وحين جلس الثلاثة في النهاية هو وأبوه وأمه، كان فتحي حريصا جدا ألا يحدث صوتا أو يسقط شيئا؛ فقد كان خائفا خوف الموت أن يصحو أحد إخوته الصغار ويصر على السحور، قائلا وهو يبكي بكاء سخيفا: إشمعنى فتحي؟ ومن يدري فقد يرق قلب الوالدين ويوافقان؟ فتفسد الوحدانية التي يتمتع بها معهما ويفسد تعب السنين.
وحدث لأمر ما أن قام أخ من إخوته وعبر الصالة إلى دورة المياه، فقال لأبيه: على فكرة، دا قايم يتمحك بس، اوعوا تسألوا عنه.
ومهما كان ما حدث في ذلك السحور، وكان أول سحور في رمضان ويزخر كالعادة بأطيب الأطعمة، مهما كان ما حدث، فإن فتحي لم يجد له ذلك البريق الذي أحرق خياله أياما وليالي بل ناله ما يناله دائما إذا وجد في حضرة الكبار: هات دي، ودي دي، ناولني ده، شوف إيه اللي بياكلني في ضهري.
ونام فتحي.
وصحا متأخرا، بل استيقظ مبكرا، ولكنه آثر أن يبقى متناوما حتى يغادر الفراش في الضحى كما يفعل الكبار تماما، صحا وفي عقله حقيقة واحدة: ألا يسهو ويشرب؛ فقد حذره أبوه مرارا من هذا.
وراح ينظر إلى إخوته وهم يحدثون بكلامهم وعبثهم ضجة الصباح الوجلة، التي تكفيها شخطة واحدة لتنتهي، راح ينظر إليهم ويستصغرهم ويستصغر ما يقومون به قائلا في سره: لهم حق؛ فهم فاطرون. ولكنهم بدءوا يحلون لغزا كان واردا بإحدى المجلات.
ووضح من كلامهم أنهم يلفون بعيدا عن الحل، وكان لا بد أن يقنعهم بأنهم صغار وأنه ذكي ولا بد أن يحله هو قبل أن يصل واحد منهم إلى حله، فتخلى عن الفراش وقام ببطء، وهو يحس أن شيئا كبيرا ثقيلا يملؤه، وأن في فمه طعما غريبا قابضا.
وحين جلس معهم وحاول حل اللغز ففشل أدرك أنه لغز تافه لا يستحق اهتمامه، بل بدا له أن كل ما يحدث في العالم إن هي إلا أشياء تافهة لا تستحق عناء الجلوس، وعاد إلى النوم مرة أخرى، عاد وهو مطمئن؛ فهو في إجازة، ورمضان كان طيبا فجاء في الصيف هذه المرة.
واستيقظ فتحي، لا لأنه كان يريد أن يستيقظ، ولكن لأن شيئا أقوى منه أجبره على أن يتململ ثم ينتبه ويصحو، كان الطعم الذي في فمه قد تغير وأصبح فمه جافا يكاد يكون لا طعم له، وأحس لحظة أن فتح عينيه أنه عطشان، وفي الحال قام ووجهته الماء، ولكنه توقف حين طردت الخطوات القليلة التي خطاها البقية الباقية من النوم في رأسه، وأدرك أنه صائم، وفرح وكأنه كان سيسقط في حفرة ثم تبينها، ولكن عجيب هذا: إنه ما إن أدرك أنه صائم حتى ازداد عطشه!
وجلس على الكنبة التي في الصالة، كانت أمه في المطبخ غارقة لأذنيها في إعداد الطعام، وأبوه في الشغل، وإخوته لا يبدو لهم أثر، والساعة حوالي الثانية عشرة، وكان عليه أن يتخلص من ذلك الإحساس السخيف الذي يملأ فمه.
Bog aan la aqoon