تقديم
المقدمة
مأساة يوليوس قيصر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
تقديم
المقدمة
مأساة يوليوس قيصر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
يوليوس قيصر
يوليوس قيصر
تأليف
ويليام شيكسبير
ترجمة
محمد عناني
تقديم
على نحو ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» - وما فتئت أردد ذلك في كتبي التالية عن الترجمة - يعد المترجم مؤلفا من الناحية اللغوية، ومن ثم من الناحية الفكرية. فالترجمة في جوهرها إعادة صوغ لفكر مؤلف معين بألفاظ لغة أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يستوعب هذا الفكر حتى يصبح جزءا من جهاز تفكيره، وذلك في صور تتفاوت من مترجم إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلغة أخرى، وجدنا أنه يتوسل بما سميته جهاز تفكيره، فيصبح مرتبطا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويا فقط، بل هو فكري ولغوي، فما اللغة إلا التجسيد للفكر، وهو تجسيد محكوم بمفهوم المترجم للنص المصدر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقا لخبرة المترجم فكريا ولغويا. وهكذا فحين يبدأ المترجم كتابة نصه المترجم، فإنه يصبح ثمرة لما كتبه المؤلف الأصلي إلى جانب مفهوم المترجم الذي يكتسي لغته الخاصة، ومن ثم يتلون إلى حد ما بفكره الخاص، بحيث يصبح النص الجديد مزيجا من النص المصدر والكساء الفكري واللغوي للمترجم، بمعنى أن النص المترجم يفصح عن عمل كاتبين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المصدر)، والكاتب الثاني (أي المترجم).
وإذا كان المترجم يكتسب أبعاد المؤلف بوضوح في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعض تلك الأبعاد حين يترجم النصوص العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوت حظ المترجم من لغة العصر وفكره، فلكل عصر لغته الشائعة، ولكل مجال علمي لغته الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضا أساليب المترجم ما بين عصر وعصر، مثلما تتفاوت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية.
وليس أدل على ذلك من مقارنة أسلوب الكاتب حين يؤلف نصا أصليا، بأسلوبه حين يترجم نصا لمؤلف أجنبي، فالأسلوبان يتلاقيان على الورق مثلما يتلاقيان في الفكر . فلكل مؤلف، سواء كان مترجما أو أديبا، طرائق أسلوبية يعرفها القارئ حدسا، ويعرفها الدارس بالفحص والتمحيص؛ ولذلك تقترن بعض النصوص الأدبية بأسماء مترجميها مثلما تقترن بأسماء الأدباء الذين كتبوها، ولقد توسعت في عرض هذا القول في كتبي عن الترجمة والمقدمات التي كتبتها لترجماتي الأدبية. وهكذا فقد يجد الكاتب أنه يقول قولا مستمدا من ترجمة معينة، وهو يتصور أنه قول أصيل ابتدعه كاتب النص المصدر. فإذا شاع هذا القول في النصوص المكتوبة أصبح ينتمي إلى اللغة الهدف (أي لغة الترجمة) مثلما ينتمي إلى لغة الكاتب التي يبدعها ويراها قائمة في جهاز تفكيره. وكثيرا ما تتسرب بعض هذه الأقوال إلى اللغة الدارجة فتحل محل تعابير فصحى قديمة، مثل تعبير «على جثتي» (
over my dead body ) الذي دخل إلى العامية المصرية، بحيث حل حلولا كاملا محل التعبير الكلاسيكي «الموت دونه» (الوارد في شعر أبي فراس الحمداني)؛ وذلك لأن السامع يجد فيه معنى مختلفا لا ينقله التعبير الكلاسيكي الأصلي، وقد يعدل هذا التعبير بقوله «ولو مت دونه»، لكنه يجد أن العبارة الأجنبية أفصح وأصلح! وقد ينقل المترجم تعبيرا أجنبيا ويشيعه، وبعد زمن يتغير معناه، مثل «لمن تدق الأجراس»
for whom the bell tolls ؛ فالأصل معناه أن الهلاك قريب من سامعه (
It tolls for thee )، حسبما ورد في شعر الشاعر «جون دن»، ولكننا نجد التعبير الآن في الصحف بمعنى «آن أوان الجد» (المستعار من خطبة الحجاج حين ولي العراق):
آن أوان الجد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
فانظر كيف أدت ترجمة الصورة الشعرية إلى تعبير عربي يختلف معناه، ويحل محل التعبير القديم (زيم: اسم الفرس، وحطم: أي شديد البأس، ووضم: هي «القرمة» الخشبية التي يقطع الجزار عليها اللحم)، وأعتقد أن من يقارن ترجماتي بما كتبته من شعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
محمد عناني
القاهرة، 2021م
المقدمة
هذه ترجمة جديدة لمسرحية من مسرحيات شيكسبير التي أحببتها، وطالما تمنيت أن أنقلها إلى العربية بعد أن عاشت في خيالي منذ أيام المدرسة؛ أي ما يقرب من خمس وثلاثين سنة؛
1
بل لقد عاشت في خيال أبناء جيلي ممن شهدوا الثورات السياسية والاجتماعية في مصر والعالم العربي، فوجدوا أنفسهم يفسرون أحداث العقود الأربعة الماضية في إطار التاريخ القديم، ووجدوا في الأعمال الأدبية التي تصور هذا التاريخ نماذج حية لما كان يحدث من حولهم، ورأوا - كما رأى طه حسين في كتابه ألوان - أن في التاريخ من الصور الأدبية ما يشرح لهم بعض ما كان يجري في تلك الحقبة الحافلة.
أقول: إنني طالما تمنيت أن أنقلها إلى العربية، وطالما تصورت أنني أنقل هذه القطعة أو تلك - مثل خطبة أنطونيو في أهالي روما بعد مقتل قيصر، أو تصوير غضبة الطبيعة قبيل مقتله - وطالما أحسست بصعوبة العمل وتمنيت أن تكتمل عدتي الأدبية يوما ما فأتصدى واثقا لهذا النص العسير، وإذا كنت لا أدعي اليوم أن عدتي قد اكتملت، فإنني أشعر أن العديد من التجارب التي خضتها في الكتابة المسرحية، نثرا وشعرا،
2
وفي الترجمة الأدبية، نثرا وشعرا،
3
أقدر على «مواجهة» هذه البلاغة عما كنت عليه عندما ترجمت «حلم ليلة صيف» (1964م)، أو «روميو وجوليت» (1965م) نثرا بالعربية المعاصرة. أو «الفردوس المفقود» (1982-1986م) بأسلوب عربي يضارع الأسلوب الذي استخدمه ملتون (
Grand Style ) أو حتى عندما ترجمت روميو وجوليت مرة ثانية عام 1985م (دار غريب للطباعة) ترجمة تجمع بين الشعر والنثر، مما حفزني إلى ترجمة تاجر البندقية شعرا من البداية للنهاية في أواخر الثمانينيات (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1988م).
وقد شرعت، بعد انتهائي من ترجمة تاجر البندقية، في الاستعداد لترجمة هذه المسرحية. فذكرت أنني رأيت لها ترجمة عربية رصينة، قرأت بعضا منها في منزل أستاذي الدكتور عبد الحميد يونس أثناء معاونتي له - رحمه الله - وأنا بعد أخضر العود في ترجمة مسرحية أخرى لشيكسبير هي طرويلوس وكريسيدا في صيف عام 1959م. وذكرت أن الدكتور يونس كان معجبا بها أيما إعجاب، وكنت أقرأ له منها أقساما تبهرنا بجزالتها ورصانتها، وكثرة مائها ورونقها وخلوها - كما يقول أبو هلال العسكري صاحب الصناعتين - من أود التأليف وعوج التركيب . وذكرت أيضا أنه كان ينصحني باتباع منهج مترجم هذه المسرحية، وهو الأستاذ محمد حمدي، لنجاحه في تحاشي رطانة الترجمات الحديثة وركاكة المترجمين الذين كانوا آنذاك (وما زالوا حتى يومنا هذا) يلتزمون بحرفية النص بدعوى الأمانة.
وعندما ذكرت تلك الترجمة بدأت أتساءل عن جدوى إخراج ترجمة جديدة، فاستشرت صديقي الدكتور ماهر شفيق فريد في الموضوع، وطلبت منه أن يقطع لي برأي؛ فهو مرجع أستند إليه في شئون الأدب الإنجليزي الحديث والأدب المقارن والترجمة جميعا، وهو ناقد ذو إحاطة موسوعية لا تتأتى للكثير من أبناء هذا الجيل، فلم يلبث أن أعارني نسخة لديه من تلك الترجمة القديمة (ليس عليها تاريخ الصدور)، وترجمة أخرى قام بها الأستاذان عبد الحق فاضل، ومصطفى حبيب، وصدرت في سلسلة ترجمات شيكسبير عن الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية عام 1973م، ولم أكن قد اطلعت عليها من قبل. وعندما أعدت قراءة نص محمد حمدي عاودني الإعجاب القديم، وكاد يصيبني اليأس من المضي في المشروع، ثم جعلت أقارن بين النص العربي والنص الإنجليزي فوجدت ما أعاد إلي الأمل ودفعني إلى التفكير في الموضوع الذي كنت طرقته من قبل في مقدمات ترجماتي الأدبية تفكيرا مركزا وعميقا - ألا وهو مناهج الترجمة الأدبية.
وطوال صيف عام 1988م واصلت الجهد الذي كنت بدأته من سنين في تحليل بلاغة اللغة العربية القديمة منها والمعاصرة، مستندا إلى ما أبدعه جيل أساتذتنا ورفقاء جهودنا اللغوية والأدبية من المتخصصين في اللغة العربية، محاولا أن أضع يدي على «نوع» التطور الذي شهدته بلاغة هذه اللغة، فأعدت قراءة كتابات شوقي ضيف، وشكري عياد، وإبراهيم أنيس، ومحمود حجازي، وعبد الحكيم راضي، وسواهم، ثم عدت إلى نصوص اللغة العربية المعاصرة منذ هيكل وطه حسين، ثم نجيب محفوظ وحتى المحدثين من كتاب الرواية، وأمامي وورائي يمتد تراث العربية الزاخر الذي نشأت في كنفه، حتى انتهيت إلى «نظرة» لا تبلغ حد «النظرية» أعانتني في إدراك أبعاد المشكلة، وتلك أول خطوة على طريق الحل. ولا أريد أن أشغل القارئ بتفاصيل هذه «النظرة»، فما أحسبها جديدة كل الجدة ، ولقد بسطتها بسطا وافيا في دراسة كتبتها بالإنجليزية عن تطور لغة الرواية العربية عند نجيب محفوظ بعنوان
Novel Rhetoric
ونشرت في كتاب صدر في فبراير 1989م عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان
Naguib Mahfouz : Nobel 1988-a collection of critical essays, ed. M. Enani. pp. 97-144 .
ولكنني سأعرض فحسب ما يتصل منها بالترجمة الأدبية، وهي تسمية غير دقيقة، ويقصد بها بطبيعة الحال ترجمة النصوص الأدبية، وأما علاقة اللغة بالإبداع بصفة عامة فأنصح القارئ بالرجوع إلى كتاب شكري عياد «اللغة والإبداع» الذي اطلعت عليه بعد أن طبعت دراستي المذكورة، فلم أتمكن من الإفادة منه، وإن كنت قد أشرت إليه في ذيل الدراسة.
وجوهر «النظرة» التي أقول إنني انتهيت إليها - باختصار - هو أن اللغة العربية لم تكن لغة موحدة على مدى تاريخها الطويل، وأنا لا أعني بذلك اختلاف اللهجات العربية، ولكنني أقصد أن الانفصال بين لغة «الأدب الرسمي» ولغة الحياة اليومية، كان قائما بدرجات متفاوتة منذ أقدم العصور (وليست اللغة العربية فريدة في هذا)، ولكننا لا نستطيع أن ندرك درجات هذا الانفصال وأشكاله؛ لأن هم الرواة والمؤرخين كان الحفاظ على الأدب «الرسمي»، واللغة الرسمية وحدها دون المستوى الآخر؛ فالشعر الذي حفظه لنا الرواة ومن بعده النثر الفني المسجل في الكتب، كانا يمثلان التيار الرئيسي الذي تصب فيه تقاليد الأمة العربية وأعرافها، وهي لا تقتصر على التقاليد اللغوية والأدبية، بل تتخطاها إلى التقاليد الاجتماعية والإنسانية العامة، وكانت جميعا ترصد أبعاد الشخصية العربية وتحافظ عليها. فكان التعليم الرسمي يبدأ بتعلم اللغة، وكانت مباحث اللغة والأدب المختلفة تمثل الفروع الأساسية للعلم الذي يتلقاه المتأدب في صباه، وهكذا كان هم المجتمع بصفة عامة هو الحفاظ على هذا التراث وصيانته من «كلام العامة»، خصوصا بعد التوسع الكبير - جغرافيا وحضاريا - في القرون الأولى للهجرة، والتفكك الكبير أيضا فيما يسمى بعصر الانحطاط.
ولهذا فنحن دائما ما نقرأ في الكتب التي جمع فيها أصحابها تراث السلف إشارات إلى من قال كلاما «أصاب» فيه أو «أخطأ»، أو إلى عجمة هذا الشاعر أو ذاك، وأحيانا تفلت من أيدي الرواة عبارات، بل فقرات كاملة على ألسنة من يروون عنهم يختلف فيها مستوى العربية اختلافا بينا عن مستوى الشعر المسجل في الكتاب، بل عن مستوى النثر الذي يستخدمه الراوي نفسه. ولا داعي للإفاضة في هذا؛ فقد أثبته دارسو الأدب الشعبي العربي (مثل حسين نصار، وعبد الحميد يونس، وغيرهما)، فكل ما أريد أن أوضحه هو أن التيار الرسمي للأدب العربي (واللغة العربية) كان يخفي دائما تيارا آخر لا يقل عنه أهمية، وهو إذا كان ينفصل عنه انفصالا خارجيا (أي إذا كان الرواة والمؤلفون يفصلون بين التيارين في كتبهم)، فهو يتصل به اتصالا داخليا وثيقا؛ لأنه «يغذيه» ويبقي على حيويته. وفي ظني أن دراسة تطور اللغة والأدب لن تكون كاملة، ولن يكون لها المعنى الذي نرجوه إلا إذا ربطنا بين التيارين.
وعلى مر القرون تطورت اللغة المستخدمة في الحياة اليومية، وفشا فيها الكثير مما كان أعجميا أو مما جرى على ألسنة الناس من ألفاظ وتراكيب ومعان وقيم بلاغية وأشكال أسلوبية؛ بل وتغيرت بعض الأصوات العربية (كما أثبت ذلك الدكتور رمضان عبد التواب)، وأقبل الكثير من الكتاب على استخدام اللغة المتطورة التي اكتسبت بالتدريج احترام النقاد (رغم وجود نفر في كل عصر لا يقبلون إلا القديم وينفرون من كل جديد)، حتى جاء يوم ابتعدت فيه اللغة الأدبية القديمة ابتعادا واضحا عن أقلام الأدباء، وأصبحت اللغة المتطورة هي المستخدمة في إبداع الأدباء بصفة عامة.
والواقع أن لغة العامة، أي اللهجة العربية المحلية التي تختلف من بلد إلى بلد، لم تكن يوما بمعزل عن هذا التطور؛ بل إنها كانت دائما من العوامل الحاسمة في إحداثه؛ فهي تستخدم في الحديث اليومي، وفي التفكير، وفي الإحساس والتعبير عن المشاعر أيا كانت حدتها ودرجة تعقيدها. ولذلك فقد كانت أقرب إلى الألسنة العربية من «اللغة الرسمية» التي يتعلمها الصبيان في المدارس، وكثيرا ما فرضت نفسها على صور هذه اللغة وقوالبها، فغيرتها من وقت إلى وقت، طورا بالإضافة (بإضافة ألفاظ وتراكيب جديدة تقتضيها المعاني والمفاهيم الجديدة)، وطورا بالتعديل (الذي كان القدماء يعتبرونه تحريفا وتشويها)، وطورا بتقديم المقابل الجديد لشكل من أشكال التعبير القديم أصبح مهجورا لبعد العهد به، ولظهور «سياقات» حيوية (حياتية) جديدة تتطلب العربية العامية لا العربية القديمة.
وهكذا نرى أن لدينا ثلاثة مستويات متداخلة للغة العربية؛ أولها هو مستوى اللغة الأدبية القديمة، وثانيها هو مستوى اللغة المعاصرة التي أصبحت تستخدم في الأعمال الأدبية الحديثة والمترجمة، وثالثها هو مستوى العربية العامية أو ما أسميته في دراستي بالإنجليزية «العربية المصرية
Egyptian Arabic »، وهي تستخدم أيضا في الأعمال الأدبية الحديثة إما وحدها أو في سياق اللغة المعاصرة. وقد كنت عرضت مذهبي في ترجمة النصوص الأدبية العالمية في مقدمتي لترجمة مسرحية شيكسبير «تاجر البندقية»، قائلا إنني لا أعترف بأي حواجز تفصل بين هذه المستويات فصلا خارجيا؛ فالقارئ العربي ينتقل بينها بصورة طبيعية وتلقائية، كما قلت إنني أوجه عملي الأدبي إلى القارئ المعاصر الذي يدرج على دراسة القديم بينما يتحدث العامية، وبينما يستخدم في حياته اليومية العربية المعاصرة التي تقبل شتى ألوان التعبير القديمة والعامية؛ لأنها تمثل التيار الرئيسي للعربية في عصرنا هذا. والآن أضيف إلى ما قلته أنني واجهت صعوبة جديدة جعلتني أعيد النظر في بعض الأمور. وأعود إلى موضوع الترجمة الأدبية ومشاكلها؛ فكل نص أدبي يأتي معه بحصاد جديد من الأفكار. فما هي هذه الصعوبة الجديدة التي أتت بها «يوليوس قيصر»، وكيف حاولت حلها؟
الصعوبة ذات شقين؛ أما الشق الأول فيتصل بمفهوم لغة الأدب، وأما الثاني فيتعلق بنوعين من الترجمة الأدبية أستطيع من باب التيسير أن أصفهما بفن إيراد المقابل (الذي يصل في حالات مثالية نادرة إلى مستوى المثيل)، وفن إيراد البديل إذا تعذر المقابل، ويكفي أن أقول فيما يتعلق بالشق الأول، إن القول بأن للأدب لغة تختلف عن لغة «العلم» مثلا أو لغة الفلسفة قول مضلل، وينبغي ألا نقبله دون إدراك للتعميم الشديد الذي يشوبه. إذ ما المقصود بلغة الأدب؟ المقصود هو اللغة المستخدمة في الأدب لا اللغة التي هي بطبيعتها أدب! وقد نشأ هذا الخلط بكل أسف في فترة من فترات التحول اللغوي كانت اللغة العربية تخطو فيه بحذر من المستويات «القديمة » (والتي اتخذت صورا بلاغية شكلية محضة) إلى المستويات «الحديثة»؛ إذ استطاع عدد من الكتاب أن يبتدع أشكالا لغوية جديدة قادرة على نقل التراث الفكري الحديث إلى العربية. وكان معظم هؤلاء الكتاب روادا في العلوم الإنسانية، وإن كان بينهم عدد غير قليل من العلماء، فمن أجاد منهم اللغة العربية وصقل أسلوبه فنفى عنه العجمة والركاكة عد من بين الأدباء، كأنما انحصر الأدب في الكتابة بأسلوب منمق؛ بل إن أحد أساتذة العلوم، وهو المرحوم الدكتور أحمد زكي، كان يوصف بأنه أديب لأنه يكتب لغة عربية ناصعة، ويستخدم أسلوبا رشيقا أصبح علما عليه (يفصل فيه بين الصفة والموصوف، ويكثر من الابتداء بالنكرة، ويحافظ على التماثل في بناء العبارات المتتالية، وما إلى ذلك). وأذكر أن أحد الكتب المدرسية كان يقول للطلبة: إن ثمة شيئا اسمه الأسلوب «العلمي الأدبي»، وما المقصود إلا عرض المادة العلمية بلغة سليمة وأسلوب فصيح.
وما زال الخلط قائما حتى يومنا هذا؛ فكل من كتب العربية فأجادها كاتب، وكل من تميز أسلوبه بعض الشيء (انظر كتاب الدكتور شكري عياد عن الأسلوب) اكتسب لنفسه صفة الأديب، مما دفع أحد الأساتذة من الجيل الماضي، وهو الدكتور توفيق الطويل، إلى كتابة دراسة كاملة عن «لغة الأدب ولغة العلم» يستند فيها إلى التعميمات التي أحذر منها، والتي قد يلجأ إليها المدرس لتبسيط الأمور للتلميذ، مثلما يفعل كلينت بروكس
Cleanth Brooks
في كتابه
The Well-Wrought URN (الإناء المحكم الصنع)، (وقد عرضت رأيه في كتابي «النقد التحليلي»، مكتبة الأنجلو المصرية، 1962م)، أو مثلما فعلت أنا في كتابي «الأدب وفنونه» (مكتبة الشاب، الثقافة الجماهيرية، 1984م)، ولكن الناقد الجاد ينبغي أن يحذر منها كل الحذر، خصوصا وهو يعرض لقضية كبرى مثل الترجمة الأدبية؛ فلم يعد من المقبول ولا المعقول أن نعد كل من يجيد العربية كاتبا، ولا كل من ينمق أسلوبه أديبا، انطلاقا من الموازنة الخاطئة بين اللغة والأدب.
أفليس للأدب إذن لغة تميزه عن لغة العلم؟ أفلا يستطيع الإنسان عندما يفتح كتابا أن يستدل من لغته على طبيعته؛ أي أن يحدس دون تمحيص إن كان علميا أو أدبيا؟ والإجابة على هذا السؤال في صورتيه تتوقف على تعريفنا للأدب - فإذا قال قائل إن الأدب مادة مكتوبة تتناول حياة الإنسان - أفكاره ومشاعره ونشاطه ومجتمعه وما إلى ذلك - فربما رد عليه من يقول إن العلوم الإنسانية أيضا تتناول حياة الإنسان وتشمل هذه الجوانب؛ فإذا قيل إن الهدف هو الذي يفرق بين الكتابة الأدبية والكتابة العلمية، أي أن الكتابة الأدبية تستهدف إثارة المشاعر والخيال وتنبيه الوعي لدى القارئ، فربما كان الرد هو أن كتابة التاريخ مثلا أو الكتابة الفلسفية يمكن أن تحقق هذا الهدف وإن لم ترم إليه! فإذا قيل إن للأدب صورا معروفة من العبث إنكارها، مثل القصيدة والقصة والمسرحية - وكل منها يتميز بخصائص شكلية تهدينا إلى طبيعتها الأدبية - كان الرد أن هذه الأشكال قد تخلو من جوهر الأدب كما حدده النقاد على مر الزمن؛ فقد تكون القصيدة نظما فارغا، أو نظما علميا (كألفية ابن مالك)، وقد تكون القصة رواية تاريخية تسرد الوقائع الجافة، وقد تكون المسرحية حوارية باردة، أو فلسفية لا تخرج كوامن الشخوص ولا انفعالاتها! فإذا قيل إن أساس التفرقة في الواقع هو أن الأدب يتناول «الخيال»، أي أن «وقائعه» لم «تقع» وأن شخوصه وأحداثه «مبتكرة» وغير «حقيقية»، كان الرد أن سرد الوقائع الخيالية قد يقصر عن بلوغ مرتبة الأدب، وبأن رصد الواقع وتسجيله قد يبلغ هذه المرتبة، بل وقد يفوق الخيال في إحداث تأثيره! فإذا قيل أخيرا إن المسألة تتوقف في النهاية على «الطريقة» التي يروى بها هذا أو ذاك، وعلى الأسلوب الذي يتخذه الكاتب، كان الرد أن الطريقة وحدها لا تكفي، وفي الصنعة «أداة» يستخدمها الفنان لنقل «رؤية» أو «تجربة» ولا مكان للأداة دون الرؤية، ولا للرؤية دون الأداة!
كيف نعرف الأدب إذن؟ وهل يتضمن تعريفنا له تعريفا للغة التي تستخدم في كتابته؟ لا شك أن معظم الملامح التي يشير إليها من يتصدى لتعريف الأدب يمكن رصدها فيما اتفق على أنه أدب ، ولكن تعريفنا للأدب يتغير على مر العصور، وإن كان ثمة ثوابت في هذا التعريف إلى جانب المتغيرات! فهل اللغة من الثوابت أم من المتغيرات؟ إن النظرة الحديثة تؤكد أن استخدام اللغة في الأدب يختلف عن استخدامها في العلم مثلا أو في الحياة اليومية رغم أن المادة اللغوية نفسها لا تتغير! ولذلك وجدنا أن المعايير التي تقاس بها الأنماط اللغوية المستخدمة في الأدب تتفاوت بتفاوت العصور وتفاوت الأنواع الأدبية. مثلما اللغة بصفة عامة من عصر إلى عصر، ومثلما يتغير مفهومنا للأدب من عصر إلى عصر. فما كان نقاد الماضي يعتبرونه أدبا في عصور الانحطاط (من نهاية العصر العباسي الثاني حتى فجر النهضة الحديثة) لم يعد له شأن كبير بيننا، وإن كنا نجد في بعضه ما يتفق وتعريفنا للأدب! وكثير مما أهمله التاريخ الأدبي يعود «اكتشافه» اليوم وإقراره بيننا؛ فكل عمل أدبي يضيف إلى جسد الأدب العالمي ما يجعلنا نغير من مفهومنا للأدب فنعيد تقييمنا للأدب القديم نفسه على ضوء هذا المفهوم! وهذا هو ما قاله ت. س. إليوت
T. S. Eliot
في مطلع هذا القرن، وما عاد تيري إجيلتون
Terry Eagleton - رغم عدائه السافر لإليوت - ليؤكده بعد نصف قرن من الزمان! فالأدب ذو ألوان متعددة وصور لا حصر لها، وإخراج تعريف جامع مانع له من المحال! ولذلك فنحن لا نستطيع حصر خصائص اللغة التي يكتب بها الأدب؛ لأنها ليست لغة واحدة، بل هي تتفاوت من نوع أدبي إلى نوع آخر، ومن عصر اتخذ فيه هذا اللون شكلا معينا إلى عصر تغير فيه هذا الشكل، ولأن العمل الأدبي نفسه قد يضمن ألوانا مختلفة من المستويات اللغوية، بل قد تشترك بعض هذه المستويات مع لغة العلم التي شاع عنها جفافها وجفاؤها وتحديد مدلولات ألفاظها وتوحد هذه الدلالات ودقتها. إذ قد نجد في مسرحية أو رواية أو قصة قصيرة إشارة أو تعبيرا فلسفيا دقيقا، أو ذكرا لحقائق علمية مصوغة صياغة دقيقة لا تقبل الإيحاء ولا تعدد الدلالات ولا ظلال المعاني (وهي الصفات التي كثيرا ما نميز بها لغة الأدب عن لغة العلم). وقد نجد في مسرحية مشهدا يدور الحوار فيه بصورة واقعية تحاكي لغة الحياة اليومية وتبدو في عريها من ملامح «لغة الأدب» كأنها نقل مباشر من الحياة لم يعمل الفنان فيه خياله أو قوته التشكيلية أو الإبداعية على الإطلاق، بينما هو في موقعه في المسرحية زاخر بالدلالة، عامر بالإيحاء، عميق المعنى والمبنى.
تنوع أشكال الأدب في العصر الحديث إذن، وتغير تعريف الأدب تبعا لذلك، هو السبب في تغير مفهومنا للغة التي يكتب بها الأدب أو ما كنا نسميه «لغة الأدب»، ومعنى هذا - بإيجاز - أن اللغة المستخدمة في الأدب لا تختلف عن لغة الحياة، وإن كانت بعض الأنواع الأدبية تتطلب مستويات خاصة من اللغة، خصوصا ذلك النوع الأدبي الذي اتفقنا على تسميته بالشعر، ففي هذا النوع بالتحديد، أو في أنواع خاصة من هذا النوع بتحديد أدق، تختلف الأبنية اللغوية لفظا وتركيبا ودلالة عن لغة الحياة العادية ليس فقط بسبب «النظم» (فالشعر كما أفهمه يكتب نظما) وليس فقط بسبب القافية (فكثير من ألوان الشعر مقفاة)، ولكن بسبب «الضغط» أو التكثيف الذي تتميز به لغة ذلك الفن الأدبي الخاص.
ولكن هذا الاستدراك ليس استدراكا مطلقا هو الآخر! فالنظم ليس قالبا خارجيا جاهزا جامدا تصب فيه الكلمات، بل هو موسيقى لفظية تختلف باختلاف الكلام نفسه، ولو كان من نفس البحر ومن نفس اللغة، وقد ضربت أمثلة لذلك في كتابي، النقد التحليلي، المشار إليه. وكذلك الحال بالنسبة للقافية وسائر «خصائص» لغة الشعر الغنائي من صور فنية وحيل بلاغية، وما إلى ذلك. كما أن مفهوم اللغة الشعرية، أي اللغة التي قد تختلف عن لغة الحياة العادية، قد تعرض للهجوم والطعن هو الآخر (ولم يعد من القضايا التي لا خلاف عليها) منذ بداية الحركة الرومانسية الإنجليزية، وإصرار شيخ شعراء الرومانسية، وليم وردزورث، على إزالة الحواجز بين لغة الشعر
diction
ولغة النثر أو لغة الحياة اليومية، مقوضا بذلك ركنا ركينا من أركان الكلاسيكية الجديدة، وقد تعرضت لهذا في مقدمتي لديوان الشاعر بهاء جاهين «الرقص في زحمة المرور »، ولا أعتقد أنه أصبح من القضايا التي تحتاج إلى إعادة الطرح.
فإذا تركنا الشعر الغنائي بمشاكله الكثيرة المتداخلة، وتأملنا اللغة التي يكتب بها النثر الأدبي بمستوياتها المتعددة لأدركنا الصعوبة التي يواجهها مترجم العمل الأدبي الحديث إلى العربية؛ إذ إنه يواجه أحيانا نصوصا تتضمن مستويات لغوية لا يمكن أن يتقبلها القارئ الذي اعتاد اللغة الجزلة التي اتسم بها تراث العربية الكلاسيكي، والتي يعترف بها وحدها أدبا! وهو - ثانيا - يواجه نصوصا تتحدث فيها الشخصيات «لغات» مختلفة؛ إذ كثيرا ما نرى لغة المؤلف وقد ابتعدت كل البعد عن المستويات اللغوية التي تستخدمها الشخصيات التي ابتدعها، سواء كان ذلك في المسرح أم في الرواية والقصة القصيرة، بل إن النقاد يعيبون على المؤلف توحيد اللغة التي يستخدمها هو ومن يتحدث على ألسنتهم أو من وجهة نظرهم في تلك الفنون الأدبية. بل إن هذا العيب يصبح نقصا بالغا في المسرح حيث يتوقع الجمهور أن تختلف اللغة التي يستخدمها المثقفون عن لغة رجل الشارع مثلا؛ فلا يعقل في إطار المذاهب الفنية الحديثة أن يتحدث نجار أو حداد مثلا - مهما بلغ امتياز الشخصي ومهما بلغت فطنته - نفس اللغة التي يتحدثها قاض أو طبيب أو مهندس، ولا أقول الأستاذ المتخصص في علم من العلوم.
وهذا هو مربط الفرس كما يقولون! فمعنى تعدد مستويات اللغة (أو حتى اختلافها «النوعي») هو اختلاف «أنواع» البلاغة التي نصادفها في كل مستوى. فليس من المنطقي أن نتوقع نفس الصيغ «البلاغية» من فم الإسكافي والصحفي، أو من فم ربة المنزل وأستاذ الجامعة، وكذلك فنحن لا نتوقع نفس المنهج «البلاغي» في حوار سائق التاكسي مع راكب ريفي، وفي حوار مدير المصلحة مع موظف لديه! وقد تعرض لهذا الموضوع عدد من النقاد الذين تخصصوا في مستويات اللغة، من أهمهم «إريك أورباخ»
Eric Auerbach
الألماني الذي كتب عدة دراسات قيمة عن مستويات البلاغة في الآداب الكلاسيكية القديمة وركز في كتابه
Mimesis (أي المحاكاة) على التفاوت بين التراجيديا والكوميديا في اللغة والحيل البلاغية المستخدمة، وإن كانت معظم نماذجه من الأدب اللاتيني، كما تعرض له كل من كتب عن لغة شيكسبير وتفاوت مستوياتها وأساليبها البلاغية . ولكننا ما زلنا في العالم العربي نرفض الاعتراف بأي مستويات بلاغية تخرج عن علوم الأقدمين (علوم البيان والبديع والمعاني وما إليها)، وننهج في تحليلنا للبلاغة منهجا شكليا ناقصا؛ وأنا أقول إنه ناقص لأنه لم يتسع بعد بالدرجة الكافية ليشمل الفنون الأدبية الجديدة التي عرفها العالم في العصر الحديث.
إن لدينا الآن تراثا حافلا بالعامية المصرية في المسرح يتضمن ضروبا منوعة من بلاغة الحديث الحي التي تنبع من السياق ومن تقابل بواطن الشخصيات واصطدامها وتصارعها بعضها مع البعض. وقد تبلغ كلمة واحدة يقولها زائر القاهرة الريفي لسائق التاكسي درجة من البلاغة لا مثيل لها في تراث العربية القديم، وقد نجد في حوار ربة المنزل مع بائع الخضر من البلاغة ما تقصر عنه الفصحى، وما لا يترجم إلى الفصحى إلا بشق النفس، وقد فعل ذلك المازني في العديد من كتبه. ولا أريد أن أسهب وأطيل؛ فالأنواع الأدبية الجديدة تتحدث عن نفسها، وتصوير الكاتب حوارا بين نفر من العامة أو تسجيله الدقيق لما يدور داخل نفوس الشخصيات قد يبلغ درجات عليا من البلاغة يندر أن نجدها في شعر الأقدمين.
لقد اختلف معنى البلاغة في عصرنا عما كان عليه في العصور الخوالي، وليس من المعقول أن نقتصر في تحليلاتنا البلاغية على ما أورده النقاد العرب الذين كانوا يستمدون أفكارهم ممن سبقهم ويبنون أحكامهم على شعر الماضي (أو على شعر زمانهم كما فعل الثعالبي في يتيمة الدهر) بعد أن اضطرتنا الأنواع الأدبية الجديدة إلى تعديل معاييرنا البلاغية. •••
ينبغي أن ننفي عن أذهاننا إذن وجود لغة مستقلة للأدب؛ أي لغة موحدة يستطيع المترجم أن ينقل إليها شتى الأعمال الأدبية العالمية، بل أن نؤكد ضرورة هضم المترجم للنص الأدبي أولا للتحقق من نوع اللغة المستخدمة فيه ونوع البلاغة التي يستخدمها الكاتب قبل الشروع في الترجمة. وهذا يؤدي بنا إلى السؤال الثاني، وهو الهدف من الترجمة ووسيلة تحقيقه، أي منهج الترجمة الذي يصل بالمترجم إلى غايته .
أود أن أقرر في البداية أن النص الأدبي المترجم يعتبر عملا أدبيا جديدا، وما أجدرنا أن ننقل إلى مكتبتنا العربية عيون الأدب العالمي، بحيث يمكن الرجوع إليها والاعتماد عليها مثلما يرجع الإنجليز مثلا إلى ترجمات تشيخوف الإنجليزية عن الروسية التي أبدعتها كونستانس جارنيت، وترجمات إبسن الإنجليزية عن النرويجية مثلا (التي أخرجها وليم آرتشر)؛ فهذه الترجمات قد أصبحت جزءا لا يتجزأ من تراث الإنجليزية، وأذكر أن رواية «ذئب الأحراش» للكاتب الألماني «هيرمان هسه» لم يكتب لها النجاح إلا عندما ترجمت إلى الإنجليزية وانتشرت في أرجاء العالم المتحدث بالإنجليزية، حتى لقد بيع منها في الستينيات خمسة ملايين نسخة، وأثرت على جيل كامل من الشباب الذي كان ما يزال يعاني من آثار ما بعد الحرب ويناقش القضايا الاجتماعية الساخنة التي برزت إلى السطح في تلك الآونة. وأذكر أنني كنت أقرؤها جنبا إلى جنب مع روايات «جورج أورويل» (مؤلف رواية «مزرعة الحيوانات» ورواية «1984» و«لتحيا زهرة الصبار» وغيرها) دون أن أشعر أن «هسه» ألماني و«أورويل» إنجليزي (واسمه الحقيقي إريك بلير، ولغته الأولى الإنجليزية)، كما كنت أقرأ مسرحيات الكاتبة الفرنسية «مارجريت دورا» المترجمة إلى الإنجليزية بعد أن احتلت مكانا راسخا بين المؤلفين المسرحيين الإنجليز دون أن أشعر بأن أصلها فرنسي.
إذا كان الهدف هو إخراج عمل أدبي جديد، فلا بد أن يقرر المترجم (وهو في أحسن حالاته أديب مبدع) ما إذا كان سيرمي إلى إخراج المقابل - الذي قد يرقى إلى مستوى المثيل - أم إلى إخراج البديل؟ فما هو المقابل وما هو البديل؟ إن المترجمين يلجئون عادة إلى المقابل أولا، فإذا تعثرت جهودهم لجئوا إلى البديل. أما المقابل فهو إيجاد ما يقابل الفن الأسلوبي المحدد في لغة ما من فنون أسلوب اللغة المنقول إليها؛ فلغات الأرض الحية تشترك في بعض الخصائص التي يمكن الموازنة بينها وإقرار توازيها، مثل حيل الصنعة العامة، كالوزن والقافية في الشعر. فالمترجم الذي يطمح في إيجاد المقابل لقصيدة غنائية
Lyric (أي قصيدة قصيرة تتميز بالموسيقى الغلابة ويتحدث فيها الشاعر بضمير المتكلم ويستخدم فيها الصور البسيطة واللغة السلسة أيا كان الموضوع الذي يطرقه)، يحاول أن يقدم لنا صورة عربية للقصيدة تتميز بخصائص النظم والقافية في العربية لا في الإنجليزية. وهذا لا شك عسير، ولكنه ممكن. وربما اضطر المترجم هنا إلى الخروج عن حرفية النص الأصلي لتقديم هذه المقابلات، بل قد يقدم قصيدة تبتعد في بعض تفاصيلها الهامشية عن القصيدة الأصلية للحفاظ على الوزن والقافية إذا كانت هاتان السمتان أهم عناصر القصيدة الأصلية، بحيث إذا أغفلتا ضاعت القصيدة. ولكن أهمية الوزن والقافية تتفاوت من قصيدة إلى أخرى في الشعر الغنائي مع أنهما دائما من سماته الأساسية، وهما يميزان هذا اللون من الشعر عن الشعر القصصي (كشعر الملاحم) أو الشعر المسرحي.
وأقرب الأمثلة إلى ذهني ترجمات زاخر غبريال - وهو شاعر لم ينل حظه من الشهرة ولا نال كتابه «روائع من الشعر الإنجليزي» (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979م) ما هو خليق به من تكريم - وها هي الأبيات الأولى من قصيدة
Ode to a Nightingale (أنشودة إلى البلبل) التي أبدعها شاعر الإنجليزية جون كيتس:
My heart aches and a drowsy numbness pains
My sense, as though of hemlock I had drunk
Or emptied some dull opiate to the drains
One minute past, and Lethe-wards had sunk
ما لقلبي يتنزى سقما،
ولحسي بات يرعى الألما!
أتراني قد شربت الموت سما،
أو رشفت الخمر نارا حمما!
لحظة مرت .. فإذا بي قد نسيت الكون طرا،
ومضت في عالم الأحلام بي الدنيا.
لا شك أن قارئ الأبيات العربية سوف يستجيب على الفور إلى الإيقاع العربي الأصيل والقافية السلسة غير المفتعلة بحيث يتشرب روح النص الأصلي وينفذ إلى جوهره معنى ومبنى. وفي رأيي أنه لو لم يكن الدكتور زاخر غبريال شاعرا مفطورا ما استطاع أن يبدع هذه الترجمة الرائعة التي تستند إلى مصطلح اللغة العربية وتقدم المقابل الصادق حتى وإن اختلفت في كلمة أو كلمتين عن النص الإنجليزي.
ولقد حاولت منذ عدة سنوات أن أقدم المقابل (الذي قد يرقى إلى المثيل) لقصيدة وردزورث الشهيرة التي يسميها النقاد قصيدة «الرثاء الرفيع» وهي:
A slumber did my spirit seal;
I had no human fears:
She seemed a thing that could not feel
The touch of earthly years. •••
No motion has she now, no force;
She neither hears nor sees,
Rolled round in earth’s diurnal course
With rocks and stones and trees.
فوجدت أن الفقرتين تمثلان التقابل بين لحظتين من لحظات الوعي لدى الشاعر: الأولى لحظة نعاس غفل فيها عن الحقيقة، وهي أن البشر فانون، وذلك لفرط جمال الطفلة التي يرثيها أو لفرط حبه لها؛ إذ بدت له من طينة غير بشرية ، فمحت من نفسه مخاوف الفناء، أو كما يقول بدا أنها لا يمكن أن تمسها يد السنين الأرضية! أما اللحظة الثانية فهي لحظة صحو الشاعر على الحقيقة حين اكتشف أنها فقدت القدرة على الحركة، وفقدت معها قوة الأحياء، ولم تعد تسمع أو تبصر، بل أصبحت جزءا من الأرض تدور معها دورتها اليومية في صحبة الصخور والأحجار والأشجار (انظر شرح هذه القصيدة في كتابي «الأدب وفنونه» المشار إليه، ص63-65).
وهذا التقابل يتطلب فقرتين مستقلتين. أما عن البحر المستخدم فهو بحر الأيامب، الذي يتفاوت الشطر فيه طولا بين أربع تفعيلات في الشطور الفردية وثلاث تفعيلات في الشطور الزوجية. وتأثير هذا التفاوت واضح؛ فالشطران الثاني والرابع من الفقرة الأولى مثلا ينتهيان نهاية مقتضبة، وتنتهي الجملة نحويا عند نهاية كل منهما بينما يتصل الشطر الثالث نحويا بالشطر الرابع. وكذلك فإن القافية تختلف من فقرة إلى فقرة إلى الشطور الزوجية وتتصل إلى حد ما في الشطور الفردية. ولذلك حاولت مراعاة ذلك عند تقديم المقابل بالعربية:
ختم النعاس على روحي وغيبها،
ومحا مخاوف البشر،
فبدت لعيني فتاة ليس تلمسها
يد السنين والقدر.
فالآن قد سكنت والقوة اندثرت،
ومضى زمان السمع والبصر،
وغدت تدور ببطن الأرض دورتها
كالصخر والأحجار والشجر!
وسوف يلاحظ القارئ زيادة كلمة «القدر» في الشطر الرابع، وحذف كلمة «أرضية». وربما كان هذا من باب التفسير الخاص للنص (انظر مقدمتي لترجمة «تاجر البندقية»)، ولكن يضبط التوازي بين الشطرين الثاني والرابع في الوزن والقافية جميعا. كما سيلاحظ القارئ حذف كلمة «اليومية» وصفا لدورة الأرض في الشطر السابع من القصيدة، كما سيلاحظ تغيير الحرف «مع» في الشطر الأخير إلى حرف الكاف، وهذا يرجع ولا شك إلى الإحساس بأن الصحبة هنا تفيد التشبيه كما نص على ذلك الناقد الأشهر أ. أ. ريتشاردز
I. A. Richards
في كتابه: فلسفة البلاغة
Of Rhetoric .
إننا إذن أمام قصيدة عربية جديدة تنقل الصور الأساسية والمفارقة، بل والصور الثانوية، في النص الأصلي في بناء شعري مستقل يعتمد على مصطلح اللغة العربية؛ فالترجمة لا تقول «ليس لديها الآن حركة ولا قوة » فهذا ركيك، ولا تقول «إنها الآن لا تسمع ولا تبصر» خشية الإيحاء بالدلالة الدينية المعروفة
إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر [مريم: 42)]،
قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [طه: 46]،
لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [الملك: 10]، والله هو السميع البصير. ولذلك فإن الترجمة تحاشت هذه الدلالة التي تضرب بجذورها في أعماق اللغة العربية، واختارت مصطلحا ينقل المعنى دون أن يلقي بظلال لا داعي لها على الصورة.
ولكن أهم ما تتسم به الترجمة المقابلة في نظري هو الموازنة في البحر المستخدم. فالبيت الأول من أربع تفعيلات، وإن كان يختلف عن بحر البسيط التقليدي في أنه يوازي بين مستفعلن ومتفاعلن (أي بين تفعيلة الرجز وتفعيلة الكامل)، وكذلك البيت الثالث. أما البيتان الثاني والرابع فهما يلتزمان بتفعيلة الرجز المزاحفة (متفعلن). وكذلك الشأن في الفقرة الثانية التي تحافظ على التوازي بين الشطور رغم هذه الحرية في فهم الخلاف والاتفاق بين الرجز والكامل (انظر كتاب «مدخل رياضي إلى العروض العربي» للدكتور أحمد مستجير، القاهرة، 1986م).
وينطبق هذا على سائر ألوان الشعر الغنائي؛ إذ أحيانا ما يضطر المترجم إلى ما درجنا على تسميته ب «التصرف»، أي مقابلة كل بيت ببيتين، أو كل بيتين بثلاثة، أو كل ثلاثة بأربعة أو خمسة، وهلم جرا، حتى يخرج الإيقاع الشعري المقابل. ولا أقصد بالإيقاع هنا «البحر» المحدد الذي يستخدمه الشاعر، بل الموسيقى الداخلية والخارجية جميعا، وهو هنا - كما قلت من قبل - إيقاع اللغة العربية لا الإنجليزية ولا إيقاع أي من اللغات المنقول منها. وسوف أورد هنا عدة نماذج لترجمة قصيدة واحدة، هي السونيت رقم 18 للشاعر وليم شيكسبير. وهذا هو النص الإنجليزي أولا:
Shall I compare thee to a summer's day?
Thou art more lovely and more temperate!
Rough winds do shake the darling buds of May,
And summer's lease hath all too short a date. •••
Sometimes too hot the eye of heaven shines,
And often is his gold complexion dimmed,
And every fair from fair sometimes declines,
By chance, or nature's changing course untrimmed. •••
But thy eternal summer shall not fade
Nor lose possession of that fair thou owest,
Nor shall death brag thou wanderest in his shade,
When in eternal lines to time thou growest. •••
So long as men can breathe, or eyes can see,
So long lives this, and this gives life to thee.
ولن أرهق القارئ بتحليله والتعليق عليه، ولكنني سأورد النصوص الثلاثة (وكلها منظوم، وكلها يستخدم ضربا من القافية، وكلها يحاول الإبقاء على الصور الأصلية في قصيدة شيكسبير)، ثم أعلق عليها تعليقات سريعة:
1
هلا أقول بأن فتونك أشبه شيء بصيف جميل؟
فأنت تفوقينه فتنة ويزدان فيك لطيف اعتدال،
تهز الرياح زهور الربيع،
وللصيف ضيف قصير المقام،
وحينا تحرق عين السماء،
وتشحب حينا كأهل السقام،
ولا بد يوما لكل بهاء وداع البهاء،
فإن لم يكن عرضا موته، فشوط الحياة أسير الفناء.
على أن صيفك لن يذبلا، فذلك خلد لا للبلى،
وما فيك من رونق ملكه، إليه انتهى لا لكي يفصلا،
ولن يفخر الموت أن قد رآك تجرين خطوك في ظله؛
فأنت قصيدي الذي لن يزول،
فما دام في الكون خلق يرون ويسري بهم نفس من حياة،
فذلك يحيا وتسري لنفسك منه الحياة. (حسين دباغ، مجلة أصوات، 1961م)
2
ألا تشبهين صفاء المصيف؟
بلى أنت أحلى وأصفى سماء!
ففي الصيف تعصف ريح الذبول،
وتعبث في برعمات الربيع،
ولا يلبث الصيف حتى يزول. •••
وفي الصيف تسطع عين السماء،
ويحتدم القيظ مثل الأتون،
وفي الصيف يحجب عنا السحاب
ضياء السما وجمال ذكاء،
وما من جميل يظل جميلا،
فشيمة كل البرايا الفناء. •••
ولكن صيفك ذا لن يغيب،
ولن تفقدي فيه نور الجمال،
ولن يتباهى الفناء الرهيب
بأنك تمشين بين الظلال
إذا صغت منك قصيد الأبد! •••
فما دام في الأرض ناس تعيش،
وما دام فيها عيون ترى،
فسوف يردد شعري الزمان،
وفيه تعيشين بين الورى. (محمد عناني، صحيفة المساء، 1962م)
3
من ذا يقارن حسنك المغري بصيف قد تجلى؟
وفنون سحرك قد بدت في ناظري أسمى وأغلى،
تجني الرياح العاتيات على البراعم وهي جذلى
والصيف يمضي مسرعا؛ إذ عقده المحدود ولى. •••
كم أشرقت عين السماء بحرها تتلهب!
ولكم خبا في وجهها الذهبي نور يغرب!
لا بد للحسن البهي عن الجميل سيذهب؛
فالدهر تغيير وأطوار الطبيعة قلب. •••
لكن صيفك سرمدي ما اعتراه ذبول،
لن يفقد الحسن الذي ملكت فهو بخيل،
والموت لن يزهو بظلك في حماه يجول،
ستعاصرين الدهر في شعري وفيك أقول: •••
ما دامت الأنفاس تصعد والعيون تحدق
سيظل شعري خالدا وعليك عمرا يغدق. (فطينة النائب، من كتاب «فن الترجمة» للدكتور صفاء خلوصي ، 1986م)
ولا أريد الإفاضة في المقارنة؛ فأنا أفضل الترجمة الأخيرة رغم إضافاتها الكثيرة إلى نص شيكسبير بسبب إيقاعها المتئد (الكامل)، ورصانة مصطلحها العربي، ولا غرو؛ فالمترجمة شاعرة مفطورة، ولا شك أنها أفادت كثيرا من ممارستها فن الشعر في التحكم في عدد الأبيات وإحكام القافية. وأعترف أنني ترددت طويلا قبل أن أدرج ترجمتي التي تمثل مرحلة مبكرة من مراحل عملي في هذا الحقل. (إذ إنني كنت حريصا كل الحرص على إخراج نص شيكسبير دون زيادة أو نقصان، مما استتبع زيادة عدد الأبيات وعدم انتظام القافية)، ولكنني رأيت إدراجها آخر الأمر حتى يستطيع القارئ المقارنة وإدراك مرماي من عرض نظرتي الخاصة بالمقابل الذي قد يرقى وقد لا يرقى إلى مرتبة المثيل. وإن كان ثمة مأخذ على أي منها فهو عدم استقامة وزن البيت الأول في ترجمة حسين دباغ، وربما كان السبب خطأ مطبعيا.
نشدان المقابل إذن معناه محاكاة الصفات الشكلية والأسلوبية للعمل المترجم إلى جانب التقيد بالمعاني والصور، مما يتطلب الخبرة الواسعة بالطرائق الأسلوبية في اللغة المترجم إليها، ويقتضي قدرا من الموهبة في الصياغة والتركيب.
ولكن ضروب الشعر الأخرى - أي الشعر القصصي والدرامي - قد لا تتطلب مثل هذا العناء؛ لأن الدور الذي يلعبه الوزن والقافية فيها محدود إلى درجة كبيرة، بل إن أهم ألوان الشعر المستخدم فيها في الأدب الإنجليزي مثلا هو النظم غير المقفى
Blank Verse
وهو نظم لا تلعب فيه الموسيقى دورا كبيرا، وكثيرا ما يحس القارئ أنه أقرب إلى النثر منه إلى النظم. فمعظم نماذجه تعتمد على النظام الكمي؛ أي على تماثل عدد المقاطع في كل بيت لا على الانتظام الإيقاعي المحكم الذي نشهده في الشعر الغنائي، وذلك رغم أن عمود النظم الإنجليزي نبري وليس كميا. وأعتقد أن هذه مسألة تحتاج إلى إيضاح.
إن النظم في الأدب الأوروبي الحديث (أي منذ نشوء اللغات الأوربية المستقلة التي نعرفها اليوم) يختلف عن النظم في اللغات القديمة - كاليونانية واللاتينية - في أنه لا يعتمد على عدد المقاطع وطولها، بل على تتابع المقاطع المنبورة وغير المنبورة في كل بيت، بحيث تشكل كل مجموعة من هذه المقاطع تفعيلات يسميها الإنجليز «أقداما» (
feet ) باعتبارها «مقاييس» يقاس بها النظم. وأشهر البحور المستخدمة في النظم الإنجليزي قاطبة هو بحر الأيامب المستمد من تراث اليونانية القديم، ويتكون من مقطعين؛ الأول غير منبور والثاني منبور، ولكن أنواع الزحاف التي تدخل على هذا البحر قد تطمس الإيقاع المنتظم الذي يتميز به الشعر الغنائي، بل كثيرا ما يحار القارئ في تحديد نوع البحر المستخدم لزيادة الزحافات في الشطر الواحد عن التفعيلات المستقاة من البحر الأصلي! ولدى الإنجليز بحور أخرى بطبيعة الحال، ولكن كثرة استخدامها في سياق بحر الإيامب يتيح للشعراء كسر «الانتظام» (فهم يعتبرون الانتظام رتابة ويسعون جادين للتغلب عليه)، وتجعل المحك الوحيد هو عدد التفعيلات في البيت الواحد؛ أي العودة إلى النظام الكمي.
وقد خرج على هذا النظام بعض الشعراء المحدثين مثل ت. س. إليوت، ومن تبعه من شعراء القرن العشرين، فاستحدثوا نظاما جديدا يعتمد على عدد المقاطع المنبورة في البيت الواحد، بغض النظر عن عدد المقاطع في البيت كله، وإن كان هذا النظام هو المتبع في شعر الإنجليزية القديمة
Old English
كما خرج عدد لا يحصى من الشعراء على طرائق النظم التقليدية وضروب القافية المألوفة حتى أتى فيليب لاركن
Larkin (المتوفى عام 1986م) وأعاد صور النظم التقليدية والتقيد بالقافية.
ولذلك فعندما يتصدى كاتب أو شاعر لترجمة عمل شعري قصصي أو درامي فإنه لا يواجه الموسيقى الغلابة التي يواجهها في الشعر الغنائي، بل أحيانا ما لا يواجه الإيقاعات المألوفة في الشعر بصفة عامة؛ فشعراء الإنجليزية الذين يكتبون الشعر القصصي أو الدرامي يتعمدون إخفاء موسيقى شعرهم وإخضاعها للمواقف القصصية أو الدرامية حتى ما تكاد تبين، وهي لا شك ذات أهمية ثانوية بالقياس إلى قدرة اللغة على تصوير الحالات النفسية للشخصيات، وإبراز أدق انفعالاتها وأفكارها؛ بل إن كبار كتاب المسرح يجهدون أنفسهم حتى تخفت موسيقى الشعر وتتوارى ويفضلون استخدام أنواع من النظم أقرب إلى النثر، بل استخدام النثر نفسه في المسرحية الشعرية، حتى لا تجرف الموسيقى القارئ حين تسيطر على أذنه، ومن ثم تتحكم في إيقاعات نفسه.
ومن أهم وسائل إخفاء الإيقاع الشعري في الإنجليزية أو «إخفائه» - إن صح هذا التعبير - إلغاء القافية تماما، وعدم إنهاء العبارة عند انتهاء البيت - أي كسر وحدة البيت - بحيث تستمر الجملة في التدفق من سطر إلى سطر (فالسطر هو المقابل الإنجليزي للبيت أو للشطر في الشعر العربي)، وربما انتهت الجملة في منتصف السطر وبدأت عنده جملة جديدة. ومنها عدم التقيد بعدد التفعيلات في البيت الواحد، ومنها تنويع البحور المستخدمة، والإكثار من الزحاف حتى لكأن السامع يسمع نثرا، وهذه جميعا خصائص يستطيع الشعر العربي الجديد - أو الشعر المرسل - أن يقدم المقابل لها والذي قد يرقى إلى مرتبة المثيل.
وتتفاوت الأعمال المسرحية الشعرية أيضا في مدى اتكائها على هذا النوع من النظم الذي يمكن أن نطلق عليه النظم الدرامي، وتتفاوت في درجة تحررها من الإيقاع الشعري كما تتفاوت أجزاؤها المختلفة في درجة اتكائها عليه أو تحررها منه. فشيكسبير دائما ما يخضع لغته لمقتضيات فنه الدرامي، وهو - كما ذكرت في مقدمة ترجمتي لمسرحية تاجر البندقية - لا يتقيد بقوالب النظم الخارجية، ويكاد يبتكر أنواع الموسيقى التي تتطلبها مواقفه الدرامية. وقد حاولت عندما شرعت في ترجمة «يوليوس قيصر» أن أحاكي النظم الذي اختاره، أو أن أمزج بين النظم والنثر، مثلما فعلت في ترجمة «روميو وجولييت» (دار غريب، 1986م)، ولكنني كنت دائما أصطدم بعقبة كأداء، وهي أنني لا أستطيع أن أضحي بأي جانب من جوانب اللغة المستخدمة تركيبا أو تنسيقا أو ألفاظا في سبيل الإيقاع الشعري؛ فلغة المسرحية تسيطر عليها دقة نادرة قد تفسدها إعادة ترتيب العبارة أو تركيب الجملة نشدانا للإيقاع الشعري. ويسيطر على المسرحية - خصوصا في المواقف الدرامية الحرجة - منطق المتآمرين ومنطق الثأر المدروس المتأني، حتى حين يبدو أن الشاعر قد أطلق العنان لمشاعر الشخصيات وجعلها تخرج ما في باطنها دون حساب أو تدبير. ولذلك فقد فضلت آخر الأمر أن أقلع عن محاولة الترجمة المنظومة وأن أستعيض عنها بإيقاع اللغة العربية الذي يتفاوت من موقف إلى موقف ، ولكنه يتجاوب في كل حالة مع إيقاع الإنجليزية المنظومة؛ فهو في رأيي يمثل «البديل» لنظم شيكسبير.
وقد مكنني هذا «البديل » من أن أضبط الصياغة العربية لأخرج المقابل (الذي كثيرا ما يصل إلى درجة المثيل) للجوهر الدرامي للمسرحية الذي ينسجه شيكسبير نسجا بارعا حاذقا، لا في الحوار فحسب، ولكن أيضا في البناء المحكم. فكل ما تقوله الشخصيات قائم على تفكير دقيق ومرسوم بتأن وتمهل، حتى في المشاهد التي تلتهب فيها المشاعر ويلوح لغير الخبير أنها كتبت عفو الخاطر.
أما السمة الأولى للغة المسرحية وهي تفاوت مستوياتها بين النظم والنثر، وبين اللغة الرفيعة (أي الأسلوب الرفيع) واللغة العامية، فيكفي للتدليل عليها أن نورد فقرات محدودة من المشهد الافتتاحي الذي يتضمن حوارا يمزج بين هذه المستويات جميعا:
Flavius:
Hence! home, you idle creatures, get you home.
Is this a holiday? what, know you not
Being mechanical, you ought not walk
Upon a labouring day without the sign
Of your profession? Speak, what trade art thou?
First Citizen:
Why, sir, a carpenter.
Marcellus:
Where is thy leather apron and thy rule?
What dost thou with thy best apparel on?
You, sir, what trade are you?
Second Citizen:
Truly, sir, in respect of a fine workman,
I am but, as you would say, a cobbler.
Marcellus:
But what trade are thou? Answer me directly.
Second Citizen:
A trade, sir, that I hope I may use with a safe conscience;
Which is, indeed, sir, a mender of bad soles.
Marcellus:
What trade, thou knave? Thou naughty knave, what trade?
Second Citizen:
Nay, I beseech you, sir, be not out with me; yet if you
be out, sir, I can mend you.
Marcellus:
Thou art a cobbler, art thou?
Second Citizen:
Truly, sir, all that I live by is the awl: (I. i. 1-27)
فالواضح هنا أن الضابطين فلافيوس ومارسيلوس يجنحان إلى النظم الكمي في معظم سطور حوارهما، بينما يلتزم الصانعان (النجار والإسكافي) بالنثر، ولكن الجميع يتحدث لغة عامية تتدنى في حديث الإسكافي إلى مستوى البذاءة والسوقية - مما يغضب الضابط غضبا شديدا - وترتفع في حديث الضابط إلى مستوى الأسلوب (الرسمي). ومعنى الأسلوب «الرسمي» هو الأسلوب الذي يفترض «مسافة ما» بين المتحدث والسامع، بحيث لا تشيع فيه رنة الألفة وما يصاحبها من ظواهر أسلوبية معروفة مثل استخدام ألفاظ بعينها أو بعض التراكيب العامية الشائعة أو الخروج عن النظم الصحيحة لبناء العبارات، وفقا لقواعد النحو في الفصحى أو اللغة المكتوبة، لغة التفكير العلمي والأدب «الرسمي» وما إلى ذلك. كما أن الضابطين يتحدثان بالنظم الحر الذي وصفته آنفا، ويلاحظ أنه يقترب كثيرا من أنماط النظم الحديثة التي تعتمد على عدد المقاطع المنبورة في البيت الواحد رغم إبقاء شيكسبير على القاعدة الكمية؛ أي على المقاطع العشرة في معظم الأبيات. وخذ نموذجا على ذلك أول حديث للضابط مارسيلوس:
Where is thy leather apron and thy rule?
What dost thou with thy best apparel on?
You, sir, what trade are you?
فالملاحظ هنا أن كل بيت يتضمن أربع مقاطع منبورة رغم أن كلا من البيتين الأول والثاني يتكون من خمس تفعيلات (عشرة مقاطع)، بينما لا يزيد الثالث على ثلاث تفعيلات؛ أي ستة مقاطع فحسب! وإذا نظرنا إلى نظام النبر هنا فسوف يتضح لنا مدى تحرر شيكسبير من قيود الإيقاع التقليدية لبحر الأيامب؛ إذ يدخل فيه عددا من ألوان الزحاف تكاد تخرج به عن طبيعته تماما؛ فالبحر غير المزاحف يتكون من خمس وحدات (تفعيلات) تتكون كل منها من مقطعين؛ الأول غير منبور
Unstressed
والثاني منبور
Stressed
ويرمز له هكذا (من اليسار إلى اليمين):
وقد تدخل عليه ضروب الزحاف فتحل تفعيلات من بحور أخرى فيه أهمها: بحر التروكي
Trochee (وتفعيلته عكس الأيامب؛ أي ) وبحر السبوندي
Spondee (مقطعان منبوران ) والبيريك
(مقطعان غير منبورين
u u ) أو الأنابيست
Anapaest (مقطعان غير منبورين يتلوهما مقطع منبور ). وإذا رصدنا التركيب الإيقاعي للأبيات الثلاثة خرجنا بما يلي:
معنى هذا أن استخدم شيكسبير لتفعيلات من بحور أخرى (وهو ما يوازي الزحاف لدينا في العربية) لم يؤثر على عدد المقاطع المنبورة في كل بيت، وهي أربعة في كل سطر، رغم تفاوت عدد المقاطع في كل بيت واختلاف جرسه وإيقاعه العام؛ أي أنه كما ذكرت يقترب في هذا من طريقة الإيقاع النبري
Stress rhythm
الذي أحياه ت. س. إليوت عن الإنجليزية القديمة. وشيكسبير يستخدم هذا بحذق شديد؛ فهو يجعل مارسيلوس يعمد بعد إجابة الإسكافي إلى تنويع آخر على نفس البحر مضيفا مقطعا إلى المقاطع العشرة ومستخدما تفعيلة من بحر الأنابيست ( ):
مع الإبقاء على عدد المقاطع المنبورة الأربعة، وذلك قبل أن يعود إلى صورة بحر الأيامب المنتظمة في البيت التالي له:
وقبل أن يزيد تفعيلة كاملة في البيت التالي له بحيث يصبح البحر سكندريا؛ أي يتكون من ست تفعيلات (ومقطع زائد أيضا):
وأخيرا يعود إلى البحر الثلاثي المزاحف:
وإن كان بعض النقاد يميلون إلى اعتباره رباعيا حذف منه آخر مقطع غير منبور؛ أي أنه يجب أن يعتبر هكذا:
والواقع أنني لم أكن أريد الإفاضة في التحليل العروضي لهذه الأبيات، وإنما دفعني إليها افتقار المكتبة العربية إلى ما يشرح الفروق بين النظم الإنجليزي والنظم العربي، وهي فروق لا مناص من الإحاطة بها لمن يتصدى لترجمة الشعر. والغاية التي أسعى إليها هي باختصار إيضاح مدى الحرية التي يتمتع بها الشاعر المسرحي الإنجليزي والتي من المحال أن تتحقق في العربية؛ إذ إن شيكسبير هنا كاتب مسرحي في المقام الأول، وهو يتوسل بضروب منوعة من النظم للاتكاء على معان خاصة بالموقف الدرامي ولا يمكن إبرازها إلا عن طريق التغيير المتواصل للبحور والإيقاعات الداخلية من خلال الزحاف والعلل. ويكفي أن ينظر القارئ إلى السطور الافتتاحية للمسرحية (التي يقولها الضابط فلافيوس) ليدرك مرماي. فالسطر الأول يتكون من خمس تفعيلات تتضمن ستة مقاطع منبورة، والعبارة الثالثة التي تبدأ في منتصف السطر الثاني لا تنتهي إلا في السطر الخامس، وتتفاوت في السطور عدد المقاطع المنبورة تفاوتا كبيرا!
فإذا انتقلنا إلى أحاديث العامة، ويمثلهم هنا المواطنان الأول والثاني، أي النجار والإسكافي، وجدنا أن شيكسبير يستخدم النثر من البداية إلى النهاية، مع ما وصفته بالتدني إلى درجة السوقية والبذاءة. وإذا كان الهدف الذي وضعته نصب عيني في البداية (وأرجو أن يكون نصب عيني كل مترجم أدبي أيضا) هو إيجاد المقابل الذي قد يرقى إلى مستوى المثيل، فربما كانت العامية المصرية أفضل مستويات العربية المتاحة لترجمة هذه العبارات، ولكنني اتبعت في ترجمة المسرحية كلها لغة عربية معاصرة تستطيع أن ترقى إلى مصاف اللغة الرفيعة وأن تهبط إلى بعض مستويات العامية الدنيا، ولذلك فأنا نشدت البديل في الحالين، أي في ترجمة النظم المسرحي بنثر فصيح أعتبره بديلا مقبولا، وترجمة النثر المسرحي العامي بنثر مبسط يستخدم بعض المفردات ذات الدلالة الحية في العامية المصرية باعتباره بديلا مقبولا. وأرجو أن يطلع القارئ على ترجمة هذه السطور الأولى من المسرحية في النص المنشور هنا ليدرك ما أعنيه.
ولأعد الآن إلى ما ذكرته عن دقة الصياغة اللغوية في نص شيكسبير والتي قد تفسد إذا اخترت الترجمة المنظومة، وليأذن لي القارئ أن أعيد ما ذكرته عن «التفكير الدقيق المرسوم بتأن وتمهل، وهو الذي يعتبر الأساس لكل ما تقوله الشخصيات حتى حين تلتهب المشاعر ويلوح لغير الخبير أن كلامها يصدر عفو الخاطر، وسأضرب لذلك مثلا من أهم مشاهد المسرحية، وهو المشهد الثاني من الفصل الثالث الذي كثيرا ما يقدم وحده باعتباره «قلب» المسرحية، ليس فقط لأنه يقع في منتصفها، بل لأنه أيضا محور الارتكاز الذي يتغير عنده الحدث، حين يبدأ الانتقام لقيصر من قاتليه.
يبدأ المشهد بداية نثرية؛ إذ يتخلى شيكسبير عن النظم كي يحكم بناء المنطق الذي يتحكم في بناء المشهد. ولذلك تجد أن الخطبة الأولى التي يلقيها بروتس - وطولها سبعة وعشرون سطرا - منثورة، وبعدها يقاطعه أحد الأهالي بسطر قصير، ثم يستأنف خطبته ويتحدث على مدى أربعة عشر سطرا أخرى نثرا، وبعد ذلك يتحدث الأهالي في سطور منفصلة ومقطعة يعربون فيها عن اتباعهم لبروتس حتى السطر 78، وعندها يتكلم أنطونيو مع الأهالي حتى آخر المشهد تقريبا (حتى السطر 254)، وهو يستأثر في الحقيقة بما يربو على مائة وثلاثين سطرا تتخللها نداءات الأهالي وصيحاتهم.
ولكن ماذا يقول أنطونيو في هذه السطور الكثيرة؟ إن خطبته الطويلة التي تستغرق صفحات متوالية مقسمة تقسيما دقيقا بين القسم الأول (من 74-109) الذي يضع فيه أنطونيو بعناية أسس إدانته لبروتس وعصبته، وبين القسم الثاني (120-139) الذي يلقي فيه بخبر وصية قيصر حتى يثير فضول الجمهور، والقسم الثالث (151-170) الذي يعتبر نقطة تحول من الوصية إلى التركيز على بشاعة الجريمة التي ارتكبها الخونة، وذلك في القسم الأخير (من 170-199) حيث تتحول مشاعر الجمهور تماما إلى مساندة أنطونيو والعداء السافر لبروتس وكاشيوس وسائر المتآمرين، وبعد عدد من الصيحات التي يعرب فيها الجمهور عن عدائه لزمرة الخونة (200-210) يعود أنطونيو إلى التلاعب بمشاعر الجمهور لكي يحول استياءهم إلى موقف صلب، أي إلى عمل إيجابي - وهو يحسب لكل كلمة حسابها في هذا الخطاب - حتى يصل (211-232) إلى كلمة «الثورة» التي يرددها الشعب؛ أي الانتقام لمقتل قيصر، وعندها فقط يعود إلى ذكر الوصية التي يكون الجمهور قد نسيها حتى يضمن ولاءه التام (237-254) فيسود الهرج والمرج، ويدخل رسول أوكتافيوس فيجد أن أنطونيو واثق كل الثقة من قدرة «كلماته» على أن تفعل فعلها في نفوسهم! (254، حتى آخر المشهد).
إن هذه الخطبة الطويلة مبنية بناء هندسيا يتراوح بين الصعود وبين الهبوط - كما أوضحت آنفا - أي أن أنطونيو يحسب حسابا لكل كلمة يقولها، ويعرف معرفة وثيقة أين يضعها، وفي أي سياق بالتحديد؛ ولذلك فالنظم هنا ثانوي، بل هو إطار يلتزم به البعض (مثل أنطونيو) ولا يلتزم به الآخرون (مثل بروتس والأهالي) وعدد السطور في هذا المشهد مقسم بين المنثور والمنظوم تقسيما شبه متعادل، كما أن النظم الذي يستخدمه أنطونيو لا يضم في ثناياه ما اعتدناه من شاعرية شيكسبيرية؛ فهو يكثر من استعمال الزحاف والرخص الشعرية إلى حد الاقتراب من موسيقى النثر، كما شرحت ذلك من قبل، وهو يستخدم لغة منطقية تخلو من الصور الشعرية، وليس من قبيل المصادفة أن تخلو هذه السطور جميعا من الاستعارات الغلابة أو المهيمنة
dominant metaphors ؛ أي الاستعارة التي تلقي بظلالها على الحديث برمته وتشكل إطارا نفسيا ومجازيا له! كل ما هنالك هو استعارات محدودة ومقصورة على موضعها في السياق.
ولنأخذ مثلا السطور من 219 إلى 225؛ إذ يقول أنطونيو:
I am no orator, as Brutus is;
But as you know me all, a plain blunt man,
That love my friend; and that they know full well
That gave me public leave to speak of him
For I have neither wit, nor words nor worth,
Action, nor utterance, nor the power of speech
To stir man’s blood: I only speak right on: (III. ii. 219-225)
ففي هذه السطور السبعة يلخص لنا أنطونيو صفات الخطيب المصقع في زمنه، وهي الخصال الست المعروفة: (البديهة الحاضرة) (1) Wit (الألفاظ المنتقاة) (2) Words (المكانة المرموقة) (3) Worth (براعة الأداء) (4) Action (حسن الإلقاء) (5) Untterance (ذلاقة اللسان) (6) Power of speech
وقد أجمع النقاد على أن شيكسبير كان يتعمد وضعها في هذا الترتيب ليبين أن الصفة الأولى هي البديهة الحاضرة، وهي الصفة التي تميز أنطونيو أكثر من غيره من الشخصيات، ويليها حسن اختيار الألفاظ ومكانة الخطيب في المجتمع ثم براعة أدائه التمثيلي أثناء الخطبة وحسن إلقائه، وأخيرا ذلاقة اللسان أو قدرة المتحدث على إثارة مشاعر الناس! والواضح أن هذه الصفات التي ينكرها أنطونيو في نفسه هي أهم صفاته هو، مع أنه ينسبها إلى بروتس؛ أي أنه يثبتها حين ينكرها وبهذا الترتيب!
ومعنى ذلك ببساطة هو أن أي تغيير في ترتيب الألفاظ والعبارات سوف يقلل من تأثير هذه الفقرة، التي تبدأ بإنكار صفة الخطيب المصقع، وتنتهي بادعاء الحديث العفوي! وها هي إذن ترجمتي لها، وأعتقد أنها أقرب ما يكون إلى هذا البناء:
لست خطيبا مفوها مثل بروتس،
لكنني - كما تعرفون جميعا - رجل بسيط ساذج،
يخلص الحب لصديقه، وهم يعرفون ذلك خير المعرفة -
من سمحوا لي أن أتحدث عنه أمامكم!
فأنا أفتقر إلى البديهة الحاضرة، والألفاظ المنتقاة،
والمكانة المرموقة، وبراعة الأداء، وحسن الإلقاء ،
وذلاقة اللسان التي تثير مشاعر الناس!
لكنني أتحدث عفو الخاطر فحسب!
أما زيادة بعض الألفاظ (وكلها صفات) في النص العربي، فهذا يرجع إلى ما أسميه بضرورة التفسير الخاص للنص قبل أن يشرع المترجم في نقل العمل الأدبي، وهو ما تعرضت له في مقدمتي لترجمة تاجر البندقية المشار إليها آنفا، وسأعود إليه عند مناقشة ترجمة عبد الحق فاضل لهذه الفقرة. وإنما ضربت هذا المثل لأبين أن حديث أنطونيو مرسوم بدقة بالغة، فإذا حاول المترجم أن يصوغه نظما عربيا لم يجد بدا من التضحية ببعض جوانب هندسة البناء الفكري التي يستند إليها البناء اللغوي، كأن يعيد ترتيب هذه الصفات، أو يستعيض عن كلمة بأخرى تتفق والوزن الشعري (وما أكثر ما يفعل الشاعر نفسه ذلك!) أو يضيف كلمة طلبا للقافية، وهذا كله مقبول، بل ومحمود في ترجمة الشعر الغنائي الذي يلعب فيه الوزن والقافية كما قلت دورا كبيرا، ولكنه غير مقبول ولا محمود عندما يكون التركيب الفكري هو الأساس، لا الصورة أو الموسيقى والقافية!
وحتى لا يظن القارئ أنني لم ألجأ إلى الترجمة المنظومة كسلا أو تراخيا، سأورد صورة أعتبرها مقبولة في ترجمة الشعر الغنائي، صورة منظومة لهذه الفقرة، وأترك للقارئ الحكم على مدى جورها على الأصل. أما من يأنس في نفسه القدرة على إخراج ترجمة منظومة أكثر دقة، فهو مدعو للمشاركة في هذا الجهد الجميل الممتع:
إنني لست خطيبا مصقعا مثل بروتس -
بل أنا - قد تعلمون -
ساذج بل وغرير،
أخلص الحب لمن صادقت حقا،
وهمو لا يجهلون!
كلهم يدرك ذلك؛
ولهذا سمحوا لي
بحديث صادق عنه إليكم!
أين لي حذق البديهة؟
أين لي سحر الكلام؟
أين لي شرف المكانة؟
أين لي حسن الأداء؟
لست ذا فن بإلقاء الخطب،
لا، ولا عندي أفانين الأدب
كي أثير العقل والقلب لديكم،
بل أنا ألقي كلامي
كيفما يأتي لشفتي!
أقول إنني أترك للقارئ الحكم على مدى ابتعادها (أو اقترابها) من الأصل، وإن كان لا بد لي أن أشير إلى أن الموسيقى الغلابة هنا، والقافية غير المقصودة ، تجوران على الأصل ذي الإيقاع الخافت الذي يقترب كثيرا من النثر! ويكفي أن أقول إن أنطونيو لو تحدث هكذا - بالنظم العربي الجهوري - لأحس الجمهور بفن الصنعة الذي لا ينبئ عن نفس صافية صادقة. فالموقف الدرامي يرفض غلبة الموسيقى هنا التي قد تخلب الأذن دون أن تصل إلى العقل أو القلب، وأنطونيو يحاول أن يصل إلى قلوب السامعين وعقولهم لا أن يخلب آذانهم! ومن ثم كان قراري بأن البديل النثري أقرب إلى تحقيق المقابل الدرامي من المقابل المنظوم، مثلما كان قراري بالالتزام بالعربية المعاصرة بمستوياتها المتعددة.
أما اعتراضي على الترجمتين السابقتين لهذه المسرحية فله أسباب كثيرة؛ فالترجمة الأولى (عبد الحق فاضل، ومصطفى حبيب) تلتزم المنهج الحرفي الذي تخطيناه منذ زمن بعيد، وهو المنهج الذي يصفه درايدن في دراسته عن ترجمة فيرجيل (انظر مقالات درايدن
Essays of Dryden - وفي ظني أنها لم تترجم حتى الآن إلى العربية) بأنه منهج الالتزام بالألفاظ في أبنيتها الأصلية بغية إيضاح معناها وحسب (
metaphrase ). أقول إننا تخطينا هذا المنهج في الترجمة الأدبية منذ زمن بعيد، وإن كان بعض زملائنا من المترجمين في الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة ما زالوا يدعون إليه في الترجمة «العامة»، ولهم العذر في هذا؛ فهم لا يسمحون بالتصرف خشية وقوع المترجمين غير الأكفاء في الأخطاء؛ إذ إن ارتفاع أجور المترجمين في تلك المنظمة الدولية قد اجتذب الكثيرين من المبتدئين أو غير الموهوبين، وأخطاؤهم - كما لا يخفى على اللبيب - قد تتسبب في متاعب جمة، بل قد تضر بالعلاقات فيما بين الدول. وقد أدى هذا المذهب إلى ركاكة عامة في الأسلوب نتيجة التمسك بترتيب الألفاظ والتراكيب في الأصل الإنجليزي، وسوء الفهم أحيانا.
فمن أمثلة الركاكة ترجمة البيتين التاليين:
I has as lief not be as live to be
In awe of such a thing as I myself (I. ii. 5-94)
ومعناهما هو:
إنني أفضل الموت على أن أعيش في خوف من آدمي مثلي!
ولكن المترجمان يقولان:
أوثر عن طيب خاطر ألا أكون على أن أحيا لأكون
في فزع من شيء هو مثلي !
وأما الأخطاء في المعنى التي يأتي بها هذا المنهج فهي كثيرة، وسوف أدرج نماذج محدودة لإيضاح عيوب المنهج؛ إذ ليس هذا مجال مراجعة الترجمة. انظر إلى الحوار التالي:
Brutus:
That we shall die, we know; 'tis but the time
And drawing days out, that men stand upon!
Casca:
Why, he that cuts off twenty years of life
Cuts off so many years of fearing death! (III. i. 99-102)
ومعناه:
بروتس :
فأما أننا سنموت فأمر نعرفه،
وأما انتظار الأجل على امتداد العمر،
فهو الذي يقلق الإنسان!
كاسكا :
إذن فمن يختزل من عمره عشرين عاما
يكون قد تحرر من خشية الموت عشرين عاما كاملة!
ولكن المنهج الحرفي يؤدي إلى الترجمة التالية:
بروتس :
أما أننا سنموت فأمر نعلمه، لكنه ميقات الأجل،
واستطلاع مكنون الأيام - هو الذي يكرث بني الإنسان.
كاسكا :
لعمري إن من يقطع عشرين حولا من العمر
إنما يعيش العديد من السنين في خشية الموت.
ومشكلة المنهج الحرفي دائما هي الاهتمام بالكلمات المفردة على حساب معنى المصطلح، ومن نماذجه ترجمة ما يلي:
Cassius:
Fill, Lucius, till the wine o’erswell the cup.
I Cannot drink too much of Brutus’ love. (IV. iii. 160-161)
يقولان:
اسكب الخمر يا لوسيوس حتى يطفح القدح،
فإني لا أملك أن أنهل الكثير من محبة بروتس.
ومعناه هو:
أترع الكأس يا لوشيوس حتى يفيض،
فأنا لا أرتوي مهما شربت من محبة بروتس!
أو العبارة التالية (من نفس المشهد):
It may be I shall raise you by and by
On business to my brother Cassius (IV. iii. 246-7)
ومعناها:
فربما أيقظتكما بعد قليل
لتحملا رسالة إلى أخي كاشياس.
ولكنهما يترجمانها هكذا:
فلعلي أنهضكما واحدا بعد الآخر
في شأن مع أخي كاشياس.
أو قول أنطونيو لأوكتافيوس:
Tut, I am in their bosoms, and I know
Wherefore they do it. They would be content
To visit other places ... (V. i. 7-9)
ومعنى الأبيات:
أعرف ما في نفوسهم، وسأشرح لك سبب هذه المبادأة!
إنهم خائفون ويتمنون لو لم يكونوا هنا.
أما المترجمان فيقولان:
مه، لكأني في سريرتهم، فأنا أعلم
لماذا يفعلون ذلك. إنهم يطيب لهم
أن يؤموا أماكن أخرى.
وأعتقد أن هذه النماذج على قلتها تكفي لإيضاح ما أعنيه بالترجمة الحرفية وما توقع المترجم فيه. وربما لاحظ القارئ أنني لا أشير إلى أي أخطاء تتصل بترجمة الكليات المفردة؛ فأنا لا أعتبر الكلمة المفردة وحدة التعبير الأساسية، بل أعتبر أن أصغر وحدة هي العبارة، وقد تقصر العبارة وقد تطول لتمتد إلى عدة سطور. بل إنني في سياق الترجمة المسرحية أكاد أعتبر أن الوحدة تمتد لتشمل المقطع الحواري برمته! ولذلك أتجاهل جنوح المترجمين هنا إلى تطبيق نظرية الموازاة بين الكلمات، أي محاولة إيجاد المرادف في العربية لكل كلمة إنجليزية؛ فالترادف في نظري وهم، وليرجع من يريد إلى ترجمتهما للأبيات السالف إيرادها (ف3، م2، 219-225) والتي تتضمن صفات الخطيب البارع في زمان الرومان، وسوف أورد هنا البيتين اللذين يتضمنان هذه الألفاظ فحسب:
ذلك أني لا أملك من البديهة ولا من الألفاظ ولا من القيمة
أو العمل، ولا من الذلاقة ولا من قوة الخطاب -
ما أهيج به دماء الناس. (الأبيات 221-223 في النص العربي المنشور)
ومغبة هذا المنهج هو الإتيان بألفاظ توحي بالترادف، وهي أبعد ما تكون عنه؛ إذ إن كلمة البديهة في ذاتها لا تعني
wit ؛ بل تعني البداهة أو «المعرفة يجدها الإنسان في نفسه من غير إعمال الفكر ولا علم بسببها»، وهذا المعنى الأخير الذي أقره مجمع اللغة العربية تطوير لمعنى البداهة القديم (وهو البداءة) - الذي تتضمنه قواميس اللغة العربية - أما
wit
فتعني القدرة على التحاور دون إعداد استنادا إلى ذكاء فطري ولماحية موهوبة، ولذلك فنحن نعني بها «البديهة الحاضرة» تفريقا بينها وبين ما يعرفه الإنسان بالبديهة. وأما «الألفاظ» فليس المقصود بها «الألفاظ» على إطلاقها، بل الألفاظ التي أحسن اختيارها، ولذلك فهي تعني «الألفاظ المنتقاة». وأما ترجمة كلمة
worth
بالقيمة فهي ترجمة حرفية قاموسية؛ أي لا تستند إلى المعنى السياقي، وهو «المكانة المرموقة للخطيب»، فهذه من الصفات التي تزيد من قدرته على التأثير في الناس. وأما ترجمة
action
بالعمل، فهي أيضا خطأ؛ لأنها لا تنقل معنى السياق، ألا وهو «براعة الأداء»، وهلم جرا. ولا شك أن إصرار المترجمين على ترجمة كل سطر بسطر أكبر دليل على أنهما يحاولان تقديم صورة حرفية
metaphrase
لا صورة أدبية لنص شيكسبير. •••
وأما الترجمة الثانية - ترجمة الأستاذ محمد حمدي - فهي تسبق عصرها بمراحل؛ لأنها لا تتبع المنهج الحرفي، بل تقوم على اعتبار الجملة لا الكلمة وحدة التعبير، وكذلك فهو لا يقع في أخطاء هذا العصر الذي يتميز بلكنة المترجمات - أي بالأسلوب الركيك الذي يحاكي أبنية العبارات الأصلية ومعانيها الحرفية - ولكنه يتخطى ذلك كله إلى ما يسميه درايدن
paraphrase ؛ أي الترجمة التي تعيد صياغة العبارات في ضوء المصطلح الخاص للغة المترجم إليها. وهو يفعل هذا كله مستندا إلى معرفته الواسعة باللغة الإنجليزية (وقد أصبحت نادرة في أيامنا هذه)، ومهتديا بحسه العربي الأصيل (وهو أندر من المعرفة بالإنجليزية).
ولكن هذه الترجمة يعيبها عيب كبير، ألا وهو توحيد مستوى اللغة العربية المستخدمة فيها من البداية إلى النهاية، بحيث لا يحس القارئ على الإطلاق أن ثمة فروقا بين لغة هذه الشخصية ولغة تلك، أو أن ثم مزاحا هنا وجدا هناك، أو أن العامة يتكلمون لغة تختلف عن لغة القادة والسادة، والسبب في هذا هو المفهوم الذي ألمحت إليه في بداية هذه المقدمة عن اللغة الأدبية أو لغة الأدب.
وأما الذي دفع محمد حمدي على سلوك هذا السبيل فهو التصور الذي ساد العقود الأولى من هذا القرن عن شيكسبير باعتباره أديبا عظيما لا يصح له أو لا يقبل منه استخدام لغة غير رفيعة أيا كانت الشخصيات التي تتحدث في مسرحه، فإذا ذكرنا أن مفهوم الأديب العظيم لا يتحقق في نظر الأوائل من كتاب تلك الحقبة إلا باستخدام لغة أدبية بالمعنى القديم، أدركنا سر إصرار محمد حمدي على «رفع» مستوى لغته وتوحيد هذا المستوى.
وقد اقتضى هذا «الرفع» اللجوء إلى حيل الصياغة القديمة مثل التوازي في العبارات، والتقابل والتضاد، وسائر ألوان المحسنات اللفظية والبديعية مما لا يوجد في نص شيكسبير؛ أي بإضافة لمسات صياغة عربية قديمة قد لا يقتضيها الموقف الدرامي. وانظر مثلا كيف يترجم الأبيات التالية:
Were I a common laughter, or did use
To stale with ordinary oaths my love
To every new protester; if you know
That I do fawn on men and hug them hard
And after scandal them; or if you know
That I confess myself in banqueting
To all the rout, then hold me dangerous. (I. ii. 71-77)
وترجمتها الحديثة هي:
لو كنت مهرجا مبتذلا أو ممن يقسمون الأيمان الرخيصة
على مودتهم لكل من يمد إليهم حبل الود، أو كنت تعرف
أنني ممن يظهرون الحب ويعانقون خلانهم ثم يغتابونهم،
أو ممن يعلنون مودتهم في المناسبات والولائم للجميع،
فاعتبرني خطرا من الأخطار!
أما الأستاذ حمدي فيترجمها هكذا:
لو كنت دعابا مجانا، أو حلافا مهينا، أبذل محبتي
لكل من يدعي صداقتي، وأخدع الناس بالرياء والدهان،
حتى إذا حصلت على مودتهم، وتبينت صدق طويتهم،
صدفت عنهم أغتابهم وأنم بهم، لكنت خليقا بمجانبة
الأصدقاء، وقطيعة الأوفياء، أو إذا كنت تعهد
في التطفل وامتهان النفس وابتذال السيرة، فقاطعني
واعتبرني شر الأشرار، وخطرا من الأخطار.
فالواضح أن الإضافات التي يحشو بها محمد حمدي نص شيكسبير تضعف من حدة الحجة التي يقدمها كاشياس لأنها تجعل الحوار أقرب إلى «الإنشاء» منه إلى الترجمة الدقيقة. وبعضها لا دافع له سوى السجع أو الجرس الموسيقي، بل إنه يخرج عن المعنى الذي يرمي إليه المتحدث كما يتضح من المقارنة بين الترجمة والأصل؛ فليس في الأصل معنى «الحصول على المودة (وتبين صدق الطوية!)»، وليس في النص «قطيعة الأوفياء»، وليس فيه «التطفل» و«امتهان النفس» و«ابتذال السيرة، بل ليس فيه «شر الأشرار» المضافة للعبارة الأخيرة.
والواقع أن محمد حمدي يلجأ كثيرا إلى شرح نص شيكسبير بدلا من ترجمته، فهو يضيف عبارات هنا وهناك لإيضاح المعنى وفقا لمفهومه، فمثلا يترجم العبارة:
I was born free as Caesar; so were you (I. ii. 96)
وترجمتها البسيطة:
لقد ولدت حرا مثل قيصر، وكذلك أنت.
أما هو فيترجمها هكذا:
لقد ولدت حرا مثل قيصر، فأنا وهو في حق
التمتع بالحرية سواء، وكذلك أنت.
ولا شك أن الإحالة هنا إلى بيت أحمد شوقي المشهور الذي يقول فيه:
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى
فالكل في حق الحياة سواء
رغم عدم وجود العبارة في النص الإنجليزي، وهو يتجنب ذكر الآلهة الوثنية، ويترجم عبارة مثل
Ye gods!
هكذا: «فوا عجبي لتصرفات الزمان» (ف1، م2، 127)، وهو يشرح العبارة التالية:
The fault, dear Brutus, is not in our stars,
But in ourselves, that we are underlings. (I. ii. 9-138)
ومعناها:
ليست الطوالع والنجوم مسئولة عما نحن فيه من
ضآلة، بل العيب فينا نحن.
يشرحها في الترجمة التالية:
ليس الذنب على طالع منحوس أو نجم آفل،
وإنما الذنب علينا نحن لاستسلامنا ورضانا
الخسف والاعتساف.
وقد يؤدي هذا المنهج إلى تجاوز المعنى الأصلي في سبيل الصياغة الجزلة، فمثلا يقول كاسكا (الذي يتحدث نثرا):
If the rag-tag people did not clap him and hiss
him according as he pleased and displeased them,
as they use to do the players in the theatre,
I am no true man. (I. ii. 255-7)
ومعناها:
كأن العامة يصفقون له حين يرضيهم، ويصفرون منه حين يغضبهم،
مثلما يفعلون مع الممثلين في المسرح .. وهذه هي الحقيقة المجردة.
أما هو فيترجمها على هذا النحو:
إني على يقين من أن .. أولئك الطغام السفهاء كانوا يهشون له،
ويبشون، سواء أرضاهم أو أغضبهم كما يفعلون بالممثلين -
على المسارح - وإلا فلا تصدقوني ما دمت حيا.
أو فانظر هذه العبارة:
It is the bright day that brings forth the adder,
That craves wary walking . (II. i. 14-15)
ومعناها:
إن ضوء النهار هو الذي يخرج الحية من جحرها،
مما يستوجب الحذر عن المسير!
ولكنه يترجمها هكذا:
إن النهار الساطع البهي هو الذي تخرج فيه الحية من جحرها
تنشد الحب والخيانة.
ومن عيوب المنهج الإنشائي الميل إلى «الحذف» أيضا، فالأستاذ حمدي - ربما من باب الحرص على «حساسية» خاصة لدى قراء عصره - يميل إلى حذف الإشارات إلى الآلهة الوثنية، ويستبدل «المولى القدير» بها (في ف1، م3، 55 مثلا) أو يحذف عبارات يرى فيها خروجا عن المسموح به في الترجمة الأدبية مثل العبارة التالية، وهي قول بورشيا لزوجها بروتس:
Dwell I but in the suburbs
Of your good pleasure? If it be no more,
wife! (II. i. 285-7)
ومعناها:
هل أقيم في ضواحي مسراتك وملاذك فحسب؟
إن كان دوري مقصورا على هذا فلست حليلة بل خليلة!
والواقع أن محمد حمدي، رغم مآخذ منهجه الإنشائي، قد أخرج لنا نصا راقيا يتميز عن نصوص معاصريه، بل يسبق زمانه كما قلت. ولقد أفدت منه كثيرا، ولا بد أن أقر له بفضل السبق والريادة. •••
وقد اعتمدت في ترجمتي على النص المعتمد المنشور في سلسلة «أردن»
Arden ، والنسخة التي استخدمتها من تحرير ت. س. دورش
T. S. Dorsch
الصادرة عام 1972م (وطبعت لأول مرة في هذه السلسلة عام 1965م)، كما انتفعت بطبعة ماكميلان
Macmillan
من تحرير د. ر. الوواي
D. R. Elloway
الصادرة عام 1985م (الطبعة الأولى 1974م)، وطبعة كيمبريدج الجديدة
New Cambridge
من تحرير مارفن سبيفاك
Marvin Spevack
الصادرة عام 1988م، وطبعة سوان الجديدة
New Swan
من تحرير ه. م. هيوم
H. M. Hulme
الصادرة عام 1988م (الطبعة الأولى 1959م)، وطبعة سيجنت كلاسيك
Signet Classic
من تحرير وليم وباربارا روزن
William & Barbara Rosen
الصادرة عام 1963م - أقول «انتفعت» بهذه الطبعات؛ أي رجعت إلى الحواشي الواردة في كل منها والهوامش التي ذيلت بها، والمقدمات التي كتبها المحررون والتعليقات المرفقة، بغية التيقن من الطرق المتعددة لفهم النص أو لتفسيره قبل تحديد الفهم أو التفسير المقبول الذي لا يتناقض مع ظاهر الألفاظ؛ فأنا - كما ذكرت في مقدمة ترجمتي ل «تاجر البندقية» - لا أومن بالتأويل؛ بل أعتمد الفهم والتفسير منهجا في الترجمة.
وقد استندت أيضا في دراستي للنص إلى عدد محدود من الكتب «الأساسية» في الموضوع، وإلى عدد من الدراسات المتخصصة المنشورة في أهم الدوريات الأدبية الخاصة بشيكسبير مثل
Shakespeare Quarterly ، و
Shakespeare Survey ، وقد كنت مشتركا في هاتين الدوريتين إبان مقامي في إنجلترا - وأود أن أطلع القارئ على المفهوم الحديث الذي أراه أقرب ما يتمشى مع روح عصرنا التي تغيرت وتبدلت، ومن ثم فسوف أقدم عرضا سريعا للتراث النقدي لهذه المسرحية قبل أن أقدم المفهوم الحديث الذي أشرت إليه والذي ارتضيته وقبلته.
يعتمد التراث النقدي لمسرحية يوليوس قيصر على ارتباطها بمصدر الحبكة فيها، ألا وهو المؤرخ اليوناني الأشهر بلوتارخوس. ولا تكاد طبعة من الطبعات الأساسية للمسرحية أن تخلو من فقرات مطولة من كتابه تراجم نبلاء اليونان والرومان الذي طبع طبعتين في حياة شيكسبير؛ الأولى عام 1579م، والثانية عام 1595م، وقد ترجمه «توماس نورث
Thomas North » عن النص الفرنسي الذي أخرجه «جاك أميو
Jacques Amyot »، لا عن الأصل اليوناني. وقد وصل إلينا هذا المصدر في صورة حديثة عندما نشر «والتر سكيت
Walter Skeat » الفقرات التي اعتمد عليها شيكسبير في كتاب أسماه بلوتارخ الذي استخدمه شيكسبير عام 1875م. وما زالت هذه الطبعة مصدرا للفقرات التي يقتطفها الناشرون والمحققون ويدرجونها في طبعاتهم للمسرحية لأنها تضم بين دفتيها أهم الروايات التاريخية التي أخذ منها شيكسبير مادته المسرحية. ويلاحظ من يقارن المسرحية بالأصل أن شيكسبير أحيانا ما يلتزم بهذه المادة التاريخية، وأحيانا ما يختزل الأحداث أو يضغطها أو يمزج بينها تحقيقا لغاياته الدرامية. ولذلك فنادرا ما تجد ناقدا يتجاهل هذا المصدر؛ فإغراء المقارنة كبير، خصوصا لأنه يسير، ولأنه يؤدي إلى نتائج ملموسة يمكن للدارس التيقن من صحتها (فاليقين هدف الدراسة العلمية) على عكس التفسير والتأويل والآراء النقدية؛ فهي مهما استندت إلى نصوص أو حقائق تظل تفتقر إلى اليقين.
ولكن ثمة سببا آخر لهذا الولوع بمصادر شيكسبير، وهو سبب لا يقل أهمية عن السعي لليقين، ألا وهو أن الاهتمام بهذه المسرحية وإدراجها في مناهج تدريس الأدب الإنجليزي قد ارتبط بالاتجاه إلى تدريس الأدب الإنجليزي نفسه باعتباره أدبا رفيعا في أوائل هذا القرن، وهو الاتجاه الذي أصبح موضع انتقاد شديد لارتباطه بقيم الإمبراطورية وتميز كل ما هو إنجليزي وتفوقه؛ ولذلك فقد عارضته المدرسة الجديدة في النقد أشد معارضة، وعلى رأسها «تيري إيجلتون
Terry Eagleton » الذي أعرب عن ذلك صراحة في البحث الذي اشترك به في مؤتمر صور مصر في أدب القرن العشرين الذي عقد في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة في العام الماضي (18-20 ديسمبر 1989م)، كما سخر منه عدد من أساتذة الأدب الإنجليز، ومنهم كريستوفر نوريس
Christopher Norris (الذي اشترك في المؤتمر المشار إليه)، وكريستوفر بجسبي
Christopher Bigspy ، وتيرنس هوكس
Terence Hawkes
في مؤتمر كيمبريدج عن الكاتب المعاصر الذي شاركت فيه عام 1987م. وسر ارتباط المسرحية بهذا الاتجاه أنها تعلي «فضائل الحياة الرومانية» - أي قيم الإخلاص والشجاعة والثبات والتضحية، والفلسفة الرواقية، وجوهرها احتمال البأساء والضراء ومواجهة الشدائد في سبيل المبدأ بقلب لا يعرف الوجل - بل وتعلي بعض قيم الفلسفة الأبيقورية، وأهمها أن يمسك الإنسان زمام قدره بيده، وأن يعزف عن الخرافات وترهات العجائز والمنجمين، وكلها من القيم والمثل التي رأى دعاة الإمبراطورية والاستعمار ضرورة نشرها وترسيخها.
ولا شك أن تدريس «القيم الرومانية» كان يتمشى مع اتجاه الفكر البريطاني بصفة عامة في تلك الحقبة، وبالتحديد منذ 1888م تاريخ بداية الدعوة إلى «المثال الروماني في الحياة» على يد رجل من كبار رجال التربية والتعليم كان قد خلف الناقد والشاعر الأشهر ماثيو أرنولد
Matthew Arnold (الذي توفي في ذلك العام) في وظيفة كبير مفتشي اللغة الإنجليزية، وقد أدت الخلفية الفكرية للاتجاه النقدي إلى ربط المسرحية بالتاريخ الروماني، إلى كثير من المناهج المألوفة في تناولها، مثل الحديث عن كل شخصية على حدة باعتبارها شخصية تاريخية أولا وشخصية في المسرحية ثانيا، وإلى دراسة لغة المسرحية وصورها الفنية باعتبارهما نماذج للغة الرفيعة، لغة الخطابة، ولغة السياسة؛ أي لغة الخطاب العام لا لغة الصراع الدرامي. ومن ثم أصبح من المألوف اقتطاع فقرات كاملة من الخطب التي تلقيها بعض الشخصيات لتدريسها في مناهج اللغة الإنجليزية، أو لترجمتها إلى اللغة اللاتينية، باعتبارها نماذج للبلاغة القديمة، وهي بلاغة شكلية محضة ، بل هي في نظر النقد الحديث مذمومة؛ لأنها تفتقر إلى نبض الحياة الذي يجعل من القائل إنسانا من لحم ودم، لا مجرد متكلم أو خطيب.
وقد رصد الأستاذ «لينارد دين»
Leonard F. Dean
في مقال نشره في أكتوبر 1961م في مجلة
The English Journal
تغير النظرة إلى المسرحية في هذا القرن، من الحماس الشديد للقيم الرومانية الذي يتضح في كتاب «السير منجو. و. ماكلم»
Sir Mungo W. MacCallum ، وعنوانه شخصية بروتس - مع ما في هذا من جور على المسرحية وعلى شخصية بروتس الدرامية نفسها - إلى الاهتمام الذي يبديه «هارلي جرانفيل باركر»
Harley Granville-Barker
بجوانب أخرى في هذه الشخصية، وهي الجوانب الإنسانية التي تجعل من بروتس ضحية لتلك القيم نفسها ومن ثم تدينها؛ بل إن جرانفيل باركر ينتهي إلى القول بأن شيكسبير قد اكتشف استحالة «هضم المثال الروماني شعرا» (أي أن المثل الرومانية لم تتحول إلى شعر درامي على الإطلاق)، ومن ثم لم ينجح في تصوير بروتس في صور بطل مأسوي - وقد أعاد جرانفيل باركر كتابة دراسته ونشرها عام 1946م - قبل أن ينشر «جون بامر»
John Palmer
كتابه الشهير الشخصيات السياسية عند شيكسبير عام 1948م، وفيه يقول إن شيكسبير يضع بروتس - في الحقيقة - في موضع التهكم الساخر، وهو يلخص وجهة نظره في أول عبارة له عن بروتس في الكتاب؛ إذ يقول: «إن الخصال التي يتحلى بها بروتس هي نفس الخصال التي حرمت كل ليبرالي ذي ضمير حي من القدرة على التأثير في الحياة العامة في كل عصر من العصور.» ويضيف قائلا إن حياته السياسية هي باختصار «مجموعة من الخطوات العملية التي لا مبرر لها إلا «مبادئ» لم تعد صالحة للمجتمع الذي يعيش فيه؛ بل إنها توقعه في عواقب لم يكن يحسب لها حسابا ولا يستطيع أن يواجهها مواجهة إيجابية.» وهو يقارن بينه وبين سائر الشخوص في المسرحية؛ ليبين أن بروتس منفصل عن واقعه (إذ إن كاشياس مثلا يرى حقيقة ذاته ويعترف بها ببساطة)، ثم يقول: «ربما كان بروتس يقوم بتمثيل دور ما، ولكنه دور يقوم على كذبة أساسية في شخصيته، وهي الكذبة التي تضطره إلى إحلال شخصية عامة محل الإنسان الطبيعي في نفسه، وتدفعه إلى قتل قيصر حتى يحقق المبادئ التي يعتنقها، وتجعله ينهض بدور السياسي وهو يفتقر إلى الذهن اللازم لذلك والخصائص النفسية اللازمة لحمل تلك الرسالة؛ بل وتدفعه إلى مخاطبة الغوغاء بمنطق العقل، وهو لا يشارك هؤلاء الغوغاء مزاجهم النفسي أو منطقهم العقلي، وهي الكذبة التي لا بد أن تفرض نفسها عاجلا أم آجلا على أي مثالي يدخل معترك الحياة العامة ويجد أن عليه أن يستخدم الوسائل التي يحتقرها لتحقيق غايات لا تتصل اتصالا حقيقيا بالحقائق السياسية من حوله.»
ويعتقد «بامر» أن بروتس وكاشياس يرتكبان سلسلة من الأخطاء في الجزء الأخير من المسرحية حتى لحظة الهزيمة المحتومة - فهما «رجلان مرهقان يائسان .. ينشدان نهاية سريعة» - ويعلق على ذلك قائلا إن الهزيمة تعتبر إنقاذا لبروتس من الدور المزدوج الذي يلعبه - دور الحياة العامة والخاصة - وهي تشفيه من هذه الكذبة. وعندما نراه وقد طرح «الدور العام» واستعاد اطمئنان الإنسان الذي يهنأ بإخلاص أصدقائه نرى فيه - بعد فوات الوقت - الرجل ذا النفس الخاصة والعامة .. ومن ثم فإن الانطباع النهائي الذي نخرج به في رأي «بامر» هو الشفقة والتأسي لمصيره.
ومعنى التغير في النظرة إلى مسرحية يوليوس قيصر هو العزف عن ربطها بالتاريخ، واعتبارها كما يقول «لنارد. ف. دين» «مسرحية من المسرحيات المشكل، تتميز بمفارقتها السياسية والأخلاقية والنفسية، وهي المفارقات التي لا شك في أنها حديثة وذات طابع إنساني.» ويتفق مع هذا الرأي
Ernest Schanzer
في دراسته المنشورة في مجلة
Shakespeare Querterly II (صيف 1955م) بعنوان «مشكلة مسرحية يوليوس قيصر»؛ إذ يسوق الأدلة على أنها مسرحية مشكل (
)؛ أي من المسرحيات التي لا تحسم الصراع لصالح جانب على حساب جانب، بل تقدم عناصر الصراع الدرامي في صور متعاقبة متداخلة لتشرك القارئ في تأمل الصراع دون التوصل إلى حل (
resolution ) بمعنى أنها لا تقدم إجابة حاسمة بقدر ما تطرح من أسئلة أو تثير من مشاكل. وهي مسرحية مشكل أيضا لأنه يصعب تصنيفها كما يقول ألاردايس نيكول
Allardyce Nicoll
في كتابه عن شيكسبير (بعنوان «شيكسبير»، ص134)؛ ولأنها - كما يقول «ويلسون نايت»
Wilson Knight
في كتابه (الثيمة الإمبراطورية، ص63): «تفصح لمن يقوم بتحليلها تحليلا دقيقا عن عناصر بالغة الدقة وأخرى بالغة التعقيد تجعل التفسير أمرا عسيرا.» ويقول شانزر: «يختلف النقاد اختلافا شاسعا حول تحديد الشخصية الرئيسية في المسرحية؛ بل حول وجود شخصية رئيسية فيها، وحول اعتبارها مأساة، وصاحب المأساة فيها، وهل يريدنا شيكسبير أن نعتبر اغتيال قيصر عملا يستوجب المدح أم القدح؟ كما يقدم النقاد تفسيرات تتناقض تناقضا حادا بشأن سائر الشخوص الرئيسية في المسرحية.»
وأهم نظرتين متناقضتين هما نظرة البروفسور جون دوفر ويلسون
John Dover Wilson
التي يعرضها في مقدمة طبعة سالفة من طبعات كيمبريدج الجديدة للمسرحية، ونظرة السير مارك هنتر
Sir Mark Hunter
التي يلخصها في مقاله عن المسرحية المنشور في المجلد العاشر من منشورات الجمعية الملكية الأدبية لعام 1931م. أما دوفر ويلسون فيقول إن شيكسبير يعتنق نظرة عصر النهضة إلى قيصر، وهي النظرة التقليدية المستقاة من كتابات «لوكان»
Lucan
والتي تصفه بأنه «تيمورلنك روماني» لا حدود لطموحه، يتمتع بعبقرية جبارة لا ترحم، وهو طاغية رهيب يتسبب في خراب بلاده وتدمير أقوى وأزهى جمهورية عرفها العالم. ويضيف قائلا: «إن موضوع المسرحية واحد لا ثاني له، ألا وهو الصراع بين الحرية والطغيان» (ص21). وهو يقول إن الاغتيال يستحق الثناء، وإن المتآمرين من أنصار الحرية الذين ينكرون ذواتهم، وإن مأساة بروتس تتمثل في نضاله عبثا لدرء المصير الذي يتهدد روما، وهو قيام الحكم القيصري» (ص22).
وأما السير مارك هنتر فهو يقول: «لا شك أن شيكسبير - مهما بلغت درجة تعاطفه مع مرتكبي تلك الفعلة - كان يرى أن اغتيال يوليوس قيصر أبشع جريمة في التاريخ.» ويقول إن قيصر - عندما يخطو على المسرح - يؤكد لنا أنه شخصية ذات جلال ورفعة، جديرة بالرثاء المشبوب الذي يتدفق من فم أنطونيو، وبالمديح الهادئ من شفتي بروتس، ويقول إننا لا نلمح ما يدل على أن أعداء الزعيم - باستثناء بروتس - يأبهون لأي إنسان خارج دائرتهم المغلقة، على الرغم من استخدامهم للافتات السياسية البراقة مثل الحرية والتحرر والانعتاق. أما بروتس فهو نبيل الطوية مخلص دون شك، ولكنه متهم ب «الكذب الفكري»؛ لأنه يعتقد أنه دائما على صواب، ويناقض نفسه إلى درجة «تدعو إلى الرثاء»، وهو بإيجاز «سياسي غائم البصر، دساس مشاحن».
وهكذا فإن السير مارك هنتر يرى أن جذور الفكرة الدرامية لا تضرب في أرض عصر النهضة مثلما يقول دوفر ويلسون، بل تنتمي لفكر العصور الوسطى، وترتبط بصورة الزعيم العظيم أيا كانت معايبه، وضرورة الإبقاء عليها حفاظا على كيان الدولة. ويؤيد هنتر في هذا مؤرخ راسخ القدم هو «و. و. فاولر»
W. W. Fowler
الذي يؤكد في كتابه (مقالات واجتهادات روماني، ص273) أن قيصر الذي يصوره شيكسبير هو «القيصر التاريخي العظيم» الذي تشهد له النصوص اللاتينية المعترف بصحتها، وهي النصوص التي حملتها إلينا كتابات «أوروزيوس»
Orosius .
ويقول شانزر في الدراسة التي أشرت إليها إن ثمة فريقا آخر من الكتاب، وعلى رأسهم بعض كبار الكلاسيكيين مثل بلوتارخوس نفسه، و«أبيان»
Appian ، و«سويتونيوس»
Suetonius ؛ بل و«دانتي»
Dante
لا يقبلون أيا من النظرتين على علاتها؛ بل يقبلونهما معا وباحتراز وحذر! أي أن ثم فريقا من الكتاب الذين يدركون طبيعة المشكلة في المسرحية، ومن ثم يهيئون لنا الإطار العام للتفسير الحديث لها، وهي أنها ليست تراجيديا بالمعنى الكلاسيكي، ولكنها مسرحية مشكل، لها بطلان رئيسيان هما قيصر وبروتس، ويدور في فلكهما عدد من الشخصيات التي تثري كلا منهما بخصائص نفسية ودرامية تؤدي - في رأيي - إلى نوع من الجدلية الدرامية يندر أن نجدها في أي من مسرحيات شيكسبير الأخرى. وإذا كنت أقبل نظرته الأساسية - هو وسواه - أي أن يوليوس قيصر مسرحية مشكل، فإنني أود أن أوضح للقارئ العربي ما أعنيه من أنها تقوم على جدلية درامية تجعل من الصراع الدرامي حلقات متداخلة لا تنتهي بنهاية المسرحية!
إن صورة قيصر كما تبرز لنا في المسرحية تتكون من عناصر متعاقبة - كما سبق أن ذكرت - وهي عناصر لا تجتمع لترسم صورة موحدة، بل ترسم عدة صور متشابكة ومتناقضة في الوقت نفسه. ويقع المشهد الافتتاحي بعد عودة قيصر مباشرة من الحرب الأهلية التي انتصر فيها على «جنايوس»
Gnaeus
و«سكستوس»
Sextus
ابني بومبي في معركة «موندا»
Munda
عام 45ق.م. ولا بد أن شيكسبير كان يفترض إحاطة الجمهور بالخلفية التاريخية التي يقع في إطارها هذا المشهد، بل والمسرحية كلها، ومن ثم يكون لحديث الضابطين «فلافيوس» و«مارولوس» معنى؛ فهما يعترضان على خروج الأهالي للاحتفال بعودة قيصر من الحرب لأنها لم تكن من غزوات النصر، بل كانت جزءا من الحرب الأهلية التي استمرت عدة سنوات سفكت فيها دماء الرومان بأيدي الرومان، وانتهت بإعلان قيصر دكتاتورا، وهي كلمة تخلو من الدلالة السيئة المرتبطة بها اليوم، بل تدل وحسب على أن من حقه تعيين جميع موظفي الدولة. وهما يعترضان على احتفال الأهالي بعودته أيضا من باب الولاء لبومبي، وخوفا من المستقبل الذي ينفرد فيه قيصر بالحكم بعد هزيمة «بومبي»
ومقتله وموت «كراسوس»
Crassus
اللذين كانا يشاركانه السلطة. والأبيات الأخيرة في هذا المشهد ذات دلالة لا تغيب عن ذهن الفطن:
فلافيوس : ... انزع شارات انتصار قيصر من جميع التماثيل ..
إننا بذلك ننتف الريش الذي بدأ ينمو في جناحي قيصر حتى
يهبط إلى مصافنا، وإلا حلق عاليا وبعيدا عن الأنظار فظللنا
نعيش جميعا في رهبة العبودية!
ويلي هذا المشهد مباشرة ظهور قيصر لأول مرة على خشبة المسرح، وفي السطور الأربعة والعشرين الأولى ينجح شيكسبير نجاحا باهرا في الإيحاء بجو البلاط الملكي الذي شاع في الشرق؛ حيث يتصدر قيصر الموكب ومن حوله الخدم والحشم والأتباع، وتتردد عبارات ذات دلالات درامية عميقة - «صمتا .. قيصر ينادي»، «لبيك مولاي»، «يكفي أن يأمر قيصر .. فيقضى الأمر!» - ثم تأتي لحظة اختبار لصلابة تلك الشخصية التي سمعنا عنها منذ قليل حين يحذره العراف فيزيح التحذير جانبا بجلالة الملوك: «إنه يهذي! دعونا منه وهيا بنا.» والحق أن التأثير الدرامي لهذا المشهد يؤكد الانطباع الذي أوحى به الضابطان؛ أي يؤكد مخاوف فلافيوس من ازدياد سلطة قيصر.
وبعد ذلك يقع اللقاء الشهير بين كاشياس وبروتس في نفس المشهد؛ حيث تبرز لنا صورة أخرى للزعيم حين يتصور كاشياس أنه ينتقص من قدر قيصر حين يعدد نقائصه الجسدية، وهو يعلي - دون أن يدري - من شأن عظمته النفسية؛ أي يزيدنا احتراما لهذه النفس الصامدة الجبارة التي لا تخشى أمواج التيبر العاتية ولا الزمهرير رغم أن الجسد يرتعد حين تلم به الحمى! وهو يعجب من عظمة هذا الرجل ذي النقائص الجسدية فيعترف دون أن يقصد بأنه إنسان فذ، وهو يعترض على استئثار قيصر بالسلطة وإمساكه بزمام الأمور، ويتحدث عمن يئنون تحت نير هذا العصر. (ف1، م2، 60). ويعني بهذا النير أن تنحصر السلطة في يد رجل واحد:
ماذا يقول المؤرخون عن روما اليوم؟
هل يقولون إن ساحاتها الشاسعة
لا تتسع إلا لرجل واحد؟ (152-154)
أما بروتس فهو يرى أن الخطر كامن فيما يمكن أن يئول إليه حكم قيصر إذا استمر في هذا الطريق، وهو يشير إلى «الظروف العصبية التي يوشك الزمن أن يفرضها علينا» (171-172)، كما يشير في خطابه المنفرد في الفصل الثاني، المشهد الأول، إلى هذه الفكرة من خلال صورة فنية تذكرنا بالصورة التي رسمها «فلافيوس»:
ومن ثم فهو يشبه بيضة ثعبان،
إذا أفرخت خرج منها ثعبان من طبيعته أن يلدغ!
ومن ثم لا بد من قتله قبل أن يخرج من البيضة! (32-34)
والحقيقة أن هذا المشهد يؤكد الصورة التي رسمها لنا المشهد الأول، صورة الملك الشرقي والتمثال الهائل، ويبدأ في الفصل بين عناصر «البشر» الفانين في شخصية قيصر وعناصر «الإنسان الفائق» فيه، بل والمقابلة بينهما لإظهار التناقض الذي يستغله شيكسبير دراميا إلى أقصى حد؛ إذ إن قيصر نفسه يؤكد هذا التناقض (كما يقول جون بامر في نفس الكتاب، ص37)؛ فهو يضع نفسه فوق مصاف البشر، وفي نفس الوقت يذكرنا ببشريته وضعفه، مثلما يحدث في الفصل الأول عندما يتحدث عن تخوفه من كاشياس فهو يؤكد لأنطونيو:
إنني أحدثك عن مصدر الخوف
لا عما أخافه أنا، فأنا دائما قيصر.
ثم يردف ذلك بالإشارة إلى التناقض بين قوة الروح وضعف الجسد:
انتقل إلى يميني حتى أسمعك؛
فأذني اليسرى صماء
وقل لي حقا رأيك فيه. (ف1، م2، 208-211)
ويقول دوفر ويلسون (نفس المرجع، ص113) إن الجو هنا يوحي أيضا بالبلاط الشرقي؛ فعندما يغضب قيصر «تلوح على الجميع سيماء المذلة كأنما أغلظ لهم القول»، ومع ذلك فإن كاسكا يؤكد حصافته وذكاءه السياسي وقدرته على فهم البشر التي شهدنا طرفا منها في وصفه لكاشياس، عندما يتحدث عما فعل مع العامة في ذلك اليوم المشهود، ثم ينهي حديثه بملاحظة بالغة الدلالة وهي العقاب الغامض الذي أنزله قيصر بالضابطين اللذين نزعا الزينة عن التماثيل؛ فهو يقول: إنه أخرس ألسنتهما! مما يوحي للجمهور بأنه قتلهما؛ أي لم يعزلهما من منصبيهما فحسب كما يقول بلوتارخوس.
وصور قيصر - حتى هذه اللحظة؛ أي حتى ف1، م2، 305 - كما يقول شانتزر ترجح كفة الميزان لصالح نظرة المتآمرين إلى قيصر، وتجعلنا نشارك بروتس مخاوفه، ولكن الحديث المنفرد الذي يختتم به كاشياس هذا المشهد يلقي بظلال الشك الكثيفة على صدق دوافعه، ويبين لنا بوضوح وجلاء أن معارضته لقيصر مبعثها دوافع شخصية محضة، ومن ثم يجعلنا نتساءل عن حقيقة الانطباع الذي خرجنا به عن قيصر ومدى صدقه، خصوصا وأن مصدر هذا الانطباع هو في الغالب كاشياس نفسه! ورغم أن كاشياس من أتباع الفلسفة الأبيقورية التي لا تعترف بالخوارق ولا الخرافات؛ فهو يتنكر لفلسفته عندما يحاول إقناع كاسكا بالخوف من قيصر:
لكنك إذا تأملت السبب الحقيقي وراء هذه النيران الساقطة،
فسوف ترى أن السماء قد ألقت فيها تلك الشياطين
حتى تخوفنا وتنذرنا بقرب وقوع حالة شائهة شاذة!
بل إنني أستطيع أن أذكر لك رجلا أشبه ما يكون بهذه الليلة الليلاء!
رجل يرعد ويبرق وينبش القبور ويزأر
مثل الأسد القائم في الكابيتول! (ف1، م3، 61، 67-75)
وهذه الصور لا شك من ابتداع خيال كاشياس، وهي لا تغير من الانطباع الذي تكون لدينا عنه حتى الآن. ومن المفارقات الغريبة أن يعود قيصر إلى استخدام نفس الصورة في الحديث عن نفسه (ف2، م ف، 44-46) عندما يقول إنه أشد خطورة من الخطر نفسه، فهو والخطر:
أسدان ولدا في يوم واحد،
لكنني أكبر منه وأشد هولا!
ولكن هذه الإشارة تأتي بعد أن تتحول صورة قيصر في أعيننا للمرة الثانية في الحديث المنفرد الذي يلقيه بروتس في بداية الفصل الثاني (10-34) حين يشير إلى قيصر في صورة بيضة الثعبان التي سبقت الإشارة إليها. ثم يجد نفسه مضطرا بدافع الأمانة الفكرية و«الصدق مع النفس» إلى أن يقول: والحق أن قيصر لم يسمح لأهوائه أن تتحكم في عقله! (20) فهل نصدق بروتس؟ وهل بروتس محق في حكمه هذا على قيصر؟ أم تراه أخطأ في الحكم عليه مثلما أخطأ في الحكم على أنطونيو وكاشياس؟ إن إشارته إلى «تواضع» قيصر (أو حتى التظاهر بالتواضع) في السطر 21 من نفس المشهد توحي بخطل رأيه؛ إذ يتناقض مع التفاخر والتباهي الذي يبديه قيصر، بل ومع سلوكه كله أمامنا على المسرح! ويعلق شانتزر على هذا قائلا: «إن شيكسبير يشكك في صحة الصورة التي يرسمها بروتس لقيصر، مثلما يشكك في الصورة التي يرسمها له كاشياس، ويشكك فيما بعد في الصورة التي يرسمها أنطونيو بحيث تظل طبيعة قيصر الحقيقية لغزا من الألغاز.» (نفس المرجع)
ولا شك أن شانتزر مصيب في هذا، بل إن هذا اللغز لا ينجلي في المشاهد التالية التي نرى فيها قيصر؛ إذ نراه مشغولا - حتى حين يختلي بزوجته في المنزل - برسم صورة قيصر الأسطوري؛ فهو ليس زوجا يخاطب زوجته، بل زعيم مزهو بمنصبه، متفاخرا بموقعه فوق مصاف البشر الفانين:
بل سيخرج قيصر! إن الأشياء التي تتوعدني
لم تر إلا ظهري، أما إن شاهدت وجه قيصر
فسوف تتلاشى في الحال،
فالخطر يعلم حق العلم أن قيصر أشد منه خطرا،
أسدان ولدا في يوم واحد،
لكنني أكبر منه وأشد هولا! (ف2، م2، 10-12، 44-46)
ولا يظهره شيكسبير في مظهر المضيف الكريم إلا في حدود آداب السلوك الرومانية، مستندا إلى ما قاله بلوتارخوس عنه، فهو يحادث ضيوفه واحدا بعد الآخر، ويدعوهم إلى مشاركة النبيذ، وتؤكد هذه الخصال الطيبة فيه الصورة التي يرسمها أرتميدوروس له:
قلبي حزين لأن الفضيلة لا تستطيع الحياة
بمنجاة من أنياب منافسة الحساد!
إذا قرأت هذه الورقة يا قيصر فربما كتبت لك الحياة،
وإن لم تقرأها فلا بد أن الأقدار متواطئة مع الخونة! (ف2، م3، 11، 14)
ولا نكاد ننتهي من النظر إلى الصورة الطيبة حتى يعود شيكسبير إلى إثارة ضيقنا ونفورنا من قيصر عندما يقدمه لنا في صورة المتغطرس (حتى باسم القانون) الذي يتفاخر ببروده وصلابته وابتعاده عن سائر أبناء البشر:
لو أني مثلكم لتأثرت بكلامكم!
ولكني ثابت كالنجم القطبي،
لا يضارعه نجم في السماء
في رسوخه وثبات موقعه. (ف3، م1 ،58، 60-62)
والمفارقة هنا هو أن هذا الثابت الذي يتفاخر بثباته سوف يسقط بعد قليل، وسوف يلاحظ القارئ سرعة المفارقة في تلك العبارة التي يقولها قبل مقتله بثوان معدودة «ابتعد عني! هل تستطيع أن ترفع جبل الأوليمب؟» (73)، فجبل الأوليمب ينهار وينهدم!
وأخيرا يقدم إلينا أنطونيو صورة لقيصر تتناقض مع الكثير مما سبقها؛ فهو هنا القيصر الذي شاع في التقاليد الشعبية في العصور الوسطى، المحارب الصنديد، «مرآة الفروسية»، والإمبراطور النبيل، فهو نبيل:
يا أطلال أنبل إنسان عاش على مر الزمن! (ف3، م1، 256)
وهو مخلص:
إذ كان لي صديقا مخلصا ومنصفا. (3 / 2 / 87)
وهو كريم:
إنه يوصي لكل مواطن روماني،
لكل فرد على حدة بخمسة وسبعين درهما. (3 / 2 / 243)
وهو قائد عسكري عظيم:
عاد قيصر بالعديد من الأسرى إلى روما. (3 / 2 / 90)
وذو قلب رحيم:
عندما بكى الفقراء إبان المجاعة، بكى قيصر إشفاقا. (3 / 2 / 93)
ورغم أننا لا نشك في صدق نوايا أنطونيو، فإن الصورة التي يرسمها لقيصر تعتبر جزءا من الخطة المحبوكة لإثارة الجماهير للانتقام من قاتليه؛ فكل ما يقوله هنا مرسوم بدقة لتحقيق هدف معين، ولذلك لا يمكن أن نعتبر أنه يقدم إلينا حقائق لا يرقى إليها الشك!
وهكذا فنحن نرى في النصف الأول من المسرحية عدة صور لقيصر لا تتشابه كثيرا فيما بينها، وإن كان من بينها ما لا يتناقض مع البعض الآخر؛ فكاشياس يقدم إلينا صورتين، ويقدم كاسكا صورة بالغة الوضوح، بينما يرسم بروتس صورة مختلفة، وتبرز في حديث أرتميدوروس صورة تشترك مع هذه بعض الشيء، قبل أن يظهر قيصر بنفسه ليوحي بصورة أخرى، يتلوها خطاب أنطونيو الذي يصوره في صورة تختلف عن كل ما سبق!
ونحن لا شك نتساءل: أي هذه الصور صحيح وأيها كاذب؟ وإن كان شانتزر (في الدراسة التي أشرت إليها) يقول إن شيكسبير هو الذي يطرح - فيما يبدو - هذا التساؤل، وينتهي إلى أن يقول: «ألا يعتبر شيكسبير سابقا للكاتب المسرحي الإيطالي (لويجي بيرانديللو) في الإيحاء إلينا بأن قيصر الحقيقي وهم؟! وبأن قيصر موجود فقط باعتباره مجموعة من الصور في عقول الآخرين وعقله هو؟ إذ إن قيصر الذي يرسمه شيكسبير مشغول دائما بما يسميه بيرانديللو
Costruirsi ؛ أي «بناء نفسه» أو خلق صورته الخاصة بقيصر، حتى إننا نتساءل في النهاية إذا ما كان رفع القناع سوف يكشف عن وجود أي وجه تحته على الإطلاق؟»
ولقد تضاربت الأقوال بشأن هذا التعدد في صور قيصر المسرحية، وأهم رأي لدينا هو رأي ه. م. أيرز
H. M. Ayres
الذي كتب في عام 1910م مقالا في مجلة
(العدد الخامس والعشرون، ص163 وما بعدها)، يقول إن شيكسبير تأثر باتجاه الكتاب المسرحيين الفرنسيين في عصره الذين صوروا شيكسبير في صورته التي سادت عصر النهضة، صورة البطل التراجيدي الذي يعيبه نقص واحد هو غروره وخيلاؤه، ومن ثم ينتهي نهاية فاجعة (مثلما فعل «موريه»
Muret
حين صور قيصر في صورة هرقل التي رسمها الكاتب الروماني «سينيكا»
Seneca ). وقد رد على ذلك برناردشو بطريقة غير مباشرة حين زعم أن العيوب التي يلصقها شيكسبير بقيصر لا يقصد منها إلا إعلاء شأن بروتس (انظر مقدمة ثلاث مسرحيات للبيوريتانيين، 1925م، ص30). وهو يعني بهذا أن شيكسبير يعيب شخصية قيصر أو يجعلها مزيجا من العيوب والمحاسن بغية إضفاء خصائص درامية على بروتس، بحيث تتوازى كفتا الصراع. والواضح هنا أن برناردشو يورد سببا فنيا محضا؛ لأنه يريد أن يعلي من طرف خفي الصورة التي رسمها هو لقيصر في مسرحية قيصر وكليوباترا.
أما التفسير الحديث الذي قلت إنني أميل إليه فهو أن تعدد هذه الصور قد قصد به شيكسبير إشراك القارئ في عملية الحكم والتقييم عن طريق تنويع استجابته لكل عنصر من عناصر الصراع؛ ولذلك فهو دائما ما يقابل كل عنصر بعنصر آخر يختلف عنه حتى ولو كان يضيف إليه عمقا جديدا، وكذلك الحال بالنسبة لبروتس، بل بالنسبة لكاشياس وباقي المتآمرين، بحيث نرى المسرحية في صورة عناصرها المتشابكة؛ ولذلك فهي مسرحية مشكل - لا مجرد مأساة - مثل ماكبث مثلا أو غيرها من التراجيديات التي لا يواجه القارئ أو المتفرج في إطارها أي مشكلة في الاختيار؛ فالمشكلة المطروحة أمام الجمهور هنا تتكون من مشكلتين؛ مشكلة نفسية وأخرى أخلاقية، فالمشكلة النفسية تتعلق بحقيقة البطل الذي يتعاطف معه المؤرخون، ويتعاطف معه شيكسبير في مواضع كثيرة، بل في الجزء الثاني من المسرحية حين يبسط قيصر تأثيره على الأحداث وتبرز روحه (على المسرح يظهر شبحه لبروتس) ثم تنتصر على المتآمرين:
بروتس :
أواه يوليوس قيصر!
ما زلت ذا بأس شديد، وما زالت روحك طليقة،
توجه أطراف سيوفنا إلى أحشائنا! (5 / 3 / 94-96)
بروتس :
لقد ظهر لي شبح قيصر مرتين بالليل،
مرة في سارديس، ومرة أخرى البارحة .. هنا
في سهول فيليبي .. وأعلم أن ساعتي حانت! (5 / 5 / 17-19)
ومن داخل هذه المشكلة النفسية التي يجسدها بروتس نفسه في أول مراحل المؤامرة حين يعلن للمتآمرين أن العدو الحقيقي هو روح قيصر:
إننا نهاجم روح قيصر جميعا،
وليس في الروح دماء.
ليتنا استطعنا أن نقبض روح قيصر
دون أن نمزق أوصاله! (2 / 1 / 167-170)
أقول: من داخل هذه المشكلة النفسية تبرز المشكلة الأخلاقية أو الفلسفية، وهي مدى صواب المتآمرين ومدى خطتهم في قتل قيصر؛ إذ يبدو لي أن شيكسبير يبقي على بعض الأسئلة دون إجابة حاسمة؛ فالاختيار الذي يواجهه بروتس يصعد به إلى مصاف الأبطال المأسويين، ولكنه اختيار فلسفي/أخلاقي أكثر مما هو نفسي؛ إذ إنه يواجه روح طغيان محتمل؛ أي إنه يواجه المستقبل الذي كتب عليه أن يكتنه سره ويسبر غوره من واقع احتمالات فقط، لا من واقع الحقائق الثابتة! أي إن بروتس يمكن أن يكون على حق. ولو كان قيصر قد عاش فربما تحول إلى الثعبان الذي يخشاه (1 / 2 / 32-33). وإذا كان شيكسبير قد استخدم المادة الدرامية لإيضاح خطل رأي بروتس وعصابته، وإرجاح كفة الخطأ الأخلاقي في مقتل قيصر، فإن عيب قيصر الأساسي - وهو عنصر الزهو والغرور الناشئ عن الكبرياء
hubris (وكان البروفسور كيتريدج
Kittredge
من أوائل من فطنوا إليه في مقدمته لطبعته للمسرحية) - يكفي للإيحاء باحتمال صواب بروتس، ولا أقوال صواب المتآمرين جميعا على اختلاف دوافعهم. وهذا هو ما توضحه مشاهد القتال حيث يبين شيكسبير أن هزيمة المتآمرين هي نتيجة أخطاء عسكرية؛ أي أخطاء في إدارة الحرب وحسب، ولو كانوا قوادا مهرة لتغير وجه المسرحية أو وجه التاريخ!
ولذلك أيضا يلجأ شيكسبير إلى استخدام «الجمهور»؛ أي العامة الذين يملئون المسرح في المشاهد الحاسمة - استخداما دراميا - فهل نحن مع العامة دائما أم نحن نتأملهم أيضا من واقع سلوكهم ونحكم عليهم من مسافة كافية؟ إن الجمهور يظهر أول الأمر باعتباره مجموعة من الأفراد، كل منهم كما يقول «ألوواي» في مقدمة طبعة ماكميلان (ص7) له شخصيته المستقلة، ولكنهم أيضا جمهور بمعنى أنهم يميلون إلى عبادة البطل (وربما شاركوا في خلق صورة البطل) وهم يتأثرون بالكلام؛ أي بالبلاغة والألفاظ الطنانة. وبعد ذلك نجدهم هنا وهناك حتى يأتي ذلك المشهد الغريب الذي يقتلون فيه «سنا» الشاعر حتى بعد أن أكد لهم أنه ليس «سنا» المتآمر! إنهم يمثلون روح «الخراب» أو «إله الخراب» الذي يستدعيه أنطونيو ليثأر لمقتل صديقه وخله الوفي! لقد استطاع بروتس أن يقنع الجمهور حتى صاح الناس «فلتجعلوه قيصرا عليكم»، مثلما كانوا يريدون أن يتوجوا قيصر ملكا! والآن ينقسم هذا الجمهور انقساما حاسما بين أتباع المتآمرين وأتباع أنطونيو وأوكتافيوس، ولا يحسم الصراع إلا سبب عسكري (خارجي)!
كما ينجح شيكسبير في الإبقاء على طبيعة الإشكال في المسرحية حين يصور لنا الصراعات الناشئة بين بروتس وكاشياس، وبين أنطونيو وأوكتافيوس؛ فهو لا يحسم الأمر بنهاية عادلة مشرقة كما يفعل في ماكبث مثلا، حيث يعود الحق لأصحابه وتعمر نفوسنا بالأمل في عهد جديد لحكم عادل نزيه في اسكتلنده.
إن كثرة علامات الاستفهام المطروحة حول المسائل النفسية والفلسفية والأخلاقية التي تستند إليها المسرحية تنفي عنها صفة التراجيديا الكلاسيكية، وتدخلها في دائرة المسرحية المشكل، سواء كانت المسرحية المشكل حديثة من النوع البيرانديللي أو الإبسني (مثل البطة البرية) أو من النوع الشيكسبيري نفسه مثل مسرحية صاعا بصاع!
وأخيرا فينبغي أن أذكر القارئ بما سبق أن قلته في بداية المقدمة عن الدور الذي تلعبه اللغة أو البلاغة في هذا النص الفريد؛ فنحن دائما في مواجهة لغة يحكم أصحابها استخدامها، وهي لغة غير عادية؛ إذ تتفاوت في الارتفاع والانخفاض لكي تأخذنا ذات اليمين وذات الشمال دون أن نعرف بالتحديد ما يدف بين ثناياها من مشاعر إنسانية ومن دوافع تقرب إلينا شخوص المسرحية على مستوى البشرية الصادقة، فشيكسبير يستخدم اللغة كبناء مواز لحركة الفكر، ودراسة هذه اللغة مهمة، ومن شأنها أن تقدم لنا مزيدا من المفاتيح لفهم هذه المسرحية المشكل، ويسعدني أن اختارت إحدى بناتنا في قسم اللغة الإنجليزية - وهي علا محمد حافظ المدرس المساعد بالقسم - تحليل لغة هذه المسرحية بالذات موضوعا لرسالة الدكتوراه.
وأخيرا، أرجو أن أكون قد قدمت للقارئ العربي هذا النص الصعب الفهم في صورة يسيرة تعينه على قراءته وتذوقه، سواء قبل النظرة النقدية الحديثة التي عرضتها أم فضل النظرات النقدية القديمة.
والله ولي التوفيق.
محمد عناني
القاهرة، 1990م
مأساة يوليوس قيصر
الشخصيات
يوليوس قيصر.
أوكتافيوس قيصر، ماركوس أنطونيوس، م. أميليوس لبيدوس: الحكام الثلاثة بعد موت يوليوس قيصر.
شيشرون، بوبليوس، بوبليوس لينا: أعضاء في مجلس الشيوخ.
ماركوس بروتس، كاشياس، كاسكا، تريبونيوس، ليجاريوس، ديشيوس بروتس، ميتيلوس سمبر، سنا: المتآمرون ضد يوليوس قيصر.
فلافيوس، ومارولوس: من ضباط الشرطة.
أرتميدوروس: فيلسوف سوفسطائي.
عراف.
سنا: الشاعر.
شاعر آخر.
لوسيليوس، تيتنيوس، ميسالا، كاتو الابن، فولومنيوس: أصدقاء بروتس وكاشياس.
فارو، كليتوس، كلوديوس، ستراتو، لوشيوس، داردانيوس: خدم أو ضباط من أتباع بروتس.
بنداروس: خادم كاشياس.
إسكافي ونجار وغيرهما من الأهالي.
خادم قيصر، خادم أنطونيو، خادم أوكتافيوس.
كالبورنيا: زوجة قيصر.
بورشيا: زوجة بروتس.
شبح قيصر.
أعضاء في مجلس الشيوخ وحراس وحاشية ... إلخ.
تقع الأحداث في معظم مشاهد المسرحية في روما، وبعد ذلك في سارديس وبالقرب من فيليبي.
الفصل الأول
المشهد الأول (شارع من شوارع روما.) (يدخل فلافيوس ومارولوس وبعض العامة إلى المسرح.)
فلافيوس :
انصرفوا! عودوا إلى منازلكم أيها العاطلون!
هل اليوم يوم عطلة؟
ألا تعلمون أنه يجب على أبناء الحرف
ألا يسيروا في الشارع في أيام العمل دون ما يرمز
لحرفهم؟
قل لي أنت ما هي صنعتك؟ (5)
نجار :
أنا نجار يا سيدي!
مارولوس :
أين إذن المريلة الجلد والمسطرة؟
ولماذا ترتدي أفخر ثيابك؟
وأنت يا سيد! ما صنعتك؟
الإسكافي :
الحق يا سيدي أنني لا أقارن بالصناع المهرة! (10)
فما أنا إلا مرقع - ولا مؤاخذة!
مارولوس :
ولكن ما هي صنعتك؟ بلا لف ودوران؟!
الإسكافي :
هي صنعة يا سيدي أتمنى أن أؤديها بإخلاص
وأمانة -
فأنا أرقع ما انخرم وأصلحه!
مارولوس :
ما صنعتك أيها الوغد؟ أيها الوغد اللكعي
ما صنعتك؟ (15)
الإسكافي :
أرجوك يا سيدي! لا تخرم في الكلام معي!
فإذا خرمت .. رقعت لك!
مارولوس :
ماذا تعني بهذه الألفاظ البذيئة؟
كيف ترقع لي يا سليط اللسان؟
الإسكافي :
أرقع لك يا سيدي .. حذاءك!
مارولوس :
أنت إسكافي إذن؟ (20)
الإسكافي :
حقا يا سيدي! كل ما أحيا به هو المخراز!
لا شأن لي بأمور التجار .. أو أمور النساء!
لكنني جراح فحسب .. جراح الأحذية القديمة..
فعندما تكون على شفا الموت .. أنقذها!
وكم من فضلاء محترمين .. داسوا على صنع يدي! (25)
فلافيوس :
لكن لماذا تركت دكانك اليوم؟
ولماذا تصحب هؤلاء الرجال وتطوف بهم في
الشوارع؟
الإسكافي :
أريد أن تبلى أحذيتهم - طبعا -
فيأتيني المزيد من العمل! لكن الحقيقة هي أننا
أخذنا
اليوم إجازة حتى نرى قيصر ونحتفل بانتصاره!
مارولوس :
تحتفلون بماذا قل لي؟ وأي انتصار عاد به؟
وأين أولئك الأسرى الذين عاد بهم إلى روما
ليدفعوا الجزية ويزينوا عجلات مركبته بسلاسلهم؟
أيها الأصنام! أيها الأحجار! أنتم أسوأ من الجماد! (35)
يا أبناء روما يا قساة القلوب ويا غلاظ الأكباد!
هل نسيتم «بومبي»؟ كم من مرة تسلقتم الجدران
والأسوار، واعتليتم
الأبراج والنوافذ، بل وصعدتم إلى ذرى المداخن
وأنتم تحملون أطفالكم في أحضانكم،
ومكثتم طول النهار في صبر وترقب (40)
حتى تروا بومبي العظيم وهو يمر في شوارع روما،
فإذا لمحتم مركبته على البعد
هللتم بصوت واحد
ارتجف له نهر التيبر بين شاطئيه (45)
واهتز لأصداء أصواتكم المجلجلة في أعطافه !
أفترتدون اليوم أبهى حللكم؟
أفتعتبرون اليوم عطلة؟
أفتنثرون اليوم الزهور في طريق من يعود (50)
منتصرا على أولاد بومبي؟
انصرفوا! عودوا إلى منازلكم!
اركعوا وابتهلوا إلى الآلهة
أن ترفع البلاء الذي لا بد أن يحل بكم
عقابا على هذا الجحود!
فلافيوس :
هيا هيا أيها المواطنون الشرفاء! (55)
كفروا عن هذه الخطيئة، فاجمعوا البسطاء من
أمثالكم، وخذوهم إلى شطآن التيبر، واذرفوا
دموعكم فيه حتى ترتفع مياه النهر وتقبل أعلى
ضفافه! (يخرج العامة جميعا من المسرح.)
انظر! أفلم يتأثروا جميعا بكلامي - (60)
حتى أحطهم معدنا؟ لقد انصرفوا
وقد عقد الخجل ألسنتهم! هيا ..
اذهب أنت من هذا الطريق إلى الكبيتول،
وسأذهب أنا من الطريق الآخر.
إذا وجدت أي زينة على التماثيل فانزعها! (65)
مارولوس :
أينبغي ذلك ونحن في عيد اللوبركال؟
فلافيوس :
فليكن! انزع شارات انتصارات قيصر
من جميع التماثيل! أما أنا فسأطوف الشوارع
لأحث الأهالي على العودة إلى منازلهم.
وكذلك أنت! فرق أي جمهور تصادفه! (70)
إننا بذلك ننتف الريش الذي بدأ ينمو في جناحي
قيصر حتى يهبط إلى مصافنا.
وإلا حلق عاليا وبعيدا عن الأنظار فظللنا نعيش
جميعا في رهبة العبودية! (يخرجان.)
المشهد الثاني (روما، ساحة عامة - يدخل أنطونيو وهو على أهبة السباق - وكالبورنيا وبورشيا وديشيوس وشيشرون، وبروتس، وكاشياس، وكاسكا، وعراف - وحشد كبير. ثم يدخل فيما بعد مارولوس وفلافيوس.)
قيصر : «كالبورنيا»!
كاسكا :
صمتا! قيصر ينادي!
قيصر : «كالبورنيا»!
كالبورنيا :
لبيك يا مولاي.
قيصر :
أثناء السباق، قفي في طريق «أنطونيو».
أنطونيو!
أنطونيو :
قيصر .. مولاي!
قيصر :
لا تنس يا أنطونيو في اندفاعك وسرعتك (5)
أن تلمس كالبورنيا؛ فإن أسلافنا يقولون
إن العاقر إذا لمسها أحد المشتركين في هذا السباق
المقدس، تبرأ من لعنة العقم.
أنطونيو :
لن أنسى ذلك.
يكفي أن يأمر قيصر .. فيقضى الأمر! (10)
قيصر :
هيا انطلق! ولا تنس أيا من الشعائر!
العراف :
قيصر!
قيصر :
أسمعتم؟ من ينادي؟
كاسكا :
فليهدأ الجميع .. فليصمت الجميع!
قيصر :
من يناديني في هذا الحشد؟ (15)
سمعت لسانا يصرخ كالآلة الموسيقية
وينادي قيصر! تكلم إذن! قيصر يريد أن يسمعك!
العراف :
احذر منتصف مارس!
قيصر :
من هذا الرجل؟
بروتس :
عراف يحذرك من منتصف مارس!
قيصر :
أحضروه إلي .. دعوني أرى وجهه! (20)
كاسكا :
يا هذا .. اخرج من الحشد .. تعال للقاء قيصر!
قيصر :
ماذا قلت لي الآن؟ أعد علي ما قلته!
العراف :
احذر منتصف مارس!
قيصر :
إنه يهذي! دعونا منه وهيا بنا. (تعزف الأبواق ويخرج الجميع فيما عدا بروتس وكاشياس.)
كاشياس :
أفلا تريد أن تذهب لمتابعة السباق؟ (25)
بروتس :
لا، لا!
كاشياس :
أرجوك تعال معي.
بروتس :
أنا لا أميل إلى اللهو واللعب .. وأفتقر إلى خفة الروح
التي يتحلى بها أنطونيو! ولكني لن أحرمك مما
تشتهي .. تفضل أنت وسأمضي أنا. (30)
كاشياس :
بروتس! إني ألاحظ فيك تحولا عني هذه الأيام،
فلا أجد في عينيك ما عودتني من العطف والمودة!
بل إنك تبدي الصدود والجفاء لصديقك الذي يحبك.
بروتس :
كاشياس! لا تنخدع بالمظاهر! (35)
فإذا بدا وجهي ملبدا بالغيوم
فذلك كي تستر ما أنا فيه من هموم!
إذ تعترك في نفسي مشاعر تنغص علي حياتي ..
أفكار تخصني وحدي، ولعلها أثرت في سلوكي إلى حد (40)
ما .. ولكن يجب ألا يغضب مني أصدقائي الأوفياء (وأنت منهم يا كاشياس)، أو يفسروا بعد الآن إهمالي
لهم إلا بأن بروتس المسكين قد نشبت في باطنه (45)
حرب مع نفسه، تنسيه إظهار المودة للآخرين.
كاشياس :
إذن فلقد أسأت تفسير مشاعرك،
فدفنت في صدري أفكارا بالغة الأهمية ..
عظيمة الخطر! قل لي يا بروتس الكريم ..
أتستطيع أن ترى وجهك؟ (50)
بروتس :
لا يا كاشياس! فالعين لا ترى نفسها
إلا إذا انعكست صورتها في شيء آخر!
كاشياس :
هذا صحيح! وكم يدعو للأسف يا بروتس
ألا تكون لديك مرآة تعكس لك امتيازك الذي لا تراه (55)
فتشاهد صورة ذاتك!
لقد سمعت الكثيرين من عظماء روما (باستثناء قيصر الخالد) يتحدثون عن بروتس
وهم يئنون تحت نير هذا العصر (60)
ويتمنون لو كان لبروتس النبيل عينان يبصر بهما! (61)
بروتس :
إلى أية أخطار تجرني يا كاشياس
حين تريدني أن أبحث في نفسي
عما ليس فيها؟
كاشياس :
إذن فأعرني سمعك يا بروتس الكريم! (65)
ما دمت تقر بأنك لا تستطيع أن ترى نفسك حق الرؤية
إلا بمرآة، فدعني أكون مرآتك!
دعني أكشف لك في نفسك، عما تجهله عن نفسك
دون مبالغة! وأرجو ألا تشك فيما أقول (70)
يا بروتس الكريم، فلست مهرجا مبتذلا،
ولست ممن يقسمون الأيمان الرخيصة على مودتهم
لكل من يمد إليهم حبل الود!
ولست ممن يظهرون الحب ويعانقون خلانهم ثم (75)
يغتابونهم،
أو ممن يعلنون مودتهم في المناسبات والولائم
للجميع! فإذا كنت تعهد في أيا من هذه الصفات
فاعتبرني خطرا من الأخطار! (صوت بوق وهتاف.)
بروتس :
ما معنى هذا الهتاف؟ أخشى أن يكون الناس قد
اختاروا قيصر ملكا عليهم!
كاشياس :
هل تخشى ذلك حقا؟ (80)
إن كنت تخشاه فأنت لا ترضاه!
بروتس :
حقا لا أرضاه يا كاشياس، مع أني أحب قيصر حبا
جما! ولكن لماذا تصر على أن أبقى معك هنا؟
وما هو السر الذي تريد أن تطلعني عليه؟
إن كان أمرا يخدم المصلحة العامة
فلسوف يتساوى في عيني الموت والشرف! (85)
وتعلم الآلهة أنني أقدر السمعة الطيبة
أكثر مما أخاف الموت!
كاشياس :
أعرف هذه الفضيلة فيك يا بروتس
تماما كما أعرف ملامح وجهك! (90)
والشرف هو موضوع حديثي معك.
لا أعرف رأيك أو رأي غيرك من الناس
في هذه الدنيا، ولكنني أفضل الموت
على أن أعيش في خوف من آدمي مثلي! (95)
لقد ولدت حرا مثل قيصر! وكذلك أنت!
كلانا يأكل الطعام! مثلما يأكل
ويحتمل برد الشتاء مثلما يحتمل!
وأذكر مرة في يوم زمهرير عاصف الريح
علت فيه أمواج نهر التيبر ولاطمت ضفتيه (100)
أن قال لي قيصر «هل تجرؤ يا كاشياس
أن ترمي بنفسك الآن معي في هذا النهر الغاضب
وتسبح إلى الشط الآخر؟»
ولم يكد ينتهي من عبارته حتى ألقيت بنفسي في الماء
بكامل عدتي وسلاحي، وطلبت منه أن يتبعني، ففعل. (105)
وانطلقنا نجالد اليم الزاخر المزمجر
بعضلات من حديد! نشق عبابه، ونكبح جماحه،
بقلوب عقدت العزم على النضال.
ولكن قبل أن نصل إلى الموضع المنشود
صاح قيصر «أدركني يا كاشياس وإلا غرقت!» (110)
ومثلما فعل سلفنا العظيم «إينياس»
الذي حمل على كتفيه أباه «أنكيزس»
لينقذه من ألسنة اللهب في طروادة
حملت على كتفي قيصر الذي أنهكه التعب،
وأنقذته من غائلة الأمواج!
ذلك الإنسان الذي أصبح الآن إلها (115)
تعنو له جبهة كاشياس المسكين التعس
إذا ما أومأ قيصر إليه دون اكتراث!
وعندما كنا في إسبانيا مرض بالحمى
وكنت أراه يرتعد ويرتجف عندما تحل به النوبة
أجل! كان ذلك الإله يرتعد ويرتجف (120)
فيغيض اللون من شفتيه الجبانتين
ويذوي البريق في عينه التي يرتاع العالم اليوم لنظراتها!
ولقد سمعته يئن ويتأوه!
أجل! ذلك اللسان الذي أمر الرومان
أن يتابعوا أقواله ويدونوا خطبه في كتبهم (125)
سمعته يصرخ «أريد أن أشرب يا تيتنيوس!»
مثلما تصرخ الطفلة المريضة. إيه أيتها الآلهة!
لكم يدهشني أن أرى رجلا بمثل هذا الضعف والخور
في مقدمة الصفوف في هذا العالم العظيم
حاملا وحده قصب السبق! (130) (هتاف وصوت نفير.)
بروتس :
عاد الجمهور للهتاف؟
لا شك أن هذه الهتافات تعلن
عن أكاليل الغار الجديدة التي تنهال على رأس قيصر!
كاشياس :
ولم لا؟ إنه ليركب متن الدنيا كالتمثال الهائل
الذي تتضاءل تحته الأشياء! بينما نمضي - نحن صغار (135)
الرجال - تحت أقدامه وفي ظل ساقيه العملاقتين،
نفتش عن قبور نواري فيها خزي ضآلتنا!
يستطيع الإنسان أحيانا أن يمسك بزمام قدره!
يا صديقي بروتس! ليست الطوالع والنجوم مسئولة
عما نحن فيه من ضآلة وضعة .. بل العيب فينا نحن!
بروتس وقيصر .. بم تتميز كلمة قيصر؟ (140)
ولماذا يرن هذا الاسم في الأسماع أكثر من اسمك؟
اكتبهما معا تجد أن اسمك لا يقل جمالا عنه ..
انطقهما .. تجد أنه لا يقل عذوبة في الشفاه ..
زنهما .. تجد أنه لا يقل ثقلا عنه!
استخدمهما في إحضار الجان .. تجد أن اسم بروتس
لا يقل قدرة على استحضار الجن عن اسم قيصر! (145)
والآن أستحلفك بجميع الآلهة معا أن تخبرني
ما نوع اللحم الذي يأكله قيصرنا هذا
ليبلغ هذه الضخامة والعظمة؟! عار عليك زماننا!
واها لك يا روما إذ فقدت سلالات الأشراف!
وهل شهدنا منذ عهد الطوفان الأكبر (150)
عصرا لم يلمع فيه سوى رجل واحد؟
وماذا يقول المؤرخون عن روما اليوم؟
هل يقولون إن ساحاتها الشاسعة
لا تتسع إلا لرجل واحد؟
أما تزال روما العظيمة الفسيحة
وليس بها إلا رجل واحد؟ (155)
لقد سمعنا أنا وأنت آباءنا يتحدثون
عن جدك بروتس الذي حكم روما يوما ما
وكان يستطيع منازلة الشيطان نفسه
حتى يذود عن سلطانه كأنه ملك متوج! (160)
بروتس :
أما أنك تحبني فهذا لا شك فيه،
وأما ما تغويني بفعله فأستطيع أن أحدسه!
وسوف أكاشفك فيما بعد بأفكاري في هذا الموضوع،
وبآرائي في العصر الذي نعيش فيه. أما الآن
فأرجوك بلسان الحب الذي أكنه لك
ألا تثيرني أكثر من ذلك! (165)
سوف أنظر فيما قلته، وأصغي بعناية
إلى ما سوف تقوله، وسأتحين الفرصة المناسبة
للنقاش في هذه الأمور الخطيرة!
وحتى ذلك الحين، أرجوك أن تتمعن يا صديقي النبيل
في قولي هذا:
إن بروتس يؤثر أن يكون قرويا ساذجا (170)
على أن يعد نفسه من أبناء روما في هذه الظروف
العصيبة
التي يوشك الزمن أن يفرضها علينا!
كاشياس :
يسرني أن تقدح كلماتي الواهنة هذه الشرارة الخابية في
نفس بروتس! (175) (يدخل قيصر وحاشيته.)
بروتس :
انتهت الألعاب وقيصر في طريق العودة.
كاشياس :
عندما يمر الموكب بنا اجذب كاسكا من كمه
حتى يحكي لنا بخشونة طبعه المعهودة
أهم ما جرى اليوم.
بروتس :
سأفعل ذلك ولكن .. انظر يا كاشياس .. (180)
إن جذوة الغضب تتوهج على جبين قيصر،
وعلى الجميع سيماء المذلة كأنما أغلظ لهم القول!
ويعلو الشحوب خد كالبورنيا،
أما شيشرون فعيناه حمراوان ينطق منهما الشرار (185)
كما لو كان في الكابيتول وقد اعترض على كلامه
بعض أعضاء مجلس الشيوخ.
كاشياس :
سيخبرنا كاسكا بما حدث.
قيصر :
أنطونيو!
أنطونيو :
لبيك قيصر!
قيصر :
أريد في حاشيتي رجالا سمانا،
مسبلة شعورهم، ينامون الليل! (190)
أما كاشياس فهو نحيل ينطق الجوع في وجهه،
ويفكر أكثر مما ينبغي، وهؤلاء الرجال مصدر خطر!
أنطونيو :
لا تخش منه بأسا يا قيصر! فليس بخطر على الإطلاق،
بل هو من أشراف الرومان وهو رقيق الحاشية!
قيصر :
ليته كان أقل نحولا! ولكنني لا أخشاه! (195)
لكن لو كان لمن يحمل اسمي أن يخاف
لتحاشيت كاشياس .. ذلك الهزيل النحيل!
إنه كثير القراءة، دقيق الملاحظة،
ينفذ ببصيرته إلى الدوافع الحقيقية لما يفعله الناس!
وهو ينفر من اللهو واللعب - على عكسك يا أنطونيو - (200)
وهو لا يستمع إلى الموسيقى! وهو نادرا ما يبتسم
فإذا ابتسم بدت بسمته ساخرة من ذاته
أو عاتبة على نفسه التي اهتزت فابتسمت!
إن أمثاله من الرجال يفزعون إن رأوا (205)
من هو أعظم منهم؛ ولذلك فهو مصدر خطر داهم!
إني أحدثك عن مصدر الخوف لا عما أخاف منه
فأنا دائما قيصر . انتقل إلى يميني حتى أسمعك (210)
فأذني اليسرى صماء، وقل لي حقا رأيك فيه. (موسيقى - يخرج قيصر وحاشيته.)
كاسكا :
لقد جذبت طرف عباءتي. أتريد التحدث إلي؟
تروتس :
أجل يا كاسكا. قل لنا ماذا حدث اليوم
فجعل قيصر يتجهم هكذا!
كاسكا :
أفلم تكن معه أنت؟ (215)
بروتس :
لو كنت معه ما سألت كاسكا عما جرى!
كاسكا :
قدم الشعب إليه تاجا لكنه أزاحه عنه بظهر يده ..
هكذا .. وعندها انطلق الجمهور يصيح ويهتف. (220)
بروتس :
ولماذا هتف الجمهور مرة ثانية؟
كاسكا :
لنفس السبب!
كاشياس :
لقد سمعنا الهتاف ثلاث مرات! فعلام كانت المرة
الثالثة؟
كاسكا :
لنفس السبب!
بروتس :
هل قدموا التاج له ثلاث مرات؟
كاسكا :
نعم وربي .. ورفضه ثلاث مرات! وكانت رقته في
الرفض تزيد في كل مرة! وكلما أزاحه بيده انطلق
الجالسون حولي يصيحون ويهتفون!
كاشياس :
ومن الذي قدم إليه التاج؟
كاسكا :
أنطونيو طبعا!
بروتس :
أخبرنا كيف حدث ذلك يا كاسكا! (230)
كاسكا :
لا أستطيع ولو شنقوني! لقد كانت مهزلة لم ألتفت
إليها. رأيت مارك أنطونيو يقدم إليه تاجا، لكنه لم
يكن تاجا بالمعنى المفهوم ولكن إكليلا صغيرا! وكما
قلت لكم رفضه في المرة الأولى، وقد أحسست أنه يريده
رغم رفضه! ثم قدمه له مرة أخرى فرفضه أيضا وإن
كان لا يريد أن يفارق أصابعه! ثم قدمه له مرة ثالثة
فرفضه للمرة الثالثة، وفي كل مرة كان العامة يصرخون،
ويصفقون بأيديهم الخشنة، ويلقون بقبعاتهم القذرة في
الهواء، ويملئون الجو بأنفاسهم الكريهة حتى كاد قيصر
أن يختنق؛ إذ إنه أغمي عليه ووقع على الأرض
بعدها. أما أنا فلم أجرؤ على الضحك حتى لا أفتح
فمي فيدخل فيه الهواء الفاسد!
كاشياس :
ولكن قل لي أرجوك، هل أغمي على قيصر حقا؟
كاسكا :
لقد وقع على الأرض في السوق وأرغى فمه وأزبد وفقد
النطق! (250)
بروتس :
هذا محتمل جدا .. فهو مصاب بالصرع! أو ما نسميه
داء السقوط!
كاشياس :
لا، لا .. ليس قيصر بل نحن! أنت وأنا وكاسكا
الأمين .. كلنا مصابون بداء السقوط!
كاسكا :
لا أفهم ما تعني بذلك؛ فأنا واثق أن قيصر سقط مغشيا
عليه! وكان العامة يصفقون له حين يرضيهم
ويصفرون منه حين يغضبهم، مثلما يفعلون مع الممثلين
في المسرح .. وهذه هي الحقيقة المجردة!
بروتس :
وماذا قال عندما عاد إلى رشده؟
كاسكا :
قبل أن يقع مغشيا عليه لاحظ أن القطيع الساذج من (260)
العامة سعيد لرفضه التاج، فشدني إليه لأفتح أزرار
صداره ثم عرض عليهم أن يقطعوا رقبته! ولو كنت
رجلا من أهل الصنعة ولدي بعض الجرأة لنفذت كلامه
ودخلت فيه النار مع الهالكين! ثم وقع وأفاق وقال إنه
يعتذر لحضرات السادة إن كان قد صدر عنه ما يسوء -
قولا أو فعلا - بسبب المرض! وكانت تقف إلى جواري
ثلاث فتيات أو أربعة، فسمعتهن يصحن «واها لك
يا مسكين!» ثم قلن إنهن يصفحن عنه من أعماق
قلوبهن! لم يكترث بهن أحد بطبيعة الحال؛ فقد كن
سيقلن ذلك حتى لو طعن قيصر أمهاتهن!
بروتس :
وبعد ذلك خرج متجهما عابسا؟
كاسكا :
أجل.
كاشياس :
وماذا قال شيشرون؟ (275)
كاسكا :
كان يتكلم باليونانية.
كاشياس :
وما فحوى حديثه؟
كاسكا :
لو قلت كلمة واحدة عنه ما جرؤت أن أنظر إليكما وجها
لوجه! أما الذين فهموه فقد تبادلوا البسمات وهزوا
رءوسهم، وأما بالنسبة لي فقد كان يونانيا لا يفهم!
ولدي خبر آخر: قام مارولوس وفلافيوس بنزع
الأوشحة عن تماثيل قيصر فأخرس ألسنتهما! وداعا
لكما! ليتني أذكر المهازل الأخرى التي وقعت! (285)
كاشياس :
أفلا تتناول العشاء معي الليلة؟
كاسكا :
شكرا لك، ارتبطت بموعد سابق.
كاشياس :
إذن نتغدى معا غدا!
كاسكا :
لا مانع عندي إذا عشت إلى غد ، وإذا لم تغير رأيك،
وإذا كان طعامك يستحق أن يؤكل!
كاشياس :
سأنتظرك إذن! (290)
كاسكا :
وهو كذلك. الوداع. (يخرج كاسكا.)
بروتس :
لقد تغير هذا الرجل وأصبح خشن الطبع .. بعد
رهافته وذكائه أيام الدراسة.
كاشياس :
بل ما زال كذلك إذا تولى تنفيذ عمل نبيل يتطلب (295)
الجرأة .. ولكنه يتظاهر بالفظاظة وحسب،
كأنها من التوابل التي يضيفها إلى ذكائه،
حتى يفتح شهية الناس إلى تذوقه!
بروتس :
هو ذاك إذن! سأتركك الآن .. أما إن أردت الحديث (300)
معي غدا فسآتيك في منزلك ..
أو إذا شئت
تعال إلى منزلي أنت وسوف أنتظرك.
كاشياس :
سآتي إليك في المنزل! وحتى ذلك الحين .. تأمل
أحوال الدنيا! (يخرج بروتس.) (305)
إيه يا بروتس! أنت نبيل الطبع.
ولكن معدنك الطيب يمكن أن يتحول عن طبعه.
ولذلك فالأفضل ألا يختلط الشرفاء إلا بأمثالهم!
وهل ثم عقل صامد لا يمكن إغواؤه؟
إن قيصر يبغضني ويحب بروتس.
فلو كنت أنا بروتس، وكان هو كاشياس، (310)
لما استطاع أن يتملقني فيكسبني إلى صفه!
سأكتب الليلة عددا من الرسائل، بخطوط مختلفة
كأنما أرسلها إليه مختلف المواطنين،
ثم ألقي بها من نوافذ منزله،
وكلها تتحدث عن المكانة السامية التي يتمتع بها في
نفوس أهل روما، (315)
وتلمح في ثناياها إلى طموحات قيصر! وبعد ذلك
فليطمئن قيصر في كرسيه،
فلسوف نهزه هزا وإلا واجهنا أياما أدهى وأمر! (يخرج.)
المشهد الثالث (شارع في روما - رعد وبرق - يدخل من ناحيتين متقابلتين شيشرون وكاسكا شاهرا سيفه.)
شيشرون :
عم مساء يا كاسكا! هل سرت مع قيصر حتى منزله؟
ما لك؟ تلهث هكذا؟ ولماذا تحملق هكذا؟
كاسكا :
أفلا تروعك زلزلة الأرض كأنها فقدت توازنها وثباتها؟
أواه يا شيشرون! لقد شاهدت من العواصف
ما هبت فيه الزوابع العاتية ففلقت أشجار البلوط
الصلبة! (5)
وشاهدت المحيط وهو يطاول السحب المنذرة بالمطر،
فانتفخت أوداجه وأرغى وأزبد!
ولكني ما رأيت حتى الليلة،
وما خضت حتى الآن
غمار عاصفة تمطر أبابيل الجحيم!
إما أن أهل السماء يقاتلون بعضهم بعضا،
أو أن أهل الأرض قد استثاروا غضب الآلهة
فأرسلوا عليهم شواظ الهلاك!
شيشرون :
وهل رأيت شيئا آثار دهشتك سوى هذا؟
كاسكا :
رأيت أحد العبيد، وأنت تعرفه من وجهه، (15)
وقد رفع يده اليسرى، فإذا هي تلتهب وتتقد
مثل عشرين شعلة معا! ومع ذلك فلم تشعر يده
بالنار، بل لم تحترق على الإطلاق!
وبينما كنت أمر بجوار الكابيتول قابلت أسدا (20)
جعل يحدق في ثم مر مكشرا عن أنيابه بجواري
دون أن يمسني بسوء .. ولو أنني لم أغمد سيفي منذ
تلك اللحظة! ورأيت مائة من النساء الشاحبات
يعصرهن الفزع ويقفن في كومة واحدة
ويقسمن أنهن رأين رجالا تتصاعد منهم ألسنة النيران
يروحون ويغدون في شوارع المدنية! (25)
وبالأمس كان البوم، وهو طائر الليل، ينعق ويصرخ
في رابعة النهار - وسط السوق!
إذا اجتمعت هذه الخوارق في آن واحد
فلن أقبل أن يقول الناس «إن هناك أسبابا منطقية
لحدوثها .. وهي ظواهر طبيعية وحسب!» (30)
فأنا أعتقد أنها نذر شؤم للمنطقة التي تقع فيها!
شيشرون :
حقا إنه لزمن الغرائب والعجائب،
ولكن الناس يفسرون الأشياء وفقا لأهوائهم،
فلا يعرفون ما ترمي إليه هذه الأشياء! (35)
قل لي .. هل سيأتي قيصر إلى الكابيتول غدا؟
كاسكا :
نعم. وقد طلب من أنطونيو
أن يرسل إليك من يخبرك بهذا.
شيشرون :
طابت ليلتك إذن يا كاسكا.
لا ينبغي السير في هذا الجو العاصف!
كاسكا :
وداعا يا شيشرون. (40) (يخرج شيشرون.) (يدخل كاشياس.)
كاشياس (داخلا) :
من أنت؟
كاسكا :
أحد الرومان.
كاشياس :
أنت كاسكا .. عرفتك من صوتك!
كاسكا :
أنت مرهف السمع يا كاشياس! يا لها من ليلة ليلاء!
كاشياس :
بل ليلة بديعة لكل الشرفاء!
كاسكا :
من كان يظن أن تتوعدنا السماء هذا الوعيد!
كاشياس :
كل من يعرف ما تغص الأرض به من الخطايا .. (45)
أما عن نفسي فقد طفت بالشوارع وأسلمت نفسي
لأخطار الليل ..
هكذا .. كما تراني يا كاسكا .. فككت أزرار قميصي،
وفتحت صدري للصواعق .. وكلما أومض البرق
الأزرق ..
كأنه شرخ يشق صدر السماء .. (50)
جعلت من نفسي هدفا لنصل بريقه.
كاسكا :
ولكن لماذا تتحدى السماء بهذه الصورة؟
إن على الإنسان أن يخاف ويرتعد
عندما تبدي الآلهة الجبارة آياتها (55)
قبل أن ترسل نذرها الرهيبة لتصعقنا!
كاشياس :
أنت غبي يا كاسكا .. فإما أنك تفتقر إلى جذوة الحياة
التي تلتهب في عقل كل روماني ..
أو أنك لا تعرف كيف توقدها ..
لقد شحب وجهك وجحظت عيناك، واعتراك الخوف
وتملكتك الدهشة، حين رأيت غضبة السماء التي ضاق (60)
صدرها بنا! لكنك إذا تأملت السبب الحقيقي وراء
هذه النيران الساقطة، وهذه الأشباح المارقة، وتحول
الطيور عن طبيعتها، والوحوش عن فطرتها، وقدرة
البلهاء والشيوخ بل والأطفال على التنبؤ بالغيب، (65)
وابتعاد كل هذه الأشياء
عن أطوارها وطبائعها وسنن خلقها،
وتشوهها وشذوذها، فسوف ترى
أن السماء قد ألقت فيها تلك الشياطين
حتى تخوفنا وتنذرنا بقرب وقوع حالة شائهة شاذة! (70)
بل إنني أستطيع أن أذكر لك رجلا
أشبه ما يكون بهذه الليلة الليلاء!
رجل يرعد ويبرق وينبش القبور ويزأر
مثل الأسد القائم في الكابيتول (75)
رجل لا يزيد في قوته عنك أو عني في أي شيء يفعله
ولكنه قد غدا هائل الجرم
مخيفا مرعبا مثل هذه الخوارق العجيبة الغريبة.
كاسكا :
لا شك أنك تعني قيصر يا كاشياس!
كاشياس :
ليكن من يكون! (80)
فما زال للرومان عضلات أسلافهم القوية وسواعدهم
الفولاذية!
ولكن واها لك يا عصرنا! لقد ماتت فينا عزائم آبائنا،
وباتت تحكمنا مشاعر أمهاتنا! وما استكانتنا لنير الذل
والمعاناة إلا دليل على أننا أشباه نساء!
كاسكا :
حقا! يقولون إن أعضاء مجلس الشيوخ يعتزمون (85)
أن يتوجوا قيصر ملكا في الغد.
وسوف يلبس تاجه في البر والبحر
وفي كل مكان إلا هنا في إيطاليا.
كاشياس :
عندها سأعرف أين أغمد خنجري هذا (يشير إلى صدره)
وعندها سيحرر كاشياس نفسه من ربقة الاستعباد! (90)
أيتها الآلهة امنحوا الضعيف قوة في تلك اللحظة!
أيتها الآلهة اهزموا الطاغية في تلك اللحظة!
ولن تستطيع الأبراج المشيدة، ولا الأسوار النحاسية،
ولا غياهب السجون المصمتة، ولا الأصفاد الحديدية
الصماء أن تحبس قوة الروح في الإنسان! (95)
فالحياة التي أضنتها قضبان سجن الدنيا
لن تعدم القوة على تحرير نفسها ..
وإذا كنت أعلم أنا ذلك، فليعلم العالم بأسره
أنني أستطيع أن أحرر ذاتي من ربقة الطغيان
في أي وقت أريد. (100) (يعود صوت الرعد.)
كاسكا :
وكذلك أنا! كما يستطيع كل عبد
أن يفسخ العقد الذي يحرمه حريته!
كاشياس :
ولماذا أصبح قيصر طاغية إذن؟
مسكين! أعرف أنه ما كان ليصبح ذئبا
إلا عندما أدرك أن الرومان قطيع من الأغنام، (105)
وما كان ليصبح أسدا إلا عندما غدا الرومان ظباء
لاهية ..
إن من يريد أن يسرع بإشعال نار حارقة
يبدأ جذوتها بالقش الضعيف! لقد أصبحت روما
نفايات حقيرة، ركاما وحطاما وحثالة مستها النار
فالتهبت وسطع نورها حتى أضاء وجه ذلك القيصر (110)
الحقير! ولكن! إيه أيتها الأحزان! إلى أين تمضين بي؟
لعلي أقول هذا الكلام أمام عبد يرضى الاستعباد
ولا بد أن أحاسب عليه! ولكنني شاكي السلاح
ولا أبالي بالأخطار! (115)
كاسكا :
إنك تتحدث إلى كاسكا، وهو رجل لا يعرف المداهنة
ولا الوشاية! هذه يدي أمدها إليك!
كون زمرة تتولى تصحيح هذه المفاسد
وسأمضي معك في الطريق إلى آخره. (يتصافحان.)
كاشياس :
اتفقنا! (120)
والآن اعلم يا كاسكا أنني قد حرضت نفرا
من أنبل أهل روما نفسا وعقلا
على القيام معي بعمل شريف في ثناياه خطر داهم
وأعرف أنهم ينتظرونني الآن في مدخل مسرح بومبي؛ (125)
ففي هذه الليلة المدلهمة سكن الجميع وخلت الشوارع
من السابلة، وبدا وجه السماء مكفهرا مثل العمل
الذي نعتزم القيام به -
فهو دموي جهنمي رهيب. (130) (يدخل سنا.)
كاسكا :
ابتعد لحظة؛ فأنا ألمح شخصا يسرع نحونا.
كاشياس :
إنه سنا، أعرفه من مشيته.
إنه من أصحابنا. إلى أين تهرول يا سنا؟
سنا :
كنت أبحث عنك .. من هذا؟ ميتيلوس سمبر؟ (135)
كاشياس :
لا .. إنه كاسكا .. شريكنا في خطتنا ..
هل الجمع في انتظاري يا سنا؟
سنا :
يسرني انضمامه إلينا .. يا لها من ليلة رهيبة!
لقد رأى اثنان أو ثلاثة من زمرتنا مشاهد غريبة!
كاشياس :
قل لي هل الجمع في انتظاري؟ أجب! (140)
سنا :
نعم نعم! آه يا كاشياس!
لو استطعت أن تشرك بروتس النبيل في مسعانا!
كاشياس :
اطمئن يا سنا الكريم .. خذ هذه الورقة،
وتأكد من وضعها في كرسي القضاء
بحيث لا يعثر عليها إلا بروتس!
وألق بهذه الورقة من نافذته. (145)
وألصق هذه الورقة بالشمع على تمثال جده بروتس.
وبعد أن تفعل هذا عد إلى مسرح بومبي
حيث تجدنا في انتظارك. هل ديشيوس بروتس
وتريبونيوس هناك؟
سنا :
الجميع حاضرون - إلا ميتيلوس سمبر الذي
ذهب يبحث عنك في منزل. والآن سأسرع (150)
لوضع الأوراق حيث أمرتني. (يخرج سنا.)
كاشياس :
عد إلى مسرح بومبي حالما تفرغ.
هيا معي يا كاسكا ..
فلندرك بروتس في منزله قبل طلوع النهار،
لقد استملنا إلى صفنا ثلاثة أرباع الرجل! (155)
وسنفوز بالربع الباقي في اللقاء التالي!
كاسكا :
إنه يتمتع بمكانة عالية في قلوب الناس جميعا،
والعيوب التي تشيننا
تتحول فيه إلى فضائل وكمائل؛ (160)
فكأنه الكيمياء تحول المعدن الخسيس إلى ذهب!
كاشياس :
ما أصوب حكمك عليه وعلى فضائله وحاجتنا الماسة
إليه! فلنذهب الآن؛ فقد تجاوزنا منتصف الليل،
وقبل أن يبزغ النهار سوف نوقظه ونتأكد من ميثاقه. (يخرجان.)
الفصل الثاني
المشهد الأول (روما - يدخل بروتس إلى حديقة داره.)
بروتس :
أنت يا لوشيوس! اسمعني!
لا أستطيع أن أعرف من مسار النجوم
كم بقي على طلوع النهار!
لوشيوس! إني أناديك!
ليت النوم العميق أحد عيوبي! (5)
عجبا لك يا لوشيوس! لوشيوس! استيقظ أقول
لك ... (يدخل لوشيوس.)
لوشيوس :
هل تنادي يا مولاي؟
بروتس :
آتني بشمعة في غرفة مكتبي ..
وعندما تشعلها تعال نادني.
لوشيوس :
أمرك يا مولاي! (يخرج.)
بروتس :
لا بد من موته إذن! أما من ناحيتي (10)
فليس في نفسي ما يدفعني إلى النيل منه
إلا المصلحة العامة. إنه يريد أن يتوج ملكا!
والسؤال هو كم سيغير ذلك من طبيعته؟
إن ضوء النهار هو الذي يخرج الأفعى من جحرها
مما يستوجب الحذر عند المسير! نتوجه؟
لا بأس! ولكننا بذلك نكسبه شوكة يلسع بها (15)
ويحدث الضرر حسبما يشاء!
آفة العظمة أنها تنزع الرحمة من قلب السلطان!
والحق أن قيصر لم يسمح لأهوائه أن تتحكم في عقله! (20)
ولكن التجربة تثبت لنا أن التظاهر بالتواضع هو السلم
الذي يرتقيه الشاب الطموح للوصول إلى غايته!
إنه يقبل عليه فيصعد حتى يصل
إلى أعلى درجة ثم يدير للسلم ظهره (25)
وتتعلق عيناه بالسحاب، مزدريا الدرجات الدنيا
التي صعد عليها! وقد يفعل قيصر ذلك!
وينبغي أن نتحاشاه قبل وقوعه!
ولما كان حنقنا عليه لا يقوم على ذريعة مقبولة الآن
لأنه لم يتبدل بعد، فينبغي أن تصاغ الحجة (30)
على النحو التالي: إن سلطانه الحالي إذا زاد،
انتهى به إلى سلوك هذا المسلك،
ومن ثم فهو يشبه بيضة ثعبان
إذا أفرخت خرج منها ثعبان من طبيعته أن يلدغ!
ومن ثم لا بد من قتله قبل أن يخرج من البيضة! (يدخل لوشيوس.)
لوشيوس :
الشمعة المضيئة في غرفتك يا سيدي. (35)
وبينما كنت أبحث في النافذة عن زناد أقدح به النار
وجدت هذه الورقة، مختومة كما ترى.
وأنا واثق أنها لم تكن هناك عندما أويت إلى الفراش. (يعطيه الخطاب.)
بروتس :
عد إلى الفراش فلم يطلع النهار بعد،
أليس الغد يا غلام منتصف شهر مارس؟ (40)
لوشيوس :
لا أدري يا سيدي!
بروتس :
انظر في التقويم وأخبرني.
لوشيوس :
فورا يا مولاي. (يخرج لوشيوس.)
بروتس :
هذه الشهب التي تئز في الفضاء ضوءها باهر.
وأستطيع أن أقرأ فيه .. (45) (يفض الرسالة ويقرأ) «بروتس! إنك نائم! استيقظ وأبصر نفسك،
هل على روما ... إلخ تكلم واضرب وأصلح
الأحوال!»
بروتس! أنت نائم فاستيقظ!
كثيرا ما وجدت هذه الرسائل التي تحرضني
ملقاة في الأماكن التي أرتادها! (50) «هل على روما ... إلخ» لا بد أن تكتمل العبارة
هكذا: «هل على روما أن تستكين لرهبة رجل واحد؟»
لا يا روما، إن أسلافي قد طردوا «تاركوين»
من شوارع روما عندما أصبح ملكا! «تكلم واضرب وأصلح الأحوال!» هل يتوسل إلي (55)
أحد أن أتكلم وأن أضرب؟ لبيك يا روما!
هذا وعد مني، لن تبخل عليك يد بروتس بشيء
فيه إصلاح الحال! (يدخل لوشيوس.)
لوشيوس :
سيدي! لقد مضى من شهر مارس
خمسة عشر يوما! (صوت طرق على الباب.)
بروتس :
جميل، اذهب إلى الباب وانظر من الطارق! (60) (يخرج لوشيوس.)
لم أذق للنوم طعما منذ حرضني كاشياس على قيصر
أول مرة! ما بين النزوع للفعل الرهيب وارتكابه
تمر الأيام كأنها كابوس مخيف أو حلم مفزع (65)
تنخرط فيه الروح في نقاش حاد مع أعضاء الجسد
وتبدو فيه دولة الإنسان كأنها مملكة صغيرة
تعاني من ثورة داخلية. (يدخل لوشيوس.) (70)
لوشيوس :
سيدي! أخوك كاشياس بالباب،
وهو يرغب في مقابلتك.
بروتس :
أهو وحده؟
لوشيوس :
لا يا سيدي .. معه آخرون.
بروتس :
هل تعرفهم؟
لوشيوس :
لا يا سيدي، فقد ضغطوا قبعاتهم حتى غطت آذانهم،
ولفوا عباءاتهم حتى غطت نصف وجوههم
فلم أستطع تمييز ملامحهم. (يخرج لوشيوس.)
بروتس :
فليدخلوا.
إنها زمرة المتآمرين! (75)
أيتها المؤامرة!
هل تخجلين من إظهار جبينك الخطر حتى بالليل ..
وقت انطلاق الشرور سافرة؟!
وأين تجدين بالنهار ذلك الكهف المظلم (80)
القادر على إخفاء سحنتك الشائهة؟
لا تنشدي الكهوف أيتها المؤامرة
بل اختبئي خلف البسمات وخلف ستار
الهشاشة والبشاشة!
أما إذا سرت في طريقك،
دون أن تغيري ملامح وجهك،
فلن تستطيع ظلمات الجحيم نفسها
أن تحول دون افتضاح أمرك! (85) (يدخل المتآمرون: كاشياس وكاسكا، وديشيوس، وسنا وميتيلوس سمبر وتريبونيوس.)
كاشياس :
نأسف لإقلاق راحتك يا بروتس!
عمت صباحا .. هل أزعجناك؟
بروتس :
كنت مستيقظا .. بل لم أنم طول الليل!
هل أعرف هؤلاء الرجال الذين جاءوا معك؟ (90)
كاشياس :
نعم! كل واحد فيهم، وكل منهم يحترمك ويبجلك،
ويتمنى لو كان رأيك في نفسك يتفق مع رأي
نبلاء الرومان فيك! هذا تريبونيوس.
بروتس :
أهلا ومرحبا به!
كاشياس :
وهذا ديشيوس بروتس.
بروتس :
مرحبا به. (95)
كاشياس :
وهذا كاسكا، وهذا سنا، وهذا ميتيلوس سمبر.
بروتس :
أهلا بهم جميعا، أي هموم ساهرة
حالت بين عيونكم والنوم هذه الليلة؟
كاشياس :
أتسمح لي بكلمة على انفراد؟ (100) (يتهامسان على انفراد.)
ديشيوس :
هذه جهة الشرق. هل تطلع الشمس من هنا؟
كاسكا :
لا.
سنا :
عفوا يا سيدي، بل تطلع من هنا ..
وها هو الخيط الأبيض يغشى الخيط الأسود وسط
السحب ..
إنها تباشير الفجر!
كاسكا :
لسوف تدركان حالا خطأ رأيكما .. (105)
ستشرق الشمس من هنا .. حيث أشير بسيفي
قريبا من جهة الجنوب، فنحن في مطلع الربيع
وبعد شهرين تقريبا يتحول موضع الشروق شمالا (110)
حيث تتوهج عين الشمس .. أما جهة الشرق
فهي هنا مباشرة تجاه الكابيتول.
بروتس :
مدوا أيديكم حتى أصافحكم واحدا واحدا.
كاشياس :
ولنقسم قسم ميثاقنا.
بروتس :
لا، بل لن نقسم أي قسم! أفلا يكفي ما يغشى الوجوه
من غم،
وما تعانيه نفوسنا من هم، وفساد الزمان الأعظم؟ (115)
إن كانت هذه الدوافع ضعيفة فافترقوا دون إبطاء،
وليعد كل منا إلى فراش تقاعسه!
ولترفرف أجنحة الطغيان فوقنا ترقبنا من عل،
ثم تنقض ليتخطفنا الموت حسبما اتفق! (120)
ولكنني واثق أن وقدة هذه الدوافع
تكفي لإشعال الحماسة في قلوب الجبناء،
وبث الشجاعة وصلابة الفولاذ في نفوس النساء
التي تذوب رقة! وإذن ما حاجتنا يا أبناء وطني
إلى ما يحفزنا على إصلاح أحوالنا سوى عدالة قضيتنا؟
وأي ميثاق آخر سوى أننا رومان قد تعاهدنا سرا، (125)
ومتى تعاهدنا فلا نقض لعهدنا؟ وأي قسم سوى أننا
شرفاء
تعاهدنا على القيام بعمل من دونه الموت؟
فليقسم الكهنة والجبناء، وليقسم المخاتلون
والخاملون المهدمون،
وليقسم المستضعفون الهائنون بضروب الظلم، (130)
وليقسم أصحاب الدعاوى الباطلة
ممن يثيرون الريبة والشك،
ولكن لا تلوثوا الحق الناصع الذي يستند إليه جهدنا
والحمية التي لا تقاوم في نفوسنا
بقسم لا تحتاج إليه قضيتنا ولا يحتاج إليه عملنا؛ (135)
إذ إن كل قطرة دم تجري
في أجساد أبناء روما تنطق بشرفهم،
وتشهد على من ينكث بمثقال ذرة من عهد قطعه على
نفسه
بأنه ابن سفاح وسليل ابن سفاح! (140)
كاشياس :
ولكن ما بال شيشرون؟ أفلا نجس نبضه؟
أعتقد أنه سيقف إلى جانبنا بكل قوة.
كاسكا :
ينبغي أن نضمه إلينا.
سينا :
لا شك في هذا.
ميتيولوس :
فلنضمه إلينا؛ فإن شعره الفضي
سوف يبيض وجوهنا في أعين الناس (145)
ويضمن لنا الأصوات التي تمتدح عملنا،
فلسوف يقال إن حكمته قد هدت أيدينا إلى فعل الخير!
وسوف تستتر حداثة سننا ويستتر اندفاعنا
وراء وقاره ورصانته.
بروتس :
لا، بل اتركوه ولا تفاتحوه في الموضوع؛ (150)
إذ لن يشترك في عمل بدأه غيره.
كاشيوس :
إذن فلا تضموه.
كاسكا :
حقا إنه لا يصلح.
ديشيوس :
وهل سنقتل قيصر وحده؟
كاشياس :
سؤال وجيه يا ديشيوس! لا أعتقد أنه من الحكمة (155)
أن نترك مارك أنطونيو ونقتل قيصر وحده ..
إذ إن قيصر يحبه حبا جما، وهو مناوئ ماكر،
ولديه من الطاقات ما إن أحسن استخدامها
ألحق الأذى بنا جميعا. فلماذا لا نتفادى ذلك (160)
ونقتل قيصر وأنطونيو معا؟
بروتس :
لا يا كاياس كاشياس! سيبدو للناس أننا أسرفنا
في إراقة الدماء! هل نقطع الرأس ونمثل بالجثة؟
سيبدو لهم أننا حنقنا فقتلنا وما زال الحقد في دمنا!
وهل أنطونيو إلا بضعة من جسم قيصر؟ (165)
إننا نفتدي الأمة بقيصر ولسنا بجزارين يا كاياس!
إننا نهاجم روح قيصر جميعا، وليس في الروح دماء!
ليتنا استطعنا أن نقبض روح قيصر
دون أن نمزق أوصاله! ولكن - وا أسفاه! (170)
لا بد دون روحه من نزف دمه!
واسمعوا يا أصدقائي الشرفاء! فلنقتله ببسالة،
لا بروح الحقد والغضب! ولنقدمه قربانا للآلهة
لا جثة لكلاب الطريق! ولتفعل قلوبنا بأيدينا
ما يفعل الأسياد الماكرون بخدمهم؛
إذ يدفعونهم إلى ارتكاب الفعلة السيئة، (175)
ثم يتظاهرون بتأنيبهم عليها.
وهكذا سيبدو أننا ارتكبنا ما ارتكبنا مضطرين لا
حاقدين! وعندما يرى العامة هذا
سيعتبرون أننا أرقنا الدم لإنقاذ جسد الأمة من المرض،
لا لقتل المريض! أما مارك أنطونيو (180)
فلا يشغلن تفكيركم؛ فما هو إلا ذراع قيصر ..
لا تستطيع حراكا حين يقطع رأس قيصر!
كاشياس :
ومع ذلك فأنا أخشاه!
إذ إن الحب الذي يكنه لقيصر -
بروتس (مقاطعا) :
لا تشغل بالك به يا كاشياس الكريم - (185)
إن كان يحب قيصر، فكل ما يستطيع أن يفعله
هو إيذاء نفسه؛ إذ سيتملكه الأسى،
ثم يموت حزنا على قيصر! بل إن ذلك أكبر من طاقته؛
فهو يحب اللهو واللعب ومصاحبة الخلان!
تريبونيوس :
لا خوف منه، فلا تقتلوه (190)
فلسوف يعيش ليسخر مما جرى في قابل الأيام (تدق الساعة.)
بروتس :
صمتا .. عدوا دقات الساعة.
كاشياس :
دقت الساعة ثلاثا.
تريبونيوس :
آن لنا أن نرحل.
كاشياس :
ولكننا غير واثقين إن كان قيصر
سوف يخرج اليوم أم لا ..
فقد أصبح يؤمن بالخرافات في الآونة الأخيرة (195)
على عكس آرائه القديمة الحاسمة في الخيالات
والأحلام والتطير.
وربما أدت الخوارق التي شهدناها الليلة
وآيات الرعب التي لم نعتدها، وتحذير العرافين له، (200)
إلى إقناعه بعدم الخروج إلى الكابيتول اليوم.
ديشيوس :
اطمئن من هذه الناحية، فحتى لو قرر البقاء
فسوف أقنعه بالخروج! فهو يحب أن يسمع
كيف يخدع الصائد وحيد القرن حتى يغرس قرنه في
الشجرة ..
وكيف يخدع الصائد الدببة والأفيال بالحفر .. (205)
والأسود بالشباك، والرجال بالتملق!
وأنا أحكي له ذلك قائلا إنه يكره المتملقين،
فيوافقني على رأيي دون أن يدري أنني بذلك أتملقه!
دعوني أعمل! فلسوف أوجه تفكيره الوجهة (210)
الصحيحة،
ولسوف آتي به إلى الكابيتول!
كاشياس :
بل سنذهب جميعا لنأتي به!
بروتس :
في الساعة الثامنة على أكثر تقدير؟!
سنا :
نعم! على أكثر تقدير! لا تتأخروا إذن! (215)
ميتيلوس :
إن كايوس ليجاريوس يكره قيصر؛
لأنه وبخه على امتداحه بومبي،
فلماذا لم تضموه إلينا؟
بروتس :
اذهب إليه في منزله الآن يا ميتيلوس الكريم
وأرسله إلي هنا، وسوف أشركه معنا؛
فهو يحبني وسبق لي أن أحطته بأسباب كراهيتنا (220)
لقيصر.
كاشياس :
كاد يطلع النهار! سوف نتركك يا بروتس!
ولنتفرق أيها الأصدقاء، ولكن تذكروا كلامكم،
وليثبت كل منكم أنه روماني أصيل!
بروتس :
أرجوكم أيها الأفاضل أن تظهروا البشر والسعادة
حتى لا تكشف وجوهنا عن نوايانا، (225)
فلنفعل ما نفعل بثبات وثقة مثل ممثلي المسارح في روما،
ودون أن يبدو علينا التوتر والإرهاق!
عموا صباحا أجمعون! (يخرج الجميع ما عدا بروتس.)
لوشيوس! يا غلام! هل أنت في نوم عميق؟
لا بأس!
انعم بلذيذ النوم الذي يتساقط كالشهد في نفسك! (230)
إذ لا تساورك الأفكار والخيالات
التي تولدها الهموم والمشاغل في عقول الكبار ..
وهذا سر نومك العميق! (تدخل بورشيا.)
بورشيا :
بروتس .. مولاي!
بروتس :
بورشيا؟ ماذا تريدين؟ ولماذا صحوت الآن؟
ليس من الصحة أن تعرضي جسمك الرقيق (235)
لهواء الصباح القارس.
بورشيا :
ولا أن تعرض جسمك له!
لقد تركت فراشي فجأة يا بروتس!
كما قمت فجأة بالأمس أثناء العشاء،
وجعلت تسير هنا وهناك وأنت تفكر وتتأوه
عاقدا ذراعيك على صدرك، (240)
وعندما سألتك حدقت في بنظرات صارمة،
وعندما ألححت في السؤال
حككت رأسك وضربت الأرض بقدمك
نافد الصبر! ورغم إلحاحي لم تجبني، (245)
بل لوحت إلي غاضبا بيدك،
مشيرا إلي أن أخرج، وقد خرجت خوفا
من أن أزيدك ضيقا على ضيق،
آملة أن يكون ما بك انحرافا عابرا في المزاج (250)
مما ينتاب كل إنسان ..
لكنه ازداد فمنعك من الأكل والحديث والنوم!
ولو أثر في وجهك كما أثر في نفسك ما عرفتك
يا بروتس!
مولاي الحبيب .. أطلعني على أسباب حزنك. (255)
بروتس :
لدي وعكة وحسب، هذا كل ما في الأمر!
بروشيا :
إن بروتس عاقل. ولو كان مريضا
لعمل على علاج مرضه.
بروتس :
هذا ما أفعله الآن! عودي إلى الفراش يا بورشيا (260)
الكريمة.
بورشيا :
إن كان بروتس مريضا فهل علاجه أن يسير مفكك
الأزرار
ويعرض صدره لرطوبة الصباح البارد؟ (265)
إن كان بروتس مريضا .. فهل يتسلل من فراش
الدفء والعافية
ويعرض نفسه لسموم الليل الخبيثة، ويخاطر باستنشاق
الهواء الرطب الملوث
ليزداد مرضا على مرض؟ لا يا بروتس!
إن في نفسك علة وبيلة، وينبغي أن تكشف لي عنها
بحق مكانتي ومنزلتي منك! وها أنا ذا أركع وأستحلفك (270)
بجمالي الذي امتدحته ذات يوم، وبحق أيمان الحب التي
حلفتها، والقسم الأكبر الذي ربط بيننا وجعلنا نفسا
واحدة
أن تكشف لي - أنا صنو نفسك ونصفك الآخر -
عن سبب همك، وأن تقول لي من أولئك الرجال (275)
الذين زاروك هذه الليلة .. إذ كانوا ستة أو سبعة
يخفون وجوههم حتى عن الظلام!
بروتس :
لا تركعي يا بورشيا الرقيقة!
بورشيا :
ما كنت لأركع لو رحمتني!
قل لي يا بروتس .. أليس من حقي وأنا زوجتك (280)
أن أعرف أسرارك؟ هل أنا صنو نفسك حقا
ولكن بقيود أو إلى أجل محدود؟ هل علي فقط
أنا أجالسك أثناء الطعام وأدفئ لك الفراش
وأحادثك أحيانا؟ هل أقيم في ضواحي مسراتك (285)
وملاذك؟
إن كان دوري مقصورا على هذا فلست حليلة بل
خليلة!
بروتس :
بل أنت زوجي المخلصة الطاهرة ..
وإنك لأحب إلي من قطرات الدم الحمراء
التي تتساقط في قلبي الحزين. (290)
بورشيا :
إن كان هذا صحيحا أفليس لي أن أعرف السر؟
إنني امرأة .. ولكنني امرأة تزوجها بروتس العظيم ..
إنني امرأة .. ولكنني ذائعة الصيت؛ فأنا ابنة كاتو (295)
العظيم
أفلا تظن أنني أقوى من بنات جنسي،
وذاك أبي، وهذا زوجي؟
أطلعني على أسرارك ولن أفشيها،
لقد أثبت صلابتي إثباتا قاطعا
حين جرحت نفسي بيدي وباختياري .. هنا .. (300)
في فخذي .. واحتملت الألم صابرة صامدة ..
أفلا أؤتمن إذن على أسرار زوجي؟
بروتس :
أيتها الآلهة .. ليتني أصبح أهلا لهذه الزوجة النبيلة. (طرق على الباب.)
صمتا يا بورشيا .. أسمع طرقا على الباب ..
بورشيا .. عودي إلى غرفتك الآن .. وبعد قليل (305)
سأفصح لك عن مكنون فؤادي وأفسر لك مشاغلي
وما كتبه القدر على جبيني الحزين .. هيا .. اخرجي
بسرعة. (تخرج بورشيا.) (يدخل لوشيوس وكايوس ليجاريوس معصوب الرأس.)
من الطارق يا لوشيوس؟
لوشيوس :
مريض يريد أن يتحدث إليك! (310)
بروتس :
هذا كايوس ليجاريوس الذي كلمني عنه ميتيلوس.
ابتعد الآن يا غلام. كايوس ليجاريوس .. ماذا بك؟
كايوس :
أتسمح بقبول تحية الصباح من لسان خائر ضعيف؟!
بروتس :
ما أعجب الوقت الذي اخترته للمرض
وربط العصابة على رأسك يا كايوس النبيل!
ليتك ما كنت مريضا! (315)
كايوس :
لست مريضا إن كان لدى بروتس مهمة مشرفة!
بروتس :
لدي مثل هذه المهمة يا ليجاريوس
إن كانت أذنك لم تمرض وتستطيع الإنصات بها!
كايوس :
قسما بجميع الآلهة التي يركع لها الرومان (320)
ها أنا ذا أطرح مرضي جانبا! إيه يا روح روما!
وإيه يا ابنها النبيل! يا سليل المجد والشرف!
لقد فعلت ما يفعل الساحر إذ استحضرت روحي بعد
مماتها!
اطلب مني الآن أن أجري وسوف أجالد المستحيل (325)
وأتغلب عليه! ما هي المهمة؟
بروتس :
مهمة تعيد الصحة إلى المرضى.
كايوس :
أفلن نخلص أحد الأصحاء من صحته؟
بروتس :
بطبيعة الحال! أما المهمة نفسها يا صديقي كايوس
فسوف أفضي بها إليك ونحن في طريقنا (330)
إلى منزل الرجل موضوع مهمتنا!
كايوس :
تقدم وسوف أتبعك بقلب اشتعلت فيه النار
لكي أقوم بمهمة لا أعرفها،
ولكن يكفي أن بروتس يهدي خطاي!
بروتس :
اتبعني إذن. (صوت الرعد.) (يخرجان.)
المشهد الثاني (روما - منزل قيصر - رعد وبرق.) (يدخل يوليوس قيصر في جلباب المنزل.)
قيصر :
لم تهدأ السماء ولا سكنت الأرض هذه الليلة!
وصرخت كالبورنيا في منامها ثلاث مرات: «النجدة! أغيثونا! إنهم يقتلون قيصر!»
يا من هناك! (يدخل خادم.)
الخادم :
مولاي؟
قيصر :
اذهب واطلب من الكهنة تقديم قربان في الحال! (5)
ثم عد لي بآرائهم في طالعي!
الخادم :
سمعا وطاعة يا مولاي. (تدخل كالبورنيا.)
كالبورنيا :
ماذا تعني بذلك يا قيصر؟ أتريد الخروج؟
لن تفارق منزلك اليوم!
قيصر :
بل سيخرج قيصر!
إن الأشياء التي تتوعدني لم تر إلا ظهري (10)
أما إن شاهدت وجه قيصر .. فسوف تتلاشى
في الحال!
كالبورنيا :
قيصر! لم أكترث في حياتي لمثل هذه الخرافات،
ولكنها الآن تفزعني! فإلى جانب ما شاهدناه وسمعناه (15)
لدينا بالمنزل رجل يحكي عن أبشع المشاهد
التي رآها الحراس ليلة أمس.
لقد شاهدوا لبؤة تلد أشبالها على قارعة الطريق
والقبور وهي تفغر فاها ليخرج الموتى منها
والمقاتلين الأشداء في ضرام المعمعة فوق السحب
يصطفون صفوفا وكتائب شاكية السلاح (20)
وتسيل منهم الدماء على الكابيتول
بينما يقعقع صخب الموقعة في أجواز الفضاء
وتصهل الخيول، ويئن الرجال أنات الموت،
وتولول الأشباح وتسرح في شوارع المدينة!
أواه يا قيصر! هذه خوارق لم نألفها، (25)
وشد ما أخشاها!
قيصر :
لا مهرب مما قدره الآلهة الجبابرة ورسموا غايته!
لكن قيصر سوف يخرج!
فهذه النبوءات نذير للدنيا بأسرها لا لقيصر وحده!
كالبورنيا :
عندما يموت البسطاء لا تهبط الشهب والنيازك! (30)
وعندما يموت الأمراء تلتهب السماء نفسها لتعلن النبأ!
قيصر :
يموت الجبناء ألف مرة قبل موتهم،
أما الشجعان فلا يذوقون طعم الموت إلا مرة واحدة
ما أغرب أن يخاف الناس من الموت! (35)
إنه النهاية المحتومة ولا مهرب من وقوعه! (يدخل خادم.)
ماذا يقول العرافون؟
الخادم :
ينصحونك بعدم الخروج اليوم؛
إذ إنهم أثناء إخراج أحشاء أحد القرابين
لم يجدوا في داخله قلبا! (40)
قيصر :
قد فعلت الآلهة ذلك حتى نشعر بعار الجبن!
والعبرة من هذا هو أن قيصر سيكون مثل القربان
لا قلب له .. إن هو قبع في منزله اليوم خوفا وهلعا!
لا .. لن يقبع قيصر في المنزل .. فالخطر يعلم حق
العلم
أن قيصر أشد منه خطرا! أسدان ولدا في يوم واحد ! (45)
لكني أكبر منه وأشد هولا .. وسوف يخرج قيصر!
كالبورنيا :
وا أسفا يا مولاي عليك!
لقد طغى اعتدادك بنفسك فالتهم حكمتك!
لا تخرج اليوم .. قل إن خوفي أنا هو الذي ألزمك (50)
المنزل، لا خوفك أنت! ولنرسل مارك أنطونيو إلى
مجلس الشيوخ ليقول لهم إن وعكة قد ألمت بك اليوم ..
ها أنا ذا أتوسل إليك راكعة على ركبتي أن تستمع إلي
هذه المرة.
قيصر :
لا بأس إذن .. فليقل مارك أنطونيو إن بي وعكة (55)
وإرضاء لخاطرك سأمكث في المنزل (يدخل ديشيوس.)
ها هو ديشيوس بروتس. فليبلغهم هو هذه الرسالة.
ديشيوس :
قيصر! أجمل التحايا وعمت صباحا يا قيصر العظيم!
أتيت لأصحبك إلى مجلس الشيوخ.
قيصر :
أتيت في خير وقت .. احمل تحياتي إلى أعضاء مجلس (60)
الشيوخ.
وقل لهم إنني لن آتي إلى المجلس اليوم ..
لا تقل إنني لا أستطيع، فهذا كذب،
ولا تقل إنني لا أجرؤ، فهذا أشد كذبا،
بل قل لهم إنني لن آتي اليوم وحسب. هيا يا
ديشيوس.
كالبورنيا :
قل لهم إنه مريض. (65)
قيصر :
هل يرسل قيصر أكذوبة؟
هل امتدت ذراعي إلى أقصى الأرض فاتحا وغازيا
حتى أخاف قول الحق لمن وخط الشيب لحاهم؟
اذهب يا ديشيوس وقل لهم لن يأتي قيصر وحسب.
ديشيوس :
قيصر يا ذا القوة والجبروت! فلأحمل إليهم عذرا ما
كي لا يضحكوا علي إن قلت ذاك وحسب! (70)
قيصر :
لا أعذار لدي سوى مشيئتي.
ومشيئتي ترضي مجلس الشيوخ.
لكنني سأبوح لك وحدك فأرضيك لأنني أحبك ..
السبب الحقيقي هو أن زوجتي هذه - كالبورنيا -
تريدني أن أمكث في المنزل. فقد رأت في منامها البارحة (75)
تمثالي يتفجر منه الدم الصافي كأنه نافورة لها مائة عين،
وقد أقبل عدد كبير من الرومان الأشداء باسمين،
فغسلوا أيديهم فيه. وهي تفسر هذا بأنه نذير وتحذير (80)
من شر وشيك الوقوع. ومن ثم توسلت إلي
راكعة أن أمكث في المنزل اليوم.
ديشيوس :
لقد أساءت تأويل الحلم!
والحق أنه رؤيا بشر وتوفيق!
أما تمثالك والدم الذي يتفجر منه عيونا (85)
ويغتسل فيه العديد من الرومان الباسمين،
فمعناه أن روما العظيمة سوف تستمد منك
دم حياة جديدة، وأن عظماء الرومان سوف يتهافتون
عليك ليصطبغوا بألوانك، وليحتفظوا بذكرياتك
ومآثرك.
هذا هو التأويل الصحيح لرؤيا كالبورنيا. (90)
قيصر :
وقد أحسنت التعبير عنه يا ديشيوس.
ديشيوس :
ويؤكد لك ذلك ما سوف تسمعه الآن!
أريدك أن تعرف أن مجلس الشيوخ قد قرر
أن يهدي اليوم تاجا إلى قيصر الجبار، (95)
فإذا أرسلت إليهم نقول إنك لن تأتي
فربما عدلوا عن رأيهم. وربما سخروا منك،
فقد يقول قائل «فضوا اجتماع مجلس الشيوخ!
أجلوه حتى ترى زوجة قيصر أحلاما جميلة!»
وإذا احتجب قيصر اليوم .. أفلن يتهامسوا قائلين: (100) «انظروا! إن قيصر خائف!»
سامحني يا قيصر؛ فإن حبي الشديد لك وحدبي على
رفعتك
يدفعاني إلى هذا القول وتخطي حدودي،
ولكن حبي تغلب على تعقلي!
قيصر :
ما أحمق ما تبدو مخاوفك الآن يا كالبورنيا .. (105)
وا خجلي إذا استسلمت لتلك المخاوف!
هاتوا عباءتي فسوف أذهب!
وانظروا .. ها قد أتى بوبليوس لمرافقتي! (يدخل بروتس وكايوس ليجاريوس وميتيلوس وكاسكا وتريبونيوس وسنا وبوبليوس.)
بوبليوس :
عمت صباحا يا قيصر!
قيصر :
مرحبا بك يا بوبليوس.
وأنت يا بروتس؟ هل صحوت مبكرا أنت الآخر؟ (110)
عم صباحا يا كاسكا .. اسمع يا كايوس ليجاريوس!
إن عدائي لك لا يقارن بعداء ذلك الداء
الذي أنحل جسمك! كم الساعة الآن؟
بروتس :
لقد دقت الثامنة يا قيصر.
قيصر :
أشكر لكم عناءكم ومجاملتكم. (115) (يدخل أنطونيو.)
انظروا! ها هو أنطونيو الذي يقضي الليل في اللهو ..
ومع ذلك استيقظ مبكرا .. عمت صباحا يا
أنطونيو.
أنطونيو :
عمت صباحا قيصر الأكرم!
قيصر :
قولي لهم أن يستعدوا في المنزل، (يشير إشارة تعني أقداح الشراب.)
ما كان ينبغي أن أتأخر هكذا ..
هيا يا سنا .. هيا يا ميتيلوس .. واسمع يا تريبونيوس، (120)
لدي حديث ساعة كاملة معك!
لا تنس أن تزورني اليوم،
ولتبق قريبا مني حتى أتذكر.
تريبونيوس :
سمعا وطاعة يا قيصر .. (جانبا) ولسوف أكون قريبا منك كل القرب
حتى يتمنى محبوك أن أبتعد! (125)
قيصر :
أيها الأصدقاء الأوفياء .. تفضلوا .. وتذوقوا معي
بعض النبيذ.
وبعدها سنرحل مباشرة كشأن الأصدقاء.
بروتس (جانبا) :
ولكن كلمة «كشأن » لا تعني أننا أصدقاء!
ما أثقل قلبي إذ تخطر له هذه الفكرة! (يخرج الجميع.)
المشهد الثالث (شارع بالقرب من الكابيتول.) (يدخل أرتميدوروس وهو يقرأ ورقة.)
أرتميدوروس (يقرأ) :
يا قيصر احترس من بروتس وحذار من
كاشيوس! لا تقترب من كاسكا وراقب سنا! لا تثق
في تريبونيوس ولا تغفل عن ميتيلوس سمبر! إن
ديشيوس بروتس لا يحبك، كما أنك أسأت إلى كايوس
ليجاريوس. لقد أجمع هؤلاء الرجال على أمر واحد،
وهو مناهضة قيصر. فإن لم تكن خالدا فخذ الحيطة (5)
لنفسك؛ إذ إن الاطمئنان يتيح الفرصة للتآمر عليك.
ولتحرسك آلهتنا الجبارة.
المخلص
أرتميدوروس
سوف أقف هنا حتى يمر قيصر،
ثم أعطيه هذه الورقة مثل طلاب الحاجات! (10)
قلبي حزين لأن الفضيلة لا تستطيع الحياة
بمنجاة من أنياب منافسة الحساد!
إذا قرأت هذه الورقة يا قيصر فربما كتبت لك الحياة،
وإن لم تقرأها فلا بد أن الأقدار متواطئة مع الخونة! (يخرج.)
المشهد الرابع (أمام منزل بروتس - تدخل بورشيا ولوشيوس.)
بورشيا :
أرجوك يا غلام .. أسرع إلى مجلس الشيوخ ..
لا أريدك أن تجيبني، بل أن تسرع بالذهاب .. هيا ..
ما الذي يؤخرك هنا؟!
لوشيوس :
أريد أن أعرف مهمتي يا سيدتي.
بورشيا :
ليتك تذهب وتعود قبل أن أشرح لك مهمتك هناك .. (5)
أيها الثبات .. قف معي وساندني ..
وأقم حاجزا كالجبل بين قلبي ولساني ..
إذ إن لي عقل الرجل وضعف المرأة ..
ألا ما أشق على المرأة أن تحفظ السر ..
أما زلت هنا؟
لوشيوس :
ماذا علي أن أفعل يا سيدتي؟ (10)
أجري إلى الكابيتول وحسب؟
ثم أعود إليك وحسب؟
بورشيا :
بل عد لتخبرني إن كان سيدك في صحة جيدة ..
إذ إنه كان مريضا حين خرج .. وارقب ما يفعل قيصر،
ومن هم طلاب الحاجات الذين يحاولون الوصول (15)
إليه ..
اسمع يا غلام .. ما هذه الضجة؟
لوشيوس :
لا أسمع شيئا يا سيدتي!
بورشيا :
بل أصغ جيدا .. إني أسمع صخبا وجلبة
كأنها ضجيج موقعة .. تأتي بها الريح من الكابيتول.
لوشيوس :
الحق يا سيدتي أنني لا أسمع شيئا. (20) (يدخل العراف.)
بورشيا :
تعال أيها الرجل .. من أي طريق جئت ؟
العراف :
جئت من منزلي يا سيدتي الكريمة.
بورشيا :
كم الساعة؟
العراف :
التاسعة تقريبا يا سيدتي.
بورشيا :
وهل اتجه قيصر بعد إلى الكابيتول؟
العراف :
لا يا سيدتي .. إنني ذاهب أنتظر مروره إلى هناك .. (25)
بورشيا :
ألك حاجة تريده أن يقضيها لك؟
العراف :
نعم يا سيدتي .. فإن شاء قيصر أن يشفق على نفسه
ويستمع إلي،
فسوف أطلب منه أن ينقذ نفسه. (30)
بورشيا :
وهل تعرف أن أحدا يريد أن يؤذيه؟
العراف :
لا أعلم ذلك علم اليقين، ولكني أخشاه وحسب ..
عمت صباحا، شارعكم ضيق، وإذا وقفت أنتظره فيه
فسوف يسحقني الحشد الذي يتبع قيصر من أعضاء (35)
مجلس الشيوخ.
والقضاة وطلاب الحاجات من العامة .. وأنا رجل
ضعيف وقد أهلك!
سأقف في مكان أرحب ثم أنادي قيصر العظيم عندما
يمر. (يخرج.)
بورشيا :
لا بد أن أعود إلى المنزل. ويلي .. ما أضعف
قلب المرأة ..
أواه يا بروتس، فلتساندك السماء في مسعاك. (40) (جانبا) لا شك أن الغلام قد سمعني .. (للغلام) بروتس يطلب حاجة لن يقضيها له قيصر .. (جانبا) رأسي تدور وأكاد أقع! (للغلام) هيا يا لوشيوس من هنا .. أبلغ زوجي
السلام ..
وقل له إنني بخير وهناء، ثم عد إلي فورا بالرد .. (45) (يخرجان، كل من ناحية.)
الفصل الثالث
المشهد الأول (روما - أمام الكابيتول.) (أصوات نفير - يدخل قيصر وبروتس وكاشياس وكاسكا وديشيوس وميتيلوس وتريبونيوس وسنا وأنطونيو ولبيدوس وأرتميدوروس وبوبيليوس والعراف.)
قيصر :
ها قد حل منتصف مارس.
العراف :
ولكنه لم يرحل بعد يا قيصر!
أرتميدوروس :
السلام على قيصر! هل يسمح بقراءة هذه الورقة.
ديشيوس (متدخلا لصرف نظر قيصر) :
يرجو تريبونيوس منك
أن تقرأ في وقت فراغك هذا الالتماس المتواضع. (5)
أرتميدوروس :
أرجوك يا قيصر أن تقرأ ورقتي أولا،
فإن التماسي يمس قيصر مباشرة .. اقرأها يا قيصر
العظيم!
قيصر :
ما يمس شخصنا يأتي آخرا.
أرتميدوروس :
لا تؤجلها يا قيصر، بل اقرأها فورا.
قيصر :
عجبا! هل الرجل مجنون؟
بوبليوس :
أيها الرجل .. أفسح الطريق. (10)
كاسكا :
هل تتقدمون بطلباتكم في الشارع؟
قدموها في الكابيتول! (يدخل قيصر مجلس الشيوخ ويتبعه الجميع.)
بوبيليوس :
أرجو لكم التوفيق في مسعاكم اليوم .
كاشياس :
أي مسعى يا بوبيليوس؟
بوبيليوس :
وداعا. (يتركه ويلتحق بحاشية قيصر.)
بروتس :
ماذا قال «بوبيليوس لينا»؟ (15)
كاشياس :
إنه يرجو لنا التوفيق اليوم في مسعانا،
أخشى أن يكون هدفنا قد انكشف.
بروتس :
انظر إنه يقترب من قيصر .. راقبه جيدا.
كاشياس :
كاسكا .. فلنفاجئه .. إذ أخشى وقوع ما يمنعنا ..
بروتس .. ماذا سنفعل؟ إذا انكشف أمرنا (20)
فإما أن يموت قيصر أو أموت أنا ..
سوف أنتحر هنا.
بروتس :
تماسك يا كاشياس!
إن «بوبيليوس لينا» لا يتحدث عن أهدافنا؛
فهو كما ترى يبتسم، ولا يبدو أن قيصر قد تأثر
بكلامه.
كاشياس :
إن تريبونيوس سينفذ مهمته في الوقت المحدد .. (25)
انظر يا بروتس .. لقد اصطحب مارك أنطونيو وخرج
معه
حتى يخلي لنا السبيل. (يخرج تريبونيوس وأنطونيو.)
ديشيوس :
أين ميتيلوس سمبر؟ فليتقدم بالتماسه فورا إلى قيصر.
بروتس :
إنه متأهب لذلك، فاذهبوا إليه وساندوه.
سنا :
كاسكا .. تذكر أنك ستكون أول من يرفع يده. (30)
قيصر :
أنحن جميعا على استعداد؟ ما هي المظالم التي سيعمل
قيصر
ومجلس شيوخه على رفعها؟
ميتيلوس :
قيصر العظيم، يا رب القوة والبطش والجبروت!
إن ميتيلوس سمبر يلقي أمام عرشك قلبا خاشعا! (يركع.)
قيصر :
إني أمنعك يا سمبر .. (35)
إن هذا الخنوع وذاك الخضوع الوضيع
قد يلهب دم الرجال العاديين
ويحول القوانين السارية والأحكام الماضية
إلى لهو أطفال. لا تكن أبله فتتصور أن قيصر
ذو طبع هوائي متقلب، يذيبه ما يذيب قلوب الحمقى (40)
فيبتعد به عن طبيعته .. وأعني بذلك الكلمات المعسولة
والانحناءات الذليلة، وبصبصة الكلاب الحقيرة!
لقد صدر المرسوم بنفي أخيك ونفذ ..
فإذا انحنيت وابتهلت وداهنت حتى تغيره (45)
فسوف أركلك كالكلب من طريقي.
واعلم أن قيصر ليس بظالم
ولا يرضى بحكم يفتقر إلى الدليل الساطع.
ميتيلوس :
أما من صوت أكرم من صوتي
وأحلى وقعا في أذن قيصر العظيم (50)
يستطيع إعادة أخي من منفاه؟
بروتس :
ها أنا ذا أقبل يدك .. لا تملقا لك يا قيصر ..
ولكن كي تسمح لبوبليوس سمبر بالعودة من منفاه
فورا.
قيصر :
ماذا تقول يا بروتس؟
كاشياس :
غفرانك قيصر! يا قيصر غفرانك! (55)
إن كاشياس يخر على قدميه ساجدا
يلتمس العفو لبوبليوس سمبر!
قيصر :
لو أني مثلكم لتأثرت بكلامكم ..
لو كنت أتوسل إلى الناس أن يغيروا آراءهم
لنجح توسلكم في تغيير رأيي ..
ولكني ثابت كالنجم القطبي (60)
لا يضارعه نجم في السماء
في رسوخه وثبات موقعه.
إن السموات مرصعة بما لا يحصى من النجوم
المتلألئة،
كلها من النار، وكلها يسطع
ولكن نجما واحدا بينها لا يغير مكانه .. (65)
وهكذا شأن الأرض .. إنها حافلة بالرجال،
والرجال من لحم ودم، ولهم عقول!
لكنني لا أعرف منهم إلا واحدا
لا يتزحزح عن موقعه ولا تنفذ إليه السهام
ولا يهزه ما يهز الناس، وهو أنا. (70)
فلأثبت لكم ذلك، ولو في هذا الحادث الصغير،
فلقد قر رأيي على نفي سمبر،
وما زال رأيي أن يظل في منفاه.
سنا :
رحماك قيصر!
قيصر :
ابتعد عني! هل تستطيع أن ترفع جبل الأوليمب؟
ديشيوس :
رحماك قيصر المعظم!
قيصر :
أولم يركع بروتس عبثا؟ (75)
كاسكا :
فلتخاطبك يداي إذن! (يطعنون قيصر، فيسقط ويسلم الروح.)
قيصر :
حتى أنت يا بروتس؟ اسقط إذن يا قيصر!
سنا :
الخلاص! الحرية! مات الطغيان!
انطلقوا من هنا فأعلنوا ذلك بأعلى أصواتكم في
الشوارع!
كاشياس :
فليذهب البعض إلى المنابر العامة وليهتف: (80)
الخلاص! الحرية! الانطلاق!
بروتس :
أيها الناس! يا أعضاء مجلس الشيوخ! لا تخافوا!
لا تفروا! اصبروا قليلا واسمعوني:
لقد دفع الرجل ثمن طموحه!
كاسكا :
اذهب إلى المنبر يا بروتس.
ديشيوس :
وليذهب كاشياس أيضا.
بروتس :
أين بوبيليوس؟ (85)
سنا :
هذا هو .. ولكنه مذهول لهول ما حدث!
ميتيلوس :
قفوا صفا واحدا .. كي لا يأتي بعض أصدقاء قيصر ..
وربما نالوا منكم.
بروتس :
لا تذكر الوقوف الآن. لا تبتئس ولا تخف
يا بوبيليوس ..
لا يبغي أحد إيذاءك أو إيذاء أي روماني آخر .. (90)
قل لهم ذلك يا بوبيليوس.
كاشياس :
انصرف الآن يا بوبيليوس؛ إذ ربما اندفع الناس نحونا،
وربما أصابوك بسوء وأنت شيخ هرم.
بروتس :
انصرف يا بوبيليوس، حتى لا يتحمل مسئولية عملنا
أحد غيرنا. (95) (يدخل تريبونيوس.)
كاشياس :
أين أنطونيو؟
تريبونيوس :
عاد إلى منزله في ذهول.
بل إن الرجال والنساء والأطفال في هلع ..
إنهم يحملقون ويصيحون ويجرون
كأن القيامة قامت!
بروتس :
أيتها الأقدار .. إننا لا نعرف بعد ما رسمت لنا!
فأما أننا سنموت فأمر نعرفه ..
وأما انتظار الأجل على امتداد العمر .. فهو الذي يقلق (100)
الإنسان!
كاسكا :
إذن فمن يختزل من عمره عشرين عاما
يكون قد تحرر من خشية الموت عشرين عاما كاملة!
بروتس :
إذا سلمنا بهذا كان الموت نعمة!
وعلى ذلك نكون قد أسدينا خدمة لقيصر
إذ اختزلنا الزمن الذي يقضيه في خشية الموت! (105)
انحنوا أيها الرومان! انحنوا ولنغسل أيدينا في دم قيصر
حتى المرافق. ولنخضب سيوفنا بالدم ثم نخرج إلى
السوق.
فنلوح بأسلحتنا الحمراء فوق رءوسنا جميعا ولنصح: «السلام والحرية والخلاص!» (110)
كاشياس :
انحنوا إذن واغتسلوا! ترى كم من الزمن سيمضي
قبل أن يعاد تمثيل هذا المشهد الجليل
في دول لم تولد بعد، وبلغات لا نعرفها؟!
بروتس :
بل كم مرة سيقدم فيها قيصر على المسرح
وهو ينزف دمه .. تمثيلا لا واقعا ..
بينما يتمدد الآن هنا على قاعدة تمثال بومبي (115)
جثة لا تزيد عن التراب؟!
كاشياس :
وكل مرة يمثل فيها هذا المشهد
سيقال إن عصبتنا هي التي حررت بلادها.
ديشيوس :
هل نخرج الآن؟
كاشياس :
نعم، فليخرج الجميع .. وفي مقدمتنا بروتس،
وسوف نتبعه ونزين موكبه (120)
بأشجع وأكرم قلوب عرفتها روما. (يدخل خادم.)
بروتس :
مهلا. من القادم؟ إنه خادم أنطونيو.
الخادم :
أمرني سيدي يا بروتس أن أركع أمامك هكذا. (يركع.)
هكذا أمرني مارك أنطونيو أن أجثو أمامك،
وأن أقول راكعا: إن بروتس نبيل وحكيم وشجاع
وشريف (125)
وإن قيصر كان قويا وجسورا ومهابا وودودا،
قل إنني أحب بروتس وإنني أجله،
وقل إنني كنت أخشى قيصر وكنت أجله وكنت أحبه،
وإذا سمح بروتس لأنطونيو أن يأتيه آمنا على نفسه (130)
حتى يستمع منه إلى أسباب قتل قيصر ويقتنع بها
فسوف يرى بروتس أن حب أنطونيو له في حياته
يفوق حبه لقيصر بعد مماته.
بل إنه سيسير في ركب بروتس النبيل
فيشاركه ما تأتي به المقادير (135)
ومخاطر الطريق الذي لم تطأه قدم بعد
بكل إخلاص ووفاء.
هذا ما يقوله مولاي أنطونيو!
بروتس :
مولاك روماني حكيم وشجاع.
لم يتغير رأيي فيه يوما ما ..
قل له أن يتفضل بالحضور إلى هذا المكان (140)
حتى أقدم له من الأسباب ما يقنعه ويرضيه،
وقسما بشرفي لينصرفن سالما آمنا.
الخادم :
سأحضره على الفور. (يخرج الخادم.)
بروتس :
أنا واثق أنه سيكون لنا نعم الصديق.
كاشياس :
أرجو ذلك، ولكن عقلي يخشاه كل الخشية ..
ومخاوفي دائما ما تصدق - بكل أسف! (145) (يدخل أنطونيو.)
بروتس :
ها قد أتى أنطونيو .. مرحبا يا مارك أنطونيو.
أنطونيو :
أواه يا قيصر العظيم! هل ترقد هذه الرقدة الوضيعة؟
هل انكمشت كل الفتوحات والأمجاد والانتصارات
والمغانم،
وتضاءلت في هذه الرقعة من الأرض؟ وداعا لك
يا قيصر! (150)
لا علم لي أيها السادة بنواياكم.
من تعتزمون أن تسفكوا دمه بعد ذلك،
أو من ترونه مريضا يحتاج إلى فصد الدم!
أما إن كنت أنا المقصود فلا أنسب لقتلي
من ساعة قتل قيصر! ولا سلاح قتل كسيوفكم (155)
تلك التي كساها الشرف حين اكتست بأشرف دم في
الوجود ..
إني أناشدكم إن كنتم تحملون لي ضغينة
فاقضوا مأربكم الآن .. وأيديكم الملطخة
ما زالت تفوح برائحة الدم ويتصاعد منها الدخان!
ولو عشت ألف سنة فلن أجد لحظة أتمنى فيها الموت (160)
خيرا من هذه اللحظة، ولا مكانا يرضيني
خيرا من جيرة قيصر، ولا وسيلة قتل خيرا من
أيديكم -
يا صفوة هذا العصر وسادته الأخيار.
بروتس :
لا يا أنطونيو! لا تطلب الموت على أيدينا ..
إننا نبدو الآن ولا شك قساة سفاكين للدماء (165)
فأيدينا تدلك على ذلك .. وما فعلناه يقول لك
ذلك ..
ولكنك إن وقفت عند المظهر لم تر إلا أيدينا والدم
المسفوك ..
أما إذا اطلعت على قلوبنا فسترى أنها عامرة بالإشفاق -
فالإشفاق على روما من الظلم الذي وقع بها هو الذي (170)
فعل بقيصر ما فعل،
فإشفاقنا على روما غلب إشفاقنا على قيصر .. مثلما
تغلب النار النار ..
أما أنت يا أنطونيو فسيوفنا إزاءك باردة كالرصاص:
فأيدينا القادرة على البطش (175)
وقلوبنا العامرة بالحب الأخوي تتلقاك بصفو المحبة
وحسن الظن والإجلال.
كاشياس :
سيكون صوتك مساويا لأصواتنا
عند توزيع المناصب العليا الجديدة !
بروتس :
اصبر وحسب حتى نهدئ من ثائرة الجمهور
الذي طاش صوابه من الخوف (180)
وسوف نقدم لك الأسباب التي جعلتنا نسلك هذا
المسلك
وجعلتني أوجه طعنتي إلى قيصر رغم حبي له!
أنطونيو :
لا شك عندي في حكمتكم ..
قدموا إلي أياديكم المخضبة بالدم ..
حتى أصافحكم! (185)
فلأصافحك أولا يا ماركوس بروتس،
ثم أنت يا كاياس كاشياس،
ثم أنت يا ديشيوس بروتس، ثم أنت يا ميتيلوس،
وأنت يا سنا، وأنت أيها المغوار كاسكا،
وأخيرا وليس آخرا في محبتي
أنت يا تريبونيوس الشريف!
أيها السادة جميعا .. وا أسفاه .. ماذا عساي أقول؟ (190)
إن سمعتي الآن تتأرجح في الميزان،
فلا بد أن تتهموني تهمة من تهمتين:
إما بأنني جبان أو بأنني منافق.
أما أنني أحببتك يا قيصر فلا شك في ذلك!
ترى لو أطلت علينا روحك الآن (195)
أفلن يحزنها أكثر من حزنها على الموت
أن تشاهد أنطونيو الذي أحببته يا أنبل إنسان
وهو يعقد الصلح مع أعدائك
ويصافح أصابعهم الدامية
على مشهد من جثتك؟
ليت لي من العيون ما لديك من جراح، (200)
وليت الدمع يتدفق منها غزيرا فياضا مثل دمك،
فهذا أجدر بي من عقد أواصر الصداقة مع أعدائك!
غفرانك يوليوس! لقد استدرجك الصيادون
إلى هذا الركن أيها
الوعل الشجاع فقتلوك!
فهنا سقطت وهنا يقف صائدوك! (205)
عليهم أمارات الفوز بالغنيمة،
وأيديهم مخضبة من نهر دماك!
أيتها الدنيا!
لقد كنت الغابة التي يمرح فيها ذلك الوعل
وكنت منه أيتها الدنيا مكان القلب!
ما أشبهك يا قيصر بالغزال الذي تكاثر عليه الأمراء
فرشقوه بالسهام فارتمى مضرجا بدمه! (210)
كاشياس :
مارك أنطونيو!
أنطونيو :
عفوا يا كاياس كاشياس!
إذا كان أعداء قيصر سيقولون هذا عنه
فما بالك بحبيبه؟
ألا يعتبر اعتدالا مني واقتصادا في القول؟
كاشياس :
أنا لا ألومك على إسرافك في امتداح قيصر (215)
ولكني أسأل وحسب: ماذا ستكون علاقتك بنا؟
هل تريد أن تكون صديقا من أصدقائنا
أم تريدنا أن نمضي في عملنا ولا نعتمد عليك؟
أنطونيو :
ولماذا إذن صافحتكم؟
والحق أنني ما ابتعدت عن مرامي
إلا عندما شاهدت جثة قيصر .
إنني صديق لكم جميعا .. وأحبكم جميعا .. (220)
على أمل واحد،
وهو أن تقدموا لي الأدلة التي تثبت أن قيصر
كان خطرا.
وأن تشرحوا لي مكمن هذا الخطر!
بروتس :
لا بد من ذلك، وإلا كان هذا المشهد وحشيا بشعا ..
إن أسبابنا وجيهة ومقنعة كل الإقناع ..
ولو كنت ابن قيصر نفسه لاقتنعت بها. (225)
أنطونيو :
هذا هو كل ما أرجوه ..
لكني ألتمس أيضا أن تسمحوا لي
أن أنقل جثمانه إلى ساحة السوق
وأرثيه من منبر التأبين في جنازته (230) - كما ينبغي - باسم صداقته.
بروتس :
لك ذلك يا مارك أنطونيو!
كاشياس :
هل تسمح بكلمة على انفراد يا بروتس؟ (يتهامسان على انفراد.)
إنك لا تدري مغبة ما تفعل!
لا تقبل أن يرثيه أنطونيو في الجنازة!
هل تعرف مدى تأثير كلام أنطونيو في نفوس الناس؟ (235)
بروتس :
اسمح لي أن أشرح لك:
سوف أصعد المنبر أولا
فأشرح الدافع على قتل صديقنا قيصر،
أما رثاء أنطونيو فسوف أعلن
أنه يقوله بإذننا ورضانا،
وأننا وافقنا على إجراء شتى طقوس التأبين (240)
والرثاء المشروعة لقيصر ..
وسوف يكون ذلك في صالحنا ولن يسيء إلينا.
كاشياس :
لست أدري ما قد يقع ولكنني غير مرتاح لهذا.
بروتس :
تفضل يا مارك أنطونيو .. خذ جثة صديقك قيصر .. (245)
وحذار أن تنحي علينا باللائمة في خطاب التأبين،
بل اذكر محاسن قيصر فحسب واعرض ما شئت
لمناقبه، وقل إننا سمحنا لك بذلك.
هذا وإلا منعناك من الاشتراك في هذه الجنازة.
ولسوف أدعك تتحدث من نفس المنبر الذي سأقف عليه (250)
بعد انتهاء خطبتي.
أنطونيو :
فليكن. لا أطلب أكثر من هذا.
بروتس :
هيئ الجثة إذن واتبعنا. (يخرج الجميع فيما عدا أنطونيو.)
أنطونيو :
أواه يا بضعة الثرى الدامية!
اغفري لي ليني ورقتي مع هؤلاء الجزارين. (255)
يا أطلال أنبل إنسان عاش على مر الزمن ..
الويل لليد التي سفكت هذا الدم الغالي!
ها هي جروحك كأنها أفواه خرساء تفتح شفاهها (260)
الوردية، سائلة لساني أن ينطق باسمها، ومطالبة
صوتي أن يعلو بحقها!
وها أنا ذا أتنبأ باللعنة التي ستحل بأجساد البشر
حين تضطرم نيران الغضب فيتقاتل الناس في بلادنا،
وتنشب حرب أهلية ضروس في شتى أرجاء إيطاليا ..
تثقل كاهلها، وتسفك الدم، وتشيع الخراب، (265)
وتنشر الأهوال والفظائع .. حتى لا تملك الأمهات
إلا الابتسام حين يرين أبناءهن وأيدي الحرب تمزق
أوصالهم.
فمن يألف القسوة تختنق الرحمة في صدره!
أما روح قيصر فسوف ترفرف تطلب الثأر (270)
وشيطان الخراب بجانبها قادما لتوه من الجحيم!
وسوف تصيح في هذه الربوع بصوت السلطان: «الدمار الدمار!» ثم تطلق كلاب الحرب،
حتى تفوح رائحة هذه الفعلة الشنعاء
في أجواز الفضاء، مع رائحة الجثث التي تئن طلبا (275)
للدفن! (يدخل خادم أوكتافيوس.)
هل أنت من خدم أوكتافيوس قيصر؟
الخادم :
أجل يا مارك أنطونيو!
أنطونيو :
كان قيصر قد كتب إليه يطلب منه الحضور إلى روما.
الخادم :
لقد تلقى رسائله وهو الآن في الطريق ..
وقد طلب مني أن أبلغك شفاهة أن .. «يرى جثة
قيصر». (280)
أواه يا قيصر!
أنطونيو :
لقد فاض قلبك أسى فتفضل وابك بعيدا عني ..
يبدو أن الحزن يعدي .. فحينما رأت عيناي قطرات
الأسى في عينيك طفقت تدمع .. هل قلت إن مولاك (285)
قادم؟
الخادم :
سيقضي الليلة في مكان لا يبعد عن روما إلا سبعة
فراسخ ..
أنطونيو :
عد إليه مسرعا وأخبره بما حدث.
فروما اليوم في حداد، وروما اليوم مكان أخطار
لا مكان أمان لأوكتافيوس. عد مسرعا وقل له ذلك.
لا .. بل انتظر قليلا .. (290)
لا تعد حتى أحمل هذه الجثة إلى ساحة السوق
وأعرف من خطبتي كيف يتلقى الشعب خبر
جناية أولئك السفاحين وغلظتهم ..
وعندها تحمل إلى أوكتافيوس الشاب (295)
أنباء الأحوال هنا. هيا بنا ..
ساعدني في حمل الجثة. (يخرجان حاملين جثة قيصر.)
المشهد الثاني
ساحة الخطابة (يدخل بروتس ويصعد المنبر ومعه كاشياس وحشد من الأهالي.)
الأهالي :
نريد أن نقتنع .. أقنعونا بالدليل .. أقنعونا.
بروتس :
تعالوا معي إذن واستمعوا إلي. وأنت يا كاشياس ..
اذهب إلى الشارع الآخر
وخذ معك نصف الحاضرين.
فليبق هنا من يريد أن يسمعني (5)
وليذهب مع كاشياس من يريد أن يسمعه ..
وسوف نكشف للجميع أسباب موت قيصر.
رجل 1 :
أريد أن أسمع بروتس.
رجل 2 :
وأنا سأسمع كاشياس! ثم نقارن ما يقوله
بما قاله بروتس بعد أن نسمع كلا منهما على حدة (10) (يخرج كاشياس ومعه جانب من الأهالي.)
رجل 3 :
لقد صعد بروتس النبيل إلى المنبر .. الصمت أيها
الناس .. الصمت.
بروتس :
أرجوكم أن تستمعوا إلي حتى أنتهي ..
أيها الرومانيون! يا أبناء وطني وأحبائي! أصغوا إلي
حتى أعرض قضيتي، وأرجو الصمت حتى تسمعوا
ما أقول! كلماتي الصادقة يحدوها شرفي، فاذكروا شرفي (15)
تصدقوني! واحكموا علي بحكمتكم، ولتتفتح أذهانكم
وعقولكم حتى تصدر الحكم الصائب. إن كان في هذا
الحشد من أحب قيصر حبا جما فلأقل له إنني لم أكن
أقل عنه حبا لقيصر .. فإن سألني ذلك الرجل لماذا ثار
بروتس على قيصر، كانت إجابتي هي: إنني قتلته لا (20)
لأن حبي لقيصر
يقل عن حبه، بل لأن حبي لروما يفوق حبه!
أتفضلون أن يحيا قيصر فتموتون عبيدا،
أم أن يموت قيصر فتعيشوا أحرارا؟ لقد أحبني قيصر،
وها أنا ذا أبكيه، وأقبلت الدنيا عليه، فها أنا ذا أغتبط (25)
له، وكان شجاعا فها أنا ذا أكرمه! ولكن الطمع
استولى عليه فقتلته، ها هي دموعي لقاء حبه لي، وها
هو فرحي بإقبال الدنيا عليه، وها هو تكريمي
لشجاعته، وها هو الموت عقابا على طمعه. هل بيننا
وضيع يقبل أن يعيش في نير الاستعباد؟ إن كان بينكم (30)
مثل هذا الرجل فليتكلم .. إذ إنني أسأت إليه بقتل
قيصر .. هل بينكم همجي ينكر انتماءه إلى الرومان؟
إن كان بينكم مثل هذا الرجل فليتكلم .. فلقد أسأت
إليه بقتل قيصر .. هل بينكم وضيع ينكر حبه لوطنه؟
إن كان بينكم مثل هذا الرجل فليتكلم .. فلقد أسأت
إليه بقتل قيصر .. أنا في انتظار الرد. (35)
الجميع :
لا أحد يا بروتس .. لا أحد.
بروتس :
لم أسئ إلى أحد إذن! إنني لم أفعل بقيصر إلا ما أتوقع
منكم أن تفعلوه ببروتس نفسه لو انحرف. أما الدوافع
على قتله فهي مسجلة في وثائق الكابيتول، وهي (40)
لا تنتقص من أمجاده التي كان بها حريا، ولا تغالي في
أخطائه التي استحق الموت من أجلها. (يدخل أنطونيو حاملا جثة قيصر مع الآخرين .)
ها هي جثته يحملها مارك أنطونيو حتى يرثيه ويؤبنه ..
ومع أنه لم يشترك في قتله فسوف ينتفع بموته؛ إذ سيحتل
مكانه اللائق في حكومة الجمهورية الحرة مثل أي فرد
فيكم .. والآن أترككم .. لقد قتلت أعظم أحبائي في (45)
سبيل مصلحة روما، وسوف يظل خنجري مشرعا
حتى تغمدوه في .. إذا ما اقتضت مصلحة وطني أن
أموت!
الجميع :
عاش بروتس! .. عاش! عاش!
رجل 1 :
فلنحمله في موكب النصر حتى منزله! (50)
رجل 2 :
فلنصنع له تمثالا كأسلافه!
رجل 3 :
فلنعينه قيصرا علينا.
رجل 4 :
إنه يتميز بأفضل صفات قيصر ..
فلنتوج بروتس بدلا من قيصر.
رجل 1 :
هيا نحمله إلى منزله بين الهتاف والتصفيق.
بروتس :
أبناء وطني.
رجل 2 :
الصمت .. الهدوء .. بروتس يتكلم. (55)
رجل 1 :
أرجوكم الهدوء.
بروتس :
أبناء وطني الأفاضل! دعوني أرحل وحدي،
وإكراما لخاطري امكثوا هنا مع أنطونيو!
أرجوكم تكريم جثمان قيصر، والاستماع إلى خطبة
التأبين التي سيلقيها أنطونيو عن مناقب قيصر، والتي (60)
سمحنا له بإلقائها.
أتوسل إليكم ألا يرحل أحد من هنا - فيما عداي -
حتى ينتهي أنطونيو من خطبته. (يخرج بروتس.)
رجل 1 :
انتظروا إذن ولنستمع إلى أنطونيو!
رجل 3 :
فليصعد إلى كرسي المنبر (65)
نريد أن نسمعه. اصعد يا أنطونيو النبيل.
أنطونيو :
أشكركم على هذا .. والفضل لبروتس.
رجل 4 :
ماذا يقول عن بروتس؟
رجل 3 :
يقول إنه بفضل بروتس يشكرنا على وقوفنا هنا.
رجل 4 :
أرجو ألا يسيء إلى بروتس الآن! (70)
رجل 1 :
كان قيصر طاغية!
رجل 3 :
لا شك في هذا .. والحمد لله على أن روما تخلصت
منه.
رجل 2 :
أرجوكم الهدوء .. فلنسمع ما سيقوله أنطونيو.
أنطونيو :
أيها الرومان الكرام.
الجميع :
الهدوء .. نريد أن نسمعه!
أنطونيو :
أيها الأصدقاء! أيها الرومان يا أبناء وطني ..
أعيروني أسماعكم! (75)
لقد جئت لدفن قيصر لا للثناء عليه،
إن آثام الناس لا تموت بموتهم ..
أما العمل الصالح فغالبا ما يدفن مع عظامهم.
فليكن هذا موقفنا من قيصر!
قال لكم بروتس النبيل إن قيصر كان طماعا، (80)
لو كان ذلك صحيحا لكان ذنبا عظيما،
ولقد كفر عنه بموته تكفيرا عظيما،
ولقد أتيت هنا بإذن من بروتس وعصبته،
إذ إن بروتس رجل شريف، (85)
وكذلك هم جميعا، كلهم شرفاء!
لقد أتيت لتأبين قيصر في جنازته؛
إذ كان لي صديقا مخلصا منصفا ..
لكن بروتس يقول إنه كان طماعا،
وبروتس رجل شريف.
حين عاد قيصر إلى روما بالعديد من الأسرى (90)
وافتداهم أهلهم بأموال طائلة أودعها قيصر الخزانة
العامة فملأتها!
فهل يدل هذا على طمع في نفسه؟
عندما بكى الفقراء إبان المجاعة
بكى قيصر إشفاقا وألما ..
أفلا يكون الطماع أقسى قلبا وأغلظ نفسا؟
ولكن بروتس يقول إنه كان طماعا، (95)
وبروتس رجل شريف،
لقد شاهدتموني جميعا يوم عيد اللوبريكال
وأنا أعرض عليه التاج الملكي!
لقد عرضته عليه ثلاث مرات
ورفضه ثلاث مرات. هل كان هذا طمعا؟
ولكن بروتس يقول إنه كان طماعا .. (100)
وهو بالتأكيد رجل شريف.
إنني لا أحاول إثبات خطأ ما قاله بروتس،
ولكنني أقول لكم ما أعلمه علم اليقين.
لقد كنتم تحبونه يوما ما، وكنتم محقين في حبكم،
فماذا يمنعكم الآن من تأبينه ورثائه؟ (105)
أين الرأي السديد إذن؟ هل فر إلى الوحوش الكاسرة
فعدم البشر سداد الرأي؟
أرجو بعض الصبر .. إذ إن قلبي في النعش مع
قيصر ولا بد أن أصبر حتى يعود إلي.
رجل 1 :
يبدو أنه على حق فيما يقول. (110)
رجل 2 :
إذا بحثت الأمر بعين العدل
لرأيت الظلم الشديد الذي أصاب قيصر.
رجل 3 :
لا شك في ذلك يا رجال ..
وأخشى أن يخلفه من هو شر منه.
رجل 4 :
أسمعتم ما قال؟ إنه لم يقبل التاج،
وإذن فمن المؤكد أنه لم يكن طماعا. (115)
رجل 1 :
إذا ثبت ذلك فلا بد من الانتقام له.
رجل 2 :
مسكين أنطونيو! عيناه في لون النار من شدة البكاء!
رجل 3 :
لا يوجد في روما من هو أنبل من أنطونيو!
رجل 4 :
التفتوا إليه الآن فقد عاد للكلام!
أنطونيو :
بالأمس فقط كانت كلمة واحدة من فم قيصر (120)
تتحدى العالم كله!
أما الآن فها هو طريح الثرى ..
وأحقر الحقراء أرفع من أن ينحني احتراما له!
أيها السادة! لو أني جئت لأشحذ عقولكم
وأستثير قلوبكم حتى تثوروا وتغضبوا!
لأسأت إلى بروتس، وأسأت إلى كاشياس، (125)
وهما - كما تعرفون جميعا - رجلان شريفان !
وإذن لن أسيء إلى أي منهما، بل إني أوثر
أن أسيء إلى الموتى، وأسيء إلى نفسي، وبل وأسيء
إليكم أنتم،
على أن أسيء إلى مثل هؤلاء الشرفاء!
ولكن في يدي ورقة مختومة بخاتم قيصر (130)
وجدتها في غرفة مكتبه. إنها وصيته!
أرجو المعذرة فلن أقرأها أمامكم؛
إذ لو عرف الأهالي ما في هذه الوصية
لارتموا على قيصر، يقبلون جراحه بعد موته،
ويغمسون مناديلهم في دمه المقدس، (135)
بل لأخذ كل واحد شعرة يذكره بها،
ويثبتها في وصيته عند مماته،
ويحدد من سيرث هذا التراث القيم من أبنائه!
رجل 4 :
نريد أن نسمع الوصية. اقرأها يا مارك أنطونيو. (140)
الجميع :
الوصية! الوصية! نريد أن نسمع وصية قيصر!
أنطونيو :
صبرا أصدقائي الشرفاء! ما ينبغي أن أقرأ الوصية!
إذ ما ينبغي أن تعرفوا مدى حب قيصر لكم ..
فلستم من الخشب، ولستم من الحجارة، بل أنتم
بشر!
وما دمتم من البشر فإن الاستماع إلى وصية قيصر (145)
سوف يلهب مشاعركم، ويطير صوابكم!
الأفضل ألا تعلموا أنكم ورثته!
فلو علمتم ذلك ما ستكون العاقبة؟
رجل 4 :
اقرأ الوصية! نريد أن نسمع الوصية! أنطونيو!
لا بد أن تقرأ لنا الوصية - وصية قيصر! (150)
أنطونيو :
هل تستطيعون الصبر؟ هل تنتظرون قليلا؟
لقد تجاوزت حدودي حين ذكرت الوصية.
وأخشى أن أسيء إلى الشرفاء الذين غرسوا خناجرهم
في صدر قيصر. أخشى ذلك حقا ..
رجل 4 :
لقد كانوا خونة - أولئك الشرفاء! (155)
الجميع :
الوصية .. الوصية!
رجل 2 :
لقد كانوا أوغادا قتلة! الوصية! اقرأ الوصية!
أنطونيو :
هل تجبرونني على قراءة الوصية؟
تحلقوا إذن حول جثمان قيصر .. (160)
حتى أريكم الرجل الذي كتب الوصية.
هل أنزل إليكم من المنبر؟ أتسمحون لي بذلك؟
الجميع :
انزل إلينا إذن. (يهبط أنطونيو من المنبر.)
رجل 4 :
انزل.
رجل 3 :
نسمح لك بالنزول. (165)
رجل 4 :
حلقة! قفوا حول الجثة!
رجل 1 :
بل ابتعدوا عن النعش. ابتعدوا عن الجثة!
رجل 2 :
أفسحوا مكانا لأنطونيو! أشرف الشرفاء أنطونيو!
أنطونيو :
لا لا .. لا تزدحموا هكذا حولي .. ابتعدوا قليلا.
الجميع :
ابتعدوا! أفسحوا مكانا هنا! ابتعدوا للخلف! (170)
أنطونيو :
إن كان لديكم دموع فاستعدوا للبكاء!
تعرفون جميعا هذا الوشاح .
واذكر أول مرة ارتداه قيصر!
كان ذلك مساء يوم من أيام الصيف في خيمته!
في اليوم الذي قهر فيه جيش الترقيين الأشرس! (175)
انظروا! .. من هذا الشق .. اخترق الوشاح خنجر
كاشياس.
وانظروا الشق الذي شقه كاسكا الحقود!
وهنا طعنه بروتس .. الذي أحبه قيصر كل الحب!
وعندما انتزع خنجره اللعين
تدفق الدم في أثره هنا .. انظروا .. (180)
لكأنما خرج من الباب مسرعا ليتأكد
إن كان بروتس حقا هو الذي طرق هذه الطرقة
النكراء!
إذ إن بروتس - كما تعلمون - كان كالملاك في عين
قيصر!
واشهدي أيتها الآلهة
كم كان قيصر يحبه ويعزه!
كانت تلك أقسى الطعنات جميعا! (185)
إذ عندما شاهده قيصر النبيل وهو يطعنه
أحس بالجحود يقهره ..
فالجحود أقوى من أسلحة الخونة ..
وعندما انصدع قلبه الجبار
وسقط قيصر العظيم، وعلى وجهه هذا الوشاح،
على قاعدة تمثال بومبي (190)
الذي أخذ ينزف الدم بلا توقف.
ما أبشع تلك السقطة يا أبناء وطني ..
لقد سقطت عندها وأنتم! سقطنا جميعا عندها!
بينما تباهت الخيانة الدامية فوق رءوسنا!
آه! إنكم تبكون الآن وتشعرون كما أرى (195)
بلذعة الأسى! ما أكرم عبراتكم!
أيها الرحماء الأبرار! أتبكون لرؤية الجروح
التي مزقت رداء قيصر؟ انظروا إذن! (يكشف جسد قيصر.)
ها هو ذا قيصر نفسه وقد مزقه الخونة! (200)
رجل 1 :
يا للمشهد الأليم!
رجل 2 :
يا لليوم المشئوم!
رجل 4 :
يا للخونة! يا للأوغاد!
رجل 1 :
يا لمشهد الجريمة البشعة!
رجل 2 :
سوف ننتقم له! (205)
الجميع :
الانتقام الانتقام! انطلقوا! ابحثوا عنهم! أحرقوهم!
أشعلوا النار! اقتلوا! اذبحوا! لن يعيش خائن بعد
اليوم!
أنطونيو :
بل انتظروا يا أبناء وطني!
رجل 1 :
اسمعوا أنطونيو النبيل!
رجل 2 :
سنسمعه! سنتبعه! سنموت معه! (210)
أنطونيو :
أيها الأصدقاء المخلصون المهذبون!
كيف أدفعكم إلى هذه الثورة العارمة المباغتة؟
إن من ارتكبوا هذه الفعلة شرفاء!
وا أسفاه! لا علم لي بالأحقاد الشخصية (215)
التي دفعتهم إلى ارتكابها! إنهم حكماء وشرفاء
وسوف يعرضون عليكم - لا شك - دوافعهم المقنعة!
أنا لم آت إليكم كي أستولي على مشاعركم،
فلست خطيبا مفوها مثل بروتس
ولكنني - كما تعرفون جميعا - رجل بسيط ساذج (220)
يخلص الحب لصديقه، وهم يعرفون ذلك خير
المعرفة ..
من سمحوا لي أن أتحدث عنه أمامكم!
إنني أفتقر إلى البديهة الحاضرة، والألفاظ المنتقاة
والمكانة المرموقة، وبراعة الأداء،
وحسن الإلقاء، وذلاقة اللسان
التي تثير مشاعر الناس! ولكنني أتحدث عفو الخاطر (225)
وحسب، وأحدثكم عما تعرفونه، وأريكم جراح قيصر
الحنون، تلك الأفواه الخرساء البائسة المسكينة،
وأسألها أن تتحدث نيابة عني!
أما لو كنت أنا بروتس، وكان بروتس هو أنطونيو
لاستطاع أنطونيو أن يلهب نفوسكم غضبا (230)
ويجعل لكل جرح في جثة قيصر لسانا يثير أحجار روما
ويدفعها إلى الغضب والثورة!
الجميع :
الثورة! الثورة!
رجل 1 :
فلنحرق منزل بروتس.
رجل 3 :
هيا بنا إذن! هيا نقبض على المتآمرين!
أنطونيو :
انتظروا يا أبناء وطني! اسمعوني للنهاية! (235)
الجميع :
الصمت والهدوء! اسمعوا أنطونيو .. أشرف الشرفاء
أنطونيو!
أنطونيو :
ما هذا أيها الأصدقاء؟
إنكم لا تعرفون ما تفعلون!
لماذا استحق قيصر منكم كل هذا الحب؟
وا أسفاه! إنكم لا تعرفون!
وإذن فلا بد لي أن أخبركم!
لقد نسيتم الوصية التي أخبرتكم بها. (240)
الجميع :
أجل .. أجل .. نسينا الوصية .. انتظروا حتى نسمع
الوصية!
أنطونيو :
هذه هي الوصية، وهي مختومة بخاتم قيصر!
إنه يوصي لكل مواطن روماني - لكل فرد على حدة -
بخمسة وسبعين درهما!
رجل 2 :
أشرف الشرفاء قيصر! سوف نثأر لموته! (245)
رجل 3 :
حاكمنا المهاب قيصر!
أنطونيو :
صبرا يا إخواني حتى أنتهي.
الجميع :
الصمت والهدوء.
أنطونيو :
كما أوصى لكم بجميع بساتينه ومنتزهاته الخاصة
وحدائقه الحديثة على هذا الجانب من نهر التيبر! (250)
لقد تنازل عنها لكم ولأبنائكم من بعدكم إلى الأبد،
كي تصبح أماكن لهو وسرور،
تروحون فيها عن أنفسكم وتمرحون.
كان هذا هو قيصر! فمتى يجود الزمان بمثله؟
رجل 1 :
محال محال! هيا بنا .. هيا بنا .. (255)
فلنحرق الجثة أولا في المعبد،
وبجذوة من تلك النار
نحرق بيوت الخونة!
هيا ارفعوا الجثة!
رجل 2 :
هات شعلة موقدة!
رجل 3 :
اخلعوا المقاعد الخشبية! (260)
رجل 4 :
اخلعوا الكراسي والشبابيك وكل شيء. (يخرج الأهالي حاملين الجثة.)
أنطونيو :
أرجو أن تفعل كلماتي فعلها في نفوسهم ..
يا رب الخراب لقد صحوت فانطلقت ..
ولا أبالي أي طريق تسلك! (يدخل خادم.)
ماذا وراءك يا غلام؟
الخادم :
سيدي .. لقد وصل أوكتافيوس إلى روما.
أنطونيو :
وأين هو الآن؟ (265)
الخادم :
مع لبيدوس في منزل قيصر.
أنطونيو :
سأتجه لزيارته هناك على الفور،
فلكم تمنيت أن يأتي الآن!
إن ربة الحظ تبتسم لنا .. وطالما ابتسمت
فلن تبخل علينا بشيء!
الخادم :
سمعته يقول إن بروتس وكاشياس (270)
قد انطلقا على متن جواديهما كأنما أصابتهما لوثة
وخرجا من أبواب روما.
أنطونيو :
يبدو أنهما قد سمعا عن ثورة الشعب
وكلماتي التي دفعتهم إلى الثورة!
هيا .. اصحبني إلى أوكتافيوس . (يخرجان.)
المشهد الثالث
شارع في روما (يدخل سنا الشاعر وخلفه بعض الأهالي.)
سنا :
حلمت البارحة أنني في وليمة مع قيصر!
وأشعر بنذر السوء تغشى خيالي!
لم أكن أريد الخروج من المنزل،
ولكن شيئا ما يدفعني على السير في الطرقات!
رجل 1 :
ما اسمك؟ (5)
رجل 2 :
إلى أين تذهب؟
رجل 3 :
أين تسكن؟
رجل 4 :
هل أنت متزوج أم أعزب؟
رجل 2 :
أجب كلا منا إجابة مباشرة.
رجل 1 :
إجابة موجزة. (10)
رجل 4 :
إجابة حكيمة.
رجل 3 :
وإجابة صادقة - لمصلحتك أنت!
سنا :
ما هو اسمي؟ وإلى أين أذهب؟ وأين أقيم؟ هل أنا
متزوج أم أعزب؟ إذا أجبت كلا منكم إجابة مباشرة،
وموجزة وحكيمة وصادقة، فإنني أقول بحكمة إنني
أعزب! (15)
رجل 2 :
أي أنك تتهم من يتزوج بالحمق، وسوف أضربك
عقابا على هذا. هيا إذن .. وأجب إجابة مباشرة.
سنا :
أنا ذاهب مباشرة إلى جنازة قيصر. (20)
رجل 1 :
كصديق أم كعدو؟
سنا :
بل كصديق!
رجل 2 :
لقد أجاب إجابة مباشرة!
رجل 4 :
ومسكنك؟ بإيجاز.
سنا :
بإيجاز .. مسكني بجوار الكابيتول. (25)
رجل 3 :
واسمك يا سيد .. بصدق.
سنا :
بصدق .. اسمي سنا.
رجل 1 :
قطعوه إربا إربا .. إنه من المتآمرين.
سنا :
مزقوه لشعره السخيف .. مزقوه لشعره السخيف! (30)
سنا :
لست سنا المتآمر.
رجل 1 :
لا يهم .. فاسمه سنا .. انزعوا اسمه من قلبه ..
ودعوه يمضي.
رجل 3 :
مزقوا أوصاله .. قطعوه إربا إربا! هاتوا المشاعل .. (35)
أين المشاعل الموقدة؟ هيا إلى منزل بروتس .. هيا إلى
منزل كاشياس! أحرقوا كل شيء! فليذهب البعض
إلى منزل ديشيوس .. وليذهب البعض إلى منزل
كاسكا .. ومنزل ليجاريوس .. هيا .. انطلقوا. (يخرج جميع الأهالي وهم يجرون سنا .)
الفصل الرابع
المشهد الأول (غرفة في منزل أنطونيو - يدخل أنطونيو وأوكتافيوس ولبيدوس.)
أنطونيو :
لقد حكمنا بالموت إذن على كل هؤلاء،
وأشرنا أمام أسمائهم في هذه القائمة!
أوكتافيوس :
ولا بد من قتل أخيك أيضا يا ليبيدوس.
هل توافق على ذلك؟
ليبيدوس :
أوافق.
أوكتافيوس :
أشر أمام اسمه يا أنطونيو.
ليبيدوس :
بشرط أن يقتل ابن أختك يا أنطونيو .. (5)
أقصد بوبيليوس.
أنطونيو :
فليقتل أيضا .. انظروا .. ها هي تأشيرتي أمام
اسمه ..
ولكن .. اذهب الآن إلى منزل قيصر يا ليبيدوس
وأحضر الوصية حتى نقرر كيف نقتصد في إنفاق
التركة.
ليبيدوس :
هل ستكونان هنا عند عودتي؟ (10)
أوكتافيوس :
إما هنا أو في الكابيتول. (يخرج ليبيدوس.)
أنطونيو :
هذا رجل تافه صغير الشأن .. يصلح لقضاء
المشاوير ..
لقد قسمنا العالم اليوم إلى ثلاثة أقسام فيما بيننا ..
فهل من المناسب أن يتساوى معنا
في حكم قسم كامل؟
أوكتافيوس :
لقد كان هذا رأيك أنت .. (15)
بل وأخذت صوته عند تحديد أسماء
الذين حكمنا عليهم بالموت أو النفي.
أنطونيو :
أوكتافيوس! إنني أكبر منك سنا وأكثر خبرة ..
لقد حملنا هذا الرجل أعباء المناصب الرفيعة
حتى نتخفف نحن من أعباء الأقاويل والمفتريات. (20)
ولكنه سيحملها كالحمار الذي يحمل أثقال الذهب
فيئن تعبا ويتصبب عرقا من حملها
سواء كنا نركبه أو نقوده أنى شئنا ..
فإذا حمل كنوزنا إلى حيث نريد
أنزلنا الحمولة وأطلقناه، (25)
فمضى يرعى دون أحمال في الحقول
ويهز أذنيه في هناء!
أوكتافيوس :
افعل ما بدا لك، ولكن صدقني ..
إنه جندي شجاع ذو خبرة وتجربة.
أنطونيو :
وكذلك حصاني يا أوكتافيوس!
ولذا أقدم له الكثير من العلف .. (30)
إنني أعلمه كيف يقاتل ..
كيف يدور على عقبيه،
ومتى يقف، وكيف يكر وكيف يفر!
أي أن عقلي هو الذي يتحكم في حركات جسمه ..
إن ليبيدوس يشبه هذا الحصان إلى حد كبير،
إذ ينبغي تعليمه وتدريبه وأمره بالكر والفر .. (35)
فهو ذو نفس عقيمة، يقتات على الغرائب والعجائب
ومحاكاة أفكار الآخرين بعد أن يلفظوها،
أي إنه لا يقتبس إلا الأفكار البالية الرخيصة
وحسب ..
إنه مجرد أداة من أدوات عملنا ..
والآن يا أوكتافيوس .. أصغ إلي .. فلدي أمر (40)
أهم ..
إن بروتس وكاشياس يحشدان الكتائب،
وعلينا أن نحشد جيشا لمواجهتهما.
ومن ثم نجمع قواتنا في فيلق واحد
مستعينين بأخلص الأصدقاء، ومنتفعين بإمكاناتنا إلى
أقصى حد،
ولنعقد من فورنا مجلسا نناقش فيه سبل كشف الأخطار
الخفية (45)
وأنجع الوسائل لمواجهة الأخطار المباشرة.
أوكتافيوس :
هيا بنا .. فنحن مثل دب مربوط إلى وتد
وحولنا الكلاب من أعدائنا ينبحوننا من كل جانب،
وأخشى أن بعض من يبتسمون لنا (50)
يضمرون في قلوبهم سوء النوايا وآلاف الشرور! (يخرجان.)
المشهد الثاني (معسكر بالقرب من سارديس. أمام خيمة بروتس.) (صوت قرع الطبول - يدخل بروتس ولوشيوس - يلتقي بلوسيلوس على رأس جماعة من جنود بروتس، ويدخل من الناحية الأخرى بنداروس، ثم تيتنيوس.)
بروتس :
قف مكانك!
لوسيلوس (إلى ضابط يليه في الرتبة) :
مرهم أن يقفوا هنا!
بروتس :
ما الخبر يا لوسيلوس؟ هل كاشياس على مقربة منا؟
لوسيلوس :
ليس ببعيد يا مولاي. وقد أتى بنداروس
يقرئك التحية من سيده. (5)
بروتس :
لقد أرسل رسولا كريما بالتحية! إن سيدك يا بنداروس
قد تسبب في وقوع ما لم أكن أتمناه
إما لأن مشاعره نحوي قد تغيرت،
أو لأنه أساء اختيار ضباطه!
ولكنه ما دام قريبا فسوف يفسر لي ما حدث. (10)
بنداروس :
سوف ترى دون شك أن مولاي النبيل لم يتغير ..
وأنه ما زال جديرا بكل احترام وتكريم.
بروتس :
أنا لا أشك في ذلك! لوسيليوس! كلمة على انفراد! (يتحدثان جانبا.)
قل لي بالتفصيل كيف استقبلك كاشياس؟
لوسيليوس :
بالحفاوة والتكريم الواجب، (15)
ولكنه لم يظهر أمارات الود والصداقة،
ولم يشتبك معي في المناقشات الصريحة البشوشة
التي ألفناها منه في الماضي.
بروتس :
لقد وصفت صديقا خبت جذوة حبه ..
اعلم يا لوسيليوس أن الصداقة الحقة (20)
لا تلجأ إلى الحفاوة والتكريم المصطنع
إلا عندما تعتل وتذوي ..
أما الإخلاص النقي الخالص فلا مصانعة فيه
ولا حفاوة ..
ما الأجوف الزائف إلا كحصان يلتهب حماسا في أول
المضمار
وتبدو عليه أمارات الهمة وأصالة المعدن. (صوت الطبول خافتا في الداخل.)
حتى إذا انطلق في الشوط، ونخسه المهماز فأدمى جنبه (25)
خارت قوته وتدلى عنقه ، وسقط في الامتحان
شأن الخيل الخائبة الخادعة!
هل جيشه مقبل؟
لوسيليوس :
يعتزمون قضاء الليلة في سارديس.
وقد أقبل معظم الجيش مع كاشياس
والفرسان بصفة عامة. (يتوقف صوت الطبل.)
بروتس :
هل تسمعون؟ لقد وصل! (30) (يدخل كاشياس وقواده.)
تقدموا على مهل لملاقاته!
كاشياس :
قف مكانك!
بروتس :
مكانك! رددوا الكلمة في الطابور.
جندي 1 :
مكانك!
جندي 2 :
مكانك! (35)
جندي 3 :
مكانك!
كاشياس :
يا أنبل الأشقاء! لقد ظلمتني!
بروتس :
احكمي أيتها الآلهة بيننا! هل أظلم أعدائي؟
إن كنت لا أظلم أعدائي فكيف أظلم أخا لي؟
كاشياس :
بروتس! إن هذا الهدوء الذي تكتسبه يخفي إساءاتك، (40) (يثور) وأنت عندما ترتكبها ...
بروتس (مقاطعا) :
هدئ من روعك يا كاشياس،
قل لي ما تشكو منه بهدوء، فأنا أعرفك خير المعرفة ..
ينبغي ألا نتنازع علنا أمام جنود جيشي وجيشك،
بل ينبغي ألا يروا بيننا إلا الصفاء. (45)
مرهم أن يبتعدوا ثم تعال إلى خيمتي
حتى تشرح لي بالتفصيل ما تشكو منه ولسوف أعيرك أذنا
صاغية.
كاشياس :
بنداروس! مر قوادنا أن يبتعدوا بالجنود
قليلا عن هذه البقعة.
بروتس :
وأنت يا لوشيوس! مر قوادنا نفس الأمر، ولا تدع (50)
رجلا
يقترب من خيمتنا حتى ننتهي من الحديث.
وليقم لوسيليوس وتينيوس على حراسة الباب. (يخرج الجميع.)
المشهد الثالث (داخل خيمة بروتس.)
كاشياس :
لقد أسأت إلي يا بروتس في قضية سأذكرها لك ..
إنك أدنت «لوشيوس بيلا» وشهرت به
لقبوله الرشوة من أهل سارديا هنا،
كما تجاهلت رسائلي التي أتشفع له فيها
لأنني أعرفه. (5)
بروتس :
بل لقد أسأت أنت إلى نفسك بالكتابة إلي في هذه
القضية.
كاشياس :
ليس من المناسب في هذا الوقت العصيب
أن نحاسب الناس على الأخطاء البسيطة.
بروتس :
اسمح لي يا كاشياس .. لكنك أيضا مدان ..
وتهمتك هي المال الحرام .. فأنت تبيع المناصب (10)
إلى من لا يستحقونها وتتاجر فيها بالذهب.
كاشياس :
أنا آخذ المال الحرام؟
لولا أن بروتس هو الذي يقول هذا الكلام - وأقسم
بالآلهة -
لكانت هذه آخر كلماتك.
بروتس :
إن اسم كاشياس يرتبط بهذا الفساد ويجعله مقبولا .. (15)
ومن ثم لا يجرؤ العقاب على كشف وجهه!
كاشياس :
العقاب يا بروتس؟
بروتس :
تذكر مارس! تذكر منتصف مارس!
ألم يمت يوليوس العظيم من أجل العدالة؟
هل كان أحدنا نذلا فطعنه (20)
لهدف آخر غير العدالة؟
أبعد أن قتلنا أعظم رجل في هذا العالم
لأنه كان يساند اللصوص، نقبل أن نلوث أصابعنا
بالرشا الحقيرة، وأن نبيع المناصب الرفيعة السامية (25)
بحفنة من النقود في مثل هذه القبضة؟
إني لأوثر أن أكون كلبا،
وأن أنبح القمر طول الليل على أن أكون ذلك
الروماني!
كاشياس :
بروتس! لا تحرجني أكثر من ذلك .. فلن أحتمل
المزيد!
إنك تنسى نفسك حين تتصدى للحد من حريتي، (30)
فأنا جندي أقدم مراسا وأقدر منك على تدبير الأمور.
بروتس :
بل لست كذلك يا كاشياس.
كاشياس :
بل أنا كما أقول.
بروتس :
وأنا أقول إنك لست كذلك.
كاشياس :
لا تستفزني يا بروتس، وإلا نسيت نفسي .. (35)
فكر في مصلحتك وسلامتك .. كفاك استفزازا.
كاشياس :
هل هذا معقول؟
بروتس :
اسمعني، فسوف أفصح عما بنفسي ..
هل ينبغي علي أن أستسلم لسورة طيشك وغضبك؟
وهل أخاف إذا حدق في وجهي رجل مجنون؟ (40)
كاشياس :
أيتها الآلهة! أيتها الآلهة! أيجب علي أن أتحمل كل
هذا؟
بروتس :
كل هذا؟ وأكثر من هذا! فلتغضب حتى ينصدع قلبك
المتعجرف،
ثم اذهب واعرض على عبيدك مقدار غضبك،
واجعلهم يرتعدون خوفا ورعبا!
أتريد أن أتراجع أمامك أو أن أنحني إجلالا وإكبارا؟
أم تريدني أن أقبع في هلع من تقلبات مزاجك؟ (45)
قسما بالآلهة لأجعلنك تتجرع سموم غيظك
حتى ولو مزقتك تمزيقا .. واسمع .. من الان فصاعدا
سوف أتخذك هزؤة .. بل سأضحك عليك ..
كلما لجأت إلى الألفاظ اللاذعة!
كاشياس :
هل وصل الأمر إلى هذا الحد؟ (50)
بروتس :
تقول إنك جندي أفضل؟
هيا .. أثبت ذلك .. أرني مصداق تفاخرك ..
وسوف يسرني هذا غاية السرور .. فأنا من ناحيتي
أحب أن أتعلم من النبلاء!
كاشياس :
إنك تظلمني ظلما فادحا .. لقد ظلمتني يا بروتس .. (55)
لقد قلت إنني جندي أقدم .. ولم أقل أفضل ..
هل قلت أفضل؟
بروتس :
ولو كنت قلتها فلا يهم.
كاشياس :
لو كان قيصر حيا ما جرؤ على إثارتي هكذا!
بروتس :
مهلا مهلا .. بل ما جرؤت أنت على استفزازه.
كاشياس :
ما كنت أجرؤ أنا؟ (60)
بروتس :
أجل!
كاشياس :
هل تعني ما كنت أجرؤ على استفزازه؟
بروتس :
ما كنت تجرؤ خوفا على حياتك!
كاشياس :
لا تتصور أن حبي لك سيحميك إلى الأبد!
فقد تدفعني إلى فعل ما أندم عليه!
بروتس :
لقد فعلت ما ينبغي أن تندم عليه بالفعل! (65)
إن وعيدك أجوف وهو لا يخيفني يا كاشياس ..
فإن درع الشرف الذي أحمله قوي منيع،
وتمر به تهديداتك كالريح الخاملة التي لا أحفل بها ..
لقد أرسلت إليك أطلب بعض الذهب ..
ولكنك رفضت أن تدفع! (70)
فأنا لا أستطيع الحصول على المال بالوسائل الدنسة!
قسما بالآلهة! إني لأوثر أن أجعل من قلبي نقودا
ومن قطرات دمي دراهم،
على أن أنتزع من أيدي الفلاحين الخشنة أموالهم
الهزيلة
بأي وسيلة غير شريفة. لقد أرسلت إليك أطلب
الذهب (75)
حتى أدفع رواتب الجنود .. ولكنك حبسته عني ..
هل كان ذلك يليق بكاشياس؟ ولو كنت أنت الذي
طلب ذلك،
أفكنت أجيب كايوس كاشياس مثل هذه الإجابة؟
إذا بلغ الجشع بماركوس بروتس
أن يحبس عن أصدقائه تلك القطع المعدنية التافهة (80)
فتأهبي أيتها الآلهة واحشدي كل الصواعق
كي تمزقيه شر ممزق!
كاشياس :
لم أحبس عنك المال.
بروتس :
بل حبسته عني.
كاشياس :
بل لم أحبسه! وإنما أخطأ ذلك الأبله الذي حمل
إليك جوابي ..
بروتس! لقد مزقت نياط قلبي!
إن على الصديق أن يغفر هفوات صديقه (85)
أما بروتس فهو يضخمها ويبالغ فيها.
بروتس :
أنا لا أضخمها، ولكنها تنصب على رأسي فأراها.
كاشياس :
أنت لا تحبني.
بروتس :
بل لا أحب أخطاءك.
كاشياس :
عين الصديق لا ترى مثل هذه الأخطاء.
بروتس :
بل عين المنافق هي التي لا تراها، (90)
ولو كانت في ضخامة جبل الأوليمب.
كاشياس :
أقبل إذن يا أنطونيو! أقبل يا أوكتافيوس الشاب ..
هيا .. انتقما من كاشياس وحده ..
فقد سئم كاشياس تصاريف الحياة،
إذ يكرهه حبيبه، ويؤنبه، (95)
بل ويقرعه تقريع العبيد، فهو يرصد أخطاءه
ويدونها في كتاب لديه، بل يحفظها عن ظهر قلب
حتى يلقي بها في وجهي. آه! لكأنني أبكي
فأذرف رجولتي دمعا من عيني! هذا خنجري،
وهذا صدري العاري! في داخله قلب (100)
أغلى لدي من كنوز إله المال،
وأثمن من الذهب الإبريز ..
هيا انتزعه إن كنت رومانيا صادقا ..
إن من أنكر عليك الذهب - حسبما تزعم -
يهبك الآن قلبه!
هيا .. اطعن كما طعنت قيصر،
فأنا واثق أنك في حمأة كراهيتك له،
كنت تكن له حبا (105)
يفوق حبك لكاشياس في أي يوم من الأيام.
بروتس :
أعد خنجرك إلى غمده!
اغضب حينما تشاء وأطلق لغضبك العنان!
بل افعل ما تشاء، فلن آخذ إهاناتك مأخذ الجد ..
بل سأعتبرها نزوات عابرة ..
إن صاحبك يا كاشياس حمل لا يحمل الغضب في نفسه
إلا كما يحمل حجر الصوان شرارة النار!
فإذا قدحته بشدة انطق الشرار كلمح البصر (110)
ثم عاد باردا على الفور.
كاشياس :
هل عاش كاشياس حتى يهزأ به
صديقه بروتس، ويضحك منه
عندما يعتريه الأسى ويتكدر مزاجه؟
بروتس :
كان مزاجي متكدرا أنا أيضا عندما قلت ذلك! (115)
كاشياس :
ما دمت اعترفت بذلك .. هات يدك.
بروتس :
بل وقلبي أيضا!
كاشياس :
إيه يا بروتس!
بروتس :
ماذا حدث لنا؟
كاشياس :
أما لديك من الحب ما يكفي لاحتمال تهوري وطيشي؟
إنه طبع ورثته عن والدتي .. وهو ينسيني نفسي!
بروتس :
بلى يا كاشياس! ومنذ الآن .. إذا تهورت على صديقك
بروتس (120)
فسوف يقول إن والدتك هي التي تهورت ..
ثم يتركك حتى تهدأ!
الشاعر (من خارج المسرح) :
أدخلوني حتى أقابل القائدين ..
إن بينهما نزاعا ولا ينبغي أن يتركا وحدهما. (125)
لوسيليوس (من خارج المسرح) :
لن أسمح بالدخول.
الشاعر (من خارج المسرح) :
لن يحول بيننا الموت! (يدخل الشاعر يتبعه لوسيليوس وتيتنيوس ولوشيوس.)
كاشياس :
ما هذا؟ ماذا حدث؟
الشاعر :
عار عليكما أيها القائدان! ما معنى هذا الشجار؟
أين الحب وأين صداقة أمثالكما؟ (130)
استمعا لي ..
فسنون حياتي أطول من عمركما!
كاشياس (يضحك) :
ها ها .. ما أسخف شعر هذا الوقح!
بروتس :
اخرج أيها السفيه! اخرج أيها البذيء من هنا!
كاشياس :
لا تغضب منه يا بروتس، فهذا هو أسلوبه.
بروتس :
أنا أقبل أسلوبه إذا استخدمه في الوقت المناسب .. (135)
ولكننا في زمن حرب .. ولا شأن لهؤلاء الشعراء
الحمقى بالحرب!
اخرج أيها الرجل من هنا .. هيا!
كاشياس :
اخرج .. هيا .. انصرف! (يخرج الشاعر.)
بروتس :
أنت يا لوسيليوس .. وأنت يا تيتنيوس!
مروا القواد أن يستعدوا لمبيت كتائبهم الليلة.
كاشياس :
وتعالا أنتما .. وأحضرا ميسالا معكما فورا. (140) (يخرج لوسيليوس وتيتنيوس.)
بروتس :
أحضر لنا قدحا من النبيذ يا لوشيوس! (يخرج لوشيوس.)
كاشياس :
آه يا كاشياس! لقد تكاثرت علي الهموم فأضنتني.
كاشياس :
ما فائدة فلسفتك الرواقية إذن؟
ينبغي ألا تجزع للكروب العارضة! (145)
أنا أقدر من يحتمل الكرب .. لقد ماتت بورشيا.
كاشياس :
ماذا؟ بورشيا؟
بروتس :
ماتت.
كاشياس :
كيف نجوت من القتل إذن وأنا أعارضك بمثل هذه الحدة؟
يا للخسارة الفادحة التي لا تحتمل! (150)
وبأي مرضت ماتت؟
بروتس :
ضاقت ذرعا بغيابي وفزعت لاشتداد قوة الشاب أوكتافيوس
وأنطونيو .. إذ أتاني نعيها مع أنباء اشتداد سواعدهما ..
وإذ ذاك طاش صوابها، وانتهزت فرصة غياب الخدم
فابتلعت جمرة موقدة. (155)
كاشياس :
وهكذا ماتت؟
بروتس :
هكذا!
كاشياس :
الخلود للآلهة فحسب! (يدخل الغلام لوشيوس يحمل نبيذا وشمعا.)
بروتس :
كفى حديثا عنها. هات قدح النبيذ،
فسوف أغرق فيه كل قسوة عانيتها منك يا كاشياس. (يشرب.)
كاشياس :
إن قلبي ظامئ إلى ذلك العهد الكريم!
أترع الكأس يا لوشيوس حتى يفيض .. (160)
فأنا لا أرتوي مهما شربت من محبة بروتس. (يدخل تيتنيوس وميسالا.)
بروتس :
تفضل يا تيتنيوس! أهلا بك يا ميسالا الكريم ..
فلنجلس هنا حول هذه الشمعة
ونناقش ما ينبغي أن نفعل.
كاشياس :
أواه يا بورشيا! ترى رحلت حقا؟
بروتس :
يكفي ذلك أرجوك .. (165)
ميسالا! لقد تلقيت هذه الرسائل
وهي تقول إن أوكتافيوس الشاب ومارك أنطونيو
قد جمعا جيشا جرارا لملاقاتنا،
وإنهما يتجهان نحو منطقة فيليبي.
ميسالا :
ولدي رسائل تقول نفس الكلام. (170)
بروتس :
أفلا تضيف أنباء أخرى؟
ميسالا :
تقول إن أوكتافيوس وأنطونيو ولبيدوس
قد أصدروا أحكاما بالإدانة والخروج على القانون،
ومن ثم أعدموا مائة عضو من أعضاء مجلس الشيوخ.
بروتس :
في هذا تختلف رسائلي عن رسائلك؛ (175)
إذ تشير رسائلي إلى إعدام سبعين فقط
بمقتضى تلك الأحكام - من بينهم شيشرون.
كاشياس :
شيشرون من بينهم؟
ميسالا :
لقد أعدم شيشرون بمقتضى حكم الإدانة ..
هل تلقيت رسائل من زوجتك يا مولاي؟ (180)
بروتس :
لا يا ميسالا.
ميسالا :
أفلا تذكر رسائلك شيئا عنها؟
بروتس :
لا شيء على الإطلاق.
ميسالا :
هذا غريب!
بروتس :
ولماذا تسأل؟ هل علمت من رسائلك شيئا عنها؟
ميسالا :
لا يا مولاي. (185)
بروتس :
قل لي بحق انتمائك إلى هذا الوطن .. أصدقني القول.
ميسالا :
بل أثبت أنك روماني وتحمل الحقيقة التي سأرويها لك ..
لقد ماتت بورشيا وعلى نحو غريب.
بروتس :
الرحمة لك يا بورشيا، ووداعا لك ..
لا مهرب لنا من الموت يا ميسالا ..
كنت أعلم أنها - كشأن كل حي - ستموت يوما ما، (190)
وهذا يهبني الصبر على هذه الكارثة.
ميسالا :
لا يحتمل الشدائد إلا الأشداء!
كاشياس :
لقد تعلمت هذه الفلسفة مثلك يا بروتس،
ولكن طبيعتي تأبى علي احتمال الكارثة مثلك.
بروتس :
هيا إذن نتدارس شئون الحياة. ما رأيك في السير فورا (195)
إلى فيليبي؟
كاشياس :
لا أراه رأيا صائبا.
بروتس :
ولماذا؟
كاشياس :
الأفضل أن يأتي العدو في طلبنا
فيبدد عدته وينهك جنوده وتنال منه الرحلة،
أما نحن فنربض في انتظاره، متأهبين للدفاع، (200)
زاخرين بالقوة والحيوية.
بروتس :
أسباب وجيهة .. ولدي أوجه منها وأحرى بالنظر ..
إن سكان المناطق الواقعة بيننا وبين فيليبي
يقبلوننا على مضض؛ إذ إنهم رفضوا إمدادنا بالرجال (205)
والعتاد، فإذا ما مر العدو بهم، انضم إلى صفوفه الكثيرون
منهم، فازداد عددا وزادا وحماسا لملاقاتنا.
وهذه مزية نسلبه منها إن نحن واجهناه في فيليبي (210)
وقد خلفنا هؤلاء وراء ظهورنا.
كاشياس :
استمع إلي أيها الأخ الكريم.
بروتس :
اسمح لي أن أكمل حديثي.
ينبغي أن تأخذ في اعتبارك أيضا
أننا استفدنا كل معونة من الأصدقاء،
فكتائبنا زاخرة مفعمة، واستعدادنا كامل!
إن عدونا تزداد أعداده كل يوم، (215)
أما نحن فقد وصلنا إلى الذروة،
ومن يصل إلى الذروة يبدأ الانحدار.
في حياة الإنسان ساعة يعلو فيها مد البحر أمامه:
فإن اغتنمها وصل إلى شاطئ السعد،
وإن ضيعها انتهت به رحلة الحياة إلى مياه ضحلة، (220)
فجنحت سفينته وذاق ألوان الشقاء.
إن شراعنا يبحر الآن في بحر العباب،
وينبغي أن نغتنم التيار المواتي
وإلا خسرنا تجارتنا.
كاشياس :
فليكن ما تريد ولتمض إليهم،
وسوف نمضي نحن كذلك ونلاقيهم في فيليبي.
بروتس :
لقد أوغل بنا الحديث في الهزيع الأخير، (225)
والنوم ضرورة لا مناص من قضائها،
لكننا سنقتصر على قليل من الراحة.
هل انتهى حديثنا هنا؟
كاشياس :
نعم. عمت مساء.
سنصحو مبكرين غدا وننطلق.
بروتس :
لوشيوس! (يدخل لوشيوس.)
أحضر جلباب المنزل. (يخرج لوشيوس.)
وداعا يا ميسالا الكريم. عمت مساء تيتنيوس، (230)
وأنت يا كاشياس .. يا أيها النبيل الحق - عم مساء ..
ونوما هانئا.
كاشياس :
أواه يا أخي الحبيب! ما أسوأ ما بدأنا هذه الليلة!
ليتنا لا نعود إلى هذا الشقاق أبدا! (يدخل لوشيوس حاملا الجلباب.)
بروتس :
كل شيء على ما يرام. (235)
كاشياس :
عمت مساء يا مولاي.
بروتس :
عمت مساء أيها الأخ الكريم.
تيتنيوس وميسالا :
عمت مساء مولاي بروتس.
بروتس :
الوداع للجميع. (يخرج كاشياس وتيتنيوس وميسالا.)
أعطني الجلباب. أين قيثارتك؟
لوشيوس :
هنا في الخيمة.
بروتس :
عجبا .. صوتك صوت من يغالب النوم!
مسكين يا غلامي العزيز! معذور!
لقد سهرت أكثر مما ينبغي! ناد كلوديوس وبعض الآخرين (240)
من رجالي .. أريدهم أن يناموا الليل على بعض الوسائد
في خيمتي!
لوشيوس :
فارو! كلوديوس! (يدخل فارو وكلوديوس.)
فارو :
مولاي ينادي؟
بروتس :
أرجوكما أن تناما في خيمتي. (245)
فربما أيقظتكما بعد قليل.
لتحملا رسالة إلى أخي كاشياس.
فارو :
إن أردت يا مولاي .. سهرنا حتى نتلقى الأمر منك.
بروتس :
لا لا .. بل ناما أيها الكريمان.
إذ ربما عدلت عن رأيي. (250) (ينام فارو وكلوديوس.)
انظر يا لوشيوس! هذا هو الكتاب الذي كنت أبحث عنه!
كان في جيب جلبابي!
لوشيوس :
كنت واثقا أنك لم تعطه لي يا مولاي!
بروتس :
أرجو أن تحتملني أيها الغلام الطيب .. فأنا كثير النسيان ..
ألا يمكن أن تجبر عينيك المرهقتين على السهر قليلا (255)
حتى تعزف لي لحنا أو لحنين؟
لوشيوس :
بلى يا مولاي .. إن كان في هذا سرورك.
بروتس :
بل يسرني يا غلامي الحبيب .. إنني أجهدك أكثر مما ينبغي ..
ولكنك لا تمانع.
لوشيوس :
إنه واجبي يا سيدي.
بروتس :
ينبغي ألا أكلفك بواجب فوق طاقتك .. (260)
واعلم أن أجساد الشباب تحتاج إلى النوم.
لوشيوس :
ولكنني نمت من قبل يا مولاي.
بروتس :
حسنا فعلت يا بني .. ولكنك تحتاج إلى المزيد ..
لن أستبقيك طويلا .. وإن كتبت لي الحياة
فسأكون بك بارا كريما. (265) (موسيقى وأغنية.)
هذا لحن يبعث على النوم! أيها النوم القاتل!
هل تلمس كتف غلامي بصولجانك الرصاصي
حتى وهو يعزف لك الموسيقى؟ أيها الغلام الرقيق!
عم مساء! لن أسيء إليك فأوقظك ..
لكنك إن أطرقت برأسك كسرت القيثارة .. (270)
سآخذها منك إذن! ولتهنأ بالنوم أيها الغلام الطيب!
أين الصفحة التي وقفت عندها؟ كنت قد طويت طرفها
فيما أذكر؟ هذه هي على ما أظن! (يدخل شبح قيصر.)
ما أضعف نور هذه الشمعة! ها! من ذلك القادم؟
أظن أن ضعف عيني (275)
هو الذي يصور لي هذا الشبح الفظيع!
إنه يتقدم نحوي! هل أنت إنسان؟
هل أنت إله أو ملاك أو شيطان؟
يا من برد لمرآك دمي، ووقف شعر رأسي!
تكلم وقل لي من أنت؟ (280)
الشبح :
روحك الشريرة يا بروتس.
بروتس :
لماذا أتيت؟
الشبح :
لأقول لك إنك ستراني في فيليبي.
بروتس :
تعني أنني سأراك ثانيا؟
الشبح :
نعم .. في فيليبي.
بروتس :
فليكن! سأراك في فيليبي إذن! (285) (يخرج الشبح.)
لقد اختفيت عندما استعدت رباطة جأشي!
أيها الروح الشرير! كنت أود أن يطول حديثنا!
أيها الغلام لوشيوس! فارو! كلوديوس! أيها السادة!
استيقظوا!
كلوديوس!
لوشيوس (صائحا) :
الأوتار يا مولاي غير مضبوطة. (290)
بروتس :
يظن أنه ما زال يعزف القيثارة ..
لوشيوس! اصح يا لوشيوس!
لوشيوس :
مولاي؟
بروتس :
هل كنت تحلم يا لوشيوس عندما صرخت هكذا؟
لوشيوس :
مولاي! لا أدري إذا كنت صرخت. (295)
بروتس :
بل صرخت حقا .. قل لي هل رأيت شيئا؟
لوشيوس :
لم أر شيئا يا مولاي.
بروتس :
عد إلى النوم يا لوشيوس. وأنت يا كلوديوس ..
أنت يا من هناك .. قم من النوم!
كلوديوس :
مولاي!
بروتس :
لماذا صرختما في منامكما؟ (300)
فارو وكلوديوس :
وهل صرخنا يا مولاي؟
بروتس :
نعم .. هل رأيتما أي شيء؟
فارو :
لا يا مولاي. لم أر شيئا.
كلوديوس :
ولا أنا يا مولاي.
بروتس :
اذهبا فأبلغا سلامي إلى أخي كاشياس
واطلبا أن يخرج بجيشه مبكرا قبلنا،
وسوف نخرج خلفه.
فارو وكلوديوس :
سمعا وطاعة يا مولاي. (305) (يخرج الجميع.)
الفصل الخامس
المشهد الأول (سهول فيليبي.) (يدخل أوكتافيوس وأنطونيو وجيشهما.)
أوكتافيوس :
تحققت آمالنا يا أنطونيو.
قلت إن جنود العدو لن تنزل إلى السهول،
بل ستعتصم بالتلال والمرتفعات!
واتضح الآن غير ذلك؛ إذ اقتربت جيوشهم
ويعتزمون أن يشتبكوا معنا هنا في فيليبي، (5)
وأن يجيبونا قبل أن نسأل!
أنطونيو :
أعرف ما في نفوسهم، وسأشرح لك سبب هذه المبادأة!
إنهم خائفون ويتمنون لو لم يكونوا هنا!
ولكنهم يقبلون علينا وقد اكتسوا أبهى حللهم وعدتهم (10)
كي يخفوا ما في نفوسهم من وجل! إنهم يتصورون
أن هذا المظهر البراق سيوهمنا أنهم شجعان،
ولكن هيهات! (يدخل رسول.)
الرسول :
استعدا أيها القائدان.
إن العدو يتقدم نحونا في مظهر رائع مهيب،
وراية القتال الحمراء تخفق فوق رءوسهم،
فلا بد أنهم سيلتحمون معنا على الفور! (15)
أنطونيو :
خذ جيشك يا أوكتافيوس وتقدم ببطء
على الجانب الأيسر من هذا السهل.
أوكتافيوس :
بل سأتقدم على الجانب الأيمن، والزم أنت الجانب
الأيسر.
أنطونيو :
لماذا تعارضني في هذا الظرف الحرج؟
أوكتافيوس :
أنا لا أعارضك .. ولكنني سأفعل ما قلته لك. (20) (صوت طبل.) (يبدآن المسير.) (يدخل بروتس وكاشياس وجنودهما.) (يدخل لوسيليوس، وتيتنيوس وميسالا وغيرهم.)
بروتس :
لقد توقفا ويرغبان في الحديث.
كاشياس :
أوقف السير يا تيتنيوس، فسوف نخرج للحديث معهما.
أوكتافيوس :
مارك أنطونيو! هل نرفع راية القتال؟
أنطونيو :
لا يا قيصر! بل نقاتل عندما يهجمون،
تقدم معي، فقوادهم يريدون الحديث معنا. (25)
أوكتافيوس (إلى الجنود) :
لا تتحركوا إلا عند الإشارة.
بروتس :
هل نتبادل الكلمات قبل الطعنات؟
أهذا ما تريدونه يا أبناء الوطن؟
أوكتافيوس :
لا لأننا نؤثر الكلمات على الطعنات - كشأنك!
بروتس :
الكلمات الطيبة خير من الضربات الخبيثة
يا أوكتافيوس!
أنطونيو :
إنك تتفوه بكلمات طيبة وأنت تضرب ضرباتك (30)
الخبيثة ..
أتذكر يا بروتس تلك الطعنة التي اخترقت قلب قيصر؟
أما هتفت عندها «عاش قيصر، يحيا قيصر»؟!
كاشياس :
إننا نجهل لون طعناتك يا أنطونيو،
ولكننا نعرف أن كلماتك المعسولة
تسرق الشهد من نحل «هيبلا». (35)
أنطونيو :
وتسرق أشواكه اللاذعة؟
بروتس :
بل وتسرق صوته أيضا!
فإنك يا أنطونيو تطن طنينا عاليا
وتهددنا بالكلام
لعلمك أن لذعك لن يجدي!
أنطونيو :
أيها الأشرار! هذا أفضل مما فعلتم
عندما اصطكت خناجركم الدنسة وهي تطعن قيصر! (40)
لقد افترت شفاهكم عن النواجذ مثل القردة السعيدة،
وبصبصتم بأذيالكم كالكلاب الذليلة،
وجثوتم كالعبيد تلثمون أقدام قيصر!
بينما جاء كاسكا الملعون من خلف قيصر كالكلب الحقير
فطعنه في رقبته! ويل لكم أيها المنافقون!
كاشياس :
المنافقون؟ (إلى بروتس) هنئ الآن نفسك يا بروتس! (45)
فلو كنت استمعت لنصحي وقتلنا أنطونيو
ما كان هذا اللسان ليتطاول علينا اليوم!
أوكتافيوس :
هيا هيا إلى المعركة!
إذا كانت المناقشة تجعلنا نتصبب عرقا
فإثبات قضيتنا سيحيله قطرات من الدم القاني!
انظر! ها أنا ذا أسل سيفي على المتآمرين! (50)
أتعرفون متى يعود السيف إلى غمده؟
لن يعود حتى نثأر حق الثأر لجراح قيصر ..
لثلاث وثلاثين طعنة في جسد قيصر ..
أو حتى أهلك أنا .. واسمي أيضا قيصر ..
بسيوف الخونة! (55)
بروتس :
لن تموت يا قيصر على أيدي الخونة
إلا إذا كنت قد أتيت بها معك.
أوكتافيوس :
هذا ما أرجوه!
إذ إني لم أولد لأموت بسيف بروتس!
بروتس :
حتى لو كنت أنبل سلالتك أيها الشاب الغرير
فلن تحظى بميتة أشرف من مثلها! (60)
كاشياس :
تلميذ أخرق! لا يستحق هذا الشرف ..
انضم إليه راقص عربيد!
أنطونيو :
كاشياس ما زال كما هو .. لم يتغير!
أوكتافيوس :
هيا بنا يا أنطونيو! هيا بنا!
إننا نتحداكم أيها الخونة في وجوهكم،
فإن كنتم تجرءون على القتال فهيا إلى الميدان اليوم - (65)
أو عندما تواتيكم الرغبة! (يخرج أنطونيو وأوكتافيوس وجنودهما.)
كاشياس :
آن أوان الجد فاعصفي يا رياح وارتفعي أيتها الأمواج
وأبحري يا سفن!
لقد هبت العاصفة، وكل شيء يركب الخطر!
بروتس :
انتظر يا لوسيليوس أريد أن أحادثك على انفراد.
لوسيليوس (يتقدم منه) :
مولاي؟ (70) (بروتس ولوسيليوس يتحدثان على انفراد.)
كاشياس :
ميسالا.
ميسالا (يتقدم منه) :
ماذا يقول القائد؟
كاشياس :
ميسالا! هذا عيد ميلادي! في مثل هذا اليوم
ولد كاشياس. هات يدك يا ميسالا.
اشهد على أنني أخوض القتال مكرها
مثلما فعل بومبي .. لأنني بذلك أجعل حرياتنا جميعا (75)
رهنا بنتيجة معركة واحدة.
تعلم أنني طالما تمسكت بفلسفة أبيقور وأفكاره،
ولكنني اليوم أعدل عن رأيي وأومن إلى حد ما
بما يبشر وبما ينذر!
وقد حدث
ونحن قادمون من سارديس (80)
أن حط عقابان جباران
على بعض راياتنا الأمامية
فجثما وجعلا يلتهمان الطعام التهاما
من أيدي جنودنا .. ورافقانا حتى وصلنا فيليبي ..
وعندما نظرت هذا الصباح إذا هما قد طارا وغابا ..
بينما جعلت الغربان والحدأ تحلق فوق رءوسنا (85)
وترمقنا من عل كأننا فريسة مريضة
اقترب موعد التهامها، وكأن ظلال الطيور
قبة الهلاك .. يرقد تحتها جنودنا
وقد أوشكوا أن يجودوا بالأرواح!
ميسالا :
كيف تؤمن بهذا يا مولاي؟ (90)
كاشياس :
أنا لا أومن إلا بجانب منها،
فصدري منشرح، وقد عقدت العزم
على مقارعة الأخطار صامدا ثابت القدم. (يكون بروتس حتى انتهى من الحديث مع لوسيليوس ونسمع آخر عباراته.)
بروتس :
بل هكذا يا لوسيليوس.
كاشياس :
والآن يا أشرف الشرفاء! بروتس!
ابتهل إلى الآلهة أن تؤازرنا
حتى يكتب لنا طول العمر
وتدوم صداقتنا الحميمة وقت السلم .. (95)
ولكن أمور البشر دائما في علم الغيب؛
ولذلك فلنفترض أسوأ ما قد يحدث.
إذا خسرنا هذه الموقعة وكان هذا آخر حديث بيننا
فما الذي تعتزم فعله؟ (100)
بروتس :
أنا من أتباع الفلسفة الرواقية،
وقد انتقدت «كاتو» على انتحاره!
لا أستطيع تحديد الأسباب،
ولكنني أعتبر أن من يستبق الأجل
خوفا مما يقع له، جبان وضيع؛ (105)
ولذلك سوف أتذرع بالصبر،
وأفوض أمري إلى القوى العلوية التي ترعانا
وتتحكم في مصائرنا على الأرض.
كاشياس :
فإذا خسرنا هذه المعركة إذن
هل ترضى أن تساق في موكب النصر
في شوارع روما؟ (110)
بروتس :
لا يا كاشياس، لا! كيف تتصور أيها النبيل الروماني
أن يعود بروتس
إلى روما مغلولا في الأصفاد؟
محال أن تسمح له نفسه الشريفة بهذا!
إن علينا اليوم أن ننتهي مما شرعنا فيه يوم منتصف
مارس!
ولا أدري إن كنا سنلتقي ثانية أم لا. (115)
فلنتبادل وداعنا الأخير الآن ..
وداعا إلى الأبد يا كاشياس .. وداعا إلى الأبد!
فإذا التقينا ثانية سررنا وفرحنا،
وإذا لم نلتق نكون قد افترقنا على خير وداع!
كاشياس :
الوداع إلى الأبد يا بروتس! وداعا إلى الأبد! (120)
فإذا التقينا ثانية فسوف نسر ونفرح حقا،
وإذا لم نلتق نكون قد افترقنا على خير وداع حقا!
بروتس :
هيا إذن إلى القتال! ليتني أعرف العاقبة قبل وقوعها!
ولكن يكفي أن هذا اليوم سوف ينتهي، (125)
وأنني سأعرف العاقبة عندها! هيا بنا .. هيا.
هيا. (يخرجان .)
المشهد الثاني (ساحة القتال في فيليبي - صوت نفير.) (يدخل بروتس وميسالا.)
بروتس :
اركب جوادك يا ميسالا على الفور .. وخذ هذه الأوامر
إلى كتائبنا على الجانب الآخر!
مرهم بالهجوم حالا .. فإنني ألاحظ تراخيا في جناح
أوكتافيوس،
فإذا باغتناهم بالهجوم انكسروا .. (5)
اركب اركب على الفور يا ميسالا ..
مرهم بالهجوم جميعا. (يخرجان.)
المشهد الثالث (جانب آخر من ساحة القتال.) (أصوات نفير - يدخل كاشياس وتيتنيوس.)
كاشياس :
انظر يا تيتنيوس انظر! الأوغاد يفرون!
بل إنني قاتلت بعض رجالي!
لقد نكص حامل لوائي على عقبيه
فقتلت الجبان ورفعت اللواء بدلا منه!
تيتنيوس :
آه يا كاشياس! لقد تسرع بروتس بإصدار الأمر
بالهجوم! (5)
لاحت له فرصة التفوق على أوكتافيوس
فهجم دون أن يتروى، وانطلق جنوده يجمعون
الغنائم،
بينما تحاصرنا جميعا قوات أنطونيو. (يدخل بنداروس.)
بنداروس :
إلى الفرار يا مولاي! الفرار الفرار!
لقد دخل مارك أنطونيو خيامكم يا مولاي .. (10)
إلى الهرب يا كاشياس النبيل .. هيا إلى الهرب!
كاشياس :
هذا التل مهربي! انظر يا تيتنيوس!
هل تلك خيامي التي تحترق؟
تيتنيوس :
إنها خيامك يا مولاي.
كاشياس :
تيتنيوس! إن كنت تحبني فاركب جوادك،
واغرس مهمازك في جنبه (15)
حتى تصل إلى تلك القوات فورا،
فأعرف منك إن كانت قوات عدو أم صديق!
تيتنيوس :
سأعود بأسرع من ومض الفكر! (يخرج.)
كاشيوس :
واصعد أنت يا بنداروس هذا التل؛ (20)
لأن نظري ضعيف. تابع تيتنيوس في سيره،
وأخبرني بما ترى في ساحة القتال. (يخرج بنداروس.)
في مثل هذا اليوم تنفست أنفاس الحياة لأول مرة.
ثم دار الزمان دورته،
حتى وقعت النهاية في يوم البداية.
لقد اكتملت دورة حياتي،
ما الأنباء أيها الرجل؟
بنداروس (من خارج المسرح) :
واها يا مولاي! (25)
كاشياس :
ما الخبر .. قل؟
بنداروس :
لقد التفت شرذمة من الفرسان
حول تيتنيوس، وهم يندفعون خلفه مسرعين،
لكنه ما زال منطلقا على فرسه .. الآن كادوا (30)
يطبقون عليه! أسرع يا تيتنيوس!
لقد ترجل بعضهم .. وترجل هو أيضا .. لقد
أسروه! (هتاف خارج المسرح.)
هل سمعت؟ إنهم يصيحون فرحا.
كاشياس :
انزل الآن .. يكفي ما رأيت،
ما أشد جبني أن أعيش إلى هذه الساعة
فأرى أخلص أصدقائي يقع في الأسر أمام عيني! (35) (يدخل بنداروس من عمق المسرح.)
تعال هنا يا هذا! لقد أسرتك في بارثيا،
وجعلتك تقسم حين أبقيت على حياتك
أن تطيعني في أي شيء آمرك به! هيا الآن لتبر بقسمك (40)
وتصبح حرا من هذه اللحظة!
خذ هذا السيف الكريم الذي اخترق أحشاء قيصر
فأغمده في صدري! هيا! أنا لا أنتظر إجابة منك،
بل اقبض فورا على السيف - هكذا! فإذا ما سترت
وجهي فاضرب ضربتك، ها أنا ذا أستر وجهي هيا .. (يطعنه بالسيف.)
أواه يا قيصر! لقد تم لك الثأر (45)
وبنفس السيف الذي قتلك! (يسلم الروح.)
بنداروس :
لقد أصبحت حرا .. ولم أكن لأتحرر
لو أنني جرؤت على فعل ما أريد. أواه يا كاشياس!
لسوف يفر بنداروس من هذه البلاد
حتى لا يقع عليه بصر روماني! (50) (يخرج.) (يدخل تيتنيوس وميسالا.)
ميسالا :
لكأنها مبادلة يا تيتنيوس!
فقد هزم جيش بروتس النبيل
عسكر أوكتافيوس،
بينما هزم أنطونيو عسكر كاشياس!
تيتنيوس :
هذه الأنباء ستشد من أزر كاشياس!
ميسالا :
أين تركته؟
تيتنيوس :
تركته وقد غلبه اليأس (55)
مع مولاه بنداروس على هذا التل.
ميسالا :
أليس ذاك الراقد على الأرض؟
تيتنيوس :
ليست هذه رقدة رجل حي! وا حر قلباه!
ميسالا :
أليس هو ذاك؟
تيتنيوس :
بل ذاك من كان ..
أما كاشياس يا ميسالا فقد رحل!
أيتها الشمس الغاربة! (60)
مثلما تغربين في دنيا الليل متشحة بهذا الضوء القاني
يغرب نهار كاشياس مضرجا بدمه!
غربت شمس روما! غاب نهارنا!
تلبدي يا غيوم! اهطلي يا أنداء ! أحدقي يا أخطار!
فقد انطوت صفحتنا! لقد أودى به الخوف
من نتيجة مسعاي! (65)
ميسالا :
بل الخوف من سوء العاقبة!
يا رب الخطأ ما أبشعك! يا وليد ربة الهم!
لماذا تصور الأوهام وتجسدها في عقول المهمومين؟
يا رب الخطأ! ما أسرع ما تتخلق جنينا في الأحشاء
فإذا حان موعد ميلادك قتلت أمك التي أنجبتك! (70)
تيتنيوس (ينادي) :
بنداروس! بنداروس! أين أنت يا بنداروس؟
ميسالا :
فتش عنه يا تيتنيوس ريثما أذهب لمقابلة
بروتس النبيل وأصك أسماعه بهذه الأنباء!
لقد قلت أصك أسماعه .. (75)
فأنا أعلم أن الحسام النافذ والسهم المسموم
أهون على آذان بروتس من أخبار ما شاهدناه!
تيتنيوس :
أسرع إذن يا ميسالا - وريثما تأتي
سأبحث أنا عن بنداروس .. (يخرج ميسالا.)
لماذا بعثت بي في هذه المهمة يا كاشياس النبيل؟ (80)
ألم أقابل أصدقاءك؟
ألم يكللوا رأسي بإكليل النصر
ويطلبوا مني أن آتيك به؟
ألم تسمع هتافهم؟ وا أسفاه!
لقد أسأت تأويل كل شيء!
ولكن انتظر لحظة! ضع هذا الإكليل على جبينك؛ (85)
فقد طلب مني بروتس أن أعطيك إياه،
وسوف أفعل ما طلبه مني. هيا يا بروتس!
أسرع حتى تشهد مدى تكريمي كاشياس!
فلتأذني أيتها الآلهة لي أن أستبق الأجل،
فهذا واجب كل روماني في هذا الموقف!
تعال يا سيف كاشياس واخترق قلب تيتنيوس! (90) (يلفظ أنفاسه الأخيرة.) (أصوات نفير - يدخل بروتس، وميسالا، وكاتو الابن، وستراتو، وفولوميبوس، ولوسيليوس.)
بروتس :
أين هو يا ميسالا؟ أين يرقد جثمانه؟
ميسالا :
ها هو .. هناك وتيتنيوس يندبه!
بروتس :
إن تيتنيوس يستلقي على ظهره!
كاتو :
لقد قتل!
بروتس :
أواه يوليوس قيصر!
ما زلت ذا بأس شديد!
وما زالت روحك طليقة ..
توجه أطراف سيوفنا إلى أحشائنا! (95) (أصوات نفير بعيدة.)
كاتو :
يا لنبل تيتنيوس! لقد وضع إكليل الغار
على جبهة كاشياس .. بعد مماته.
بروتس :
هل بين الأحياء رومانيان مثلهما؟
وداعا لك يا آخر أبناء روما!
محال أن تنجب روما أخا لك! (100)
أيها الأصدقاء إنني مدين لهذا الراحل
بعبرات أكثر مما تذرفه عيني الآن ..
ولكنني سأجد الوقت الذي أبكيك فيه يا كاشياس ..
سأجد الوقت ..
أما الآن فأرسلوا جثمانه إلى تاسوس ليدفن هناك،
ولن تقام شعائر جنازته في معسكرنا (105)
حتى لا يثبط ذلك من همة الجنود. هيا يا لوسيليوس.
وتعال يا كاتو الصغير .. هلموا بنا إلى ساحة القتال!
أما أنت يا لابيو وأنت يا فلافيو
فمرا الجيوش بالتقدم! الساعة لم تتخط الثالثة!
أيها الرومان! قبل حلول الليل
لا بد من جولة أخرى في الميدان،
عل ربة الحظ تستجيب! (110) (يخرجون.)
المشهد الرابع (جانب آخر من ميدان القتال.) (صوت نفير يدوي - يدخل بروتس وميسالا وكاتو الابن ولوسيليوس وفلافيوس.)
بروتس :
اثبتوا يا أبناء الوطن وارفعوا رءوسكم! (يخرج.)
كاتو :
لن يفر إلا ابن سفاح!
من سينزل الميدان معي؟
لسوف أهتف باسمي في ساحة القتال؛
فأنا ابن ماركوس كاتو! انظروا!
أنا عدو الطغاة نصير الوطن! (5)
إني ابن ماركوس كاتو! وانظروا! (يدخل الجنود ويتقاتلون.)
لوسيليوس :
أما أنا فاسمي بروتس! أنا ماركوس بروتس!
إني بروتس نصير الوطن! اسمي بروتس!
من هذا؟ كاتو الصغير النبيل؟ هل سقطت في حومة
الوغى؟
لقد مت شجاعا مثل تيتنيوس، (10)
وينبغي تكريمك فأنت ابن كاتو!
جندي 1 :
استسلم أو تهلك!
لوسيليوس :
ما استسلامي سوى الهلاك!
اقتلني فورا تحقق مغنما كبيرا،
فقتل بروتس شرف عظيم!
جندي 1 :
لا، بل ينبغي ألا يقتل! سوف نأسره! (يصيح) أسير نبيل! (15)
جندي 2 :
أفسحوا الطريق! قولوا لأنطونيو إن بروتس أسير!
جندي 1 :
سأزف إليه النبأ! ها هو القائد! (يدخل أنطونيو.)
أسرنا بروتس! أسرنا بروتس يا مولاي!
أنطونيو :
أين هو؟
لوسيليوس :
في مأمن يا أنطونيو! بروتس سالم آمن! (20)
وأؤكد أنه ما من عدو يستطيع أن يأسر بروتس النبيل
وهو على قيد الحياة!
ولتحمه الآلهة من ذلك العار الشنيع!
فإذا عثرتم عليه حيا أو ميتا
فسوف ترون أنه ما يزال بروتس - لم يتغير! (25)
أنطونيو :
ليس هذا بروتس أيها الأخ الكريم!
ولكنه بالتأكيد غنيمة لا تقل قدرا عنه!
اكفلوا له الأمان والسلامة، وعاملوه بكل تكريم!
فأنا أريد أن أتخذه صديقا لا عدوا ..
هيا .. انطلق وانظر إن كان بروتس حيا أم ميتا (30)
وعد إلينا في خيمة أوكتافيوس
فأخبرنا بكل ما حدث. (يخرجون .)
المشهد الخامس (يدخل بروتس، وداردانيوس، وكليتوس، وستراتو، وفولومنيوس.)
بروتس :
تعالوا يا من تبقى من تاعس الخلان!
استريحوا على هذه الصخرة!
كليتوس :
رفع ستاتليوس مشعله وهو يستطلع الأحوال!
لكنه لم يعد! إما أنه أسر أو قتل!
بروتس :
اجلس يا كليتوس! القتل هو الأرجح ..
فهو الشائع هذه الأيام. كلمة على انفراد يا كليتوس. (5) (يتهامسان.)
كليتوس :
ماذا؟ أنا يا مولاي؟ كلا .. ولو أعطيت العالم!
بروتس :
اسكت إذن، لا تتكلم.
كليتوس :
أوثر أن أقتل نفسي!
بروتس :
كلمة معك يا داردانيوس . (يتهامسان.)
داردانيوس :
كيف أفعل ذلك؟ (يبتعد بروتس.)
كليتوس :
داردانيوس!
داردانيوس :
كليتوس! (10)
كليتوس :
أي طلب منكر طلبه بروتس منك؟
داردانيوس :
أن أقتله يا كليتوس! انظر!
إنه غارق في الفكر!
كليتوس :
لقد امتلأ ذلك القدح النبيل بالحزن وأترع،
فطفق يفيض حتى من عينيه!
بروتس :
تعال هنا يا فالومينوس الكريم .. استمع إلى كلمة (15)
مني!
فولومنيوس :
ماذا يقول مولاي؟
بروتس :
سأقول ظهر لي شبح قيصر مرتين بالليل:
مرة في سارديس، ومرة أخرى البارحة .. هنا ..
في سهول فيليبي .. وأعلم أن ساعتي حانت.
فولومنيوس :
لا لا يا مولاي! (20)
بروتس :
بل أنا واثق يا فولومنيوس.
ها هي أحوال الدنيا يا فولومنيوس!
لقد طاردنا العدو حتى شفا حفرة الهلاك. (صوت نفير خفيض.)
والأكرم لنا أن نقفز فيها مختارين،
لا أن نتباطأ حتى يدفعنا دفعا!
أواه يا فولومنيوس الكريم! (25)
تعلم أننا كنا زميلين في المدرسة،
وطالما ربط الحب بين قلبينا ..
أرجوك بحق هذا الود القديم
أن تمسك مقبض سيفي حتى ألقي بنفسي عليه.
فولومنيوس :
هذا عمل لا يوكل إلى صديق يا مولاي. (صوت نفير مستمر.)
كليتوس :
الفرار الفرار يا مولاي! لا نستطيع البقاء هنا. (30)
بروتس :
وداعا لك .. وأنت .. وأنت يا فولومنيوس
ستراتو! لقد كنت نائما طوال هذه المدة، فوداعا لك
أيضا يا ستراتو ..
أبناء وطني ..
لشد ما يسعد قلبي
أنني ما عرفت رجلا طول حياتي
إلا أخلص الود لي. (35)
لسوف أنال من المجد في يوم الهزيمة.
ما لن يناله أوكتافيوس ومارك أنطونيو
بانتصارهما الدنس! وإذن فالوداع لكم الآن؛
إذ إن لسان بروتس كاد ينتهي من قصة حياته. (40)
الليل يرين على عيني، وعظامي تطلب الراحة،
فما كدت وتعبت إلا لتصل إلى هذه اللحظة .. (صوت نير وصياح خلف المسرح: الفرار .. الفرار .. الفرار!)
كليتوس :
النجاة يا مولاي .. النجاة!
بروتس :
امضوا أنتم وسوف أتبعكم! (يخرج كليتوس وداردانيوس وفولومنيوس.)
أرجوك يا ستراتو .. فلتبق إلى جانب مولاك ..
إنك تتمتع بسمعة طيبة، (45)
وعطر الشرف يضوع في جنبات حياتك،
اقبض إذن على سيفي، وأدر وجهك عني،
ريثما ألقي بنفسي عليه. هل تفعل ذلك يا ستراتو؟
ستراتو :
هات يدك أولا .. الوداع يا مولاي.
بروتس :
الوداع يا ستراتو الكريم .. (50)
قيصر! فلتهدأ روحك الآن ..
ما أقدمت عليه قتلك بمثل هذا العزم الوطيد! (يلفظ أنفاسه الأخيرة.) (صوت نفير يعلن تقهقر الجنود، يدخل أنطونيو وأوكتافيوس وميسالا ولوسيليوس والجنود.)
أوكتافيوس :
من هذا الرجل؟
ميسالا :
أحد رجال مولاي. ستراتو! أين مولاك؟
ستراتو :
تحرر من الأسر الذي وقعت فيه يا ميسالا ..
لا يستطيع المنتصرون إلا أن يحرقوا جثمانه! (55)
لم ينتصر على بروتس إلا بروتس،
ولم ينل غيره شرف قتله!
لوسيليوس :
ما كنتم لتعثروا عليه إلا هكذا!
شكرا لك يا بروتس!
فلقد أثبت صحة قول لوسيليوس!
أوكتافيوس :
سألحق بخدمتي كل من خدم بروتس. (60)
أيها الرجل! هل تبغي قضاء وقتك معي؟
ستراتو :
نعم، إذا زكاني ميسالا لديك!
أوكتافيوس :
زكه إذن ميسالا الكريم!
ميسالا :
كيف مات سيدي يا ستراتو؟
ستراتو :
أمسكت بالسيف فألقى نفسه عليه. (65)
ميسالا :
إذن فأنا أزكيه لك ..
بعد أن قدم لسيدي آخر خدمات حياته.
أنطونيو :
كان أنبل روماني في تلك العصبة
إذ فعل المتآمرون ما فعلوا
بدافع الحسد والحقد على قيصر العظيم. (70)
أما بروتس فقد انضم إليهم
بدافع الإخلاص للشعب والمصلحة العامة -
للرومان جميعا.
كانت حياته حياة نبل وشرف،
وقد امتزجت عناصر نفسه مزجا بديعا
حتى إن الطبيعة نفسها لتقف تحية له
ولتهتف في العالم أجمع «كان رجلا بمعنى الكلمة»! (75)
أوكتافيوس :
ينبغي أن نكرمه على قدر نبله،
وأن نجري له كل مراسم الدفن وشعائر التأبين!
ولترقد عظامه الليلة في خيمتي
ولنكرمها تكريم الجندي الباسل.
أعلنوا للجيش أن الحرب قد انتهت .. ولننصرف (80)
حتى نوزع أوسمة المجد في هذا اليوم السعيد.
Bog aan la aqoon