هل أخبره سيد؟ وكيف يمكن أن يسكت أبو دومة عن شيء كهذا وهو لا يحتمل السكوت؟ - أسمنت ايه يا عم اسماعين؟ - إييه!
قالها أبو دومة وهو يلوي رقبته ويضم ذقنه إلى صدره كمن يقول: اطلع من دول.
وخاف حمزة أن يستطرد الرجل في الكلام أمام صاحب المحل والرجل الآخر الذي كان ممسكا بالجوزة، فاستأذن منهما وأخذ أبو دومة على ناحية وأعاد سؤاله، فإذا به يعرف من المرة الماضية أنه كان حاضرا لأخذ الديناميت وأنه ليس بطالب طب ولا دكتور.
واستغرب وذهل؛ الرجل يعرف كل شيء ومع هذا تظاهر بالعبط كل هذا التظاهر وسأله: وانت عارف كنا بنعمل بيه إيه ده يا عم اسماعين؟ - إلا عارف، هو انا عيل يا سعادة البيه؟! بتعملوا بيه إيه؟ مش من غير مؤاخذة كده بالمفتشر بتموتوا بيه الانجليز، أنا ياما شفت وياما رأيت يا سعادة البيه، إنت جنابك فاكرني شوية؟! هو تفتكر ان فيه حاجة تبقى في جبانة باب الوزير وما اعرفهاش؟ دانا ما بقاش سماعين أبو دومة، دانا عارف كل طوبة هنا، وكل شقفة هنا خابزها وعاجنها، إنما صوابعك مش زي بعضها؛ فيه ناس تبقى مش عارفة حاجة وتتكلم، وفيه ناس تبقى عارفة كل حاجة وتسكت، طب تصدق بالله؟ قول لا إله إلا الله، قول، تصدق بالله؟ أنا سنة سعد باشا جم الانجليز يفتشوا الترب فرحت قايل لاتنين منهم: جرج (جورج) جرج، وانت زجزج جرج، بري كود، وانت بري كود، زجزج كويس كتير، وشاورلتهم راحوا ماشيين ورايا، ورحت واخدهملك عند السبيل وقلت يا سيد يا رفاعي مدد؛ حاكم دول تعابين فلازم الواحد يستعين عليهم بسيدنا الرفاعي، وكان في إيدي زقلة رحت عاينها وطاخ طيخ طاخ طيخ وينزلوا الاتنين ساكتين، ورحتلك خافي رمتهم ولا حد شاف ولا حد دري، وياما وياما بس الواحد أصله مابيرضاش يكلم.
وهنا كان حمزة قد قرر أمرا فقال: اسمع يا عم سماعين. - أيوه يا سعادة البيه، أنا وسيد واحد وزمتي وديني. - مش عارف حتة أقعد فيها يوم واللا اتنين؟ - عايز بقى من غير مؤاخذة شقة واللا أوضة؟ - أنا مش عايز أوض وشقق، فاهمني ازاي؟ - فاهمك ازاي إيه؟ أنا فاهم قوي يا سعادة البيه. - أولا بلاش سعادة البيه دي، أنا اسمي ... اسمي حمزة. - أهلا وسهلا، ألف مرحبة يا سي حمزة افندي، باب الوزير نور والله. - إنت مش فاهم يا عم اسماعين، أنا مش عايز أوضة ولا شقة، أنا عايز حتة بعيدة عن الناس. - تبقى من غير مؤاخذة بقى تروح الدراسة، هناك حاجات زي طلبك كده كتير. - أصل يا عم اسماعين المسألة إن دلوقت الحكومة بتمسك الناس اللي كانوا بيضربوا الانجليز ، ودلوقت بتدور علي ، فأنا عايز استخبى في مكان مايشوفنيش حد فيه، تعرفشي حاجة زي كده؟ - إلا اعرفشي حاجة! وده اسمه كلام يا سي الافندي؟! بقى عمك سماعين أبو دومة ما يعرفشي يخبيك؟! يا سلام! أي خدمة يا سعادة البيه، أي خدمة، بس كده؟ - تعرف صحيح يا عم سماعين؟ - إلا أعرف؟ دانا اخبيك واخبيك، دانا اوديك في حتة ما يعرفهاش الجن الأحمر.
وكان حمزة يسمع كلام الرجل ولا يفكر فيه؛ فعقله كان قد عاد يستأنف البحث في ذاكرته عن مكان إذ كان واضحا أن كلام أبو دومة تهويش ونتش ليس إلا؛ ولذلك سأله وهو يبتسم في مرارة عسى أن يرفه عن نفسه بالسماع: فين يا عم سماعين؟
وسكت أبو دومة، وازدادت ابتسامة حمزة وهو يرى الرجل قد وقع في المأزق ووضع أصبعه على صدغه وراح يفكر، وأخيرا رفع رأسه وتهلل وجهه وقال: أعرف لوكاندة.
فرد حمزة مباشرة: لوكاندة ايه يا عم اسماعين؟! مقدرشي اروح أي لوكاندة، كلهم مراقبين.
وعاد أبو دومة إلى وضعه التفكيري، وفكر حمزة أن يسلم عليه ويمضي ولكنه لمحه يهز رأسه باستنكار، وتهتز طاقيته الصوف التي تعمم عليها وهو يقول: بس حترضى تروح هناك يا سعادة البيه؟ مش معقول. - معقول قوي، أرضى قوي، في أي حتة، فين؟ - هناك في الملك ده. - هناك فين؟ - في أي حوش من الأحواش بتوع الجبانة. - وضرب حمزة الفكرة في عقله وخرج بنتيجة مدهشة فقال: قوي قوي، أرضى قوي، أنا عايز أي حتة، فاهمني ازاي؟ - فاهمك ازاي! - لا مؤاخذة يا عم اسماعين، أنا بقولها كده بس، صحيح ممكن أقعد هناك، دانا اروح قوي. - تحب بقى جنابك حوش مطرحين وصالة واللا حوش مطرح واحد؟ اؤمر، أي خدمة؟ - إنت بتتكلم جد يا عم اسماعين.
وظهرت غضبة لينة على وجه الرجل وقال: إنت مش واسك (واثق) في يا سي حمزة افندي؟ عيب ولا مؤاخذة يبقى شنبي على مرة، دانا مرة واحد قاللي انت كداب فحطيت صباعي في عينه، وخدته الإسعاف يومها وبقت حكاية، هو انا عيل لا مؤاخذة؟ أما ابو دومة يقول كلمة تبقى هي الكلمة، طب والله نظير كلامك ده لمقعدك في مدفن داود باشا نفسه، اتفضل، ما تتفضل يا سعادة البيه، اتفضل نوصل للبيت بس، أصل المدفن مقفول بقفل، قافلينه أصحابه، ح انادي الاسطى حودة ابني يعمل له سلكه ويفتحه، اتفضل.
Bog aan la aqoon