وبحث حمزة عن شيء آخر يسمعانه فلم يجد.
وعاد إلى مكانه، وبدلا من أن يفتح الشيش أوقد لمبة المكتب فأضاءت سطحه الزجاجي اللامع، وأضاء النور المنعكس من السطح وجه فوزية فأضيفت إليه روعة جديدة.
والحقيقة أن أحاسيس جامحة تملكت حمزة وهو يلتهم وجهها الدقيق المسمسم التهاما، كان لو أطاع براكين ثائرة تدور في أعماقه لقام واختطفها ووضعها تحت إبطه وحارب من أجلها الدنيا، أو لاحتواها بين ذراعيه وأخذ يضغط عليها حتى تستحيل إلى شيء دقيق صغير يغلق عليه ضلوعه ولا يتركه أبدا.
كان يتساءل في ضيق عما أبقاه بعيدا عنها كل تلك المدة، إنه يعرف من لحظة أن رآها أن ما يحسه الآن سيكون النهاية حتما.
ساعة أن رآها لم يفكر لحظة واحدة أنه يمكن إلا أن يراها.
وبلا مناسبة برقت في خاطره صورة فوزية حين رآها أول مرة، حين دخلت الخيمة منحنية: صغيرة، نحيفة، ترتجف من البرد، وذهبت الصورة خاطفة كما جاءت، فوجد نفسه في التو يتساءل: ما لها فوزية؟ وعلى ماذا أحبها هذا الحب كله؟ ولماذا يجعل منها إلهة؟ أليس ما يعنيه الآن وما يدور في خاطره انفعالات الحالمين والمنحلين والمتعفنين ؟ أليست هي نفس الخواطر التي يضحك بها الكتاب الناعمون على الناس؟ ما لها فوزية؟ إنها جالسة أمامه لا ضخامة فيها ولا ألوهية، صغيرة كالتلميذة، متعبة، غلبانة، من الممكن أن يناقش معها أي موضوع. - اسمعي يا فوزية! عملتي ايه في المدرسات؟
فأجابت فوزية: ماشيين كويس قوي، فيه واحدة منهم اتجوزت واللا اتخطبت معرفشي، لا يا ربي، اتجوزت، واتنين كمان بيحاولوا يتجنبوني الأيام دي، إنما الباقي كويسين. - والشنطة عملت فيها ايه؟ - نقلتها النهارده عند محاسن. - عند مين؟ - محاسن، أحسن واحدة فيهم، دي إنسانة رائعة، تصور إنها مستعدة تخبي ناس من الهربانين عندها في شقتها، مستعدة تعمل أي حاجة، تدفع فلوس، تجمع تبرعات، وحتى مستعدة لو اقتضى الأمر تروح القنال. اسمع يا حمزة، احنا مش حينفع كده، لازم نشتغل أكثر من كده بكتير، داحنا ماعملناش حاجة خالص.
وكانت تتكلم بلهجة حامية وتوجه الحديث إلى نفسها أكثر مما توجهه إليه، فأجاب حمزة من فوره: كويس جدا، احنا حنبتدي من نفسنا، فانتو وأنا حنعمل نواة للعمل الضخم اللي بينتظرنا.
وظلت فوزية تهز رأسها تباعا وهي تحملق في حمزة وتراقب حماسه في إعجاب مخلص، حتى لتخاف عليه من الخطأ ومن أن ينطق بحرف لا يقع في نفسها موقعا حسنا، وقالت في انفعال: أيوه، فعلا، لا بد من الاستمرار بأقصى قوة. - بالظبط، إنما ازاي، دي عايزة استعداد، وعايزة جهود وإصرار، فاهماني ازاي؟ ولا بد حنوصل. - لا بد.
وران عليهما صمت لم يستمر سوى لحظات خاطفات، ثم بدا حمزة يتململ في مكانه ويبتسم محاولا أن تكون بسماته جادة على قدر الإمكان، ثم قال: بس فيه موضوع تاني عايز أناقشك فيه. - موضوع الفلوس؟ - لا، موضوع، خاص كده. - خاص؟ - أيوه.
Bog aan la aqoon