وحقيقة كنت أسمع الضجة القليلة التي أخذت تترى من ناحية الباب، ولكني كنت أنا المنساق هذه المرة وراء ما يقوله فرحات وما ذهلت له تماما.
والتفت ناحية الباب فوجدته قد ازدحم بأربعة مخبرين أو خمسة طوال عراض أيضا ويرتدون اللبد، وقد أمسك كل منهم في كل يد من يديه قبضة أطفال مشردين، ومتسولين عجائز وكل منهم يجر ما في يديه جرا، وقد ربط جلباب الطفل في جلباب الآخر، وكان المخبرون يبدون كالعمالقة الطوال، والأطفال يبدون بجوارهم قصارا صغارا كالكتاكيت المذعورة، وعبروا الفناء ووصل ركبهم إلى السور الخشبي، وكذلك وصلت ضجتهم، فأنهى الصول فرحات كل الأصوات بقوله: بس، اخرس انت وهوه، وقفهم طابور يابو طه قدامي، بطل كلام عمى في عينك.
وذهب باقي المخبرين، واصطف الطابور في سكون.
ورجع الصول فرحات إلى الوراء كثيرا وهو لا يزال في نشوته فقلت: وبعدين. - ولا قبلين، حالا مكن من ألمانيا جه، والمهندسين والعمال اشتغلت، وراحوا زارعينلك الصحرا كلها، شوف بقى الرملة دي كلها لما تزرع؟ الإكس يمشي فيها سبع تيام ما يحصلش آخرها، وأهم من ده وده إن مافيش قولة حاجة اسمها توابيت محاريت سواقي، كلام فارغ من ده كله مكن: الري بمكن والدراس بمكن والسباخ بمكن، وحتى كان فيه مكن يجمع القطن ويحش البرسيم، والفلاح اللي عليه العمل، مافيش قولة جلابية، طاقية، بشت، أبصر إيه معرف إيه، أبدا، كله بدل، بنطلونات كاكي لحد الركبة، وبرانيط بيضة نضيفة، وجزم بنعل دوبل مايدوبش ابدا. والفلاحين يسرحوا طابور، يشتغلوا لغاية الضهر بس وبعدين يرجعوا طابور، والنسوان كذلك، بس دول في غيط ودول في غيط، والبيوت كلها حجر، ولمض جاز تبطل خالص، كله كهربا، والسحب على صاحب الأرض، وكل صف بيوت له ميز ياكلوا فيه ويرجعوا لبيوتهم يقيلوا، وبعدين العصر طابور على المدرسة يقروا ويكتبوا ويعرفوا اللي لهم من اللي عليهم. بس يا سيدي مطولشي عليك، الراجل من كتر الفلوس عنده زهد فيها، كانت أرخص من التراب، وحاكم الفلوس لما تبقى بالشكل ده الواحد لازم يقرف منها، اللي ياكل تفاح كل يوم بيقرف منه؛ ففي يوم من الأيام أعلن في الراديو، أيوه - مهو نسيت أقولك إنه عمل محطة إذاعة وعمل ليها في كل بيت من البيوت وصلة - أعلن في المكرفون إنه متنازل عن جميع ...
وكان الصول فرحات ينظر إلي ويقول كلماته الأخيرة وكأنه يفكر في مشكلة أخرى.
وقال للعسكري فجأة: أنت واقف بتعمل ايه يا جدع؟! أنت ما وراكشي شغل؟
وقال العسكري في صوت متقطع: أصل، الا... الافندي، أنا مستلمه. - مستلمه؟ ليه؟ - حرس عليه.
واستدار إلي الصول فرحات وألقى علي نظرة ما رأيتها منه قبل الآن واستمر يحدجني طويلا، ولا ريب أنه لم يجدني أصلح كي أكون قاتلا أو سارقا أو خاطف طفل، ولست أدري ما كان يعنيه حين قال في بطء وشك كثير: آه، الافندي ده، هو انت منهم؟
فقلت وأنا أبتسم: من مين؟ المهم، الراجل أعلن إيه في الإذاعة؟
واستمر ينظر إلي ثم قال بصوت تائه: آه، والله مانا فاكر، يا شيخ فضك، أهو كلام، انت بتصدق؟
Bog aan la aqoon