يسكن مضامينه ذلك البناء المناسب من إيحائية الصور.
مشكلة العلاقة بين مي وجبران
إذا وصفت العلاقة بين مي وجبران بأنها مشكلة، فأنا لا أعدو الواقع بالنسبة إلى الحقيقة التي عاشت في نفسي ردحا من الزمن، وكانت مفرق الطريق بيني وبين غيري من الدارسين؛ هل كانت علاقة مي بجبران لونا من الصلة الشعورية، التي تندرج تحت كلمة الحب حينا وكلمة العاطفة حينا آخر، وتتصل من قريب ومن بعيد بأنوثة المرأة ورجولة الرجل، إذا ما حددنا العاطفة الأنثوية نحو الطرف المقابل بأنها تفضيل وتمييز وإيثار؟ هذه هي المشكلة؛ المشكلة التي يتطلب بحثها الكثير من الوعي والكثير من الحذر والكثير من الأناة؛ لأن الباحث المسرع في الدراسة أشبه بالسائق المسرع في القيادة، كلاهما وهما في سبيل الوصول إلى هدفه المنشود في أقرب وقت قد يرتكب جريمة قتل، وفي خلال الطريق قد يكون المقتول بالنسبة إلى السائق رجلا وبالنسبة إلى الباحث حقيقة؛ والحقيقة التي قتلها الدارسون «المسرعون»، هي أن عاطفة «الأنوثة» في مي لم تتجه يوما إلى جبران!
إن صورة تلك العلاقة قد بدأت في نفسي، وهي داخل إطار من الشك المثير. أما مصدر هذا الشك فهو طبيعة من الأنثوية. لقد بدت لي هذه الطبيعة يوما وهي مغلفة بالانحراف ملفعة بالشذوذ، حتى استحالت في بوتقة الفكر إلى سؤال حائر ينتظر الجواب: هل كانت مي امرأة؟ امرأة ورثت كغيرها من النساء تلك التركة الخالدة عن الأم الأولى وهي حواء؟ إن المرأة الطبيعية في رأيي هي تلك التي يستيقظ في أعماقها الشعور بالرجل، سواء أكانت هذه اليقظة في صورة حب مضطرم، أم كانت في صورة عاطفة جياشة، أم كانت في صورة حس مشبوب؛ هذه هي المرأة الطبيعية. أما المرأة الشاذة فهي تلك التي «تنام» في أعماقها مثل هذه «اليقظة»، هي تلك التي تلهب دون أن تحس بين جنبيها وهج النار، هي تلك التي تثير ولا تثار؛ هي مي في حقيقتها العميقة التي لم «تتذوق» طعم الحب؛ لأنها فقدت «شهية » الأنوثة، وهذا هو الباب المغلق الذي يحتاج ليفتح على مصراعيه إلى طرق عنيف!
لقد تتبعت حياتها النفسية وهي بين الرجال، وهي في صالونها الأدبي في أيام الثلاثاء، وكان من بين أولئك الذين يحيطون بها رجال ممتازون؛ بعضهم لا تنقصه الرجولة، وبعضهم لا تنقصه الشهرة، وبعضهم لا تنقصه المكانة الأدبية والاجتماعية، وكل هذه الصفات جديرة بلفت نظر المرأة واجتذاب أعمق ما فيها من غرائز الأنوثة، تلك التي تنشد في الرجل وجها معينا من وجوه الإثارة. كانت تجتمع بهم، وتتحدث إليهم، ثم لا شيء وراء الحديث المألوف واللقاء المتكرر مما يتصل بالشعور الأنثوي والعاطفة الوجدانية. ولقد شغف بها بعضهم ذلك الشغف الذي يؤدي بالكرامة ويعصف بالوقار، ومع ذلك فقد ظل القلب العجيب على هموده، وخموده، وكأنه لا يعرف النبض ولا يعترف بالخفوق! هذا ولي الدين يكن يقول لها يوما في إحدى رسائله:
سيدتي ملكة الإلهام؛ ما أسكت هذا القلم عن مناجاتك إلا حرب الأيام، إنه منذ أيام كثيرة أسيرها الذي لا يرجى فكاكه. غير أني كنت أناجي روحك كلما بدت لعيني أشياء من محاسن هذا الوجود؛ كم وقفت أمام الأبيض المتوسط أرتجل العبرات، هذه أشعاري لا أهديها إليك، إني لأشفق أن أحييك بغير الابتسامات؛ وكم دخلت الروض أساجل قماريه، تلك أغان أرجعها لديك، إني لأخاف أن أغنيك بغير المسرات. والآن عندي قبلة هي أجمل زهرة في ربيع الأمل أضعها تحت قدميك، إن تقبليها تزيدي كرما وإن ترديها فقصاراي الامتثال. وبعد، فإني في انتظار بشائر رضاك، وطاعة لك وإخلاص!
Bog aan la aqoon