ومن أطوار الشعوب في تناقل الفنون أو الموضوعات الفنية أن نهضة الشرق نبهت الأوروبيين إلى تراث الشرقيين القديم، وأن عناية الأوروبيين نبهت إليه أناسا من الشرقيين الذين يكتبون باللغات الأوروبية، فوضع الأستاذ عسكر نحاس باللغة الفرنسية كتابا سماه «تأملات ابن جحا» يحاكي فيه الابن أباه بالحكمة المازحة والدعابة الحكيمة، ومن أمثاله قوله عن المرأة «إنها خلقت في الرجل الأنانية لتحقيق مطالبها»، وأن «امرأة واحدة تبحث عن سيد، ولكن امرأتين معا تبحثان عن فريسة»، وأن «الرجل الشرير في عين المرأة الخائنة هو السمكة التي ترفض الطعم»، وأن «المرأة تعذب رجلها عقابا له على أنها شيء لا غنى عنه لديه».
وسينشأ لجحا بعد ابنه هذا حفدة وأبناء حفدة، ولا نظنهم جميعا قالوا - بعد - كلمتهم الأخيرة باللغة العربية، أو التركية، أو بسائر اللغات، فإنهم خالدون بخلود النفس البشرية بين كل قبيل.
الفصل العاشر
خلاصة تاريخية
والخلاصة من الناحية التاريخية - وهي أقل النواحي ثبوتا وأهمية في هذا المبحث - أننا نستطيع أن نتقبل أبا الغصن جحا كما ذكره الميداني في أمثاله كأنه شخصية تاريخية لا غرابة في وجودها، ولا داعية للشك في إمكان وقوع النوادر المنسوبة إليها، فإن الذين يشبهون أبا الغصن هذا في غفلته وسهواته يوجدون في كل بيئة، وفي كل زمن، وإن تنوعت المناسبات والأحوال التي تكشف للناس عما طبعوا عليه من الغفلة.
ويلحق بأبي الغصن أناس على شاكلته لم يشتهروا مثل اشتهاره ولم يسمع بهم الأمراء والولاة كما سمعوا باسمه وخبره، فيطلق الناس عليهم اسم جحا نبزا أو تشبيها أو تغليبا أو تفيهقا بالحكاية النادرة التي تدل على علم بأخبار السلف إذا رويت عن مشهور متقدم، ولا تدل على شيء من ذلك إذا رويت عن سكان البلد في ساعتهم الحاضرة، ويعمل الوضع و«القفش» عملهما أثناء ذلك فيجتمع من النوادر الجحوية ما تصح نسبته إلى شخصية قديمة أو حديثة، وما تصح نسبته إلى أحد غير وضاعه ومخترعيه من الرواة والملفقين.
ونحن في عصرنا هذا قد شهدنا نشأة أمثال هذه الشهرة الصحيحة والمخترعة وشهدنا تطورها من مبدئها إلى مصيرها بعد عشرين أو ثلاثين سنة، وكان «الفضل» في ذلك للصحافة الأسبوعية المضحكة التي كانت تقوم في أوائل القرن العشرين على «القفش» والملحة المخترعة. ويعلم الكتاب والقراء والمستمعون أنها تلفيق يعتمد على أصل ضعيف، وأنها براعة في صناعة «القفش» ويتنافس فيها أولئك الصحفيون، وهم ولا ريب خلفاء الندماء الذين كانوا يتولون هذه الصناعة في صدر الدولة الإسلامية وما يليه من العصور قبل نشأة الصحافة.
رأينا الأديب «إبراهيم الدباغ» يأكل في مأدبة فلم نلحظ عليه شيئا من النهم الذي اشتهر به بين المتندرين، وسألنا صاحبا له فقال إنها أكلة واحدة أو أكلات قليلة بعد جوع أكسبته هذه الشهرة الباطلة. وأنت تعلم أنه كثير السخرية والاستهزاء بالأدعياء من محترفي الأدب والصحافة الذين يتزاحمون على مجالس الأغنياء. فانتهزوا «فرصة» هذا النهم الموقوت للقصاص والوقيعة وملئوا الصحف الأسبوعية «بالقفشات الدباغية» حتى أصبح «الدبغ» كلمة في اللغة الدارجة تطلق على النهم، وقد ظلت هذه الكلمة تحمل معناها المستعار إلى يومنا هذا، وأصبحنا نسمع من يقول عن أحد من الناس إنه «دباغ» وهو لا يعرف أصلا لهذه التسمية.
وقد حكينا ما رأيناه من الشيخ الدباغ وما سمعناه من صديقه لصاحب إحدى الصحف الأسبوعية التي أولعت «بالقفش» له والتلفيق عليه، فقال: «لا تنخدع به فتدعوه إلى طعام، فإنما يكف الرجل يده عن الأكل وهو مشتاق إليه ليدحض كلامنا عنه ويغرر بالحاضرين فيقعون في الشرك، ويندمون حيث لا ينفع الندم.»
فلم ندر - ونحن معاصرون لصاحب الشهرة من شهروه بها - أي القولين نصدق، وأي القفشات يعتمد على الواقع، وأيها يستمد من الفكاهة والخيال.
Bog aan la aqoon