هذا هو الكاهن الأديب الذي سبق القافلة المجيدة إلى واحة الموت، وتلاه في هذا المضمار غير المرغوب فيه الشاعر العظيم خليل مطران، الذي أعده - كما عد القدماء بشار بن برد - جسرا يصل القديم بالحديث، فمطران مجدد في تصوره وتفكيره وخطته الشعرية، قلد مخيلته الصور الرائعة الطريفة التي قلما خلت منها قصيدة من روائعه المشهورة، إنه أحد أقانيم الثالوث الشعري في القرن العشرين، كان هؤلاء الثلاثة شوقي وحافظ ومطران يتبارون عند كل حدث خطير يحدث في الشرق، وإن توسعنا قلنا عند كل نكبة عالمية، فكان حافظ يأتي ثالثا، إلا في عهد شبابه فقد جلى مرات، أما مطران فأستطيع أن أعده مجليا - عند الحاجة - في شبابه وكهولته، وقد سكت في شيخوخته، بينما ظل أخوه شوقي يرسل الصرخة أثر الصرخة حتى قضى، وقضي له بالزعامة ولم ينازعه فيها منازع.
ولمطران أيد بيضاء ليس على الشعر وتجديده، بل على النثر أيضا وخصوصا المترجم منه، فقد عمل الرجل كثيرا وأفاد كثيرا، وصلى خلفه في هيكل الشعر خلق كثير، فهو حقا فجر مدرسة جديدة، إنه الشاعر الإبداعي كما عده الدكتور إسماعيل أدهم، ولئن قصر عن شوقي في التعبير فقد فاته في التصوير والتفكير.
عبد القادر المازني
ثم كانت الخسارة الجلى بالمازني الأديب الكبير المحبوب، البعيد عن العنجهية والادعاء، كان هذا الأديب الظريف يعمل ساكنا ويكتب صامتا.
حاول في فجر شبابه أن يكون شاعرا فما أعجبه شعره، فانصرف أولا إلى دراسات في الشعراء القدماء، فكان أول من اهتدى إلى ابن الرومي، فكتب عنه فصولا رائعة شائقة دلت على ذوق فني رفيع، ثم تناول بشارا فكان الأسبق إلى دراسة هذين الشاعرين دراسة أصولية.
وأخيرا اهتدى المازني إلى نفسه، وعثر حين طوف في دنيا الثقافة على أسلوبه الذي عرف به فكان أسلوبا خاصا نقرؤه مسرورين مغتبطين، قلما مر أسبوع لم يكتب فيه المازني فصولا مختلفة، ولكن بدون ضجة وقعقعة، فهو بمقدار كاتب نضال؛ لأنه كتب ليعيش، فكان يجلي في الميدان ولا يترك خلفه غبارا يؤذي العيون، ولا صهيلا وصليلا يصم الآذان، بل كانت طعناته صامتة، لا أجد أصدق وصفا لها من قول عنترة:
برحيبة الفرغين يهدي جرسها
بالليل معتس الذئاب الضرم
مسكين المازني إذا صدق الخبر الذي قرأت، وأن أولاده في حاجة بعد أن ألقي كاسبهم في قعر مظلمة، كما قال الحطيئة مسترحما عمر بن الخطاب، ولكن أين ظلمة البئر من ظلمة القبر! إن هذا حيف، فعلى الأمم أن تراعي أدباءها كما تراعي جنودها الذين يموتون في ساحة الجهاد، أليس هذا جهادا؟ أليس حامل القلم أخا حامل السيف في ساحة النضال عن الأمم؟
أذكر أنني قرأت بعد موت ولي الدين، أن ابنه كان يلم أعقاب السكاير في شوارع العاصمة وسككها وليس من يأبه له ويذكر فضل أبيه، رحم الله عبد القادر المازني وجبر خاطر الأمة المكسورة وأعاضها مازنيا آخر، ولعل مازنينا لو بعث ساعة لقال لنا: لو كنت من مازن.
Bog aan la aqoon