كلما احترقت سيجارة بين شفتي جدها أو أبيها، وألقيت عقبها في المطفأة تصورت أنها تلك العقب المحترقة داخل الرماد. - جنات اصحي!
يد تلكزها في كتفها لتصحو، لكنها نائمة. لا تكفي يد واحدة لإيقاظها. نومها عميق كالموت. وهي تدرك الموت على نحو غريب. تراقب نفسها بنفسها حين تموت، وترى أباها جالسا وبين يديه المصحف. صوته يتحشرج كأنما يتجشأ. - لا يمسح العار إلا الموت.
الهواء ثقيل مملوء بالدخان والهزيمة. حول عنقها حزام مشدود يخنقها. أهي التي خنقت نفسها؟ مهما حدث لها لم تكن تموت، وكيف تموت وعقلها ما زال في رأسها؟ إنها يد أخرى تلك التي تقودها للموت. ربما هي يد الله، أو يد أبيها أو زوجها أو جدها الأكبر الذي مات قبل أن تولد، لكن روحه الطاهرة نهضت من القبر لتغسل العار.
فتحت جفونها نصف فتحة، تختلس نظرة من وراء الكون. رأت جدها الذي لم تره. يشبه الرب الذي لم تره أبدا. ترتدي روحه قفطان الشيخ بسيوني، عمامته ملفوفة حول رأسه سبع لفات. واقف وراء الشماعة في الظلمة، وصوته غريب مألوف، فيه بحة خشنة، يتكلم بلغة فصحى: قفي وجهك للجدار وارفعي ذراعيك إلى أعلى.
كانت هذه هي طريقة العقاب في المدرسة، وتقف ووجهها ملتصق بالجدار وذراعاها مرفوعتان. لا يمكن أن تهبط ذراع وإن أحست أن ثوبها يرتفع من الخلف، يزحف بين ردفيها شيء كالإصبع. ينتفض جسدها، وفي الانتفاضة تسقط ذراع من ذراعيها، فتهبط فوقها العصا الخيزران. ترفع ذراعها بسرعة إلى أعلى، ترفعها عاليا بيدها الأخرى حتى تلامس السقف.
ويدق الجرس ويخلو الفصل إلا هي. تظل واقفة منتصبة لا تسقط منها ذراع، وتنام وهي واقفة لا تسقط، وفي الحلم تظل واقفة لا تسقط، مهما انهالت فوقها العصا لا تسقط. تموت وهي واقفة لا تسقط، كجدتها الريفية أم أبيها. كانت تراها في الليل واقفة، وتسألها: واقفة ليه يا ستي الحاجة؟ - عشان لما عزرائيل يجي يلاقيني واقفة. - عزرائيل مين؟
لم تكن تعرف من هو عزرائيل. تقول جدتها إنه يأتي في الليل بعد أن ترقد ليخطف روحها من جسمها، فإذا لم ترقد وظلت واقفة ينصرف عنها، ويذهب إلى امرأة أخرى. «امرأة أخرى؟!»
دوت الكلمتان في رأسها كطلقتين من الرصاص. طلقة وراء طلقة، ثم دب الصمت. صمت مطبق لم تسمع فيه إلا نباح كلب من بعيد، وبوق سيارة ينطلق مرة واحدة ثم يكف، ولا يبقى فوق الجدار إلا دائرة من الضوء الأبيض تزحف فوقه. تمشي فوق الجدار حتى السقف، ثم تهبط إلى الأرض. تمشي فوق البلاط، وتصعد إلى السرير، تمشي كالشعاع فوق وجهها، ثم تثبت على جفونها المغلقة.
فتحت عينيها نصف فتحة ورأت المدير واقفا وبجواره الرئيسة. خلع القلم من جيبه العلوي وكتب شيئا فوق الورقة. نظرت الرئيسة في الورقة ثم هزت رأسها المطرق وهمست: حاضر يا فندم. استدار المدير وخرج من الغرفة. خرجت وراءه تمشي بظهر محني. قبل أن تغلق الباب خلفها استدارت. التقت عيونهما في نظرة طويلة صامتة. - نرجس؟
انفرجت شفتاها عن حروف متقطعة. صوت يشبه مواء القطط، أو نهنهة ذابت في الهواء.
Bog aan la aqoon