إن الشاعر لسمير الأرواح مهما تباينت نزعاتها، وهو كذلك بلسم الآلام والمصائب يسكب عليها من أحشاء الوحدة والسكون مراهم التعزية، والمرشد الأمين للأخيلة وللتصورات.
كم أتمنى لو استطعت أن تشهد ولو مرة وصول البريد، وأن تفض الرسائل الواردة إلي من جميع الجهات، فهذه كتلة صفراء تشير إلى أنها قطعت بحارا عديدة حاملة إلي بعض ذكريات عذبة من الشرق المحبوب، لقد كتبت باللغة العربية فيجب أن أرسلها إلى باريس أو مرسيليا لترجمتها، وهذه كتلة تدل أحرفها الرصينة على أنها قادمة من ألمانيا، تلك الأمة المفكرة النشيطة، فأنا أفضلها بهزة وارتياح، وهذه أيضا من رومة ومن نابولي ومن فلورنسا: لقد كتبت بتلك اللغة الموسيقية التي تكسب الأفكار والعاطفة رنين النحاس العميق، وبالإجمال فهي أبيات من الشعر الطلي أفلتت من بعض النفوس الفتية، وهذه قادمة من إنكلترا، فعناوينها المتشابهة الشكل ذات الأحرف المعجلة تشير إلى كثرة العلائق والسياسات والاقتصاد، ولا تدل على شيء من الشعر بتاتا، فهذا الشعب لديه ما يجول بينه وبين الأحلام! وأخيرا هذه كوم قادمة من جميع جهات فرنسا، مختلفة الأشكال، متباينة الأحرف، بعضها يبحث في السياسة والشئون الدولية فيصوب إلي التجاديف واللوم، وبعضها يقول لي: «إلى الأمام، إنا معك قلبا ونفسا»، فأجد في هذه الأصوات عزاء ونشاطا، وتقر عيني، لا سيما عندما أفض بعض الرسائل الواردة إلي من أصدقاء مخلصين ملؤها العطف والذكريات! فهذه الرسائل جديرة بأن أتذوقها وأعيد قراءتها مرارا ثم أضعها على حدة لأنها منفردة بالأفكار والإحساس.»
وأخيرا هذه رسائل من قوم غرباء أجد لذة عظيمة في تلاوتها بعد أن أضع جانبا تلك التي تلح في مطالبتي بوفاء ديون لا أملك منها شيئا، فكم من كنوز مختبئة في تلك الصفحات وكم من عاطفة وإحساس! إن هناك صفحات صبيانية اجتهدت في تنميقها أنامل بعض الأولاد، ولكن هناك صفحات ساحرة جذابة تأخذ بمجامع القلوب، حرية بأن تتلى بإعجاب وفخر!
كم من عاطفة وشعر وفلسفة! كم من أبيات تارة حساسة وطورا بليغة تنطفئ وتموت بين شفاه منشدها وآذان سامعها!
كم من فتيات، كاللواتي أجاد هيغو التغني بهن، يصرفن النهار في التخريم والتطريز ليتعيشن، ويحيين الليل في قراءة الكتب المفيدة وموحيات المخيلة الناضجة، حتى إذا ما انتهين إلى سر الإنشاء يكتبن ما تمليه عليهن نفوسهن الطاهرة.
كم من عملة بؤساء ينزوون الليل في مخادعهم بعد أن يكونوا قد صرفوا النهار بالعمل الشاق فيفكرون ويشعرون بتلك النفس التي نفكر بها نحن ونشعر.
وكم من نساء منفيات في أقاليم بعيدة، في أعماق بعض القصور أو في زوايا بعض الأكواخ الحقيرة، يتركن أصواتهن الملائكية تفلت من صدورهن الكئيبة الحساسة كأنها أصدية السماء ترددها ملائكة الأرض، وأخيرا كم من مرضى، وكم من بؤساء أعدمتهم الحياة نعمة الإثراء لا يجدون العزاء إلا في أفواه الشعراء، وكم من كهنة لا يزالون فتيانا قضي عليهم أن يسجنوا كجوسلين على بعض الأطلال البالية أو في بعض الجبال البعيدة، وقد وقع كتابي هذا بين يديهم فمزجوا نفوسهم الباكية بنفس ذلك الكاهن الشاب الذي ألقى في قلوبهم بعض التعزية والسلوان. «هؤلاء هم قراء كتابي وأصدقائي والمراسلون الأصفياء! آه! إن من كان مثلي متمتعا بثقة تلك النفوس الفتية، لا يعدم نشاطا ولا ييأس!»
إلياس أبي شبكة
توطئة
كنت صديقه الوحيد على هذه الأرض، وكنت أتردد إلى مقره مجتازا تلك الطريق الضيقة على قدمي، وتحت ذراعي بندقية أعددتها للصيد وأمامي كلبان أمينان، كنت أصعد بهما تلك الجبال الناتئة متلهيا بوثباتهما الخفيفة عن التعب الذي كان يثقل ركبتي، فما أكاد أتوسط الطريق الوعرة وأطل على ذلك المقر القائم بين الصخور الرمادية والأشجار الباسقة الغضة حتى تتوارد إلى مخيلتي مشاهد جميلة بارزة خلال ذلك المكان المنفرد من الطبيعة.
Bog aan la aqoon