نعم، لقد استقبلنا الصبا رفيقين، فجلسنا معا على حصير الكتاب، واختلفنا معا بين يدي سيدنا لا يكاد أحدنا يفرغ من تلاوة ما حفظ من القرآن حتى يقوم الآخر مقامه، ويتلو مثل ما تلا، ثم نلتقي بعد ذلك في مجلسنا ذاك في ركن من أركان الكتاب، فنتذاكر ما سمعنا من ألفاظ اللوم والتشجيع التي كان يسوقها إلينا سيدنا في صوت يغلظ حينا حتى كأنه الرعد، ويرق حينا حتى كأنه النسيم، وقلدنا هذه الحركات الطريفة التي كان يأتيها بإحدى يديه ليحدث بها صوتا متلاحقا سريعا يحثنا به على أن نكر التلاوة كرا؛ ليتبين مقدار حفظنا للقرآن حتى إذا صليت العصر تركنا الكتاب غير ضيقين به ولا آسفين على تركه، وإنما نحن نتركه مفكرين في العودة إليه إذا كان الغد، ونتركه مبتهجين بانصرافنا عنه إلى هذا اللعب الذي سنستأنفه في زاوية من زوايا الدار أو في ناحية ما على شاطئ القناة.
نعم، واستقبلنا الشباب زميلين نختلف إلى مجالس العلم في الأزهر الشريف نجد حين نستعد للدرس، وحين نسمعه، وحين نجادل كل الأساتذة فيه، ونلهو حين نفرغ من ذلك، وحين نأخذ في العبث بأساتذتنا وزملائنا، وما كنا نرى ونسمع مما كانوا يعملون ويقولون، لا أذكر ولا أراه يذكر أننا اختلفنا يوما ما في أمر ذي خطر، وإنما كنا متفقين دائما مؤتلفين دائما، لا نتكلف اتفاقا ولا ائتلافا، وإنما تجري أمورنا هينة لينة، وتمضي الحياة بنا على رسلها رفيقة رقيقة، حتى لقد كنا نرى ما يثور بين الأصدقاء والزملاء من هذا الخلاف العارض الذي يباعد بينهم من حين إلى حين، فنتكلف الضيق بحياتنا هذه التي لا تعرف خلافا ولا افتراقا في الرأي، ثم لا نلبث أن نثوب إلى الضحك والابتهاج والرضى بحياتنا هذه الراضية المطمئنة.
وقد فرقت حوادث الأيام بين شخصينا أعواما طوالا أو قصارا، ولكنها لم تستطع أن تفرق بين نفوسنا وضمائرنا، ولا أن تخالف بين أهوائنا وآرائنا، وإنما لبثنا متفقين على البعد كما كنا متفقين على القرب، واتصلت بيننا رسائل ما زلنا نعود إليها بين حين وحين كلما كلفتنا الأيام من أمرنا شططا، ثم التقينا بعد الفرقة، وتدانينا بعد التنائي، واستأنفنا في حياة الرجال ما مضت عليه أمورنا في حياة الصبية والشباب من هذا الود النقي، والإخاء الرضي، والتعاون على البر والمعروف.
وليس حياة الناس تخلو مما يؤذي، ولا هي تبرأ مما يسوء، وليست حياة الناس تخلو من هذه الخصومات التي تفسد عليهم أمرهم أحيانا، وتمنحهم القوة والأيد وحب الجهاد والكفاح أحيانا، وقد عرض لكل واحد منا حظه من هذا كله، ولكن الغريب أن شيئا من ذلك لم ينل أحدنا من قبل صاحبه، وإنما كان هذا ينالنا من قبل قوم آخرين، فكنا نتعاون على احتمال الشر ودفع المكروه، وكان كل واحد منا يجد عند صاحبه ما يجده الصديق عند صديقه من المواساة والعون، والتسلية والعزاء.
ثم مضت الأيام على ما تعودت أن تمضي عليه مستأنية متشابهة حينا، ومتعجلة مختلفة حينا آخر، وجرت فيها الحوادث تباعد بيننا بعض الشيء، ثم لا تزال تلح في المباعدة بيننا حتى جعلنا ننفق الأسابيع والأشهر لا نلتقي، وننفق الأسابيع والأشهر لا يكتب أحدنا إلى صاحبه شيئا، ولكنا كنا على ذلك نلتقي بين الحين والحين فلا يكاد أحدنا يلقى صاحبه حتى ينشد ضاحكا قول الشاعر القديم:
نلبث حولا كاملا كله
لا نلتقي إلا على منهج
في موسم الحج، وماذا منى
وأهله إن هي لم تحجج
ثم نستأنف حديثنا كأصفى ما يكون الحديث بين الصديقين الصفيين: وكانت أكثر أحاديثنا لا تكاد تتصل بحاضرنا، ولا بحاضر الناس، ولا تكاد تتصل بمستقبلنا ولا بمستقبل الناس، وإنما كانت تتصل بهذه الذكرى التي نسجت منها صداقتنا نسجا، وصورت منها مودتنا تصويرا، وكانت هذه الذكرى الحلوة تكاد تشغلنا دائما عن حاضرنا وحاضر الناس، وعن مستقبلنا ومستقبل الناس، ولكننا نلتقي ذات مساء في هذا القطار الذي ينقل الناس من الإسكندرية إلى القاهرة. يأخذ أحدنا القطار في الإسكندرية، ويأخذه الآخر في سيدي جابر، وقد مضى القطار في طريقه، ولم يفطن أحد منا لمكان صاحبه، ثم تكون لفتة منه فيراني فيسرع إلي مستبشرا مبتهجا، وهو يقول ماذا؟ أنت هنا! وألقاه مغتبطا محبورا، وأنا أقول: ماذا! أنت هنا! ثم يجلس كل منا إلى صاحبه، وما نكاد نفرغ من التحية التي تعودنا أن نتهاداها حين نلتقي حتى نأخذ في حديث الجو، ثم في حديث السفر، ثم في حديث القطر التي تحسن الإبطاء أكثر مما تحسن الإسراع، وتحسن التأخير عن مواعيدها أكثر مما تحسن الوفاء بهذه المواعيد، ثم عن الإسكندرية التي تزدحم بالقاصدين إليها، والنازحين عنها، وتموج بالمقيمين فيها، ثم عن جو الإسكندرية وجو القاهرة، والموازنة بين ما يكون بينهما من اختلاف في الصيف، ومن اختلاف في الشتاء، ومن توافق فيما يكون بين ذلك من الفصول، ثم نأخذ في حديث الصحف الجادة والهازلة، وفي حديث الأدب القديم والأدب الجديد، وننفق هذه الساعات التي ينفقها المسافرون بين القاهرة والإسكندرية متحدثين عن كل شيء إلا عن أنفسنا، ملمين بكل شيء إلا بأحداث السياسة، وما كان أكثر ما نلتقي فلا نتحدث إلا عن أنفسنا، وما كان أكثر ما نتحدث عن أنفسنا فنعبث أثناء الحديث بالسياسة وأصحابها، ونتخذ من هذا العبث ألوانا من المتاع الرفيع.
Bog aan la aqoon