النهار لهم، نهار كله جري ونط واستحمام في الترعة، وعد «فلنكات» السكة الحديدية، ومحاولة السير دون معاونة فوق القضيب الواحد، وعمل «أزندة» تقدح الشرر من الزلط تشبها بالآباء، وصيد العصافير بالنبال والحصى الصفير، وأروع لعبة وضع مسمار على القضيب حتى إذا ما مر عليه القطار بططه ورققه وأصبح حادا كالسكين، والتين الشوكي الكثير الذي يغطي جانبي الخط الحديدي، وموسم التين الشوكي والمطاردات التي لا تنتهي مع التاجر الذي يشتريه من المصلحة ويخفره.
هو والأولاد.
كلهم مثله مرضوا بالبلهارسيا والأنكلستوما والحصبة والملاريا والرمد، وخرج بعضهم بصفرة ليس بعدها حمرة، أو بطحال.
والشيخ زيدان وكتابه والمدرسة الإلزامية وعلقها، وابتدائي بالبدلة، أول بدلة، والطربوش الكالح الحقير، والتفوق في الابتدائية 85٪ مجانا في الثانوية، أبوه فرحان وأمه تريده صنايعي وكفى، أبوه يريده مهندسا يعمل أيضا في السكة الحديدية مثل رئيس رئيس رئيس رئيسه، أمه ترقيه من الحسد وأبوه يريه بنطلونه الذي يشبه الغربال ويقول: يا الأول يا كده. ويكون الأول، وبعد توجيهي الويل، الألم، الكفاح الرهيب من أجل عام مضى ولم يبق إلا ثلاثة أعوام: يا مسهل يا رب! وفي هذا كله يبوظ، بوكر وكنكان وروم حامض ونساء ذوات شعر أكرت وروج فاقع الحمرة كختم السلخانة فوق الذبيحة، وكذب على أبيه ونصب على أصدقائه، ورسوب عام وإخفاء الرسوم وإيهام أبيه أن «الأول» نجح، وخداع ومناورات، الأب يكفر، المطالب تخنقه، أمه تتعلم شغل المناديل بأويه، العزبة كلها تساعد، حتى الريس يدفع كل شهر نص جنيه، أخوه الأصغر منه يخرجه أبوه من المدرسة ليكمل هو فهو الأكبر والأقرب إلى قبض الماهية، 6 مارس والمظاهرات واللجان والمؤتمرات، أخوه عامل مناورات في السكة الحديد والقطار يلهف قدمه ذات صباح، ستة شهور في مستشفى المديرية، أخوه يعود إلى العمل بقدم واحدة خفير مزلقان، حمزة يتخرج ويعمل في مصنع. أول ماهية يطبع بها منشور النقابة، سياسة واجتماعات ومناقشات وكفاح ومواعيد، البوليس السياسي يتعقبه. أول فصل القضية التي حاولوا تلفيقها، معتقل 48، عشرون شهرا في الطور وهاكستب وسجن الأجانب في إسكندرية، يوم الإفراج، كلما قدم لمصر مستر أو مارشال قبضوا عليه. في كل مناسبة وطنية أو عالمية الحجز في القسم أياما قد تمتد إلى أسابيع حتى ليستطيع في أول كل عام أن يضع قائمة بالأيام التي سيزور فيها القسم كما توضع أيام العطلات الرسمية في أول النتائج. بدلته الواحدة التي فصلها عقب تخرجه، ونظارته التي عملها في وحدة الجامعة بجنيه، وحذاؤه الذي هو ثاني صاحب له، النقود التي يرسلها لأبيه أحيانا، والشبشب الأسود الذي طلبته أمه ولم يستطع إرساله، أمه لا تزال تطرز المناديل بأويه وأبوه ابيض شاربه وكبر ولم يصبح بعد «ريس»، وأخوه لا يزال يعرج ويغلق البوابة للقطار ويفتحها حين يمر، وأخته نبوية عانس لا زالت، وعزبة دريسة أخرى يعيشون فيها، تدعو له أمه بالهداية وأبوه يتحدث بأخباره إلى الرجال ويلعن الحكومة ومصلحة السكة الحديد، والعزبة كلها تنسج حوله أقاصيص بطولة ويقول الصغار إذا ما مر القطار: دا رايح لحمزة. - إنت مش حتنام يا حمزة واللا إيه؟! - أيوه حنام يا بدير.
5
وفي اليوم التالي وفي حوالي الخامسة دق الجرس، وكان بدير قد خرج إلى عمله بعد الظهر، وفتح حمزة وفوجئ بفوزية أمامه بدمها ولحمها، وابتسمت وقالت وهي تدخل: أنا طول السكة خايفة لأغلط في الشقة، إنما كويس، أصلي كنت عند واحدة صاحبتي هنا في الدقي، فقلت أفوت أعرف البيت.
ومع أن حمزة لم يصدق حجتها في المجيء، إلا أنه لم يدر السر في الراحة العميقة التي أحدثها مجيئها في نفسه.
وجالت فوزية ببصرها في الشقة وقالت: إيه؟ هو صاحبك دا مليونير؟ دي شقة فخمة قوي!
وجلس على مكتب بدير وجلست هي على الفوتيل الذي أمامه، وما لبثت أن قالت: قول لي، مش ممكن أشرب قهوة؟
فقال حمزة على الفور وهو يغادر مكانه: ممكن قوي جدا، بس كده؟
Bog aan la aqoon