كلمة على رياض باشا1
نص الخطبة التي ألقيت على قبر الفقيد في حفلة الأربعين
كلمة على رياض باشا1
نص الخطبة التي ألقيت على قبر الفقيد في حفلة الأربعين
كلمة على رياض باشا
كلمة على رياض باشا
وصفحة من تاريخ مصر الحديث تتضمن خلاصة حياته
تأليف
أحمد زكي
وما ضرني أن قال أخطأت جاهل
إذا قال كل الناس أنت مصيب
رياض باشا من أكبر رجالات مصر المعدودين (توفي إلى رحمة الله يوم السبت 20 جمادى الثانية سنة 1329 / 17 يونية سنة 1911 بمدينة الإسكندرية).
كلمة على رياض باشا1
عظماء الرجال هم الأمثلة الحية لمعاني الإنسانية.
فالحكمة، والشجاعة، والبلاغة، واستنباط العلوم، واختراع الآلات، وتدبير المال، وقيادة الجند، وسياسة الملك: كل هذه معان للإنسانية العامة تتقاسمها الأناسي تقاسما متفاوتا حتى تفنى في بعضهم، ولكن هذه المعاني السامية قد نراها مكبرة، معظمة، مجسمة، حتى نكاد نبصرها بالعين ونلمسها باليد في عظماء الرجال: من الفيلسوف، والشجاع، والكاتب، والعالم، والمخترع، والاقتصادي، والقائد، ومدبر أمور الجمهور.
أولئك الذين يظهرون في الوجود في أزمان متباينة وفي أقطار متنائية. أولئك الذين يلقون على أممهم المغتبطة بهم دروسا عالية في الإنسانية الفاضلة، دروسا واضحة جلية، فيجددون ما اندرس فيها من معاني الإنسانية، أو يكملونها فيهم إن كانت ناقصة، أو يظهرونها للعالم على أيديهم إن لم يكن قد سمح بها الزمان.
بمقدار نبوغ العظماء في كل أمة، قلة وكثرة، تكون منزلتها بين الشعوب رفعة وانحطاطا. بل على قدر وجودهم في الدنيا تكون عظمة العالم وتقدمه في مضمار الحضارة والعرفان.
أفلا ترون العالم الراقي مدينا في أخلاقه وحكومته ونظامه وصناعته وتجارته وأسباب رفاهيته إلى أفراد قلائل في الخلائق؟ قد كانت أفكارهم الثاقبة لقاحا للعقول، وأعمالهم الخصيبة بذورا صالحة وأغراسا مباركة لفائدة المجموع.
تلك المعاني الشريفة وتلك القوى الباهرة التي تتجلى على الناس من حين إلى حين في صور أشخاص عظام. وهي إنما تكون كامنة في النفوس المستعدة لهذا الفيض كمون الكهرباء في بعض الأجسام. فكما أن الدلك والحك يثيران الكهرباء، فكذلك تلك المعاني وتلك القوى يثيرها في بعض النفوس عاملان مؤثران:
أولهما:
تدوين سير هؤلاء الأعلام النبلاء وبيان الخطة التي ساروا عليها، فكانت سبب نجاحهم في الدنيا. لا جرم حينئذ أن من يأنس من نفسه القدرة على تحديهم أو اللحاق بهم يسعى فيحاكيهم أو يربو عليهم، أو يتمم عملهم إن كان قد أوتي حظا من نصيبهم.
وثانيهما:
إعراب المتمتعين بثمرات أولئك الأعيان عن شكرهم في السر والعلن، لصنيعهم الحسن، وفي خدمة الأمة والوطن. والإقرار بالفضل بعد الموت آثر عند الله والناس منه في حالة الحياة.
وليس من دليل على الوفاء لهم بعد وفاتهم أكثر أثرا وأحسن وقعا من تجديد ذكراهم وتمجيد آثارهم. فلعمري إن هذا الصنيع! فوق إحاطته بفضيلة الوفاء - وإن كانت قليلة في طباع الناس - لمما يحيي فكرة النبوغ في نفوس المستعدين، لا سيما إذا كان العظيم عصاميا. وجل العظماء عصاميون.
وإننا اليوم باجتماعنا - معاشر أعضاء المجمع العلمي المصري والجمعية الجغرافية الخديوية - لتأبين فقيد مصر العظيم رياض باشا؛ نفي بإحدى الحسنيين؛ فنحن نجاهر على رءوس الأشهاد وفي هذا الجمع الحافل الموقر باعترافنا الجميل، لذلك الراحل الجليل، الذي بكاه النيل وأبناء النيل.
أما تدوين سيرته الذكية الزاكية، وشرح أعماله العائدة بالفائدة على مصر الذاكية الذاكرة، فهو متروك لرجال التاريخ، وهم خير كفيل بحفظه وتوريثه لمن يخلفنا من الأجيال الآتية، ليكون نبراسا للبحث والتفكير والعمل. وقد سبق لهذا العاجز قيامه ببعض هذا الواجب
2
على ضريح الفقيد نضره الله بالروح والريحان!
كل الحاضرين (والمتكلم الضعيف في جملتهم) وجميع الغائبين (وأهل مصر بعض منهم) يشهدون بأن رياضا كان في بابه من نوابغ مصر والشرق في هذا العصر.
ومن ذا الذي ينكر أن نبوغ رياض لم يقف عند حد تدبير الملك وسياسة البلاد، حتى تعداه إلى كثير من الفضائل القومية والمزايا الإنسانية التي قلما تجتمع في شخص مفرد، وليس ذلك على الله بمستنكر.
فالرجل، كما هو معدود في طليعة السياسيين والمديرين، كذلك كان في مقدمة الهداة والمصلحين. وكما هو في عداد نوابغ الإداريين الحازمين، فقد انتظم في سلك أكابر المشرعين والمقننين. وبينما يحله قوم في زمرة الاقتصاديين الماليين، يرفعه آخرون إلى مكانة العاملين المجدين والمنظمين المجيدين. هذا إلى أدب بارع، وقول حكيم، وكرم حاتمي، ورحمة لا تتناهى.
تلكم الصفات العالية والأخلاق الراضية عرفناها في رياض، وتجلت بأبهى مظاهرها على الجيل الماضي والجيل الحاضر. وها نحن نجتلي كل يوم آثارها الخالدة بين ظهرانينا في ربوع مصر، وطننا العزيز: ما بين وضع نظامات إدارية، وتشريع قوانين أهلية، وتأييد معاهد علمية، وتعضيد صحافة عربية، وتنشيط صناعة وطنية، ومؤاساة ملاجئ خيرية، وتفقد أندية أدبية.
كان المجمع العلمي المصري والجمعية الجغرافية الخديوية ممن فاز بكثير من نفحات رياض ونال قسطا كبيرا من تلك الأيادي البيضاء التي لا ينساها ولن ينساها الأعضاء، ما بقيت محبة الرجل راسخة في قلوبهم، وهي راسخة ما جاش فيهم خاطر أو تحرك لهم لسان!
فلقد طالما عضدهما ومهد السبيل أمامهما بجاهه ورأيه، وبلسانه وبنانه! وكم له فيهما - رغم أعماله السياسية والإدارية الكثيرة - من موقف صدق جلى فيه غامضا وأزاح باطلا، وأيد حقا وحيا مستكشفا، وعزز باحثا وأبن ميتا!
وما ننس لا ننس موقفه المشهور المشهود في إحدى حفلاتنا الفريدة (5 يناير 1878) وهو يحيي بطل إفريقية العظيم، وأعني به ستانلي الرحالة الشهير، الكاشف لمجاهل السودان، والسالك للبقعة التي كنا نسميها بالمجهولة قبل الآن، وفاتح أبواب القارة السوداء لرواد المدنية وطلاب التوسع في العمران؛ فكان رياض أول عظيم حيا ذلك العظيم، بل كان أول نائب عن أهل المدنية في الترحيب بذلك الضيف القادم من تلك الفيافي الموحشة التي يأنس فيها الإنسان للوحش العادي، ويفزع إذا لقيه الإنسان العادي، ولسان حاله يردد قول الأحيمر السعدي:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير
فكما رحب أهل الشرق في شخص رياض بأبناء الغرب في شخص ستانلي، كذلك كان رياض نقطة الاتصال بين المصريين والإفرنج عند ظهور المحاكم المختلطة بمصر؛ فقد مضى الآن خمسة وثلاثون عاما، إلا ثلاثة أيام بالتمام، على تلك الحفلة التي وقف رياضنا فيها خطيبا باسم الحكومة المصرية، معلنا في أول يناير سنة 1876 بافتتاح محكمة الاستئناف والمحكمة الابتدائية المختلطتين في مدينة الإسكندرية، بلفظ وجيز باللغة الفرنسية، هذا تعريبه حسبما ورد في الوقائع المصرية:
يا سادتي إني أفتخر برياستي هذه، بتأديتي في هذا اليوم رسم افتتاح المحاكم الجديدة التي بكم هيئتها المجتمعة؛ فأنتم مدعوون للتعاون على إحراء هذا الأثر الجليل المقدار الذي يفتح عصرا جديدا بالنسبة للتأسيسات المصرية العدلية. وحيث إن إجراءه ونجاحه محول عليكم، لا أرتاب في أن إقداماتكم ومساعيكم تكون مصروفة إلى أعلى مقصد مرغوب، وها أنا أعلن فيكم رسميا افتتاح تلك المحاكم.
وإذا أرجعنا البصر كرة أخرى إلى المجمع العلمي المصري نرى رياضا صاحب الفضل في تخصيص الدار التي لا يزال هذا المجمع يعقد جلساته فيها إلى اليوم، وهي الكائنة في السرادق البحري الغربي من مجموعة المباني التي تجمعنا وإياكم الآن، وهي تقيم في معظمها نظارة الأشغال العمومية.
كان ذلك في سنة 1880 حينما كانت مقاليد نظارة الداخلية بيد رياض، وكانت تلك البقعة تعرف في ذلك الوقت باسم مدرسة بنات الأمراء. ولقد أعرب في كتابه الفرنسي المؤرخ في 4 فبراير نمرة 564 عن مزيد سروره من تمكنه من مساعدة المجمع العلمي بهذه المنحة الباقية إلى عهدنا هذا، وقد كان مقر هذا المجمع بمدينة الإسكندرية قبل ذلك اليوم. وبهذه المناسبة توجه وفد من زملائنا السابقين إلى نظارة الداخلية ليشكروا زميلهم الوزير. ومما يحسن ذكره في هذا المقام أن انتظام رياض في سلك هذا المجمع كان في 14 يونيو سنة 1874.
ولم تقتصر خدمة رياض للعلم وأهله على هاتين الجمعيتين، بل قد امتاز بتعضيد الصحافة العربية على اختلاف المشارب والغايات، وحسبي أن أقول (ولا يستطيع معترف بالجميل أن ينكر علي قولي): إنه لولا رياض، لما كان للجرائد السياسية والمجلات العلمية هذا الصوت العالي الذي تتجاوب أصداؤه في مشارق البلاد ومغاربها.
سلوا من سبقوه إلى عالم الهنا، فهم الشهود العدول؛ سلوا محمد عبده وأديبا إسحاق، وسائلوا عبد الله النديم وسليما النقاش، واستخبروا إبراهيم المويلحي وسليما تقلا والسيد وفا زغلول وبشاره تقلا، بل عليكم بأبي السعود وأمين شميل، وإبراهيم اللقاني، وجرجس ميلاد . فإن لم يجيبوكم حوارا أجابوكم اعتبارا. وكيف لا؟ وقد تركوا بين أيدينا من أياديه مآثر وآثارا. بل هؤلاء الأحياء وهم كثير،
ولا ينبئك مثل خبير .
على أن هذه العناية لم تقتصر على أهل الصحافة؛ فقد كان رياض وسيع الجناب لأهل التأليف والنشر والترجمة.
وماذا أذكر وماذا أترك؟ فالمجال فسيح ولكن الوقت يضيق عن سرد الأسماء، فأكتفي بالإشارة إلى بيت البستاني، وقد جرت العادة بأن البستاني هو الذي يوالي الرياض، ولكن رياضنا هو الذي أولى البستاني نفحات تتلوها نفحات.
أفراد هذا البيت - وكلهم أفراد - لا يزالون يرطبون ألسنتهم بمديح رياض، ويشكرون إحياءه لهم وإعلاءه ذكرهم وتنويهه بقدرهم؛ لأنه هو الذي كانت له المأثرة الأولى واليد الطولى في ظهور ذلك السفر الحافل الذي تفتخر به اللغة العربية في العصر الحديث، أعني به دائرة المعارف التي هي آية الفخر لعميدهم الجليل المعلم بطرس البستاني ولبقية أهل بيته من بعده.
فهل يقوم بعد رياض من يكمل عمل رياض مع دوحة البستاني؟ أم يبقى العمل مبتورا بعد ذهاب ذلك العميد وذلك العماد؟ إنني أغتنم فرصة هذا الموقف الجليل، بين أيدي الغطاريف البهاليل، من سروات وادي النيل، لإبداء أمنية لا تزال تتردد بين جوانحي، وهي أن يوفقنا الله ويمن علينا بوجود القادرين على التمام.
وما أكثر نظائر البستاني من المؤلفين والمترجمين والباحثين! قد كانت لهم من معونة رياض قوة فوق قوتهم اقتحموا بها غمار النبوغ والشهرة، وكانوا له خير معوان على النهضة بالأمة وترقية المعارف.
وما لي وللأشخاص وها هو بين أيدينا أثر عظيم ينطق ليلا ونهارا بفضل ذلك الراحل العظيم؟ وأعني به دار الكتب الخديوية، فإن يكن فقيد العلم المغفور له علي باشا مبارك هو الذي جمع شتاتها ولم شعثها، فقد كان لرياض يد طائلة في ضمان مستقبلها وتوفير خيراتها المعنوية إلى ما شاء الله؛ فهو الذي أقنع سيد النيل ورب النيل بإيقاف الأطيان الدارة عليها وقدرها 1800 فدان، وناب عن مولاه الكريم في تحرير حجة الإيقاف. ولذلك سيبقى اسمه مقرونا باسمها، ما دام العلم مرفوع المنار! وها هي الآن قد أصبحت قطوفها دانية، ووفودها متزاحمة في الليل وفي النهار بفضل عناية الوزارة السعيدية الحاضرة في ظل ولي الأمر في مصر حفيد «محمد علي» ولا فخر الجالس على تخت المعز
3
وبنيه، القابض على صولجان صلاح الدين
4
وذراريه، الوارث لتاج الظاهر
5
والناصر،
6
المستوي على عرش المؤيد
7
والأشرف
8
مولانا المقر الأشرف (الحاج عباس حلمي الثاني) محيي الآداب العربية أدام الله توفيقه لتجديد المكارم ورفع شأن الأمة المصرية!
ماذا أبدي وماذا أعيد؟ أفتحدثني نفسي باستقصاء مناقب رياض في هذا الموقف الرهيب، الذي هو أشبه بجلسة الخطيب؟
حاشا لله! ما أريد ذلك ولن يريده غيري، ولكن الواجب وذكرى الجميل يحتمان علينا معاشر أعضاء المجتمع العلمي المصري والجمعية الجغرافية الخديوية أن نشيع هذا الراحل عنا، الباقي حبه في قلوبنا، بالاعتراف جملة بتفضله علينا ومؤازرته لنا في جميع أعمالنا، ولكي ننوب بهذا الرمز الصغير عن جمهور الخادمين للعلم والأدب والتاريخ.
ففي رضوان الله يا رياض! فقد فارقت أمة راضية، وجاورت ربا راضيا
إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا .
أحمد زكي
نص الخطبة التي ألقيت على قبر الفقيد في حفلة
الأربعين
وفيها خلاصة على تاريخ حياته
رجل كرياض، والرجال قليل، في بلد كمصر، عهده بالحرية قريب.
رجل كرياض، يفاخر به النيل، ويحق له الفخر، في هذا العصر الجديد.
رجل كرياض، نبغ في عهد إسماعيل، وامتاز في ذلك الدور، بالشكيمة والأثر الحميد.
رجل كرياض، خدم هذا الجيل، إلى أن دخل القبر، وهو قدوة الشبان والشيب.
رجل مثل رياض، وأرجو أن يكون رياض مثالا لكل رجل.
لا يكفينا أن نرى قومه وأهله، يقيمون له حفلة تتلوها الأخرى وتعززها الثالثة، بل ينبغي لهذه الأمة الناهضة أن يتضافر أفرادها على تخليد ذكراه، ليكون من موته له ولها حياة! •••
ترعرعنا وقد استرعى أسماعنا، ثلاثة من أسمى الأسماء، مختلفة في العنصر ولعلها قد كانت متفقة في المرمى. ثم نشأنا فشاهدنا منها مثلثا متساوي الأضلاع: رءوسه نوبار وشريف ورياض. هذا ترتيبهم بحسب الأقدمية، ولكنني أعتقد أن هؤلاء الساسة الثلاثة سواسية في الأهمية، نعم فلقد استداروا بمثلثهم حتى جعلوه كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها، وإن كان أولهم متمصرا، والثاني نصف مصري، وأما الأخير الذي تبكيه اليوم هذه الأمة فكان مصريا بكل معنى الكلمة، من حيث المنبت والمشرب، من حيث النزعة والغاية، من حيث الأماني والأحلام.
كان أحدهم إذا ورد ذكره على اللسان أو طرقت سيرته الآذان انساق الفهم إلى ذكر صاحبيه بطريق التلازم في الأذهان.
وما زال الثلاثة يتعاقبون بلا مزاحم على دست الوزارة، منذ تأسيسها على النظام الجديد، ست عشرة سنة ونصف سنة على التقريب أي منذ سنة 1878 إلى 1895 ميلادية/ 1295 إلى 1313 هجرية. ولم تنقطع هذه السلسلة التي تكاد تكون متواصلة إلا بفترتين مزدوجتين، كانت الفوضى فيهما قاب قوسين.
فأما الفترة الأولى فكانت في سنة 1296 / 1879 حيث تقلد المغفور له محمد توفيق باشا - وهو ولي العهد أولا وهو خديو مصر ثانيا - رياسة الوزارة مرتين، لم يزد عمر الواحدة منهما عن شهر واحد من 10 مارس إلى 8 أبريل ثم من 18 أغسطس إلى 21 سبتمبر.
وأما الفترة الثانية فقد ظهرت فيها وزارتان متواليتان، لم يزد مجموع عمرهما عن السبعة الشهور، وكان ذلك في خلال الخلل والفساد الذي ساد في البلاد، على عهد الحوادث المشئومة المعلومة من 4 فبراير إلى 21 أغسطس سنة 1882.
ولكن الصيت ما برح ملازما لأولئك الصيد، فلم تكن البلاد تعرف غير اسم شريف ونوبار ورياض، وكذلك كان الشأن فيما وراء البحار. وانفردوا أيضا دون سائر رجالات السياسة في مصر بإحراز رتبة المشيرية العظمى، وإن كان رياض قد امتاز على زميليه بالنشان المجيدي المرصع.
كان نوبار أول الثلاثة وآخرهم في تقلد رياسة الوزارة. فقد تولاها ثلاث مرات: الأولى في خلال سنة 1295 / 1878 إلى أوائل مارس سنة 1879/ربيع الأول 1296، والثانية من 10 يناير سنة 1884 / 1302 إلى 9 يونيو سنة 1888 / 1306، والثالثة من 16 أبريل سنة 1894 / 1311 إلى 12 نوفمبر سنة 1895 / 1313. وقد بلغ مجموع مدته في رياسة الوزارة 77 شهرا بالتقريب.
وأما الثاني فهو شريف. تقلد رياسة الوزارة أربع مرات: الأولى من 7 أبريل سنة 1879 / 15 ربيع الثاني سنة 1296 إلى أن تنازل إسماعيل ، والثانية متممة للأولى من 3 يوليو سنة 1879 / 14 رجب سنة 1296 إلى 21 سبتمبر سنة 1879 / 5 شوال سنة 1296، والثالثة من 9 سبتمبر سنة 1881 إلى 4 فبراير سنة 1882، والرابعة من 21 أغسطس سنة 1882 إلى 6 يناير سنة 1884. وفي ذلك العهد طلق الحكومة بتاتا بمناسبة انفصال السودان عن مصر. ولم يرجع للوزارة بعد ذلك إلى أن وافاه القدر المحتوم، وأعظم وجوه الشبه بينه وبين نوبار أنه لم يدخل في الوزارة إلا بصفة رئيس، وأما الفروق فكثيرة. وقد بلغت مدته فيها 28 شهرا ونصف شهر بالتقريب.
أما رياض فقد انتظم في سلك وزارة نوبار الأولى سنة 1877، ثم تقلد رياسة الوزارة للمرة الأولى في السنة التالية، ولم تأنف نفسه من الاندماج في زمرة الوزارة الأخيرة التي ألفها شريف (وإن كان انفصل منها بعد شهرين). ولكنه لم يرض بالاشتراك في الوزارتين اللتين ألفهما بعد ذلك نوبار، استلم رياض زمام الرياسة وبلغت مدته في الوزارة 11 شهرا، وفي الرياسة 74 شهرا.
على هذا المنوال، بقي الثلاثة رجال، يخلف بعضهم بعضا في الهيمنة على شئون مصر، إلى أن روعنا الزمان، بتهدم أحد الأركان، فتداعى ذلك المثلث عندما درج إلى ربه الوزير الشريف. ذهب بعد أن أبلى البلاء الحسن في خدمة الأمة والوطن، ذهب بعد أن أفاد وما استفاد. بلى إنه استفاد أكبر منقبة تصبو إليها النفوس العالية؛ فإنه شاد لنفسه تمثالا معنويا في فؤاد البلاد، وسيبقى اسمه الشريف كتميمة يحتفظ بها كل مصري صميم، ما دام النيل يجري من ينابيعه إلى الأشاتيم.
ثم هوى بعده ذلك النجم السيار الذي كان مصباحا مصاحبا لنوبار، وللرجل حسنات كبار، ولكنه بقدر ما أفاد قد استفاد، وربما زاد. لذلك عرف آله وذووه حقه عليهم، فصنعوا له تمثالا أجلسته البلدية في إحدى الحدائق العمومية بثغر الإسكندرية.
وأما شيخ الوزراء رياض، فكان فينا البقية الصالحة، والقدوة النافعة، وهو الآن في قبره ونحن من حوله، فعسانا نستفيد من موته كما كانت مصر قريرة العين به في أيام حوله وطوله.
من هو رياض؟
سؤال إذا وجهته إلى أهل هذا الجيل من أبناء النيل، ولو ألقيته على الأجانب في المشارق والمغارب ، لأجمع الكل بلسان واحد أن رياضا هو والعبقري شيء واحد. وذلك لأن الملأ أجمعين لا يعلمون عن رياض إلا أنه السيد، وأنه الكامل من كل شيء. ولعمري إن ذلك هو عين اليقين؛ فقد مضى على هذا العبقري ثلث قرن وهو منقطع القرين!
ولكن كيف وصل إلى هذه السيادة؟ - بالجد والإقدام، وبالترفع عن الدنايا ظاهرا وباطنا، وبالإخلاص في خدمة الأمة والوطن.
ولو أننا أردنا أن نتعرف السبب في تلك الجلالة التي كانت له في النفوس، وفي ذلك السلطان الذي امتلك به القلوب، لرأينا الأمر بسيطا وطبيعيا، ولعلمنا أنه في مقدور كل إنسان - إذا صدق في الإرادة وصدق في العمل - أن يجاري هذا الذي رحل. وكل من سار على الدرب وصل.
فذلك السر مما يستوجب الإذاعة، في هذه الساعة؛ فقد دخل الرجل في القبر وبقيت أعماله نبراسا لطلاب البراعة بين الجماعة.
ذلك أن رياضا تدرج في سلم الوظائف والأعمال، من أدناها إلى أقصاها، فكان عليما بكل الشئون، ضليعا مضطلعا بجميع الأمور.
دخل الفتى رياض أفندي في خدمة الحكومة المصرية بوظيفة مبيض في مجلس العموم بديوان المالية في 11 صفر سنة 1264 بماهية قدرها 145 قرشا صحيحا، ولاحت عليه مخايل النجابة وملامح الاستعداد، فارتفعت ماهيته بعد ستة شهور إلى 193 قرشا صحيحا و13 بارة. وكانت هذه الزيادة في نظير تكليفه بعمل آخر وهو قيد الخلاصات. ثم صدر الأمر بإلغاء ذلك المجلس فخرج فتانا من الخدمة في 10 ربيع الأول سنة 1265، ولكنه بعد شهرين ونصف توصل للدخول في المعية السنية للتبييض والقيد بماهيته المذكورة، فلم يأت الثاني من ربيع الأول سنة 1266 حتى انفصل من الخدمة وعاد إلى الفراغ، ولكن يوما واحدا؛ لأنه انتظم في اليوم الثالث في سلك عساكر الموسيقى برتبة الملازم، فقام بهذه الخدمة الجديدة خير قيام جعله أهلا لنيل رتبة اليوزباشي بعد شهرين اثنين، ثم ارتقى إلى رتبة الصاغ قول، ثم إلى رتبة البكباشي في بحر سنتين، كل ذلك في خدمة الموسيقى العسكرية.
فلما كانت سنة 1268 انتظم في سلك رجال المعية السنية، برتبة القائممقام وبصفة ياور بمعية عباس الأول، وهنالك ارتقى (5 صفر سنة 1269) إلى رتبة الميرالاي وبوظيفة مهردار لوالي مصر المشار إليه، وكان ذلك كله في مدة لا تزيد عن أربع سنوات وسبعة شهور.
ومن ذلك العهد دخل الفتى رياض بك في الزمرة التي كانت تعرف في تلك الأيام باسم «الذوات الكرام»، وبلغت ماهيته 3480 قرشا صحيحا.
رأى فيه عباس الأول ما يؤهله لخدمة الأهالي، فأسند إليه مديرية الجيزة وأطفيح (11 صفر سنة 1270)، وبعد سنتين تدرج به في سلم الصعود بالصعيد، فانتقل مأمورا لإدارة الفيوم بمديرية بني سويف، ثم مديرا لقنا بماهية قدرها خمسون جنيها في الشهر، وعاد بعد ذلك إلى العاصمة حيث أسندت إليه وكالة المرور والسكة بمصلحة السكة الحديد، ثم تحرك منها سنة 1274 بصفة مأمور لإدارة نصف أول روضة البحرين، أعني الدلتا الحقيقية المحصورة بين فرعي النيل شرقا وغربا والبحر الأبيض المتوسط شمالا، وهي اليوم عبارة عن مديريتي المنوفية والغربية، والنصف الأول المذكور كان في اصطلاح ذلك الوقت عبارة عما نسميه الآن بمديرية المنوفية، ثم صدرت الإدارة السنية بجعله وكيلا لهذه المديرية، وبلغت ماهيته 75 جنيها، فبقي في هذه الوظيفة لغاية 4 جمادى الثانية سنة 1277، وحينئذ قلب له الدهر ظهر المجن، وتبدلت تلك المنن بالمحن، فبدأ رياض يعرف أن الأيام دول، وأن صفوها لا بد له من الكدر؛ فقد صدرت في ذلك اليوم إدارة سنية أكتفي بنقل صورتها بالحرف بغير تعليق عليها ولا شرح، لأنها كمرآة لأسلوب الإنشاء وروح النظام في ذلك العصر. وهذا نصها:
بحسب ما عاينا بأثناء المرور في هذه المرة من مدير روضة البحرين ووكيلها وناظر قلم دعاويها من الإهمال في رؤية المصالح والدعاوى وتشهيل اللوازم وخلافه مما يغاير إرادتنا ويوجب تغيير خاطرنا، فقد رفعت ذلك المدير الذي هو شاكر باشا وعينت قاسم باشا بدله، وعيناك وكيلا بدل رياض بك، وعينا مصطفى فرهاد بك ناظر قلم دعاوى، فيلزم بوصول أمرنا هذا إليكم تتوجهوا لمحل مأموريتكم وتبادروا في رؤية المصالح والأمور المختصة بوظيفتكم وأنتم وفرهاد بك تبذلوا جهدكم في أداء ما يتوجب عليكم وتتركوا التصدي لما لا يعنيكم ، لأن الفضول مما يمنع القبول، والحذر ثم الحذر، من سوء السلوك فمن بغيره اعتبر، وينصف وتبصر، فقد أخذ في أسباب نجاته، وتشبث بعلو درجاته.
حاشية، أما إذا رأيتم أن المسئولية والجزاء الذي كان ترتب على ما وقع منكم قبلا من الأمر المغاير لطبعنا قليلا وعدتم لمثل ذلك فالرأي لكم فيه فلزم التحشية لتأكيد الإيقاظ والتنبيه.
ولكن مدة هذا الغضب لم تطل، فقد حظي رياض بالرضا ثانية بعد شهور قليلة؛ فإن سعيدا والي مصر استعاده في معيته «لخدمة الكتابة» بإذن تاريخه 10 ذي القعدة سنة 1277، حتى جاءت سنة 1279 فأنعم عليه برتبة المير ميران وجعل ماهيته مائة جنيه مصري في الشهر، بعد أن كان منذ خمسة عشر عاما مبيضا لا يتقاضى في الشهر جنيها واحدا ونصف جنيه.
حتى إذا كانت سنة 1281 صدر الأمر العالي بتعيين رياض باشا عضوا في مجلس الأحكام. وهذا المجلس يماثل ما نسميه الآن بمحكمة النقض والإبرام. ثم أحيلت إلى عهدته نظارة «أمور خاصة خديوي»، أعني الخاصة الخديوية حسب العرف المألوف في أيامنا هذه، بسبب السيادة التي بدأت تعود إلى اللغة العربية.
وانتقل رياض باشا إلى وظيفة مهردار إلى 11 شوال سنة 1284.
فغضب عليه إسماعيل وأصدر للمالية إدارة سنية مختصرة باللغة التركية هذه ترجمتها الرسمية:
بحسب الإيجاب قد صار رفعة رياض باشا مهردارنا سابقا من معيتنا، فلأجل إجراء إيجاب ذلك بالمالية لزم الإشعار.
ولا عجب في هذا الغضب؛ فمواقف رياض مع إسماعيل أشهر من نار على علم، ولكن رياض باشا إن كان يرفض الخدمة لأقل سبب، فإن مولاه كان في حاجة ماسة إلى مثله؛ فلذلك اضطر إسماعيل لإعادته إلى حظيرته، وأسند له في معيته وظيفة كانت تسمى «خزينه دار»، فجعل صاحب الترجمة عنوانها «خازن خديوي» ترجيحا للغة العربية التي كانت قد أخذت تنازع التركية وتسترد منها مكانتها في الرجحان، وكان ذلك في سنة 1286، ولكن ماهيته نزلت إلى 60 جنيها، ولم يكن صاحبنا من عباد المال وإنما كانت كل أمانيه ترمي إلى خدمة الأوطان بغير نظر إلى قيمة الأجر الذي يتناوله في آخر الشهر.
وفي سنة 1287 نال رتبة الروم ايلى بكلر بكى، وزادت ماهيته 75 جنيها (وهو مرتب الرتبة المذكورة)، وأرسله إسماعيل في مهمة سياسية إلى مقر السلطنة بالقسطنطينية.
فلما عاد منها صدر الأمر العالي بتعيينه مستشارا لرياسة المجلس المخصوص (وهو الذي خلفه مجلس النظار في النظام الحديث للحكومة المصرية إلى هذا العهد الحاضر). وصار مرتبه 125 جنيها، ومن هذه الوظيفة ارتقى إلى وظيفة مدير المدارس والأوقاف 22 رجب سنة 1290، وانضمت إليه وظيفة مستشار الداخلية ورياسة المجلس الحسبي أيضا في السنة التالية، ثم صار ناظرا للخارجية فالزراعة (وكانت هذه النظارة قد أنشئت في سنة 1292)، فالحقانية (ومن ذلك العهد أضيفت على ماهيته مصاريف للضيافات والجمعيات وقدرها 125 جنيها في الشهر، فبلغ مجموع ما يتناوله 250 جنيها)، فالمدارس فالتجارة فالزراعة (وصارت ماهيته 250 جنيها في الشهر). وكانت هذه الدواوين تابعة للمعية مباشرة، على غير النظام المعهود الآن في مجلس النظار، فإنه لم يتأسس إلا في سنة 1878 ميلادية.
وهنا مجال لاستطراد لا أراه خارجا عن الموضوع؛ لأن رياض باشا هو عبارة عن صحيفة كبيرة من تاريخ مصر الحديث، بل قد كانت له اليد الطولى والباع الكبرى في تحويل نظام الإدارة المصرية ووضع كثير من القواعد التي جرى عليها نظام البلاد الجديد.
كانت إدارة الحكومة في مصر منوطة بالخديو رأسا، وإنما يعاونه (إن صح التعبير) جماعة من أرباب المناصب العالية، كالذوات الكرام، على اصطلاح تلك الأيام، وقد وضعهم الخديو على رءوس الدواوين، ومرجع كل واحد منهم إليه مباشرة وبصفة فردية أي بغير اجتماع وبلا تضامن. وعند حلول الخطوب، كان الخديو يستشير هيئة تتألف من أولئك الرؤساء ومن غيرهم، وتلك الهيئة هي التي كانت تسمى بالمجلس المخصوص، وفي هذه التسمية بيان كاف لمعرفة المسمى ومقدار سلطته الفعلية، فكان هذا المجلس يتألف من نظار الدواوين ورؤساء بعض المصالح الكبيرة ومن بعض أعضاء آخرين يكونون فيه بمثابة وزراء بلا مساند: “Ministres sans portefeuille”
كما كان الحال إلى عهد قريب في بعض بلاد أوروبا وفي الدولة العلية العثمانية.
وكان رياض باشا في جملة أولئك «الذوات الكرام » بصفة ناظر للحقانية سنة 1876 / 1293 هجرية.
وربما كان من المفيد بيان هذه الهيئة الرسمية بالتفصيل:
ناظر المالية
إسماعيل صديق
ناظر الحقانية
مصطفى رياض
ناظر الخارجية
ناظر التجارة والزراعة
إسماعيل أيوب
رئيس مجلس الأحكام
محمد ثابت
رئيس شورى النواب
عبد الله عزت
سردار عسكرية
رئيس مجلس حسبي مصر
أحمد رشيد
محافظ مصر
عمر لطفي
محافظ إسكندرية
حسن راسم
ناظر داخلية
محمد توفيق - أي ولي العهد
ناظر جهادية
حسين كامل - شقيقه
ناظر بحرية
ناظر الأشغال
إبراهيم
ناظر المعارف والأوقاف
منصور يحيى
مستشار الأشغال
علي مبارك
أما الأعضاء الذين بلا مسند فكانوا أربعة، وهم: شاهين كنج، وعبد اللطيف، وجعفر صادق، والسيد أبو بكر راتب.
وما زالت الحال تجري على هذا المنوال إلى أن تداخلت أوروبا في شئوننا الداخلية لضمان الديون التي جرها التبذير والإسراف. فرأى إسماعيل أن الأزمة التي تورط فيها العرش لا دواء لها إلا بالتنازل عن سلطة الفرد، فأصدر باللغة الفرنسية في 28 أغسطس سنة 1878/غرة رمضان سنة 1290 أمرا عاليا إلى نوبار باشا بتشكيل مجلس النظار. ولما كان هذا الأمر الكريم هو الأساس الجوهري والقاعدة الأولى للنظام الحديث، فقد رأيت من الواجب ذكر مقدمته وخاتمته في هذا المقام، نقلا عن ترجمته العربية الرسمية القديمة. وما ذلك إلا لأن رياض باشا كان له اشتراك مهم في وضع هذا الأساس، ولأنه تولى مقاليد نظارة الداخلية في هذه الهيئة الجديدة.
قال إسماعيل:
إنني أطلت الفكر وأمعنت النظر في التغييرات التي حصلت في أحوالنا الداخلية والخارجية الناشئة عن تقلبات الأحوال الأخيرة وأردت في وقت مباشرتكم لمأمورية تشكيل هيئة النظارة الجديدة التي فوضت أمرها إليكم أن أؤكد لكم ما توجه قصدي إليه وثبت عزمي عليه من إصلاح الإدارة وتنظيمها على قواعد مماثلة للقواعد المرعية في إدارات ممالك أوروبا.
وأريد عوضا عن الانفراد بالأمر المتخذ الآن قاعدة في الحكومة المصرية سلطة يكون لها إدارة عامة على المصالح تعادلها قوة موازنة من مجلس النظار بمعنى أني أروم القيام من الآن فصاعدا باستعانة مجلس النظار والمشاركة معه.
وعلى هذا الترتيب أرى أن إجراء الإصلاحات التي نبهت عليها يستلزم أن تكون أعضاء مجلس النظار بعضهم لبعض كفيلا، فإن ذلك أمر لازم لا بد منه.
يجب على مجلس النظار أن يتفاوض في جميع الأمور المهمة المتعلقة بالقطر ويرجح رأي أغلبية أعضائه على رأي الأقل فيكون حينئذ صدور قراراته على حسب الأغلبية وبتصديقي عليها أقرر الرأي الذي تكون عليه الأغلبية ...
ينعقد مجلس النظار تحت رياستكم لأني فوضت هذا التنظيم الجديد إلى عهدتكم وجعلت مسئوليته عليكم وإني أرى أن تشكيل هيئة نظارة حائزة لهذه الخصوصيات ليس مخالفا لعوائدنا وأخلاقنا ولا لآرائنا وأفكارنا بل موافقا لأحكام الشريعة الغراء وبتعميم ترتيب محاكم الحقانية يكون فيها الكفاية لحاجات هيئتنا الاجتماعية والمساعدة على تتميم مقاصدنا الحقيقية ونياتنا الخيرية.
وإني معتمد عليك في إجراء الإصلاحات التي صممت عليها مؤملا أن تكفل للبلاد جميع التأمينات التي لها الحق في انتظارها والحصول عليها من حكومتنا. ا.ه.
وما دمنا قد جرنا الكلام إلى طرق هذا الموضوع، فإني أستميح العفو من السامعين بذكر مقدمة الأمر الأول الذي صدر في 7 أبريل سنة 1879 لشريف باشا بتشكيل الوزارة على إثر المشاكل المالية والدسائس الأهلية والأجنبية التي وقعت في البلاد.
قال إسماعيل:
إني بصفة كوني رئيس الحكومة ومصريا أرى من الواجب علي أن أتبع رأي الأمة وأقوم بأداء ما يليق بها من جميع الأوجه الشرعية ولكن لما نظرت السير الذي كانت عليه النظارة السابقة حصل لي غاية الأسف من أن ذلك السير كان على غير رضاء الملة والأهالي حتى نشأ عنه اضطراب ونفور سرى في جميع القلوب وحركها وكانت قبل ذلك في غاية الهدوء والسكون ... وقد وكلتكم بتشكيل هيئة النظارة بناء على الإرادة الصادرة في 28 أغسطس سنة 1878 وأن تكون تلك النظارة مشكلة من أعضاء أهليين مصريين يتبعون في سيرهم الطرق المنصوص عليها في الإرادة المذكورة وأن يتحفظوا على مأمورياتهم كل التحفظ إذ إنهم مكلفون بالمسئولية لدى مجلس الأمة الذي سيجري انتخاب أعضائه وتعيين مأموريته بوجه كاف للقيام بتأدية ما يلزم للحالة الداخلية ومرغوب الأمة نفسها ... هذا ولعلمي بحسن إخلاصكم بخدمة الوطن فلا أشك في أن تستعينوا على تلك المأمورية بالرجال المشهود لهم مثلكم بالأمانة والاحترام لدى الجميع لتتم بكم المقاصد المؤدية إلى التمدن والعمارية التي أريد أن يقترن بها اسمي.
هذا هو مبدأ النظام الذي أخذ يتدرج في طريق التقدم والارتقاء إلى الآن. وقد تخلله انتكاس ظاهري أو حقيقي ولكنه لم يدم زمانا طويلا. وذلك أن الاضطرابات التي اقترنت بأواخر حكم إسماعيل وباسمه أوجبت تنحيته عن العرش وقيام ولده الخديو محمد توفيق. فاستعفى شريف كما هي السنة الواجبة في مثل هذه الأحوال. فأصدر الخديو الجديد في 30 شعبان سنة 1296 أمره بإلغاء رياسة مجلس النظار وبأن كل ناظر يكون مسئولا عن جميع الأمور المختصة بنظارته. وهذا نص الإرادة بالحرف الواحد:
بما أن مجلس النظار صار لغوه وإبطاله وتقرر أن كل منستر يكون مسئولا عن الأشغال المنوطة بإدارة نظارته وأن المواد التي كان جاريا تقديمها ورؤيتها بذلك المجلس هذه من الآن فصاعدا يكون النظر فيها بمجلس يجري انعقاده بمعيتنا من النظار تحت رياستنا وكل من النظار إذا وجد عنده أشياء من هذا القبيل يستصحب معه أوراقها ومعلوماتها عند حضوره إلى المجلس لأجل رؤيتها وحصول المداولة عنها حسب اللازم، فعلى هذا وما هو معلوم لدينا فيكم من كمال اللياقة والأهلية قد عيناكم ناظرا على ديوان ...
وأصدرنا أمرنا هذا لكم للمعلومية والمبادرة في مباشرة وإدارة مأموريتكم هذه بكمال الاعتناء والاهتمام على الوجه المرغوب كما هو مطلوبنا. ا.ه.
هذه هي النكسة الارتجاعية التي قالت عنها الجريدة الرسمية (الوقائع المصرية) في ذلك العهد في وصف الخديو توفيق ما نصه:
فلله دره من متفرس يضع الأمور في مواضعها ولا سيما الأمراء ذوو العفة والاستقامة والمقام الرفيع فإن وضعهم في المأموريات الجسيمة دليل على صلاح الأمور وتسهيل كل معسور وقد انشرح بذلك خواطر الجميع فنسأل الله أن يزيل عنا كل ضيم ويتمم الأمور بالخير.
ولكن صناديد مصر الثلاثة لم يكونوا على هذا الرأي. ولذلك لم يشترك أحد منهم في هذه الوزارة الرجعية التي لم تعش سوى أربعة وثلاثين يوما ، ولم تعمل في الحقيقة شيئا. وذلك لأن الخديو استدعى رياضا وطلب منه تشكيل الوزارة المتضامنة على ذلك الأساس الذي شرحناه.
وهذه هي أول مرة تقلد فيها رياض باشا رياسة الوزارة في 21 سبتمبر سنة 1879. وقد كتب الخديو إلى الفقيد الذي نحن مجتمعون الآن على قبره ما نصه:
عزيزي رياض باشا
إني لما أخذت أخيرا زمام رياسة مجلس النظار بيدي لم يخطر بفكري إعادة الحكومة الشخصية، وإنما كان ذلك بالنظر لاحتياجات الوقت مع الرغبة في تقريب وتأييد العلاقة المحكمة بيني وبين أعضاء هيئة النظار، ولم يخطر ببالي أن يكون ذلك أمرا قطعيا ولا أمرا مخالفا للأصول التي اتخذتها منذ أخذي بزمام الحكومة؛ أعني الحكم بالاشتراك مع نظاري وبواسطتهم، وهذه الأصول من مقتضى الأمر الصادر بتاريخ 28 أغسطس سنة 1878. ولا يتعلق لي أن لا تكون مرعية الإجراء على الدوام.
ولا يخفى على سعادتكم ما انطوى عليه ضميري في هذا الخصوص، كما لا يخفى عليكم أفكاري المتعلقة بأمر الاستقامة والتقدم والنظام والاقتصاد التي أتمنى نجاحها وانتشارها في إدارة المملكة، وإني لمتيقن أنكم مشتركون معنا في هذه الأفكار والتصورات، وأنكم عازمون عزما قويا على بذل مجهودكم في تنفيذ هذه الأفكار بالتمام، وإني لأعرف درجة إخلاصكم وحسن طويتكم بالنسبة لخدمة الوطن ومراعاة قوانينه ونظاماته مع رغبتكم في بذل المجهود بحفظ حقوقه؛ ولهذا فإني مع ثقتي وحسن يقيني فيكم أكلفكم بتشكيل هيئة نظارة جديدة وأحلت رياسة مجلس النظار على عهدتكم حافظا لنفسي حق الحضور في جلساته وتولي رياسته عند الاقتضاء، وإني لمتيقن أنكم ستعتنون كل الاعتناء في انتخاب رفقائكم النظار ثم ترفع أسماؤهم لدينا لأصدق على توظيفهم. وبعد أن تشكل هيئة النظارة تأخذ في الأشغال على مقتضى ما نص عليه في الأمر الصادر المؤرخ في 28 أغسطس سنة 1878 فإنه لا يزال مرعي الإجراء في جميع أحكامه التي لا يعتريها تغيير بأمرنا هذا. وإن المحافظين والمديرين ومأموري الضبطيات ووكلاء النظارات وكتاب أسرارها ومفتشي الأقاليم ومديري الإدارات المهمة لا يكون تنصيبهم ولا عزلهم إلا بعد المداولة فيه بمجلس النظار والتصديق عليه من لدنا، وأما باقي الموظفين فيكون تنصيبهم وعزلهم بمقتضى أوامر تصدر رأسا من نظارهم الذين هم تابعون لهم. ولا يخفى عليكم أننا في شاغل من المسائل المهمة وقد دعتني الحاجة إلى أن أذكركم من جملة تلك المسائل بأهمية ترتيب ميزانية الإيرادات والمصروفات السنوية بطريقة منتظمة وبالترتيب النهائي المختص بالتحصيل الذي هو شديد الارتباط بالميزانية وبتنظيم حالة المالية المتأخرة المتعلقة بها جميع المنافع المستدعية لحسن عنايتنا ومعظم هممنا وإني على يقين بأني أعتمد عليكم في حل هذه المسائل وما شاكلها من الأمور المهمة ولخبرتكم التامة وحبكم للوطن لا تهملون في شيء يعود على القطر بالإصلاح الحقيقي الذي هو متمنى الجميع ويجب على كل منا أن يبذل غاية جهده في تمهيد سبله.
وقد تقلد رياض باشا نظارة الداخلية أيضا. وما زال يتقلدها بعد ذلك، كلما دعاه صاحب الأمر لرياسة مجلس النظار. وفي بعض الأحايين كان يضم إليها نظارتي المالية والمعارف العمومية، منفردتين أو مجتمعتين معا. وما ذلك إلا أنه كان أكثر من غيره خبرة ودراية بحاجات القطر الداخلية. وهذه أعماله وحياته كلها شاهدة له بأنه الفلاح وابن الفلاح وأبو الفلاح.
نحن في مقام لا يكفي فيه الكلام بطريق الإبهام. بل ينبغي لمثلنا في حق مثله أن يؤيد القول بالبرهان. ولما كان عمله الجليل كبيرا ولا يسعنا الإسهاب في الإتيان عليه، رأيت أن أتوسط في الأمر وأشير بنهاية الإيجاز إلى بعض أياديه على بلاده وأهليه.
فرياض هو الذي قوى دعائم مجلس النظار وجعل له سلطة فعلية حقيقية في إدارة شئون البلاد. وبهذه الوسيلة توصل إلى خدمة الأمة، خدمة تحفظها له القلوب وسيتحدث بها التاريخ.
فأول عمل انصرفت إليه همته هو النظر بعين الحكمة إلى مصدر الثروة في مصر، وهي أرضها. فأبطل الإنعام بالأطيان، لأنها ملك الأمة ولا يجوز لأحد أن يتصرف فيها بالهبة. وقد أوقف تنفيذ الأوامر التي كانت صدرت بهذا المعنى، مما لم يكن قد دخل في حيز الفعل (23 شوال سنة 1296 / 9 أكتوبر سنة 1879).
واستصدر في سنة 1894 أمرا عاليا بأن أرباب المعاشات والباشبوزوق الذين أعطيت إليهم أطيان لتعيشهم على شرط إعادتها لجانب الحكومة عند وفاة من يتوفى منهم عن غير زوجة ولا أولاد يكون له ولورثته حقوق الملكية التامة في الأطيان المذكورة، ولو لم يدفع المقابلة عنها، وأن الأطيان المعطاة للعربان ولم تدفع عنها المقابلة تكون ملكا صريحا للمعطاة إليهم الأصليين أو لورثتهم.
وهو الذي وضع القواعد لبيع أملاك الميري للأهالي (سنة 1297 / 1880).
وأنا أسرد أعماله في الحكومة أثناء وزاراته المتعددة مسرودة بحسب الموضوع لا بحسب التواريخ: (1) الثروة العقارية
رياض باشا هو الذي وضع أول لائحة للآلات الرافعة المعدة لري الأراضي وتجفيفها (5 رجب 1297 / 13 يونيو سنة 1880)، ثم استصدر قانونا للترع والجسور سنة 1890.
ثم استصدر قانونا للسكك الزراعية سنة 1890، وهي التي أفادت البلاد والمزارعين أيما فائدة. ولها الآن شأن كبير في تسهيل المواصلات ونقل المحصولات وتوطيد دعائم الثروة الأهلية في سائر أرجاء القطر.
ومما يجب ذكره في هذا المقام، أنه قرأ بنفسه في مجلس النظار هذا القانون مادة فمادة حتى أتى على الأربعين بغير ملل ولا كلل مع التمعن والتفكر في كل حكم من أحكامه.
ونظم المعاملات في حلقات الأقطان غاية شوال سنة 1296 / 16 أكتوبر سنة 1879. وها هي الشكوى عامة الآن بسبب رجوعها إلى الفوضى القديمة.
ومن مزايا هذا الفلاح على الفلاح، أنه وضع طريقة ثابتة لتحصيل ضرائب الأطيان في أوقات معينة. ورفع إلى الخديو تقريرا يبين له المضار التي تحيق بالفلاح من جراء اضطراره لوضع رقبته في قبضة المرابين. لعنهم الله!
وأين هذه المزية من تلك التي واصل السعي فيها حتى جعلها من الحقائق الملموسة باليد لكل إنسان إلى الآن، وأعني بذلك تسوية الأهالي بالأجانب في دفع الأموال الأميرية. فالأمر العالي المشهور باسم دكريتو (25 مارس سنة 1880 / 14 ربيع الآخر سنة 1297) هو من حسنات ابن الفلاح. ولو كنا في بلاد أخرى لسماه الناس قانون رياض. (2) أملاك مصر في الخارج
نظر الرجل إلى مسألة الأملاك الكائنة في الآستانة، وهي المعروفة بالساحلخانة. فسواها في مصلحة مصر ولفائدة الأمة. وقد كان بعض أعضاء العائلة الخديوية ينازعون في امتلاكها دون الحكومة المصرية (25 ذي الحجة سنة 1296 / 2 ديسمبر 1879). (3) باطن الأرض
نظر أبو الفلاح إلى أرض أجداده، فرأى أن يضم إلى العناية بها وبزرعها عناية أخرى بما في بطونها من كنوز الآثار القديمة، سواء كانت هيروغليفية أو عربية، أراد أن يستبقي للبلاد فخارها الفني فقرر «بأن كل شيء يتعلق بعلم الآثار القديمة مثل المومية والحفر والنقش القديم وبوجه الإجمال كافة الأشياء التي نوعها من نوع المحفوظات بالأنتيكه خانة ببولاق ممنوع تصديرها بالكلية، وكذلك الأشياء التي للمساجد والمعابد والأضرحة أو المأخوذة منها، تصديرها ممنوع بالكلية» (11 جمادى الأولى سنة 1297 / 20 أبريل سنة 1880).
ثم أدخل في حكمها الآثار القديمة «صناعية العرب» (3 ذي الحجة سنة 1287 / 7 مارس سنة 1871). (4) المواصلات
من الحسنات التي تذكر لوزارته الأولى إنشاء خط البوستة بين أسيوط وأسوان مرتين في الأسبوع على الوابورات البخارية. وقد كان ما بعد أسيوط من أرض الفراعنة محروما من المواصلة مع سائر القطر، اللهم إلا بطريق القوافل أو المراكب الشراعية (18 ذي القعدة سنة 1296 / 3 نوفمبر سنة 1879). (5) عمال الحكومة والأمن العام
جعل رياض عبرة الماهيات في جميع أنواع الخدمة الملكية بالوظائف لا بالرتب وقال: «إن الرتب إنما هي عنوان شرف وفخار.» (4 ذي القعدة سنة 1296 / 20 أكتوبر سنة 1879).
وقرر بدل السفرية ومصاريف الانتقال لموظفي الحكومة حتى لا يستمروا عالة على الأهالي في أثناء قيامهم بالمأموريات التي تعهد إليهم (25 ذي الحجة سنة 1296 / 9 ديسمبر سنة 1879).
وسعى لدى الدول إلى أن رضيت بعدم جواز الحجز على ماهياتهم أو التنازل عنها، وقد كان أغلبهم - إن لم نقل جلهم - أسيرا في قبضة المرابين، ففك رياض رقبتهم وحفظ كرامتهم.
وكان قد سبق له أنه استصدر أمرا عاليا في 15 أكتوبر سنة 1888 بأن ريع الأراضي الأميرية الموقوفة على أعضاء العائلة الخديوية وذريتهم، المعطاة لهم بدلا عن مرتباتهم التي كانت لهم في السابق، لا يجوز التنازل عنه ولا حجزه إلا لتحصيل الأموال الأميرية.
وكانت همته على الدوام منصرفة لتأييد سلطة الموظفين، ولا سيما المحافظين والمديرين، ليتمكنوا من تنفيذ مقاصده في تعميم الأمن وترويج التجارة وتحسين الحالة الاقتصادية في أكناف البلاد.
واستصدر أمرا عاليا (13 أغسطس سنة 1888) بأن كل محافظ وكل مدير هو النائب الوحيد عن هيئة الحكومة في المحافظة أو المديرية الموكولة إلى عهدته، وأن جميع الموظفين الموجودين في المحافظات أو المديريات يجب عليهم الإذعان لسلطة المحافظ أو المدير أيا كانت النظارة التابع لها هؤلاء الموظفون.
وكان في جميع أدوار حياته العمومية يعمل على تأييد نفوذ المحافظين والمديرين، لأنهم عماد الأمن العام والركن الحقيقي لكل نظام.
هذا وقد طهر البلاد من الأشقياء الذين كانوا يعيثون في الأرض فسادا حتى هدأ روع القطر واستقر الأمن العام في نصابه وانقطع دابر تلك العصابات المسلحة التي لا يزال ذكرها في الأذهان. وحينئذ ألغى الأحكام الاستثنائية التي اضطرت الحكومة (قبله وفي أيامه) لتقريرها، وحل تلك اللجنات المعروفة بقومسيونات الأشقياء (الأمر العالي الصادر في 15 مايو سنة 1889). (6) الحالة المالية
هو الذي سوى الحالة المالية في سنة 1879. وقد كانت على شفا جرف هار بسبب ما تقدم هذه المدة من ضروب الإعسار.
وفي عهده صدر قانون التصفية. وتصفية كل حساب - مهما كان فيها - فهي أفضل من بقاء الاضطراب واستمرار الاختلال.
ورياض باشا هو أول من وضع قواعد الميزانية على المنهاج المنتظم الذي لا يزال العمل به مستمرا الآن مع اختلاف طفيف في بعض التفاصيل والجزئيات. وكان ذلك في يناير سنة 1880.
فسارت الأمور بتدبير حكيم وعلى أسلوب رشيد إلى أن تسنى لصاحب الترجمة إصلاح الأحوال المالية إصلاحا عظيما. فبعد أن كانت مصر لا تعرف غير العجز بدأت تستطيع رفع رأسها. فكان صاحبنا أول من أسس الاحتياطي في ميزانيتها بعد أن بذل لدى الدول المساعي تلو المساعي. فأصبحت مصر ولها احتياطي قدره مليونان من الجنيهات (الأمر العالي الصادر في 12 يوليو سنة 1888). (7) تخفيف الضرائب وإلغاء بعض العوائد والرسوم والمكوس
انتظام الشئون المالية ساعد صاحب الترجمة منذ سنة 1888 على تخفيف كثير من التكاليف المالية عن عاتق الأهلين. فألغى ضريبة الملح التي كانت مفروضة على رءوس جميع السكان، وقدم في ذلك تقريرا طويلا من الآيات التي ينبغي مراجعتها، لمعرفة مقدار غيرة الرجل على أفراد أمته ورفع الضيم عنهم (31 ديسمبر سنة 1879).
وألغى «المقابلة» مع حفظ حقوق الأهالي فيما نالوه بسبب دفعهم بعض الأقساط منها (6 يناير سنة 1880).
ثم نظر إلى بعض العوائد والمكوس التي كانت تثقل كاهل الأهالي. فقدم تقريرا وافيا في 17 مايو سنة 1880 يقول فيه للخديو توفيق: «إن جملة من العوائد لا يستحق البحث فيها. فإن قاعدة ضرائب بعضها سيئة، وطريقة تحصيلها أسوأ، وكلاهما مخالف المخالفة الكلية لشئون العدالة والإنصاف التي هي من شيم حكومتكم السنية؛ والبعض الآخر من تلك العوائد، مع كونه مضايقا للممولين ومعطلا لتقدم التجارة والصنائع، فلا يحصل منه لجهة الخزينة إلا مبالغ واهية لا تكفي في غالب الأحيان لمصاريف تحصيلها.»
وبهذه الوسيلة توصل إلى إلغاء العوائد الشخصية والويركو
1
وعوائد التمغة على المصنوعات البلدية.
وأرى من الواجب الإشارة إلى ما قاله في هذا الصدد: «إن الأجانب لا يدفعون شيئا من هذه العوائد، فلا يتيسر للصانع ابن الوطن أن يجاري أو يباري بصناعته الأوروباويين في أشغالهم.»
وكان في جملة ما ألغاه عوائد الدخولية في النواحي أي القرى والكفور، وعوائد معاصر الزيوت، وعوائد المساكن في القرى والكفور، (وكانت الحكومة تحصلها باسم تنظيم) «مع أن المصاريف على التنظيم في تلك النواحي هي عديمة الوجود تقريبا» كما قال.
وقال في ختام التقرير الذي قدمه بهذا المعنى: «إن حسن التحصيل في أموال الأطيان يعوض النقص الظاهر في الإيرادات التي يجري عليها الإلغاء البادئ ذكرها، بل ربما يزيد عن التعويض.»
ولو أردت أن أذكر هذه العوائد بالتفصيل لضاق السامعون ذرعا ولعجبوا من أن أجدادهم الأقربين كانوا يتحملون هذه الأعباء التي أصبح أبناؤهم وهي لا تخطر على أحلامهم حتى في المنام. ولكنني أشير إلى الأمر العالي الذي صدر بها لمن يريد التوسع في معرفة اليد التي أسداها رياض باشا إلى قومه وبلده. هنالك يرى الطالب المعجبات المطربات، بل المحزنات المخزيات. فتاريخ هذا الأمر العالي هو 17 يناير سنة 1880. وكان رياض باشا في هذا العهد مهيمنا على نظارة المالية، بصفة مؤقتة.
ثم ألغى عوائد الأغنام والشعاري، وعوائد الدخولية على البذور الزيتية وعلى الزيوت المستخرجة منها. ثم خفض عوائد الدخولية على حيوانات الذبيح والمواشي من أول يناير سنة 1891.
هذا ولقد كانت مصر قبل سنة 1880 تدفع ضريبة خصوصية على زرع الدخان والتمباك، مقدارها تسعة جنيهات. فأنزلها رياض باشا إلى ستة، ثم أنزلها إلى جنيهين ونصف جنيه فقط. ثم رأى أن المصلحة المالية تقضي بمنع زراعة الدخان بالكلية، لقاء زيادة الرسوم الجمركية على الوارد من الخارج. وله في ذلك تقرير بليغ، مؤيد بالحجج والبراهين. وألغى الرسوم التي كان مشايخ البلاد يدفعونها عند تقريرهم في الشياخة (21 ذي الحجة سنة 1297 / 24 نوفمبر سنة 1880). ثم أعفاهم، هم والعمد وأولادهما، من الخدمة العسكرية في نظير الواجبات الكثيرة التي يقومون بها لمصلحة الأمة والحكومة.
وألغى الرسوم التي كان أهل الإسكندرية يدفعونها لأجل نزح «الأدبخانات» وقدرها عشرون قرشا في نظير الكشف الطبي وعشرون قرشا برسم قيدية الشرح على العرضحال الذي يقدمه الطالب لمصلحة الصحة دكريتو (17 محرم سنة 1298 / 19 ديسمبر سنة 1880).
ولكن ذلك كله، مجموعا إلى بعضه بعضا، لا يوازي عشر معشار المنقبة الكبرى والمفخرة العظمى التي طوق بها ذلك الفلاح عنق كل فلاح. وأعني بها سعيه في إلغاء العونة في سنة 1889. وله في ذلك تقرير ضاف واف، فضلا عن مواقفه المعدودة في الجمعية العمومية وخطبه الطنانة الرنانة التي ألقاها ارتجالا في جلساتها، مما يحاكي صنيع أكبر الوزراء في أعظم مجالس النواب بديار أوربة. ولو أردت أن أسرد شيئا من دررها على الأسماع لاضطررت إلى الإتيان عليها برمتها من أولها إلى آخرها. فليراجعها من شاء في محاضر الجمعية العمومية. (8) المحاكم الشرعية
وجه رياض نظره إلى معاملات الناس في أحوالهم الشخصية، فوضع نظاما كافلا لحسن سير المحاكم الشرعية، على قدر ما وصلت إليه يد الإمكان في ذلك الزمان (9 رجب سنة 1297 / 17 يونيو سنة 1880). فهو في الحقيقة أول مصلح لهذا النوع من المحاكم التي تعددت أنواعها وأصنافها في مصر، على خلاف النظام المعقول الذي يتمتع به الجمهور في سائر بلاد الدنيا. (9) المعاملات التجارية
أشار رياض بوجوب العمل بالطريقة المترية في الموازين والمكاييل: وذلك «نظرا للتغييرات التي طرأت مع توالي الأيام على الموازين والمكاييل المصرية ولما هناك من تعدد واختلاف الموازين المستعملة في أنحاء القطر المصري والفروق الموجودة بينها، ونظرا لأن معاملات الناس مع بعضهم بعضا يجب أن تكون مؤسسة على موازين ومكاييل معلومة ومعينة بالضبط والدقة» (انظر الأمر العالي الصادر في 28 أبريل سنة 1891). (10) القرعة العسكرية
في أيام رياض صدر قانون القرعة العسكرية (23 شعبان سنة 1297 / 31 يوليو سنة 1880). ولم يرض الرجل بنشر قانون ثان للأحكام العسكرية بصفة رسمية. (11) بيت المال
نظم مصلحة بيت المال، بعد أن كانت الفوضى ضاربة فيها أطنابها (انظر تقريره للخديو في 14 شوال سنة 1297 / 19 سبتمبر سنة 1880). وفيه يقول: «لما أن علم مجلس النظار مما أبديناه له أن مصلحة بيت المال لم تكن منتظمة وأن إيراداتها لم تف بمصروفاتها مع كرور الأيام، رأى أن وجود ديوان عموم لبيت المال بمدينة القاهرة يوجب مشقة على الناس وكلفة لا معنى لها، فألغاه ووزع أقلامه على المديريات والمحافظات.» (سنة 1890). (12) الصحة العمومية
صدرت في وزارته الأولى نظامات محكمة لسير الصحة العمومية والصحة البحرية على الوجه الشافي. وهو أول من استصدر أمرا عاليا يجعل تلقيح الجدري إلزاميا في مصر (10 يوليو سنة 1890). (13) إنشاء بعض مصالح متنوعة
ألغى رياض ذلك النظام القديم السقيم، إن صح لنا أن نطلق عليه اسم نظام. وهو الذي كان معروفا في المديريات باسم قلم الدعاوى. ورتب أقلام القضايا التي ظهرت ثمرتها، لأنها نفعت الحكومة في كثير من المواطن وردتها عن التورط في أمور كثيرة كانت تعود عليها بالخسائر، ولا تزال تهديها في كثير من الأحوال إلى محجة الرشد وجادة الصواب (16 أكتوبر سنة 1881).
وكانت لرياض يد طولى في تأسيس القومسيون البلدي بمدينة الإسكندرية، وقد صدر قانونه في عهد وزارته التي قبل الأخيرة سنة 1890. (14) الأعمال الإنسانية
كانت له فيها اليد الطولى في حياته الخصوصية وفي حياته العمومية. ولا حاجة للإطناب في هذا الباب، لأنه من قبيل تحصيل الحاصل. وإنما يجب أن نقول إنه كان يغتنم فرصة المواسم والأعياد، فيلتمس العفو من سيد البلاد عن بعض المحبوسين الملكيين والعسكريين الذين كانوا يستحقون الشفقة والرأفة لأي سبب من الأسباب.
وهو الذي سعى في العفو عن كثير من المجرمين السياسيين، نذكر منهم الإمام الشيخ محمد عبده، رحمة الله عليه. (15) المعارف العمومية
هذا باب طويل لا يمكنني أن أوفيه بعض حقه في هذا المقام، ولكنني أكتفي بالإشارة إلى أمرين فقط، وأترك الباقي لفرصة أخرى إن سنحت:
أولا:
كان رياض باشا يستعين دائما في إدارة شئون المعارف العمومية بشيخ المتعلمين وأبي المتأدبين، المرحوم المبرور علي مبارك باشا، أو يتولى هو زمامها بنفسه. وقد سعى مع صاحبه حتى توصل لإيقاف نحو الألفي فدان على دار الكتب الخديوية.
ثانيا:
كان رياض وصاحبه أميل الناس لنشر التعليم باللغة العربية. وآثارهما باقية خالدة، وهي فينا وفي أمثالنا محسوسة مشاهدة. ولكن الأيام جعلت رياضا يستأثر بمزية كبرى. وحسبي أن آتي هنا على نص الأمر العالي الذي استصدره من سيدنا وولي نعمتنا الخديو عباس. أمد الله في عمره ونفع الأمة به. وها هو:
نحن خديو مصر
لما كانت اللغة العربية هي لغة البلاد وكان من الواجب جعلها أساسا للتعليم في مدارس الحكومة وتقديمها على كل لغة أخرى.
فبناء على ما عرضه علينا ناظر المعارف العمومية وموافقة رأي مجلس النظار، أمرنا بما هو آت:
المادة الأولى:
يجب أن تكون بروجرامات المدارس الأميرية محتوية على أكثر ما يمكن من المواد لتعليم اللغة العربية حتى تتأتى معرفتها معرفة تامة أكيدة.
المادة الثانية:
لا تعطي نظارة المعارف العمومية شهادة الدراسة الابتدائية أو الثانوية أو الشهادة النهائية من أي نوع كانت إلى أحد الطلاب، مهما كانت معارفه في المواد الأخرى، إلا إذا كانت معرفته باللغة العربية مستوفاة للشرائط المنصوص عليها في بروجرامات الحكومة الرسمية.
المادة الثالثة:
على ناظر المعارف العمومية تنفيذ أمرنا هذا.
صدر بسراي رأس التين في 8 ذي الحجة سنة 1310 / 22 يونيه سنة 1893.
عباس حلمي
أفلا يصح لنا بعد تلاوة هذا الأمر العالي أن نترحم على رياض وهذه أعماله، وهذه خطته، وهذا حبه للغة العربية التي تفانى في إعلاء كلمتها من أول وقوفه في ميدان السياسة والإدارة إلى آخر لحظة في حياته ؟
فنم يا رياض، نم مستريح البال قرير العين! فأمنيتك قد أخذت تتحقق قليلا قليلا، بفضل مولاك ومولانا العباس، وبفضل حكومته السعيدة الرشيدة. فعباس هو الذي عاونك على وضع الأساس، وهو الذي سيعاون خلفاءك في تشييد هذا البناء، لمجد مصر ولفخر الشرق. وإن غدا لناظره قريب.
يذكرني رياض برجل من رجالات الأندلس، في أواخر القرن الثاني للهجرة.
هذا الرجل كان آية في الجمال حتى سماه الناس وعرفه التاريخ باسم الغزال هذا إلى البراعة في العلم والحكمة، والهيام في وديان الحقيقة والخيال. خدم يحيى الغزال أمراء المسلمين في ذلك العهد أجل خدمة، سواء في ذلك الشئون الداخلية والمهام الخارجية. هذا الرجل، طالما حل المعضلات وأجاد في عقد المعاهدات وذهب سفيرا إلى ملوك النورمانديين في الشمال وإلى ملوك الروم بالقسطنطينية في الشرق. وكان مع إتقانه لغة العرب وولوعه بها وبراعته فيها، يجيد كثيرا من اللغات الأجنبية، وخدم خمسة من أمراء المسلمين إلى أن نيف على الثمانين. قال الغزال في بعض أراجيزه:
أدركت بالمصر ملوكا أربعه
وخامسا هذا الذي نحن معه
وهذا شأن رياض، فقد اشتهر بحسن الخلق والخلق، وامتاز بحب العلم وبمساعدة أهليه وطالبيه، وله القدح المعلى في خدمة مصر في الداخل وفي الخارج، وذهب إلى بلاد الشمال وإلى القسطنطينية بمهمات سياسية أفاد بها بلاده وأميره، وأتقن لسان العرب والأتراك والإفرنج، وخدم خمسة من ملوك مصر، وهم: عباس الأول، وسعيد، وإسماعيل، وتوفيق، وعباس الثاني مد الله في عمره. وقد مات رياض وكأن لسان حاله يقول:
خدمت مصرا وملوكا أربعه
وخامسا هذا الذي نحن معه
أراني أطلت في المقال، ولكن رياضا - كما قلت لكم - هو عبارة عن صحيفة كبيرة في تاريخ مصر الحديثة. وإنني وايم الله قد أغفلت كثيرا من مناقب الفقيد التي لا تفي بها إلا المجلدات الضخام.
ولو كان رياض في غير هذه البلاد لأقام الناس له تمثالا، كما أقام أهل نوبار، لنوبار. وما هو أحق منه بهذا الأثر المادي الذي يحدث الأجيال بفضل الرجال، ويتحدى الأبناء والأحفاد على التفاني في خدمة البلاد.
فهل يكون لهذا الصوت من صدى؟ وهل في البلد رجال يجيبون الندا؟ أم هل يذهب رياض هو أيضا سدى، مثل الغطاريف الذين سبقوه إلى عالم الردى؟ كلا ثم كلا إنني أمني النفس (والأماني لذة العيش) أن في السويداء رجالا وأن القوم سيتبارون كلهم عن بكرة أبيهم في تخليد أثر ذلك الذي وقف حياته على خدمتهم أجمعين.
فرجل كرياض، والرجال قليل، في بلد كمصر، عهده بالحرية قريب.
فرجل كرياض، يفاخر به النيل، ويحق له الفخر، في هذا العصر الجديد.
فرجل كرياض، نبغ في عهد إسماعيل، وامتاز في ذلك الدور، بالشكيمة والأثر الحميد.
فرجل كرياض، خدم هذا الجيل، إلى أن دخل القبر، وهو قدوة الشبان والشيب.
رجل مثل رياض، وأرجو أن يكون رياض مثالا لكل رجل.
لا يكفينا أن نرى قومه وأهله يقيمون له حفلة تتلوها الأخرى وتعززها الثالثة؛ بل ينبغي لهذه الأمة الناهضة أن يتضافر أفرادها على تخليد ذكراه، ليكون من موته له ولها حياة!
Bog aan la aqoon