والأديب الحق ليس مسجلا لكلام الناس على علاته كما يسجله الفونغراف، كما أن المصور الحق ليس مسجلا لواقع الأشياء على علاتها كما يصورها الفوتغراف، وإنما الفرق بين الأديب والمصور وبين هاتين الأداتين من أدوات التسجيل أنهما يصوران الحقائق ويضيفان إليها شيئا من ذات نفسيهما هو الذي يبلغ بها أعماق الضمائر والقلوب، ويتيح لها أن تبلغ الأديب والمصور من نفوس الناس ما يريدان، وإلا فما يمنع الكاتب من أن يصطنع أداة من هذه الأدوات التي تسجل ألفاظ الناس، ثم يضيف إلى أصواتهم صوته بلغتهم التي يتكلم بها هو حين يتحدث إليهم، ثم يعرض عليهم ذلك كما يعرض تسجيل الأصوات لا يتهيأ له ولا يتألق فيه.
ليصدقني الشباب من أدبائنا أن من الحق عليهم لمواهبهم وأدبهم أن يتمعنوا فهم المذاهب الأدبية أكثر مما يفعلون، وألا يخدعوا أنفسهم بظواهر الأشياء فيفسدوا مواهبهم ويفسدوا أدبهم أيضا.
أما بعد، فإني أهنئ كاتبنا الأديب بجهده هذا الخصب، وأتمنى أن أقرأ له بعد قليل كتبا أخرى ممتعة إمتاع هذين الكتابين وتمتاز عنهما مع ذلك بصفاء اللغة وإشراقها وجمالها الذي لم تبلغه العامية، وما أرى أنها ستبلغه في وقت قريب أو بعيد.
جمهورية فرحات
ما كدت أدلف إلى القسم ومعي الحرس حتى أحسست بانقباض مفاجئ. لم تكن تلك أول مرة أدخله ولكنها كانت المرة الأولى التي أرى القسم فيها في الليل؛ ولهذا شعرت حين تخطيت الباب أني أدلف إلى خندق سفلي لا يمت إلى الحاضر ولا حتى إلى الماضي القريب: جدران يكسوها حتى منتصفها سواد على هيئة طلاء وكآبة تكسو نصفها الثاني، وبقع بيضاء مبعثرة هنا وهناك لا تخفف السواد بقدر ما تظهر بشاعته، وأرض لزجة لا تدري إن كانت من الأسفلت أم من الطين، ورائحة، رائحة لا تستطيع أن تحدد كنهها وإنما لا بد أن تحس معها بغثيان، وضوء باهت يأتي من مصابيح بالغة القدم عشش عليها الذباب وباض، مصابيح معظم ضوئها محكوم عليه بالسجن المؤبد داخلها، والقليل الذي يتسلل منها هاربا لا يبدد الظلام بقدر ما يحتمي به ويتستر، وإن وقع على الأشياء والناس فإنما ليظهر كل ما بها من حزن وقبح وبشاعة.
وأحسست حين احتواني هذا كله وأصبحت جزءا لا يتجزأ منه، والناس من حولي على سيماهم جد خطير يمشون كالمنومين، وصناديق الفاكهة وعربات اليد وكراسي المقاهي التي صادرها بوليس البلدية وهي مكومة في ركن، وأصحابها متناثرون حول الجدران والأركان متهالكين على الأرض ورءوسهم ماثلة على حجورهم، والعساكر يبدون في أرديتهم السوداء كعفاريت منتصف الليل.
أحسست حين احتواني هذا كله أنني لا بد أنا الآخر قد ارتكبت جريمة ونسيت، وتمنيت أن أهرب من المكان بأسرع ما أستطيع، ولم أكن أستطيع مغادرة المكان؛ فقد كان علي أن أحجز في القسم ليلة لأرسل إلى النيابة في صباح الغد، واحتاروا أين يضعونني؛ فالحجز كان ممتلئا، والحجرة الأخرى التي يوضع السياسيون فيها عادة تعج بالمراقبات وصاحبات الحرفة، ولم يجدوا لي في النهاية خيرا من حجرة الضابط النوبتجي، وهناك تركت ومعي حارس.
كانت الحجرة على سعتها تضيق بمن فيها، وكان أبرز الموجودين جميعا الضابط النوبتجي، وحين رأيته جالسا إلى مكتبه كالحكمدار وعلى يمينه فوهات أكثر من خمسين بندقية مغمدة في فضاء الحجرة، وخلفه اللوحة الخشبية المثبتة في الجدار والمثقلة بألوان وأشكال من السلاسل والقيود والدروع والبلط والخوذات، وعلى يساره الخزانة الحديدية القديمة، حين رأيته هكذا تخيلت ألا حدود لرهبته وقوته، وأنه يستطيع ببساطة أن يقضم ذراعي أو يضع أصبعه في عيني، مع أني كنت متأكدا ألا شأن لي به ولا شأن له بي.
ووجدتني أترك كل ما في نفسي وكل ما يشغلني وأنضم إلى جيش العيون المنصبة عليه من الناس المزدحمين أمامه، والذين لا يفصله عنهم إلا سور خشبي منخفض.
وبدا لي أول الأمر وكأنه ليس بكائن حي، وإنما جسده قد صنع من طلاء الجدران الأسود، ورأسه خوذة من الخوذات المعلقة وراءه، وعيناه فتحات بنادق، ولسانه لا بد كرباج.
Bog aan la aqoon