Jawhar Insaniyya
جوهر الإنسانية: سعي لا ينتهي وحراك لا يتوقف
Noocyada
خلاصة هذا الكلام واضحة؛ فكما يمكننا التوقع من المبدأ البيولوجي الذي أكدت عليه، الذي يقول إن الموهبة تورث عشوائيا، كان الحكام بالوراثة بوجه عام يتصرفون أسوأ من المنتخبين. وعندما لا يتعدى صاحب المركز الوراثي كونه رمزا دستوريا فحسب، يمكن للدولة أن تستمر - فأحيانا تكون أفضل، ونادرا ما تفشل - تماما مثل الجمهورية التي ينتخب الشعب حاكمها. نشأت الحضارات لا لأن حكامها كانوا أبناء قادة، بل لأنه تصادف امتلاكهم لصفات المبادرة والقيادة الضرورية. لقد غير سعي الإنسان وجه العالم، لا لأن لاعبيه الأساسيين ورثوا حب الاستطلاع والنزعة الاستكشافية أو التوق للغزو من آبائهم، وإنما لأنهم تمتعوا بهذه الصفات نتيجة للصدفة البحتة.
19 (4) عودة إلى العصر الحجري الحديث
تعتبر زراعة المحاصيل وتربية الحيوانات طريقة أكثر فاعلية في إنتاج الطعام من الصيد وجمع النباتات. وكما أشرنا سابقا، فإنها تشجع أيضا على استقرار المجتمعات وتوسعها. لا عجب إذن أن أول قرى ومدن نشأت من المستوطنات التي صاحبت ممارسة الزراعة، وكانت الزيادة السكانية فادحة. فقبل ظهور المجتمعات الزراعية، كان سكان العالم يزيدون لكن ببطء، ومنذ نحو 10 آلاف سنة ربما كانوا فعليا يقلون، فكان الإنسان العاقل معرضا لخطر الانقراض، ومع ذلك فقد نجا، وبعد هذا بخمسة آلاف سنة كان ثمة مليون شخص يعيشون في مصر وحدها. تتطلب الزراعة مخزونا مضمونا من المياه، وبدأ النمو الحضري يحدث على طول ضفاف الأنهار، كما يحدث حتى وقتنا هذا. وفي أماكن أخرى، مثل كريت، يكون هطول الأمطار كافيا لدعم نمو معظم المحاصيل. وينطبق الأمر نفسه على أمريكا الوسطى؛ حيث نشأت المجتمعات الزراعية في المرتفعات الوسطى أو داخل الغابة المطيرة نفسها. وفي أمريكا الجنوبية أيضا، ربما كان المزارعون الأوائل يعيشون في المناطق الجبلية في جبال الأنديز؛ حيث وفر الجليد الذائب، إن لم تكن مياه الأمطار، بيئة مناسبة (ظهر التحدي فيما بعد، عندما انتقلت المجتمعات إلى المناطق الساحلية الجافة أو إلى المنحدرات المرتفعة في جبال الأنديز). في العالم القديم ظهر تحول الأفراد من صيادين وجامعي نباتات إلى مزارعين منذ نحو 10 آلاف سنة، واستغرق الانتقال من الحياة في مخابئ بدائية إلى التمتع باستقرار المباني 4 آلاف سنة أخرى، وأصبح واضحا في عام 4 آلاف قبل الميلاد تقريبا في أقدم الحضارات. وفي أمريكا، التي لم تصبح مأهولة بالسكان إلا منذ نحو 12 ألف سنة أو ما شابه في الشمال وبعد ألفي عام أخرى في الجنوب، يجب ألا يتوقع المرء العثور على أدلة على مستوطنات ترجع إلى وقت أبعد من هذا. في الواقع لم تكن هذه المستوطنات ترجع إلا إلى بضعة آلاف من السنوات؛ مما يشير إلى ظهور الزراعة في العالم الجديد في الوقت نفسه تقريبا الذي ظهرت فيه في العالم القديم. هل كان المسئول عن هذا تغير عالمي في المناخ، في اللحظات الأخيرة من آخر عصر جليدي؟ إنها مسألة غير محسومة تحيق بها فرضيات أكثر عددا من الحقائق.
نشأت أقدم المجتمعات الزراعية في مناطق معينة فقط ، وفي المناطق الأخرى استمر الإنسان في ممارسة حياة الترحال، سواء عن طريق الصيد أو رعي الحيوانات المستأنسة، لعدة ألفيات. حتى في عصرنا الحالي، يمكن اعتبار الأكراد الموجودين في المناطق الجبلية في تركيا وشمال العراق وغرب إيران وشرق سوريا، وفي أرمينيا وأذربيجان، والباسك الذين يعيشون في جبال البرانس الغربية بين إسبانيا وفرنسا، والنوير الذين يعيشون في جنوب شرق السودان، أنهم ما زالوا جميعا يعيشون حياة الترحال؛ حيث يتنقلون ذهابا وإيابا مع مواشيهم وفقا للمواسم. هذا بالإضافة إلى حقيقة استمرارهم في الحياة باستقلالية؛ إذ يتحدثون لغة خاصة بهم، ويضايقون جيرانهم الأقوياء الذين وجدوا أنفسهم حاليا في نطاق سيطرتهم، ويتعرض الرحالة للمضايقة من كافة الجوانب. يظهر مثال آخر على حياة الترحال لدى الذين ينتقلون من مكان لآخر بسبب التجارة. ذكرت هجرات الغجر في الفصل السابق، وبالمثل يواصل الطوارق
20
التنقل بين منطقة المغرب في شمال أفريقيا (خاصة المغرب والجزائر) والمنطقة التي تقع جنوب الصحراء الكبرى (خاصة السنغال وموريتانيا ومالي والنيجر).
ربما تؤدي الزراعة إلى شكل من الحياة أكثر استقرارا لكنها لا تؤدي بالضرورة إلى ظهور القرى والمدن؛ فتوجد حتى يومنا هذا مجتمعات زراعية لم تتغير حياتها كثيرا على مدار ألفيات كثيرة؛ في الوادي الكبير لنهر باليم في غينيا الجديدة، وعلى طول ضفاف نهر أورينوكو في جنوب فنزويلا، وفي أجزاء كثيرة في أفريقيا. لا يعيش هؤلاء الناس في قرى أو مدن، وليس لديهم فن أو أدب، وليس لديهم إلا قدر قليل من التكنولوجيا أو التجارة. كما أن متوسط أعمارهم أقل من المواطن العادي في العالم المتقدم، رغم أنه على الأرجح يقارب متوسط عمر شخص فقير يعيش حاليا في موسكو أو شخص يسكن الأحياء الفقيرة في مكسيكو سيتي. لم تنتج أي حضارة من أعمالهم؛ فهم لم يبحثوا كثيرا مثل غيرهم، فهل يعيشون إذن حياة أقل إنجازا من حياتنا؟ لا يمكنني التعليق على هذا؛ لأني أحرص على تعريف سعي الإنسان من حيث صفاته الفطرية فقط، وأتعامل مع عواقبه بوصفها ثقافية فقط، وأمتنع عن أن أنسب لسعي الإنسان القيم التي نطلق عليها السعادة أو الرضا أو النجاح. بدلا من هذا أود لفت انتباه القارئ إلى تعليق لأستاذ علم النفس والمتخصص في علم الأعصاب ستيفن بينكر،
21
الذي مفاده أن عقل الإنسان ليس «معدا» ليتكيف مع توترات وضغوط الحياة الحضرية؛ فهو متكيف مع فترة العصر الحجري الحديث - حتى قبل ظهور الزراعة - التي قضى فيها الإنسان 99٪ من حياته. من يمكنه القول إذن إن الفضول لا تكون له أحيانا إيجابيات وسلبيات؟
هوامش
Bog aan la aqoon