118

Jawaahir Tafsiir

جواهر التفسير

Noocyada

ثم إذا استقريت الكلمة وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة من المذكورة منها فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته.

وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله، وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته، فكأن الله عز اسمه عدد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم، وإلزام الحجة إياهم، ومما يدل على أنه تعمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم، أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين، وهي فواتح سورة البقرة وآل عمران والروم والعنكبوت ولقمان والسجدة والأعراف والرعد ويونس وإبراهيم وهود ويوسف والحجر.

وقد كنت أظن ما يظنه الكثير أن الزمخشري هو رائد المفسرين في التنقيب عن لطائف هذه الأسرار، وممن كان يظن ذلك السيد الجرجاني، فبعد تحليله كلام الزمخشري في حواشيه على الكشاف قال: - مشيرا إلى هذه اللطائف - ربما لم يفطن لها قبل المصنف أحد من حذاق العلماء المتبحرين. ولكني أثناء مطالعاتي لكتاب إعجاز القرآن للامام الباقلاني رأيت بعض ما أورده الزمخشري وهو دليل على أن الزمخشري مسبوق من قبل غيره من علماء القرآن، فإن الباقلاني سابق عليه زمنا، وذكر الدكتور حفني محمد شرف في كتابه إعجاز القرآن البياني بين النظرية والتطبيق أن الباقلاني هو أيضا مسبوق إلى ذلك، غير أنه لم يذكر هذا السابق وإنما جل المفسرين الذين عنوا ببحث هذه اللطائف قد اغترفوا من منهل الكشاف ونجد لهم في ذلك موقفين؛ موقف المؤيد وموقف المعارض.

أما المؤيدون فهم الغالبية العظمى، ونذكر من بينهم السيد الجرجاني، وأبا السعود، وناصر الدين بن المنير الاسكندري، وابن كثير، والبيضاوي، وقطب الأئمة، والمحقق الخليلي، ومن هؤلاء من أضاف لطائف أخرى إلى ما أورده الزمخشري، من شاء الوقوف عليها فليرجع إليها في مراجعها كتفسير البيضاوي، وهميان الزاد، وجوابات المحقق الخليلي.

وأما المعارض فهو الشوكاني حيث قال في تفسيره فتح القدير: هذا التدقيق لا يأتي بفائدة يعتد بها وبيانه أنه إذا كان المراد منه إلزام الحجة والتبكيت كما قال فهذا متيسر بأن يقال لهم هذا القرآن هو من الحروف التي تتكلمون بها، ليس هو من حروف مغايرة لها، فيكون هذا تبكيتا وإلزاما يفهمه كل سامع منهم من دون إلغاز وتعمية وتفريق لهذه الحروف في فواتح تسع وعشرين سورة، فإن هذا مع ما فيه من التطويل الذي لا يستوفيه سامعه إلا بسماع جميع هذه الفواتح، هو أيضا مما لا يفهمه أحد من السامعين، ولا يتعقل شيئا منه فضلا عن أن يكون تبكيتا له وإلزاما للحجة أيا كان، فإن ذلك هو أمر وراء الفهم مترتب عليه ولم يفهم السامع هذا ولا ذكر أهل العلم عن فرد من أفراد الجاهلية الذين وقع التحدي لهم بالقرآن أنه بلغ فهمه إلى بعض هذا فضلا عن كله، ثم كون هذه الحروف مشتملة على النصف من جميع الحروف التي تركبت لغة العرب منها، وذلك النصف مشتمل على أنصاف تلك الأنواع من الحروف المتصفة بتلك الأوصاف هو أمر لا تتعلق به فائدة لجاهلي ولا إسلامي، ولا مقر ولا منكر، ولا مسلم ولا معارض، ولا يصح أن يكون مقصدا من مقاصد الرب سبحانه الذي أنزل كتابه للإرشاد إلى شرائعه والهداية به.

وهب أن هذه صناعة عجيبة، ونكتة غريبة، فليس ذلك مما يتصف بفصاحة ولا بلاغة، حتى يكون مفيدا أنه كلام بليغ أو فصيح، وذلك لأن هذه الحروف الواقعة في الفواتح ليست من جنس كلام العرب حتى يتصف بهذين الوصفين، وغاية ما هناك أنها من جنس حروف كلامهم، ولا مدخل لذلك فيما ذكر، وأيضا فلو فرض أنها كلمات متركبة بتقدير شيء قبلها أو بعدها لم يصح وصفها بذلك لأنها تعمية غير مفهومة للسامع إلا أن يأتي من يريد بيانها بمثل ما يأتي به من أراد بيان الألغاز والتعمية، وليس ذلك من الفصاحة والبلاغة في ورد ولا صدر، بل من عكسهما وضد رسمهما.

. إلى آخر ما قاله.

والذي يستخلص من كلامه أن إعجاز القرآن الكريم كان ينبغي أن يكون مفهوما عند العرب الأميين الذين كان يجتاح ضلالاتهم بسبب بيانه، ويبدد شبهاتهم بشمس فرقانه، ولعمري إن القرآن حافل بالآيات البينات التي لم تقف في وجهها ضلالة من ضلالات الجاهلية، غير أن تألق حجته وإشراق معجزته ليسا محصورين إبان نزوله، فهو نداء الحق الذي لا يسكته مرور الزمن وتعاقب الأجيال، فما من زمن إلا وتتجلى فيه منه آيات باهرات تقف بالناس على صدق قوله وعدل حكمه، وأنه يستحيل أن يكون من عند غير الله.

وإذا كان أئمة الضلال وقادة الجاهلية كانوا يتصاممون عن قوارع نذره، ويتعامون عن بوارق آياته، ويتواصون بذلك، فإن تلامذتهم في كل عصر لا ينفكون عن هذا المسلك، وكل رجائهم أن يكدروا صفوه ويطمسوا نوره بما يقذفونه في خضمه النوراني من الأكاذيب والشبه، وهو يغرق في أعماقه قذائفهم من غير أن يكون لها أي أثر على صفوه ونوره، وفي العصر الحديث طائفة من الملاحدة الأفاكين الذين منوا أنفسهم بالنجاح في هذه المحاولة، من بينهم من خلع عليه - من قبل أساتذته الذين اختاروه لهذا الغرض - لقب عميد الأدب العربي، فقد بلغ به جهله ووقاحته أن صرح بمحاولته اختصار القرآن لتجريده من الحشو الذي يدعيه فيه، وقد حفظ الله كتابه من كيد المتآمرين، وصانه عن أيدي العابثين، واستأصل بحجته شبه دعاوى المبطلين.

وإذا كان هذا ديدن المتنطعين المحرومين من هدايته، في عصر نزوله، فما المانع أن يكون في طوايا آياته ما لم تنكشف أسراره للجيل الذي نزل فيه؟ وأن يكون مخبأ لمن يأتي من بعدهم ممن يكونون على شاكلتهم في الانطواء على عداوة الحق، ومحاربة الحقيقة، فلعل بعض المتنطعين حال تفتيشه عن الثغرات التي يتخيلها في القرآن يواجه بمثل هذه الآيات الدالة على عجز البشر عن الاتيان بمثله فيكون من نتيجة ذلك إما انصرافه عن الغي إلى الرشد، وإما افتضاحه وتحطم كيده، ومما لا يشك فيه أن الاتيان بهذه الفواتح على النحو الذي أوضحه الزمخشري وغيره ليس من مقدور البشر ولا يضير هذا الإعجاز كونه لم يتكشف للعرب الذين نزل بين ظهرانيهم، فإن نداء القرآن ليس قاصرا عليهم، وآياته لا تزال تتجدد بتجدد أطوار الناس، وتتجلى في كل عصر بما يقيم حجته على الخلق أجمعين،

Bog aan la aqoon