إن كتاب أورشليم عراك بين فرح الخارجي وفرح الداخلي، تردد نفسه أصداء محيطه الموبوء، أحسن فيه فرح تقسيم شخصيته بين كثيرين، فهو إن لم ينطق العرب كما ينطقون فالسبب معلوم، وحسبه أنه وضع في أفواههم آيات وكلمات جامعة تدلك على أنه يعرف نفسيتهم؛ ولهذا تحرك أكثرهم تحت قلمه، أما حديث البطريرك مع إيليا فجميل جدا، وكأنما فرح إكليريكي عتيق يحسن كلام هؤلاء ويفهم روحهم وحركاتهم وإيماءاتهم، وكذلك حوار إيليا وأرميا في مواقفهما جميعها.
إذا نظرنا إلى آراء فرح على ضوء اليوم، بدت قليلة الطرافة، فهو فيها كخوري ماروني درس في روما وباريس ، ثم عاد إلى لبنان فرأوه جديدا، فما مبادئه إلا انعكاس أضواء، ولكن النور حاد لحدة طبع المؤلف وإبائه العبودية، ففي تعنيفه نغمة الإنجيل وتهديد التوراة.
يعلم فرح - والدليل مقاله في القصة - أن على القصصي أن يفتش عن موضوعه في محيطه، ولكن ميله إلى القضايا الاجتماعية واعتقاده أن الإنسانية هي هي في كل مكان وزمان أرجعاه إلى الوراء عشرين قرنا، فنصب مسرحه في محيط لا يعرفه تماما، كما فعل شاتوبريان وغيره من كتاب الغرب؛ ولهذا خسرت أورشليم فرح كثيرا من الجمال الفني، فالمسرح لا يتصل اتصالا وثيقا بالأشخاص، وقياس فلسطين على لبنان إن صح إجمالا فهو لا يصح تفصيلا.
وقد رأيت أن فرح أنطون يتعب في آخر الشوط أسلوبا، ولكنه لا يني خطة، فيسوق جماعته إلى الكمين سوقا رويدا.
أما الأسلوب فتارة يكون فيه رسميا - من المجترين - فيقول: والشمس أنقى من مرآة الغريبة، وذر قرن الغزالة، وشنشنة نعرفها من أخزم، وهلم جرا، وطورا - وهذا قليل - يأتيك بتعابير شخصية تدل على لبنانيته، وأحيانا - وهو الأكثر - يدل على تأثره بالفرنسية، أما بعض الألفاظ الدينية فمستعارة من «البعث» التي لخصها، مثلا: كيرياليسون، يا رب ارحم، وحياة العذراء، وكذلك رسم الصليب والحلف باسمه.
وقد يستعير مشهدا قرأه فيجعله لآخر قوله (ص63) ومن غرائب الاتفاق أن الشمس أطلعت قرنها في هذه اللحظة حين سكت الراهب - إن حادثا بسيطا كهذا، والشمس كل يوم تطلع، لا يستأهل «ومن غرائب الاتفاق» - فوثب الراهب وقال: «هلم هلم نشهد مطلع الشمس، تبارك الخالق»، فهذا الاندهاش لا يكون من مقدسي كميخائيل يشهد الشروق كل يوم، فهو إن صح لفولتير لا يصح لهذا الشرقي المحترم، كما أن «هلم هلم» ليست من كلامه، ولكن «تبارك الخالق» تستر بشاعتها.
يعجبني هذا الراهب الفالت ويعجبني حديثه في «خطبة الجبل»، وإن أصدر علينا حكما قاسيا فقال بلسان الإمبراطور: «هذا شأن السوريين، فإنهم متى حكموا أنفسهم كانوا أقرب إلى الجور منهم إلى العدل، لكثرة تحاسدهم وتنافسهم، ولعدم وجود جامعة قوية عادلة تساعد الجيد فيهم وتخذل الرديء» (ص60).
وأعجبني أيضا كلام الشيخ سليمان عن الرهبان، وإن رأيت آراءه أكبر منه: «لا تنس أن الرهبان في مملكتنا، كانوا في أكثر الأحيان أقوى من رؤسائهم، لتحريكهم الشعب عليهم، وكم حالوا دون إصلاحات مهمة بهذا السبب الصغير؛ ولذلك كانوا قادة الشعب ضد الأساقفة والبطاركة والموظفين حتى ضد الإمبراطور.»
قلت: فمن يشك بهذا فليسأل تاريخ لبنان، وبطريرك الموارنة وأساقفتهم.
وكذلك رأى سليمان في الوطن فقد قال: «إن الدين عندنا هو الوطن، بل الدين عندنا فوق الوطن وفوق كل شيء»، فقوله هذا يصح فينا أمس واليوم.
Bog aan la aqoon